أجل .. يلتفتون إلى وجود طهر طافح، إلى نسمة من نسمات الإسلام الفالح، تنبأ عن عفة، تخبر عن صيانة، تستعلن بإسلامها وتستعلي بإيمانها، ليست كحال الحائر المهزوم المذموم .
ثم – تنزلا : إن زاد نظرهم زاد خسارهم، فهل يرجع البصر بشيء، غير أنه قد يرجع بخير .
ثم .. الأمر – بطبيعة الحال- لا يتعدى الإبصار، خلافا لدعوة وعمل الفجار .
قال الحائر الجائر : "فكيف يكون هذا من أجل حماية المرأة من نظرات الرجل؟!
قلت : يا أشيمط، العامة تقول : "كل يرى الناس بعين طبعه" فالذئاب ما ترى فريستها إلى ونهد تصورها ليكشف جسدها، وتقفز غلمتها لتصور غشيانها، ومن ثم جاءت الشريعة الغراء بجملة من التشريعات الواقية . لتسلم الحرمات وتسكن النفوس :
أجل .. إن الشريعة نصبت من الأسباب ما يكفل صيانة الأعراض والحياة الطيبة الطاهرة لمتبعيها
فأمرت بتقوى الله تعالى ومراقبته، ورهبت من معصيته، ومنها الولوغ في الأعراض .
وشجعت على الزواج، وحضّت عليه، وأخبرت بأنه من سنن المرسلين "أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ..." سورة "الأنعام" الآية(90) .
وأمرت بالتبكير إليه، وأعانت من سعى إليه، وشكرت الوسائط فيه .
وأجازت دفع الزكاة لمن خشي على نفسه العنت ورام إحصانا .
وقدمت زواج من طاقت نفسه إليه وخشي الهلاك على الحج وهو أحد الأركان .
وحرمت على الولي أن يتكسب من مال المهر؛ لأنه حق للزوجة، حتى لا تكون الأعراض تجارة
وحاربت الشريعة الإسراف في الولائم والمغالاة في المهور، تيسيرا له وصيانة للعرض .
واشترطت الولي سداً لذريعة الزنا ولولا ذلك لدعى كل دعي، وتعللت كل عاهرة .
وأمرت بإعلان النكاح كي يكون فرقاً بينه وبين السفاح .
ونهت أن تكره الفتاة على من لا تريده، وجعل مناطه رضاها : تلويحاً كان أو تصريحاً
ودعت الشريعة إلى رؤية المخطوبة واختيار الدين؛ لدومومة الألفة؛ فدومومة العشرة .
ورتبت الأجر على اللقمة يضعها الزوج في فيّ زوجه، فكيف بما فوقها، في دعوة للتواد، معها تحفظ الأعراض
وحرمت نكاح المتعة؛ الذي جعل العرض سلعة والرذيلة قربى، صيانة لحرمة الفراش ومتانة الميثاق .
وحرمت نكاح التحليل كذلك، صيانة للأعراض من التلاعب، وتقديساً لذلك الاجتماع .
ومنعت الزواج من الزانية والزاني، حفظاً للعرض وصيانة للزوج والولد والأهل .
ومنعت الزوج من الغياب عن زوجته فترة تكون معها الفتنة؛ لأنه مظنة إزعاج العرض وإيذائه
وحددت عدة للمفقود، يحلّ بموجبها للسلطان تمكين المرأة من الزواج إعفافا .
وحددت مرات الطلاق بثلاث، دفعا للإعضال، واحتراماً للأعراض؛ كيلا لا تكون ألعوبة في يد خوان .
ونهت الشريعة عن التحدث بما يقع بين الرجل وأهله، لكيلا يطمع طامع، ولا ينهم ذئب .
ونهت عن وصف المرأة المرأة لزوجها للعلة المتقدمة .
وأباحت تعدد الزوجات كذلك .
وحرمت الخمر؛ لأنها مظنة هتك الأعراض ومن مفاتيح الزنا، وأم الخبائث .
وحرمت الغناء والمعازف؛ لأنها بريد الزنا . والعرب تقول "الغناء رقية الزنا([1])" "مجمع الأمثال" للميداني
ودعت إلى الصوم إذا لم يجد . صيانة وسلامة .
وشددت في عقوبة القذف حماية للأعراض وحتى لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا .
وأعلنت عقوبة السفاح الدنيوية والأخروية جبرا وزجرا، وفيها الصيانة والكفاية .
وأمرت المرأة بالقرار في البيت؛ وخروجها لحاجتها بحجابها وحيائها ورعاتها؛ لتَكفى وتُكفى .
وأمرت بالاستئذان حال الدخول عليها في أوقات، صيانة للأعراض وحفظاً للمقل، وإبقاءًا للطهر، ووأداً للعهر .
وحرمت الخلوة بالأجنبية، وإن، سلامة للصدور وحفظا لمخدرات الدور .
وحرمت سفر المرأة بغير محرم، لكونها مشتهاة، ولكل ساقطة لاقطة([2]) .
وحرمت على المرأة إبداء الزينة للأجانب والتعطر عندهم، لكونها داعية للفجور، منادية على العهر والمجون.
وحرمت كذلك عليها الخضوع بالقول حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، فيُوأد العرض .
وأمرت بغض البصر، إذ هو مقدمة الفجر . ومعظم النار من مستصغر الشرر .
وقضت بعدم جواز لمس المرأة الأجنبية، لغير حاجة، وبقدرها، إذ هي عورة تصان عن العبث ... إلخ
كل هذه الاحتياطات وغيرها من الإجراءات والتشريعات حماية للأعراض، لأن حماية العرض من مقاصد الشريعة
كيف لا ؟! وجريمة انتهاك الأعراض هى من أقذر الجرائم، الأمر الذي أنكرها كل دين، ومجّها العقلاء، ولفظها الأسوياء، حتى أنكرها بعض الكفرة، وبعضهم أنكرها جهرًا وقبلها سرًا، تعساً له .
كيف لا ؟! وهي نوع اعتداء، بتدليس أو تلبيس أو اغتصاب، لبهيمية من كلاب وذئاب .
كيف لا ؟! وفيها من العدوان على حقوق الأزواج، واختلاط للأنساب، ونشوب نيران نزاع إلى النزع .
كيف لا ؟! وفيها ذبح لما في قلوب الآباء من عطف، وقطع حنان .
كيف لا ؟! وفيها إهمال رعاية، وترك بذل كان سخيا، واضمحلال بل تلاشي تضحية كانت مرضية، وانفراط عقد وفاء كان حفيا .
كيف لا ؟! وقد أفرزت حزنا وخزيا، وخلّفت حنقا وحقدا، وأورثت سوء سريرة وبئس سيرة .
كيف لا ؟! وقد هجر لأجلها أهل وآل ووطن، ليرتموا في خبايا زوايا غربة، مع غروب شمس العفاف ونهار العافية، غربت معها ابتسامة صافية، لمسة حانية، استبدل بالفرح ترح، وبالحبور هموم، وبالسرور شجون، وبالرفعة سفول، وبالعزّ ذلّ، فكان المنتهى حسد مقبور .
في "الصحيح" قال رسول الله – صلى الله تعالى عليه وإخوانه وآله وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه" "صحيح الجامع..." برقم(7432)
وفي رواية : " والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يمرّ الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء""صحيح الجامع..." برقم(7082) انظر هذا وغيره كثير بحثنا الماتع : "الإعراض عن الأعراض"
وقال خالد بن عبدالرحمن : كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك فسمع غناء من الليل فأرسل إليهم بكرة فجىء بهم فقال: إن الفرس ليصهل؛ فتستودق له الرمكة. وإن الفحل ليهدر؛ فتضبع له الناقة. وإن التيس لينب؛ فتستحرم له العنز. وأن الرجل ليتغنى؛ فتشتاق إليه المرأة. ثم قال: اخصوهم. فقال عمر بن عبد العزيز: هذه المثلة ولا تحل فخل سبيلهم. قال: فخلى سبيلهم""إغاثة اللهفان"(1/246)
قال العلامة شمس الدين ابن القيم- رحمه الله تعالى : “الغناء هو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسُوسُ العقل، يتغلغل فيمكامن القلوب، ويدب إلى محل التخييل فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافةوالرقاعة والرعونة والحماقة، فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجةالإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن، فإذا سمع الغناء ومال إليه نقص عقله، وقلحياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره وفرح به شيطانه وشكا إلى اللهإيمانه، وثقل عليه قرآنه
"
قال- رحمه الله تعالى: " فلعمر الله كم من حرةٍ صارت به من البغايا، وكم من حرٍ أصبح به عبداً للصبيانوالصبايا، وكم من غيورٍ تبدل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من ذي غنى وثروةأصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا، وكم أهدى للمشغوف به أشجاناً وأحزاناًوكم جر من غصةٍ وأزال من نعمةٍ وجلب من نقمةٍ وكم خبأ لأهله من آلام منتظرةٍ، وغموممتوقعة، وهموم مستقبلة"
([2]) وفي ذا تقول العرب "كل فحل يمذي، وكل أنثى تقذي" يقال : مذي الرجل ينمذي : إذا خرج منه المذي . وقذت الشاة تقذي قذياً : إذا ألقت بياضاً من رحمها، فالقذى من الأنثى مثل المذي من الذكر، يضرب في المباعدة بين الرجال والنساء" "مجمع الأمثال" للميداني .
هذا .. والعرب تكني عن المرأة : بالنعجة، والشاة، والبقرة، والناقة" "الجامع لأحكام القرآن" (15/152)