بيانُ حُكْمِ الحضْرَة في مذاهب الأَئِمّةِ الأربَعة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله ومن آمنَ به واتّبعه ، أمّا بعد :
فقد شَهِدَ عصرنا الحاضر زيادةً مَرَضِيَّةً سرطانيّة في انتشار الغناء ونجوم الغناء مِنَ الماجنين والماجنات ، وقد دخَلَتْ أغانيهم الهابطة معظم المحلاّت التجارية ، والمنتزهات والمطاعم ، والبيوت ، وجميع وسائل النقل ! إلى حدٍّ مزعج ولا يُطاق ، أسألُ الله العافيةَ والفَرَجَ لي ولكلِّ مسلم غيورٍ على دينه ؛ وهذه مُشكلة من المشاكل التي تعوق نهوضَ الشباب المسلم ، وتُلْهِيه عن الأخطار المحدقة به وبأمّته ، وتحجبه عن معرفة الواجب المنوط به والموقع الريادي الذي عليه أن يتبوّأه . ولكنّ المشكلة الأخرى هي أنّ بعض المسلمين ظنّوا أنهم إذا غيّروا كلمات الأغاني الماجنة وجعلوها من الكلام الأدبي أو الإسلامي مع الإبقاء على الألحان والأنغام نفسها، فإنهم بذلك يَسْلَمون من الوقوع في المحرّمات ويكونون قد أتَوا أمراً مباحاً على أقلِّ تقدير ! ويَسْتَدِلّون لصحّة فعلهم أنّهم قاسوه على مجالس الإنشاد الديني ، ومجالس الذكر والحضرة ، التي يحضرها بعض المشايخ! فإنّ تلك المجالس كما يزعمُ أصحابها هي مِنَ الطّاعات والقُربات أو المُباحات ، التي ينالُ صاحبها الأجر على فعلها أو حضُورها ، ويُنظَرُ إليه في المجتمع على أنه من الصالحين الذين طهّروا آذانهم من سماع الأغاني الماجنة ، وعفّوا عن حضور أماكن اللهو والرقص والعبث . وهنا تكمن المشكلة ؛ فأوّل أمرٍ حصل فيه خلط للمفاهيم هو أنهم سمّوا غناءهم إنشاداً ! مع أنّ الإنشاد في اللغة لا يُرادف الغناء ولا يُشبهه . جاء في القاموس المحيط : وأنْشَدَ الضالَّةَ : عَرَّفَها واسْتَرْشَدَ عنها ضِدٌّ ، وأَنْشّدَ الشِّعْرَ : قرأهُ ، وأنشدَ بِهِمْ : هَجاهُمْ . وتناشَدوا : أنْشَدَ بعضُهم بعضاً . والنِّشْدَةُ بالكسر : الصَّوْتُ . والنَّشيدُ : رَفْعُ الصَّوْتِ والشِّعْرُ المُتَناشَدُ كالأُنْشُودَةِ ج : أناشيدُ . واسْتَنْشَدَ الشِّعْرَ : طَلَبَ إنشادَهُ .
وفي لسان العرب : وأَنشد الشعر وتناشدوا : أَنشد بعضهم بعضاً والنَّشِيدُ فَعِيلٌ بمعنى مُفْعَل والنشيدُ الشعر المتناشد بين القوم ينشد بعضهم بعضاً . انتهى
إذاً ليس في الإنشاد أنغام ولا ألحان إنما هو قراءة الشعر بصوت مرتفع ، أمّا إذا صار فيه ألحان وأوزان فهو غناء . قال في القاموس المحيط : شَدَا الإبِلَ : ساقَها والشِعْرَ : غَنَّى به أو تَرَنَّمَ وأنْشَدَ بَيْتاً أو بَيْتَيْن بالغِناءِ . انتهى
فحقيقة الأمر أنّ هذا الذي يسمّي نفسه مُنشداً إنّما هو مُغَنِّ ، وما يفعله هو غناء وليس إنشاداً . لذلك نجد في كتب الفقه أنّ الفقهاء يسمّون مجالس السماع عند بعض الصوفية بمجالس الغناء والرقص ، وحتى الصوفيّة أنفسهم كانوا في السابق يُسمّونه غناءً ويظنونَ أنه جائز ومباح . وقد آخذهم العلماء على ذلك .
وقد جمعتُ بعض فتاوى العلماء من المذاهب المعتمدة في بلادنا من الشافعيّة والحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وكذلك عرضتُ كلام بعض كبار الصوفيّة الأوائل في خصوص الغناء والرقص ، ليَتَبّيَّن للقارئ حقيقة موقف فقهاء الإسلام من هذا الأمر .
وغرضي مِنْ ذلك أن يتنبّه المسلمون للخطأ الذي يرتكبونه ، وللإساءة للدِّين التي يمارسونها من دون قصد منهم ، والله أعلم . و هذه الفتاوى هي لكبار علماء المذاهب ومن أشهر كتبهم وعليها العمل . وهم يستعملون عدّة مسمّيات لمسمّىً واحد وهو ما يَفْعلُه الصوفيّة من الغناء في المساجد أو المجامع تحت اسم مجلس ذكر أو احتفال بالمولد ! فقد يسمّونه السماع أو التَّغْبِِير أوالغناء وكلّه غير جائز عندهم . وطبعاً كلام العلماء هنا إنما هو على مسألة تلحين الشعر والغناء به والرقص والتّواجد ، وسترى شدّة فتاويهم في منعه وإنكاره ، فما بالك إذا كان هذا الشعر فيه إشكال لما يتضمَّنه من ألفاظ غير شرعية ؟!