بيانُ حُكْمِ الحضْرَة في مذاهب الأَئِمّةِ الأربَعة (الجزء الثاني)
12ـ وسُئل الشيخ الصالح عبد العزيز بن محمد القيرواني المالكي عن قومٍ تسمّوا بالفقراء يجتمعون على الرقص والغناء ، فإذا فرغوا من ذلك أكلوا طعاماً كانوا أعدّوه للمبيت عليه ، ثمّ يَصِلُونَ ذلك بقراءة عشْرٍ من القرآن والذكر ، ثمّ يُغنّون ويرقصون ويبكون ، ويزعمون في ذلك كلّه أنهم على قُربة وطاعة ويدعون الناس إلى ذلك ... فما الحكم فيهم وفيمن رأى رأيهم هل تجوزُ إمامتهم وتقبلُ شهادتهم أم لا ؟ بيّنوا لنا ذلك .
فأجاب : بأن قال : ..... ولم يكن أحدٌ في مغربنا من هذه الطوائف فيما سلف ، إلى أن ظهرت هذه الطائفة الأميّة الجاهلة الغبيّة الذين وَلَعوا بجمع أقوام جهّال فتصدّوا إلى العوام الذين صدورهم سالمة ، وعقولهم قاصرة ، فدخلوا عليهم من طريق الدّين ، وأنهم لهم من الناصحين وأنّ هذه الطريق التي هم عليها هي طريق المحبّين ، فصاروا يحضّونهم على التوبة والإيثار والمحبّة وصدق الأخوّة ، وإماتة الحظوظ والشهوة وتفريغ القلب إلى الله بالكلّية ، وصرفه إليه بالقصد والنيّة . وهذه الخصال محمودة في الدّين فاضلة ، إلا أنّ الذي في ضمنه على مذاهب القوم سموم قاتلة ، وطامّاتٌ هائلة . وهذه الطائفة أشدُّ ضرراً على المسلمين ، منْ مرَدَةِ الشياطين ، وهي أصعبُ الطوائف للعلاج ، وأبعدها عن فهم طُرُقِ الاحتجاج ، لأنهم أول أصلٍ أصّلوه في مذهبهم ، بُغضُ العلماء والتنفير عنهم ، ويزعمون أنهم عندهم قطّاع الطريق المحجوبون بعلمهم عن رتبة التحقيق ، فمن كانت هذه حالته ، سقطت مكالمته ، وبعدت معالجته ، فليس للكلام معه فائدة ، والمتكلّم معه يَضْرِبُ في حديدٍ بارد ، وإنما كلامنا مع من لم ينغمس في خابيتهم، ولم يسقط في مهواتهم ، لعلّه يسلم من عاديتهم ، وينجو من غاويتهم .
واعلموا أنّ هذه البدعة في فساد عقائد العوام ، أسرع من سريان السمّ في الأجسام ، وأنها أضرّ في الدين من الزنى والسرقة وسائر المعاصي والآثام ، فإنّ هذه المعاصي كلها معلوم قبحها ، عند من يرتكبها ويجتلبها ، فلا يُلَبِّس مُرْتَكِبُها على أحد ، وتُرجى له التوبة والإقلاع عنها . وصاحبُ هذه البدعة يرى أنها أفضل الطاعات ، وأعلى القربات ، فبابُ التوبة عنه مسدود ، وهو عنه شرودٌ مطرود ، فكيف ترجى له منها التوبة ، وهو يعتقد أنها طاعة وقربة ، بل هو ممن قال الله فيهم :
{قل هل أُنبّئُكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا ً} ، وممن قال فيهم : {أفَمَنْ زُيِّنَ له سوءُ عمَلِه فَرَآهُ حَسَناً} .
ثمَّ ضررُ المعاصي إنما هي في أعمال الجوارح الظاهرة ، وضررُ هذه البدع إنما هي في الأصول التي هي العقائد الباطنة ، فإذا أُفسد الأصل ، ذهب الفرع والأصل ، وإذا فسد الفرعُ بقي الأصل و يُرجى أن ينجبر الفرع وإن لم ينجبر الفرع لم تذهب منفعة الأصل . ثمَّ إنّ الذي يُغوي الناس ويدعوهم إلى بدعته ، يكونُ عليه وزره ووزر من استنّ بسنّته . قال الله العظيم : {لِيَحْمِلُوا أوزارهم كاملةً يومَ القيامة وَ مِنْ أوزار الذين يُضِلُّونهم بغير عِلْمٍ ، ألا ساء ما يَزِرون} ...
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من سنّ سُنّةً حسنة كان له أجرُها وأجرُ من عمِل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنَّ سُنّةً سيّئةً كان عليه وِزرُها ووِزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة )) ولا تنشأ هذه العلل إلاّ مِنْ مَرَضٍ في القلب خفيّ ، أو حُمْقٍ جليّ ، فاحذروها واحذروا أهلها . ولا تغترّوا بهم ولو أنّهم يطيرون في الهواء ، ويمشون على الماء . فإنّ ذلك فتنةٌ لِمَنْ أراد الله فتنَتَه ، وعَلِمَ شِقوَته . قال الله تعالى :{ومَنْ يُرِد الله فِتْنَتَه فَلَنْ تَملك له من الله شيئاً}.فلا يغترّ أحدُكم بما يَظْهَرُ منَ الأوهام والخيالات مِنْ أهل البدع والضلالات ، ويعتقد بأنّها كرامات ، بل هي شُرُكٌ وحِبالات ، نصَبَها الشيطان لِيَقتَنِصَ بها مُعْتَقِدَ البدع ومرتكبَ الشهوات ، وإنّما تكون من الله الكرامة لِمَنْ ظهرت منه الاستقامة ، وإنما تكون الاستقامة باتّباع الكتاب والسنّة ، والعمل بما كان عليه سلَفُ هذه الأمّة ، فمن لم يسلُك طريقهم ، ولم يتّبع سبيلهم ، فهو ممن قال الله فيهم :{وَمَنْ يُشاققِ الرسول مِنْ بعد ما تَبَيَّنَ له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين ، نولّه ما تولّى ونُصْله جهنّم وساءت مصيراً} .
فمَنْ حرَّفَ كتابَ الله أو تركَ العمل به أو عطّله ، فقد افترى على الله كذباً ، واتّخذ آيات الله هزواً ولعباً ، فإذا رأيتم مَنْ يُعظّم القرآن فعظّموه ، وإذا رأيتم من يُكرم العلماء وأهل الدين فأكرموه . قال الله العظيم :{ومن يُعظّم حُرُمات الله فهو خيرٌ له عند ربّه} . ومن رأيتموه خالفَ القرآن فارْفُضُوه واهجروه في الله وأبغضوه . ومن رأيتموه يُجانب العلماء فجانبوه ، فإنّه لا يُجَانِبُهم إلا ضالٌ مبتدع ، غير مقتدٍ بالشرع ولا متّبع ، فإنّ الشرائع لا تُؤخذُ إلا عن العلماء ، الذين هم ورَثَة الأنبياء ، كيف وقد جعل الله شَهَادَتَه وشهادة ملائكته كشهادة أُولي العلم . قال الله تعالى :{شَهِدَ اللهُ أنّه لا إله إلا هوَ والملائكةُ و أُلوا العلم ، قائماً بالقسط} . ولَسْتُ أعني بالعلماء المشتغلين في زماننا هذا بعلوم الجدال والمماراة ، ولا المُعْتنين بدَرْسِ مسائل الأقضية والشهادات ، فيتقرّبون بذلك إلى جمع الحُطام ، والتّقرّب من الوُلات والحكّام ، ونَيْلِ الرِّياسة عند العوام ، وإنّما نعني بالعلماء الذين يعملون بعلمهم وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( يَحْمِلُ هذا الدّين من كُلّ خَلَفٍ عُدُولُه ، ينفونَ عنه تحريفَ الغالين ، وانتحال المبطلين )) فأولئك وَرَثَةُ النّبيين وأئمّة المتّقين الذين يجب أن يُقتَدى بهم ويتأدّب بآدابهم ، ويُقتفى آثارهم ، وتحفظ أخبارهم ، ولكنّهم ضمّهم لحودهم ، وقلَّ على بسيط الأرض وجودهم فما يورد من آثارهم أثر ، فهم الكبريتُ الأحمر ، وإنْ كان عجز عن بلوغ رتبتهم وقصّر ، لكنّه يعرفُ الحقّ فلا يغلط في نفسه ولا يغترّ ، فهذه النّصيحة لِمَنْ وَقَفَ عليها مِنَ الإخوان الصّادقين والمريدين ، والعامّة المسلمين المصحِّحين ، لِيُميِّزوا بها بين المُحِقِّين والمُبطلين مِنَ المنتمين إلى الدّين ولا يغْتَرّوا بالملْبَس منْ أجل حُسن الظنّ ومحبّتهم للصالحين ، ويدخل عليهم الخلل في عقائدهم ، ويميلون بها إلى عوائدهم .
وأمّا ما ذكَرْتُموه مِنْ أفعالهم واشتغالهم بالرقص والغنا والنّوح فممنوعٌ غيرُ جائزٍ ، قال الله تعالى :{ومِنَ النّاس منْ يَشْتَري لهْوَ الحديث لِيُضلَّ عن سبيل الله} .
قال مالك في المدوّنة : " وأكره الإجارة على تعليم الشعر والنوح وعلى كتابة ذلك ".
قال عياض : معناه نوحُ المُتَصوِّفة وإنشادهم على طريق النوح والبكاء ، فمن اعتقد في ذلك أنّه قُرْبة لله تعالى فهو ضالٌ مُضِلّ ، وَلا يعْلَمُ المسكين أنّ الجنّة حُفّت بالمكاره ، وأنّ النار حُفّت بالشهوات ، والله تعالى لم يَبعَث أحداً منَ الأنبياء باللهو والرّاحة والغِناء ، وإنّما بُعِثوا بالبِرِّ والتقوى وما يُخالف الهوى . قال تعالى :{وأمّا مَنْ خَافَ مقامَ رَبِّهِ ونهى النَّفْسَ عنِ الهوى فإنَّ الجنّة هي المأوى}. فالباطل خفيفٌ على النفوس ، ولذلك خفّ في الميزان ، والحقُّ ثقيلٌ ، ولذلك ثَقُلَ في الميزان ، قال تعالى :{إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قوْلاً ثَقيلاً}...............
وأمّا ما ذكرتموه منْ قراءة القرآن والاستماع إليه فإنه جائز . وفيه قربة وطاعة لله عزّ وجل قال تعالى :{وإذا قُرِىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون}. وإن كان بعضٌ أوّل ذلك في الصلاة . وهذا إذا كان على الوجه المأذون فيه ؛ لا يقصد به رياءً ولا سُمعة.
قال أبو محمد في رسالته : "ويبجّل كتاب الله العزيز فلا يُتلى إلا بسكينة ووقار" . والنساء فيما ذكرنا كالرجال فالمنعُ في حقّهن أشدُّ .
وكتب عبد العزيز بن محمد القيرواني حامداً الله ومصلٍ على نبيّه المصطفى . انتهى
ـ وسُئلَ فقيهُ بجاية وصالحها أبو زيد سيّدي عبد الرحمن الواغليسي عن مثل هذا السؤال .
فأجابَ عنه بما نصّه :
" قد نصَّ أهلُ العلم فيما ذكرتَ منْ أحوال بعض الناس منَ الرقص والتصفيق ، على أنّ ذلك بدعةٌ وضلال . وقد أنكره مالك وتعجّب ممن يفعل ذلك لمّا ذُكر له أنّ أقواماً يفعلون ذلك فقال : أصبيانٌ هم أم مجانين ؟! ما سمِعْنا أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا . انتهى المعيار ج11/29
13ـ وجاء في المدونة الكبرى 3 / 432
قلتُ : أكان مالك يكره الغناء ؟ قال : كره مالك قراءة القرآن بالألحان فكيف لا يكره الغناء !!
14ـ وسُئل الشيخ أبو إسحاق الشاطبي (من أئمة المالكية والمرجع في علم الأصول) عن حال طائفة ينتمون إلى التّصوّف والفقر ، يجتمعون في كثير من الليالي عند واحد من الناس ، فيفتتحون المجلس بشيء من الذكر على صوت واحد ثمّ ينتقلون بعد ذلك إلى الغناء والضرب بالأكفّ والشطح ، هكذا إلى آخر الليل ويأكلون في أثناء ذلك طعاماً يَعُدُّه لهم صاحبُ المنزل ، ويحضر معهم بعض الفقهاء ، فإذا تُكُلِّمَ معهم في أفعالهم تلك يقولون : لو كانت هذه الأفعال مذمومة أو محرّمة شرعاً لما حضرها الفقهاء .
فأجابَ ما نصّه : الحمد لله كما يجب لجلاله ، والصلاة على محمّدٍ وآله . سَألتَ وفّقني الله وإيّاك عن قومٍ يتسمّون بالفقراء ، يجتمعون في بعض الليالي ، ويأخذون في الذكر ثم في الغناء والضرب بالأكفّ والشطح إلى آخر الليل ، وأنّ اجتماعهم على إمامين من أئمّة ذلك الموضع يتوسّمان بوسم الشيوخ في تلك الطريقة ، وذكرتَ أنّ كل منْ يُزْجَر عن ذلك الفعل ، يحتجُّ بحضور الفقهاء معهم ولو كان حراماً أو مكروهاً لم يحضروا معهم .
والجواب والله الموفّق للصواب : إنّ اجتماعهم للذكر على صوت واحد إحدى البدع المحدثات التي لم تكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الصحابة ولا من بعدهم ، ولا عُرِفَ ذلك قطُّ في شريعة محمدٍ عليه السلام ، بل هو من البدع التي سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلالة ، وهي مردودة . ففي الصحيح أنه عليه السلام قال : (( مَنْ أحْدَثَ في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ )) يعني فهو مردود وغير مقبول، فذلك الذكر الذي يذكرونه غير مقبول . وفي رواية (( مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمْرُنا فهو مردود )) . وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : أما بعد فإن خيرَ الحديث كتابُ الله وخيرَ الهدي هَدْيُ محمدٍ ، وشرَّ الامور مُحدثاتُها وكلَّ بدعةٍ ضلالة . وفي رواية وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة في النار . وهذا الحديث يدُلُّ على أنّ صاحب البدعة في النار . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
وعن الحسن البصري أنه سُئلَ وقيل له : ما ترى في مجلسنا هذا ؟ قومٌ من أهل السنّة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمعُ في بيت هذا يوماً فنقرأ كتاب الله وندعو الله ربّنا ، ونصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وندعو لأنفسنا ولعامّة المسلمين . قال : فنهى الحسنُ عن ذلك أشدَّ النهي ، لأنه لم يكن من عمل الصحابة ولا التابعين . وكل ما لم يكن عليه عمل السلف الصالح ، فليس من الدين ، فقد كانوا أحرصَ على الخير مِنْ هؤلاء ولو كان فيه خير لفعلوه . وقد قال تعالى :{اليومَ أكملتُ لكم دينَكُم} .
قال مالك بن أنس : فما لم يكن يومئذٍ ديناً لم يكن اليوم ديناً . وإنّما يُعبدُ الله بما شَرَع .
وهذا الاجتماع لم يكن مشروعاً قط فلا يصحّ أن يُعبدَ الله به .
وأمّا الغناء والشطح فمذمومان على ألسنة السلف الصالح . فعن الضّحاك : الغنا مفسدةٌ للقلب مسخطةٌ للربّ . وقال المحاسبي : الغنا حرامٌ كالميتة . وسُئلَ مالك بن أنس عن الغنا الذي يُفْعل بالمدينة فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . و هذا محمول على غنا النساء و أما الرجال فغناؤهم مذمومٌ أيضاً ، بحيث إذا داوم أحدٌ على فعله أو سماعه سقطت عدالته ، لما فيه من إسقاط المروءة ومخالفة السلف . وحَكَى عياض عن التنيسي أنه قال : كنا عند مالك وأصحابه حوله ، فقال رجل من أهل نصيبين يا أبا عبد الله عندنا قوم يُقال لهم الصوفيّة ، يأكلون كثيراً ، ثمّ يأخذون في القصائد ، ثمّ يقومون فيرقصون ؟ فقال مالك : أَصبيانٌ هم ؟ قال : لا ، قال : أمجانينُ هم ؟ قال : لا ، هم قومٌ مشايخ ، وغيرُ ذلك عقلاء ، فقال مالك : ما سمعتُ أنّ أحداً من أهل الإسلام يفعلُ هذا !! اُنظُر كيف أنكر مالك و هو إمام السنة أن يكون في أهل الإسلام من يفعل هذا إلا أن يكون مجنوناً وصبياً . فهذا بيّنٌ أنه ليس من شأن الإسلام . ثم يقال ولو فعلوه على جهة اللعب كما يفعله الصبيان لكان أخف عليهم مع ما فيه من إسقاط الحشمة وإذهاب المروءة ، وترك هدي أهل الإسلام و أرباب العقول ، لكنهم يفعلونه على جهة التقرب إلى الله والتَّعبُّد به ، وأن فاعله أفضل من تاركه ، وهذا أدهى و أمرّ، حيث يعتقدون أن اللهو واللعب عبادة ، وذلك من أعظم البدع المحرمات الموقعة في الضلالة الموجبة للنار والعياذ بالله .
وأمّا ما ذكرتم من شأن الفقيهين الإمامين ، فليسا بفقيهين إذا كانا يحضران شيئا ًمن ذلك وحضورهما ذلك على الانتصاب إلى المشيخة قادحٌ في عدالتهما فلا يُصلّى خلف واحدٍ منهما حتى يتوبا إلى الله من ذلك ، ويَظْهَرَ عليهما أثر التوبة ، فإنه لا تجوز الصلاة خلف أهل البدع نص على ذلك العلماء . و على الجملة فواجب على من كان قادراً على تغيير ذلك المنكر الفاحش ، القيام بتغييره وإخماد نار الفتنة ، فإن البدع في الدين هلاك ، و هي في الدين أعظم من السم في الأبدان والله الواقي بفضله . والسلام على من يقف على هذا من كاتبه : إبراهيم الشاطبي . انتهى وتقيد بعقبه بخط المجيب رحمه الله ما نصه : ما كُتِب فوق هذا ويمنته صحيح عني حسبما كتب ، فليروه عني من شاء على حسب ما وقع هنا والله الموفّق للصواب . و كتب ذلك بخطه العبد الفقير إلى رحمة ربه إبراهيم الشاطبي المذكور في العشر الأواخر لذي قعدة عام 786 هـ .
15ـ و أجاب عن السؤال السابق أيضاً الفقيه الصالح أبو عبد الله الحفار المالكي بما نصه :(( الحمد لله والصلاة على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . الجواب مستعيناً بالله : إن هذه الطائفة المنتمية للتصوف في هذا الزمان وفي هذه الأقطار ، قد عظُم الضرر بهم في الدين ، وفشت مفسدتهم في بلاد المسلمين ولا سيما في الحصون والقرى البعيدة عن الحضرة هنالك ، يُظهرون ما انطوى عليه باطنهم من الضلال ، من تحليل ما حرم الله ، والافتراء عليه وعلى رسوله . وبالجملة فهم قوم استخلفهم الشيطان على حَلِّ عُرى الإسلام و إبطاله ، وهدم قواعده ولسنا لبيان حال هؤلاء ، فهم أعظم ضرراً على الإسلام من الكفار ، و إنما يقع الجواب على حال من ذكر في السؤال على تقدير سلامة عقيدته ، لكنهم قوم جهلة ، ليس لديهم شيء من المعارف ولا يحسن واحد منهم أن يستنجي ولا يتوضأ دعْ ما سوى ذلك ، لا يعرف ما فرض الله عليه . بهيمة من البهائم في دينه ، و ما أوجب الله عليه في يومه وليلته ، ليس عنده من الدين إلا الغنا والشطح ، و آكل أموال الناس بالباطل ، واعتقاد أنه على شيء . وهذا كله ضلال من وجوه :أعظمها أنهم يوهمون على عوام المسلمين و من لا عقل له من النساء ، ومن يشبههن في قلة العقل من الرجال أن هذه الطريقة التي يرتكبونها هي طريقة أولياء الله وهي من أعظم ما يتقرب به إلى الله فيضلون ويضلون ، وفي ذلك افتراء على الله وعلى أوليائه وعلى شريعته و أوليائه . قال عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة رضي الله عنهم :(( أيها الناس قد سُنَّت لكم السنن ، وفُرِضت لكم الفرائض ، وتركتم على الجادة ، إلا أن تميلوا بالناس يميناً وشمالاً)) . فليس في دين الله ولا فيما شرع أن يُتقرب إليه بغناءٍ ولا شطح ، والذكر الذي أمر به وحث عليه ومدح الذاكرين له به ، هو على الوجه الذي كان يفعله صلى الله عليه وسلم ولم يكن على تلك الطريقة من الجمع ورفع الصوت على لسان واحد (....) فلا يُتقرب إلى الله إلا بما شرع وعلى الوجه الذي شرع ، فمِن كلام السلف : لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها . وسُئِلَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الصراط المستقيم فقال : ((تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد و عن شماله جوادّ (جمع جادّة) وعليها رجال يدعون من مرّ بهم ، هلم لك ، هلم لك . فمن أخذ منهم في تلك الطرق سُلك به إلى النار ، ومن استقام على الطريق الأعظم انتهى به إلى الجنة)) ثم تلا ابن مسعود هذه الآية : {وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّقَ بكم عن سبيله} . وحين ذَكَرَ عليه السلام أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قيل من هي يا رسول الله ؟ قال : ((ما أنا عليه وأصحابي )) . أو كما قال عليه السلام إلى غير ذلك مما جاء في هذا الباب ولا يُحصى كثرةً .
12ـ وسُئل الشيخ الصالح عبد العزيز بن محمد القيرواني المالكي عن قومٍ تسمّوا بالفقراء يجتمعون على الرقص والغناء ، فإذا فرغوا من ذلك أكلوا طعاماً كانوا أعدّوه للمبيت عليه ، ثمّ يَصِلُونَ ذلك بقراءة عشْرٍ من القرآن والذكر ، ثمّ يُغنّون ويرقصون ويبكون ، ويزعمون في ذلك كلّه أنهم على قُربة وطاعة ويدعون الناس إلى ذلك ... فما الحكم فيهم وفيمن رأى رأيهم هل تجوزُ إمامتهم وتقبلُ شهادتهم أم لا ؟ بيّنوا لنا ذلك .
فأجاب : بأن قال : ..... ولم يكن أحدٌ في مغربنا من هذه الطوائف فيما سلف ، إلى أن ظهرت هذه الطائفة الأميّة الجاهلة الغبيّة الذين وَلَعوا بجمع أقوام جهّال فتصدّوا إلى العوام الذين صدورهم سالمة ، وعقولهم قاصرة ، فدخلوا عليهم من طريق الدّين ، وأنهم لهم من الناصحين وأنّ هذه الطريق التي هم عليها هي طريق المحبّين ، فصاروا يحضّونهم على التوبة والإيثار والمحبّة وصدق الأخوّة ، وإماتة الحظوظ والشهوة وتفريغ القلب إلى الله بالكلّية ، وصرفه إليه بالقصد والنيّة . وهذه الخصال محمودة في الدّين فاضلة ، إلا أنّ الذي في ضمنه على مذاهب القوم سموم قاتلة ، وطامّاتٌ هائلة . وهذه الطائفة أشدُّ ضرراً على المسلمين ، منْ مرَدَةِ الشياطين ، وهي أصعبُ الطوائف للعلاج ، وأبعدها عن فهم طُرُقِ الاحتجاج ، لأنهم أول أصلٍ أصّلوه في مذهبهم ، بُغضُ العلماء والتنفير عنهم ، ويزعمون أنهم عندهم قطّاع الطريق المحجوبون بعلمهم عن رتبة التحقيق ، فمن كانت هذه حالته ، سقطت مكالمته ، وبعدت معالجته ، فليس للكلام معه فائدة ، والمتكلّم معه يَضْرِبُ في حديدٍ بارد ، وإنما كلامنا مع من لم ينغمس في خابيتهم، ولم يسقط في مهواتهم ، لعلّه يسلم من عاديتهم ، وينجو من غاويتهم .
واعلموا أنّ هذه البدعة في فساد عقائد العوام ، أسرع من سريان السمّ في الأجسام ، وأنها أضرّ في الدين من الزنى والسرقة وسائر المعاصي والآثام ، فإنّ هذه المعاصي كلها معلوم قبحها ، عند من يرتكبها ويجتلبها ، فلا يُلَبِّس مُرْتَكِبُها على أحد ، وتُرجى له التوبة والإقلاع عنها . وصاحبُ هذه البدعة يرى أنها أفضل الطاعات ، وأعلى القربات ، فبابُ التوبة عنه مسدود ، وهو عنه شرودٌ مطرود ، فكيف ترجى له منها التوبة ، وهو يعتقد أنها طاعة وقربة ، بل هو ممن قال الله فيهم :
{قل هل أُنبّئُكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا ً} ، وممن قال فيهم : {أفَمَنْ زُيِّنَ له سوءُ عمَلِه فَرَآهُ حَسَناً} .
ثمَّ ضررُ المعاصي إنما هي في أعمال الجوارح الظاهرة ، وضررُ هذه البدع إنما هي في الأصول التي هي العقائد الباطنة ، فإذا أُفسد الأصل ، ذهب الفرع والأصل ، وإذا فسد الفرعُ بقي الأصل و يُرجى أن ينجبر الفرع وإن لم ينجبر الفرع لم تذهب منفعة الأصل . ثمَّ إنّ الذي يُغوي الناس ويدعوهم إلى بدعته ، يكونُ عليه وزره ووزر من استنّ بسنّته . قال الله العظيم : {لِيَحْمِلُوا أوزارهم كاملةً يومَ القيامة وَ مِنْ أوزار الذين يُضِلُّونهم بغير عِلْمٍ ، ألا ساء ما يَزِرون} ...
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من سنّ سُنّةً حسنة كان له أجرُها وأجرُ من عمِل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنَّ سُنّةً سيّئةً كان عليه وِزرُها ووِزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة )) ولا تنشأ هذه العلل إلاّ مِنْ مَرَضٍ في القلب خفيّ ، أو حُمْقٍ جليّ ، فاحذروها واحذروا أهلها . ولا تغترّوا بهم ولو أنّهم يطيرون في الهواء ، ويمشون على الماء . فإنّ ذلك فتنةٌ لِمَنْ أراد الله فتنَتَه ، وعَلِمَ شِقوَته . قال الله تعالى :{ومَنْ يُرِد الله فِتْنَتَه فَلَنْ تَملك له من الله شيئاً}.فلا يغترّ أحدُكم بما يَظْهَرُ منَ الأوهام والخيالات مِنْ أهل البدع والضلالات ، ويعتقد بأنّها كرامات ، بل هي شُرُكٌ وحِبالات ، نصَبَها الشيطان لِيَقتَنِصَ بها مُعْتَقِدَ البدع ومرتكبَ الشهوات ، وإنّما تكون من الله الكرامة لِمَنْ ظهرت منه الاستقامة ، وإنما تكون الاستقامة باتّباع الكتاب والسنّة ، والعمل بما كان عليه سلَفُ هذه الأمّة ، فمن لم يسلُك طريقهم ، ولم يتّبع سبيلهم ، فهو ممن قال الله فيهم :{وَمَنْ يُشاققِ الرسول مِنْ بعد ما تَبَيَّنَ له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين ، نولّه ما تولّى ونُصْله جهنّم وساءت مصيراً} .
فمَنْ حرَّفَ كتابَ الله أو تركَ العمل به أو عطّله ، فقد افترى على الله كذباً ، واتّخذ آيات الله هزواً ولعباً ، فإذا رأيتم مَنْ يُعظّم القرآن فعظّموه ، وإذا رأيتم من يُكرم العلماء وأهل الدين فأكرموه . قال الله العظيم :{ومن يُعظّم حُرُمات الله فهو خيرٌ له عند ربّه} . ومن رأيتموه خالفَ القرآن فارْفُضُوه واهجروه في الله وأبغضوه . ومن رأيتموه يُجانب العلماء فجانبوه ، فإنّه لا يُجَانِبُهم إلا ضالٌ مبتدع ، غير مقتدٍ بالشرع ولا متّبع ، فإنّ الشرائع لا تُؤخذُ إلا عن العلماء ، الذين هم ورَثَة الأنبياء ، كيف وقد جعل الله شَهَادَتَه وشهادة ملائكته كشهادة أُولي العلم . قال الله تعالى :{شَهِدَ اللهُ أنّه لا إله إلا هوَ والملائكةُ و أُلوا العلم ، قائماً بالقسط} . ولَسْتُ أعني بالعلماء المشتغلين في زماننا هذا بعلوم الجدال والمماراة ، ولا المُعْتنين بدَرْسِ مسائل الأقضية والشهادات ، فيتقرّبون بذلك إلى جمع الحُطام ، والتّقرّب من الوُلات والحكّام ، ونَيْلِ الرِّياسة عند العوام ، وإنّما نعني بالعلماء الذين يعملون بعلمهم وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( يَحْمِلُ هذا الدّين من كُلّ خَلَفٍ عُدُولُه ، ينفونَ عنه تحريفَ الغالين ، وانتحال المبطلين )) فأولئك وَرَثَةُ النّبيين وأئمّة المتّقين الذين يجب أن يُقتَدى بهم ويتأدّب بآدابهم ، ويُقتفى آثارهم ، وتحفظ أخبارهم ، ولكنّهم ضمّهم لحودهم ، وقلَّ على بسيط الأرض وجودهم فما يورد من آثارهم أثر ، فهم الكبريتُ الأحمر ، وإنْ كان عجز عن بلوغ رتبتهم وقصّر ، لكنّه يعرفُ الحقّ فلا يغلط في نفسه ولا يغترّ ، فهذه النّصيحة لِمَنْ وَقَفَ عليها مِنَ الإخوان الصّادقين والمريدين ، والعامّة المسلمين المصحِّحين ، لِيُميِّزوا بها بين المُحِقِّين والمُبطلين مِنَ المنتمين إلى الدّين ولا يغْتَرّوا بالملْبَس منْ أجل حُسن الظنّ ومحبّتهم للصالحين ، ويدخل عليهم الخلل في عقائدهم ، ويميلون بها إلى عوائدهم .
وأمّا ما ذكَرْتُموه مِنْ أفعالهم واشتغالهم بالرقص والغنا والنّوح فممنوعٌ غيرُ جائزٍ ، قال الله تعالى :{ومِنَ النّاس منْ يَشْتَري لهْوَ الحديث لِيُضلَّ عن سبيل الله} .
قال مالك في المدوّنة : " وأكره الإجارة على تعليم الشعر والنوح وعلى كتابة ذلك ".
قال عياض : معناه نوحُ المُتَصوِّفة وإنشادهم على طريق النوح والبكاء ، فمن اعتقد في ذلك أنّه قُرْبة لله تعالى فهو ضالٌ مُضِلّ ، وَلا يعْلَمُ المسكين أنّ الجنّة حُفّت بالمكاره ، وأنّ النار حُفّت بالشهوات ، والله تعالى لم يَبعَث أحداً منَ الأنبياء باللهو والرّاحة والغِناء ، وإنّما بُعِثوا بالبِرِّ والتقوى وما يُخالف الهوى . قال تعالى :{وأمّا مَنْ خَافَ مقامَ رَبِّهِ ونهى النَّفْسَ عنِ الهوى فإنَّ الجنّة هي المأوى}. فالباطل خفيفٌ على النفوس ، ولذلك خفّ في الميزان ، والحقُّ ثقيلٌ ، ولذلك ثَقُلَ في الميزان ، قال تعالى :{إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قوْلاً ثَقيلاً}...............
وأمّا ما ذكرتموه منْ قراءة القرآن والاستماع إليه فإنه جائز . وفيه قربة وطاعة لله عزّ وجل قال تعالى :{وإذا قُرِىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون}. وإن كان بعضٌ أوّل ذلك في الصلاة . وهذا إذا كان على الوجه المأذون فيه ؛ لا يقصد به رياءً ولا سُمعة.
قال أبو محمد في رسالته : "ويبجّل كتاب الله العزيز فلا يُتلى إلا بسكينة ووقار" . والنساء فيما ذكرنا كالرجال فالمنعُ في حقّهن أشدُّ .
وكتب عبد العزيز بن محمد القيرواني حامداً الله ومصلٍ على نبيّه المصطفى . انتهى
ـ وسُئلَ فقيهُ بجاية وصالحها أبو زيد سيّدي عبد الرحمن الواغليسي عن مثل هذا السؤال .
فأجابَ عنه بما نصّه :
" قد نصَّ أهلُ العلم فيما ذكرتَ منْ أحوال بعض الناس منَ الرقص والتصفيق ، على أنّ ذلك بدعةٌ وضلال . وقد أنكره مالك وتعجّب ممن يفعل ذلك لمّا ذُكر له أنّ أقواماً يفعلون ذلك فقال : أصبيانٌ هم أم مجانين ؟! ما سمِعْنا أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا . انتهى المعيار ج11/29
13ـ وجاء في المدونة الكبرى 3 / 432
قلتُ : أكان مالك يكره الغناء ؟ قال : كره مالك قراءة القرآن بالألحان فكيف لا يكره الغناء !!
14ـ وسُئل الشيخ أبو إسحاق الشاطبي (من أئمة المالكية والمرجع في علم الأصول) عن حال طائفة ينتمون إلى التّصوّف والفقر ، يجتمعون في كثير من الليالي عند واحد من الناس ، فيفتتحون المجلس بشيء من الذكر على صوت واحد ثمّ ينتقلون بعد ذلك إلى الغناء والضرب بالأكفّ والشطح ، هكذا إلى آخر الليل ويأكلون في أثناء ذلك طعاماً يَعُدُّه لهم صاحبُ المنزل ، ويحضر معهم بعض الفقهاء ، فإذا تُكُلِّمَ معهم في أفعالهم تلك يقولون : لو كانت هذه الأفعال مذمومة أو محرّمة شرعاً لما حضرها الفقهاء .
فأجابَ ما نصّه : الحمد لله كما يجب لجلاله ، والصلاة على محمّدٍ وآله . سَألتَ وفّقني الله وإيّاك عن قومٍ يتسمّون بالفقراء ، يجتمعون في بعض الليالي ، ويأخذون في الذكر ثم في الغناء والضرب بالأكفّ والشطح إلى آخر الليل ، وأنّ اجتماعهم على إمامين من أئمّة ذلك الموضع يتوسّمان بوسم الشيوخ في تلك الطريقة ، وذكرتَ أنّ كل منْ يُزْجَر عن ذلك الفعل ، يحتجُّ بحضور الفقهاء معهم ولو كان حراماً أو مكروهاً لم يحضروا معهم .
والجواب والله الموفّق للصواب : إنّ اجتماعهم للذكر على صوت واحد إحدى البدع المحدثات التي لم تكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الصحابة ولا من بعدهم ، ولا عُرِفَ ذلك قطُّ في شريعة محمدٍ عليه السلام ، بل هو من البدع التي سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلالة ، وهي مردودة . ففي الصحيح أنه عليه السلام قال : (( مَنْ أحْدَثَ في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ )) يعني فهو مردود وغير مقبول، فذلك الذكر الذي يذكرونه غير مقبول . وفي رواية (( مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمْرُنا فهو مردود )) . وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : أما بعد فإن خيرَ الحديث كتابُ الله وخيرَ الهدي هَدْيُ محمدٍ ، وشرَّ الامور مُحدثاتُها وكلَّ بدعةٍ ضلالة . وفي رواية وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة في النار . وهذا الحديث يدُلُّ على أنّ صاحب البدعة في النار . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
وعن الحسن البصري أنه سُئلَ وقيل له : ما ترى في مجلسنا هذا ؟ قومٌ من أهل السنّة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمعُ في بيت هذا يوماً فنقرأ كتاب الله وندعو الله ربّنا ، ونصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وندعو لأنفسنا ولعامّة المسلمين . قال : فنهى الحسنُ عن ذلك أشدَّ النهي ، لأنه لم يكن من عمل الصحابة ولا التابعين . وكل ما لم يكن عليه عمل السلف الصالح ، فليس من الدين ، فقد كانوا أحرصَ على الخير مِنْ هؤلاء ولو كان فيه خير لفعلوه . وقد قال تعالى :{اليومَ أكملتُ لكم دينَكُم} .
قال مالك بن أنس : فما لم يكن يومئذٍ ديناً لم يكن اليوم ديناً . وإنّما يُعبدُ الله بما شَرَع .
وهذا الاجتماع لم يكن مشروعاً قط فلا يصحّ أن يُعبدَ الله به .
وأمّا الغناء والشطح فمذمومان على ألسنة السلف الصالح . فعن الضّحاك : الغنا مفسدةٌ للقلب مسخطةٌ للربّ . وقال المحاسبي : الغنا حرامٌ كالميتة . وسُئلَ مالك بن أنس عن الغنا الذي يُفْعل بالمدينة فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . و هذا محمول على غنا النساء و أما الرجال فغناؤهم مذمومٌ أيضاً ، بحيث إذا داوم أحدٌ على فعله أو سماعه سقطت عدالته ، لما فيه من إسقاط المروءة ومخالفة السلف . وحَكَى عياض عن التنيسي أنه قال : كنا عند مالك وأصحابه حوله ، فقال رجل من أهل نصيبين يا أبا عبد الله عندنا قوم يُقال لهم الصوفيّة ، يأكلون كثيراً ، ثمّ يأخذون في القصائد ، ثمّ يقومون فيرقصون ؟ فقال مالك : أَصبيانٌ هم ؟ قال : لا ، قال : أمجانينُ هم ؟ قال : لا ، هم قومٌ مشايخ ، وغيرُ ذلك عقلاء ، فقال مالك : ما سمعتُ أنّ أحداً من أهل الإسلام يفعلُ هذا !! اُنظُر كيف أنكر مالك و هو إمام السنة أن يكون في أهل الإسلام من يفعل هذا إلا أن يكون مجنوناً وصبياً . فهذا بيّنٌ أنه ليس من شأن الإسلام . ثم يقال ولو فعلوه على جهة اللعب كما يفعله الصبيان لكان أخف عليهم مع ما فيه من إسقاط الحشمة وإذهاب المروءة ، وترك هدي أهل الإسلام و أرباب العقول ، لكنهم يفعلونه على جهة التقرب إلى الله والتَّعبُّد به ، وأن فاعله أفضل من تاركه ، وهذا أدهى و أمرّ، حيث يعتقدون أن اللهو واللعب عبادة ، وذلك من أعظم البدع المحرمات الموقعة في الضلالة الموجبة للنار والعياذ بالله .
وأمّا ما ذكرتم من شأن الفقيهين الإمامين ، فليسا بفقيهين إذا كانا يحضران شيئا ًمن ذلك وحضورهما ذلك على الانتصاب إلى المشيخة قادحٌ في عدالتهما فلا يُصلّى خلف واحدٍ منهما حتى يتوبا إلى الله من ذلك ، ويَظْهَرَ عليهما أثر التوبة ، فإنه لا تجوز الصلاة خلف أهل البدع نص على ذلك العلماء . و على الجملة فواجب على من كان قادراً على تغيير ذلك المنكر الفاحش ، القيام بتغييره وإخماد نار الفتنة ، فإن البدع في الدين هلاك ، و هي في الدين أعظم من السم في الأبدان والله الواقي بفضله . والسلام على من يقف على هذا من كاتبه : إبراهيم الشاطبي . انتهى وتقيد بعقبه بخط المجيب رحمه الله ما نصه : ما كُتِب فوق هذا ويمنته صحيح عني حسبما كتب ، فليروه عني من شاء على حسب ما وقع هنا والله الموفّق للصواب . و كتب ذلك بخطه العبد الفقير إلى رحمة ربه إبراهيم الشاطبي المذكور في العشر الأواخر لذي قعدة عام 786 هـ .
15ـ و أجاب عن السؤال السابق أيضاً الفقيه الصالح أبو عبد الله الحفار المالكي بما نصه :(( الحمد لله والصلاة على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . الجواب مستعيناً بالله : إن هذه الطائفة المنتمية للتصوف في هذا الزمان وفي هذه الأقطار ، قد عظُم الضرر بهم في الدين ، وفشت مفسدتهم في بلاد المسلمين ولا سيما في الحصون والقرى البعيدة عن الحضرة هنالك ، يُظهرون ما انطوى عليه باطنهم من الضلال ، من تحليل ما حرم الله ، والافتراء عليه وعلى رسوله . وبالجملة فهم قوم استخلفهم الشيطان على حَلِّ عُرى الإسلام و إبطاله ، وهدم قواعده ولسنا لبيان حال هؤلاء ، فهم أعظم ضرراً على الإسلام من الكفار ، و إنما يقع الجواب على حال من ذكر في السؤال على تقدير سلامة عقيدته ، لكنهم قوم جهلة ، ليس لديهم شيء من المعارف ولا يحسن واحد منهم أن يستنجي ولا يتوضأ دعْ ما سوى ذلك ، لا يعرف ما فرض الله عليه . بهيمة من البهائم في دينه ، و ما أوجب الله عليه في يومه وليلته ، ليس عنده من الدين إلا الغنا والشطح ، و آكل أموال الناس بالباطل ، واعتقاد أنه على شيء . وهذا كله ضلال من وجوه :أعظمها أنهم يوهمون على عوام المسلمين و من لا عقل له من النساء ، ومن يشبههن في قلة العقل من الرجال أن هذه الطريقة التي يرتكبونها هي طريقة أولياء الله وهي من أعظم ما يتقرب به إلى الله فيضلون ويضلون ، وفي ذلك افتراء على الله وعلى أوليائه وعلى شريعته و أوليائه . قال عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة رضي الله عنهم :(( أيها الناس قد سُنَّت لكم السنن ، وفُرِضت لكم الفرائض ، وتركتم على الجادة ، إلا أن تميلوا بالناس يميناً وشمالاً)) . فليس في دين الله ولا فيما شرع أن يُتقرب إليه بغناءٍ ولا شطح ، والذكر الذي أمر به وحث عليه ومدح الذاكرين له به ، هو على الوجه الذي كان يفعله صلى الله عليه وسلم ولم يكن على تلك الطريقة من الجمع ورفع الصوت على لسان واحد (....) فلا يُتقرب إلى الله إلا بما شرع وعلى الوجه الذي شرع ، فمِن كلام السلف : لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها . وسُئِلَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الصراط المستقيم فقال : ((تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد و عن شماله جوادّ (جمع جادّة) وعليها رجال يدعون من مرّ بهم ، هلم لك ، هلم لك . فمن أخذ منهم في تلك الطرق سُلك به إلى النار ، ومن استقام على الطريق الأعظم انتهى به إلى الجنة)) ثم تلا ابن مسعود هذه الآية : {وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّقَ بكم عن سبيله} . وحين ذَكَرَ عليه السلام أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قيل من هي يا رسول الله ؟ قال : ((ما أنا عليه وأصحابي )) . أو كما قال عليه السلام إلى غير ذلك مما جاء في هذا الباب ولا يُحصى كثرةً .