جَلاءُ العَيْنَيْنِ عَنْ حُكْمِ صَلاةِ فَاقِدِ الطّهُورَيْنِ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين
أما بعد :
فهذه دراسة عن مسألة فاقد الطهورين ، وحكم صلاته من حيث الوجوب وعدمه ومن حيث الإعادة أو لا ، وقد كتبت هذا البحث مستعيناً بالله تعالى ، وقسمته إلى تمهيد ويشتمل على ثلاثة مباحث ، وإلى فصلين ، وقسمت كل فصل منهما إلى مبحثين ، وأسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح إنه ولي ذلك والقادر عليه .
خطة البحث
تمهيد : ويشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : فرضية الصلاة .
المبحث الثاني : وجوب الطهارة للصلاة .
المبحث الثالث : وجوب التيمم لفاقد الماء حقيقة أو حكماً .
الفصل الأول :
المبحث الأول : التعريف بموضوع البحث .
المبحث الثاني : أهمية مسألة فاقد الطهورين .
الفصل الثاني :
المبحث الأول : صورة المسألة ، وأمثلة على فاقد الطهورين .
المبحث الثاني : أقوال العلماء في حكم صلاة فاقد الطهورين ، وأدلتهم ، وسبب الخلاف ، والراجح من ذلك الخلاف .
المبحث الأول : فريضة الصلاة
قد فرض الله عزوجل على عباده عبادته وطاعة أمره ، ونهاهم عن معصيته ومخالفة حكمه ، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها ، ومن أعظم الأمور التي أمر الله بها عباده فريضة الصلاة ، تلك الفريضة العظيمة التي شرعها الله سبحانه من فوق سبع سموات تشريفاً لها وتعظيماً لمكانتها ، تلك الفريضة التي هي الصلة بين العبد وربه ، والحبل المتين الذي من تمسك به نجا ، وعمود الدين الذي جعله الله عهداً بين الكفر والإيمان ، فمن أصلح صلاته صلح سائر عمله ، ومن أضاعها فهو لما سواها أضيع ، فلذا جعل الله الصلاة من أركان الدين كما في حديث الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم :[ بُنِيَ الإِسْلامُ عَلى خَمْسٍ شَهَادةُ أَلا إِلَه إِلا الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله ، وإِقَامُ الصَّلاةِ ، وإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ، وصَوْمُ رَمَضَان ، وحَجُّ البَيْتِ لمن إِسْتَطَاعَ إِليْه سَبِيلاً ] ، وقد ثبت وجوب الصلاة بدليل الكتاب والسنة والإجماع ، فأما دليل وجوبها من الكتاب ، فقوله سبحانه : { وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ } ، وقوله سبحانه وتعالى : { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودَاً } ، وقوله سبحانه وتعالى : { وأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَليْها } ، وأما من السنة فقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث معاذ : [ فِإنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلكَ فَأعْلِمْهُمْ أَنّ الله إِفْتَرَضَ عَليْهِم خَمْسَ صَلَواتٍ فِي اليَوْمِ واللّيْلةِ ] ، إلى غيرها من النصوص المتضافرة في فرضية الصلاة ووجوبها ، وأما الإجماع فقد أجمع العلماء رحمهم الله على فرضية الصلاة ووجوبها .
المبحث الثاني : وجوب الطهارة للصلاة
أوجب الله سبحانه على كل من قام إلى الصلاة أن يتطهر لها كما في قوله سبحانه وتعالى :{ يَا أيّها الذينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم وأَيديكمْ إِلى المَرَافِقْ وامْسَحُوا بِرُؤوسِكم وأَرْجَلَكم إِلى الكَعْبَينِ } فقوله :{ فاغسلوا } أمر ، والقاعدة في الأصول : " أن الأمر يدل على الوجوب إلا إذا صرفه صارف " ، وأخبر صلى الله عليه وسلم بعدم قبول صلاة من لم يتطهر كما في حديث الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام :[ لا يَقْبَلُ الله صَلاةَ أَحَدِكم إِذَا أَحْدَثَ حَتّى يَتَوضّأ ] ، وقوله :[ لا يَقْبَلُ الله صَلاةَ بِغيرِ طَهَور ] ، ونحوها من النصوص الدالة على إشتراط الطهارة للصلاة .
المبحث الثالث : وجوب التيمم لفاقد الماء حقيقة أو حكماً :
شرع الله لعباده التيمم رحمة منه وفضلاً وتخفيفاً لعباده ورفع الحرج عنهم ، فقال سبحانه :{ فإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيمّموا صَعِيدَاً طَيّباً } فأمر كل من فقد الماء أن يعدل إلى بدله وهو التيمم .
الفصل الأول
المبحث الأول : التعريف بموضوع البحث :
يشتمل عنوان البحث على عبارتين : الأولى : فاقد ، والثانية : الطهورين .
فأما الفقد لغة : فقد عرفه ابن منظور في لسان العرب بقوله : مأخوذ مِنْ فَقَدَ الشيءَ يَفْقِدُه فَقْداً ، وفِقْداناً وفُقُوداً، فهو مَفْقُودٌ وفَقِـيدٌ: إذا عَدِمَه اهـ .
فأصل الفقد في لغة العرب : العدم ، ومن فقد شيئاً عَدِمَه .
والفاقد : إسم فاعل من الفقد ، فإذا الفقد معناه : العدم ، فالفاقد هو مَنْ عدم الشيء ولم يتحصّل عليه .
وأما العبارة الثانية :
فالطهوران : مثنى طهور ، والطهور لغة مأخوذ من مادة طهر يقال : طهر الشيء يطهر طهارة وطهراً ، وأصل الطهر في لغة العرب : النظافة ، والنقاء من الدنس .
والمراد بالطهورين : طهارة الأصل وهي طهارة بنوعيها وهما : الوضوء ، والغسل .
وطهارة بدلية ، وهي طهارة التيمم ، وتكون بالصعيد الطاهر .
ففاقد الطهورين هو الشخص الذي فقد ما يتطهر به وهما الماء ، وما ينوب عنه من الصعيد الطيب .
المبحث الثاني : أهمية مسألة فاقد الطهورين :
إعتنى العلماء رحمهم الله بهذه المسألة ، وبينوا حكمها في كتبهم ، والسبب في ذلك ممتد من عِظَمِ شأن ما تتعلق به هذه المسألة ، وهي : الصلاة التي هي ركن ركين من أركان هذا الدين ، والتي هي العهد الذي بين العبد وربه ، ولما كانت مسألة الطهارة شرطاً في صحة الصلاة لَزِمَ من ذلك بيان الأحكام المستثناة وهي حالة الفقد الحقيقي أو الحكمي للطهارة سواءً كانت أصلية أو بدلية ، ولذا إهتم الفقهاء بهذا المسألة لما ينبني عليها من أحكام من حيث صحة صلاة العبد وفسادها ، وما هو الواجب على العبد إذا ابتلي بشيء من ذلك العجز للطهارتين
وأيضاً لما في هذه المسألة من الحرج والضيق على الشخص حيث أنه مأمور بتأدية ما أوجب الله عليه من الطهارة والصلاة ، فيأتي السؤال بعد ذلك ما الحكم إذا لم أجد ما أمرني الله به ؟ فهل أصلي على حالتي أم أني أترك الصلاة لفقد شرطها ... وهذا هو محل بحث العلماء رحمهم الله ، ولذا كم من مسألة قد يستغربها البعض وقد أوردها الفقهاء في كتبهم بحثاً وتنقيحاً وجهداً ، فنجد بعد ذلك بقرون عديدة لها تطبيقات في حياتنا المعاصرة فما كان بحثهم للمسائل عبثاً ولا تندراً فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأعظمه .
الفصل الثاني
المبحث الأول : صورة المسألة ، وأمثلة على فاقد الطهورين :
صورة المسألة :
أن يفقد المصلي كلا الطهورين : الأصل وهو الماء ، والبدل عنه وهو الصعيد الطيب ، فاختلف العلماء رحمهم الله في إيجاب الصلاة عليه والإعادة بعد ذلك ، وتعرف هذه المسألة بمسألة [ فاقد الطهورين ] كما عبّر عنها غير واحد من العلماء .
أمثلة فاقد الطهورين :
1- المصلوب : وهو المعلق على خشبة ونحوها مثلاً ولا يجد من يناوله الطهورين .
2- الخائف من النزول عن الدابة ومثله في زماننا من كان في سيارته وخاف على نفسه أو كان معه عرض يخاف عليه كنسائه الضرر إن نزل منها ، وكذلك مثله من كان في الطائرة ويستحيل عليه النزول منها .
3- المريض لا يجد من يناوله ذلك كالمشلول والعاجز .
4- المحبوس في موضع لا يجدهما كالمسجون ونحوه .
5- وكذلك من كان في بلد كلها ثلوج .
وغيرها من الصور التي يتعذر فيه إستعمال الماء والصعيد .
المبحث الثاني :
أقوال العلماء في حكم صلاة فاقد الطهورين ، وأدلتهم ، وسبب الخلاف ، والراجح من ذلك الخلاف :
إختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على أربعة أقوال مشهورة ، وزاد بعضهم قولاً خامساً :
القول الأول :
لا يصلي ، ويقضي ، وبه قال الإمام أبو حنيفة ، وبعض أصحابه ، وهو وجه عند الشافعية رحمهم الله ، وبه قال الثوري والأوزاعي .
القول الثاني :
لا يصلي ، ولا يقضي ، وبه قال الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس ، وبعض أصحابه رحمة الله على الجميع ، وقال الإمام ابن عبد البر نقلاً عن ابن خواز بنداد : ( رواه المدنيون عن مالك ، قال : وهو الصحيح من المذهب ) .
القول الثالث :
يصلي ، ويقضي ، وبه قال الإمام الشافعي في رواية أصحابه المدنيين عنه ، وقول أبي يوسف من الحنفية ، وقول بعض المالكية كابن القاسم في العتبية وابن عبد الحكم ومطرف ، ورواية عن الإمام أحمد ، والطبري .
القول الرابع :
يصلي ، ولا يقضي ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وهي المذهب عند أصحابه كما ذكره المرداوي رحمه الله ، وقال به طائفة من أهل الحديث رحمهم الله ، وأبي ثور ، وأشهب من المالكية ، وقال به إبن حزم من الظاهرية .
القول الخامس :
تستحب الصلاة وتجب الإعادة ، حكاه الشيخ أبو حامد قولاً للإمام الشافعي في القديم ، وذكره الإمام النووي عنه ، وهو رواية عن الإمام أحمد ذكرها صاحب الإنصاف .
الأدلة :
أدلة القول الأول : [ لا يصلي ، ويقضي ]
أ – دليلهم على إسقاط الصلاة : حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ لا صلاة إلا بطهور ] ، ووجه الدلالة من الحديث : أن الحديث دل على أن الصلاة لا تصح بدون طهارة فدل على أن فاقد الطهورين لا تصح منه الصلاة فتسقط عنه شرعاً ، واستدلوا كذلك بقوله صلى الله عليه وسلم عند أصحاب السنن ، وأحمد : [ مفتاح الصلاة الطهور ] ، ووجه الدلالة منه كما بينا في الحديث السابق .
وإستدلوا من العقل بالقياس من وجهين :
الوجه الأول : أن عدم الطهارة أصلاً وبدلاً يمنع من إنعقاد الصلاة كالحائض .
الوجه الثاني : أن كل صلاة لم يسقط عنه الفرض بفعلها لم يلزمه الإتيان بها كالمحدث مع وجود الماء ، وذكر الكاساني رحمه الله عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله : ( أن الطهارة شرط أهلية أداء الصلاة فإن الله جعل أهل مناجاته الطاهر لا المحدث ) .
فقال أصحاب هذا القول : نسقط عنه الصلاة لأن الصلاة لا تجب في هذه الحالة لفقد الوضوء وفقد التيمم الذي هو بدل عن الوضوء فحينئذ لا يجب عليه أن يصلي الصلاة لعدم وجود القدرة عليهما .
ب – دليلهم على وجوب القضاء : أنه لما خرج الوقت تمكن من الوضوء أو من التيمم فتوجه عليه الخطاب بالفعل .