من طرف أبو عبد الله أحمد بن نبيل 12.01.09 15:34
8 ـ قال الكاتبُ: (( تُرَدِّدون جملة الحديث الشريف: (( كلُّ بدعة ضلالة
)) بدون فهم للإنكار على غيركم، بينما تُقِرُّون بعضَ الأعمال المخالفة
للسُنَّة النَّبوية،
ولا تنكرونها ولا تَعُدُّونها بدعةً، سنذكر بعضاً منها فيما يأتي ... )).
ويُجاب عن هذا من وجوه:
الأول: أنَّ النَّبِيَّ بيَّن في حديث العرباض بن سارية أنَّه سيوجد
الاختلافُ في هذه الأُمَّة، ومع وجوده يكون كثيراً، حيث قال: (( فإنَّه
مَن يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ))، ثم أرشدَ عند وجود هذا
الاختلاف
إلى الطريق الأمثل والمنهج الأقوم، وهو اتباع السنن
وترك البِدع، فقال: (( فعليكم بسُنَّتِي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين
من بعدي، عضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومُحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ
مُحدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة ))، فإنَّه رغَّب في السُّنن بقوله: ((
فعليكم بسُنَّتي ... ))، ورهَّب من البدع بقوله: (( وإيَّاكم ومُحدثات
الأمور، فإنَّ كلَّ مُحدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة )).
ومثل ذلك حديث (( ستفترق هذه الأُمَّة على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النَّار إلاَّ واحدة. قالوا: مَن هي
يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )).
فقد بيَّن أنَّ أمَّةَ الإجابة ستفترق هذا التفرُّق الكثير، وأنَّه لا
ينجو مِن العذاب إلاَّ مَن كان على ما كان عليه الرسول وأصحابُه، وهم
الذين يتَّبعون الكتابَ والسنَّةَ وما كان عليه سلفُ الأُمَّة، وقد قال
الإمام مالك رحمه الله: (( لن يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها
)).
وروى الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة بإسنادٍ صحيح عن ابن عمر
رضي الله عنهما قال: (( كلُّ بدعة ضلالةٌ وإن رآها الناس حسنة )).
وذكر الشاطبِيُّ في الاعتصام (1/28) أنَّ ابن الماجشون قال: سمعتُ مالكاً
يقول: (( مَن ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنةً فقد زعم أنَّ محمداً خان
الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} فما لم
يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليومَ ديناً )).
وقال أبو عثمان النيسابوري: (( مَن أمَّر السنَّةَ
على نفسِه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهَوَى على نفسِه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة )). انظر: حلية الأولياء (10/244).
وقال سَهل بن عبد الله التستري: (( ما أحدثَ أحدٌ في العلم شيئاً إلاَّ
سُئل عنه يوم القيامة، فإن وافق السُّنَّةَ سَلِم، وإلاَّ فلا )). فتح
الباري (13/290).
وعلى هذا، فإنَّ الفهمَ الصحيحَ لقوله : (( وكلُّ بدعة ضلالة )) هو بقاءُ
اللفظ على عمومه، وأنَّ كلَّ ما أُحدث في دين الله فهو بدعة، وهو مردودٌ
على مَن جاء به؛ لقوله في الحديث المتفق على صحَّته: (( مَن أحدث في
أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ ))، وفي لفظٍ لمسلم: (( مَن عمل عملاً ليس
عليه أمرُنا فهو ردٌّ )).
أمَّا القولُ بأنَّ مِن البدعِ ما هو حَسنٌ فغير صحيح؛ لأنَّه يُخالف قول
الرسول : (( وكل بدعة ضلالة ))، كما مرَّ إيضاحه في كلام ابن عمر ومالك
وغيرهما المتقدِّم قريباً.
ولا يَصِحُّ الاستدلالُ لهذا القول بقوله : (( مَن سَنَّ في الإسلام
سنَّةً حسنةً فله أجرها وأجر مَن عمل بها ... ))، الحديث رواه مسلم؛ لأنَّ
سياقَه في القدوة في الخير؛ لأنَّ النَّبِيَّ لَمَّا حثَّ على الصدَقة،
أتى رجلٌ من الأنصار بصُرَّةٍ كبيرة، فتابعه الناس على الصدقة، فعند ذلك
قال النَّبِيُّ ما قال.
الثاني: ذكر الكاتب أنَّ مَن زعم نُصحَهم يُقرُّون بعضَ الأعمال المخالفة
للسُّنَّة، ولا يعدُّونَها بدعة، ومن أمثلة ذلك عنده وضعُ حواجز بين
الرِّجال والنِّساء في المسجد النَّبوي، قال عن ذلك: (( وهذه بدعةٌ
شنيعةٌ؛ لأنَّه إحداثُ ما لم يحدُث في زمنه عليه الصلاة والسلام والسلف
الصالح، فقد كان يَلِي الإمامَ صفوفُ الرِّجال، ثم الصِّبيان، ثم
النِّساء، يُصلُّون جميعاً وبلا حاجز خلفه صلَّى الله تعالى عليه وآله
وسلم )).
ويُجاب عن ذلك: بأنَّ من عجيب أمرِ الكاتب أن يرى أنَّ هذا العملَ بدعةٌ،
مع أنَّ فيه ستراً للنساء، وصيانةً لهنَّ من نظرِ الرِّجال إليهنَّ،
ونظرهنَّ إلى الرِّجال، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي
الله عنهما، عن النَّبِيِّ أنَّه قال: (( ما تركتُ بعدي فتنةً أَضَرَّ
على الرِّجال من النساء ))، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله
عنه: أنَّ النَّبِيَّ قال: (( خيرُ صفوف الرِّجال أوَّلُها، وشرُّها
آخرُها، وخير صفوف النِّساء آخرُها، وشرُّها أوَّلُها )).
وجاء في آداب النساء في صلاتِهنَّ مع النَّبِيِّ عن عائشة رضي الله عنها
أنَّها قالت: (( إن كان رسول الله لَيُصلِّي الصبحَ فينصرفَ النساءُ
مُتلفِّعاتٍ بِمُروطِهنَّ، ما يُعرفنَ من الغَلَس ))، رواه البخاري ومسلم.
وفي صحيح البخاري عن أمِّ سلمة رضي الله عنها:
(( أنَّ النساءَ في عهد رسول الله كُنَّ إذا سلَّمنَ من المكتوبة
قُمْنَ، وثبتَ رسولُ الله ومَن صلَّى من الرِّجال ما شاء الله، فإذا قام
رسولُ الله قام الرِّجال )).
فهذان حديثان عن النَّبِيِّ في الترغيب في تباعد النساء عن الرجال،
وبعدَهما حديثان في آداب صلاة النساء مع الرسول ، ثم بعد ذلك تغيَّرت حال
النساء، حتى قالت عائشةُ رضي الله عنها: (( لو أنَّ رسولَ الله رأى ما
أَحْدَثَ النساءُ لَمَنَعَهنَّ المسجد، كما مُنعت نساءُ بَنِي إسرائيل ))،
رواه البخاري ومسلم.
وفي هذا الزمان تغيَّرت أحوال النساء كثيراً، وحصل منهنَّ التبرُّجُ
والسُّفور، وسَهُل الوصول إلى مكة والمدينة للرِّجال والنِّساء، والمسجدان
الشريفان حصل فيهما توسعةٌ كبيرة، والنساء تأتي إليهما من جهاتٍ مختلفة،
وخُصِّص لهنَّ أماكن مُعيَّنة، وجُعل حواجز؛ حتى لا يختلِطنَ بالرِّجال،
فأيُّ مانعٍ يَمنَعُ من ذلك؟! بل وكيف يجوز أن يصفَه الكاتبُ بأنَّه بدعةٌ
شنيعة؟!
مع أنَّ أوراق الكاتب اشتمَلت على بدَعٍ واضحة جليَّة لَم يعتبِرها بدعاً،
كبدعة بناء القِباب على القبور، والاحتفال بالمولد النَّبويِّ!!
* * *
9 ـ أشاد في أوراقه بتعظيم القبور وبناء القباب عليها، فوصف العيدروس
فقال: (( الإمام الربَّاني الحبيب العدني، بركة عدن وحضرموت رحمه الله
تعالى ))، ونَوَّه بِمشهده وبناء قُبَّتِه، ووصفها بأنَّها (( مباركة!! )).
والجواب: أنَّ البناءَ على القبور واتخاذها مساجد قد جاءت أحاديث كثيرة عن
رسول الله في تحريمه والتحذير منه؛ لأنَّه من وسائل الشرك، وقد ثبت في
صحيح مسلم من حديث أبي الهيَّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ((
ألاَ أبعثُكَ على ما بعثنِي عليه رسول الله ؟ أن لا تَدَعَ تِمثالاً
إلاَّ طمَستَه، ولا قبراً مُشرفاً إلاَّ سوَّيتَه ))، وفي لفظ: (( ولا
صورةً إلاَّ طَمستَها )).
وفي الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: (( لَمَّا
نُزل برسول الله طفِق يطرحُ خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها
عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبورَ
أنبيائهم مساجد يُحذِّرُ ما صنعوا )).
وقولهما رضي الله عنهما في الحديث: (( لَمَّا نُزل )) يَعنيَان الموتَ، وقد اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الدعاء على اليهود والنصارى باللَّعن.
الأمر الثاني: بيان سبب اللَّعن، وهو اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
والأمر الثالث: بيان الغرض من ذكر ذلك، وهو تحذيرُ هذه الأمَّة من الوقوع فيما وقع فيه اليهود والنصارى، فيستحقُّوا اللَّعنة.
وثبت في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله البَجَليِّ أنَّه قال: سمعتُ
النَّبِيَّ قبل أن يموت بخمسٍ، وهو يقول: (( إنِّي أبرَأُ إلى الله أن
يكون لي منكم خليلٌ، فإنَّ الله قد اتَّخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيم
خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً،
ألاَ وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالِحيهم مساجد،
ألاَ فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، إنِّي أنهاكم عن ذلك )).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( قاتَل
الله اليهودَ؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد ))، وثبت في الصحيحين من
حديث عائشة رضي الله عنها وصْفُ الذين يَبنونَ المساجد على القبور بأنَّهم
شرارُ الخَلق عند الله.
وهذه الأحاديثُ الثابتة عن رسول الله اشتملت على التحذير من اتِّخاذ
القبور مساجد مطلقاً، وبعضُها يُفيد حصولَ ذلك منه قبل أن يموت بخمسٍ،
وبعضُها يُفيد حصولَ ذلك عند نزول الموتِ به.
والتحذيرُ من ذلك جاء على صِيَغٍ متعدِّدة، فجاء بصيغة الدعاء باللَّعنة
على اليهود والنصارى، وجاء بصيغة الدعاء بمقاتلَة الله لليهود، وجاء بوصف
فاعلي ذلك بأنَّهم شرارُ الخَلق عند الله، وجاء بصيغة (( لا )) الناهية في
قوله:
(( ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد ))، وبصيغة لفظ النَّهي بقوله: (( إنِّي أنهاكم عن ذلك )).
وهذا مِن كمال نُصحِه لأمَّتِه ، وحرصِه على نَجاتِها وشفقتِه عليها،
صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وجزاه أوفَى الجزاء، وأثابَه أَتَمَّ
مثوبَة.
واتِّخاذ القبور مساجد يشمل بناء المسجد على القبر، كما قال في النصارى:
(( أولئك إذا كان فيهم الرَّجل الصالِح فمات بَنَوا على قبره مسجداً،
وصوَّروا فيه تلك الصُّوَر، أولئك شرارُ الخلق عند الله ))، وهو في
الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها.
ويَشمل قَصدَها واستقبالَها في الصلاة، كما قال : (( لا تجلِسوا على
القبور، ولا تُصلُّوا إليها ))، أخرجه مسلم من حديث أبي مَرثَد الغنَويِّ
رضي الله عنه. ويَشمل السجودَ على القبر من باب أولى؛ إذ هو أخصُّ من
الصلاة إليه.
وذكر الذهبيُّ في سير أعلام النبلاء (8/27) في ترجمة عبد الله بن لهيعة أنَّ الدَّفنَ في البيوت من خصائص النَّبِيِّ .
وأورد ابنُ كثير في البداية والنهاية ترجمة السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد
القرشية الهاشمية في حوادث سنة (208هـ)، ونقل عن ابن خلِّكان أنَّه قال:
(( ولأهل مصر فيها اعتقاد ))، ثم قال ابنُ كثير: (( وإلى الآن قد بالغَ
العامَّةُ في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيراً جدًّا، ولا سيما عوامُّ مصر،
فإنَّهم يُطلقون فيها عبارات بَشِعة، فيها مجازَفةٌ تؤدِّي إلى الكفر
والشِّرك، وألفاظاً كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنَّها لا تجوز ... ))، إلى أن
قال: (( ... والذي ينبغي أن يُعتقد فيها: ما يليق بِمِثلِها من النساء
الصالحات، وأصلُ عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر
النَّبِيُّ بتسوية القبور وطمسِها، والمغالاةُ في البَشَر حرامٌ ... )).
وكانت وفاةُ ابنِ كثير ـ رحمه الله ـ سنة (774هـ).
وقد ألَّف في هذه المسألة العلاَّمةُ الشوكاني المتوفى سنة (1250هـ)
رسالةً سَمَّاها "شرح الصدور بتحريم رفع القبور" أجادَ فيها وأفاد، قال
فيها: (( اعلم أنَّه قد اتَّفق الناسُ سابقهم ولاحِقهم وأولهم وآخرهم من
لدن الصحابة إلى هذا الوقت أنَّ رفعَ القبور والبناءَ عليها بدعةٌ من
البدع التي ثبت النَّهيُ عنها واشتدَّ وعيدُ رسول الله لفاعلِها، ولم
يُخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين أجمعين، لكنَّه وقع للإمام يحيى مقالة
تدلُّ على أنَّه يرى أنَّه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم
يَقل بذلك غيرُه ولا روي عن أحدٍ سواه، ومَن ذكرها من المؤلفين في كتب
الفقه من الزيدية فهو جرى على قوله واقتداء به، ولم نجد القول بذلك مِمَّن
عاصَرَه أو تقدَّم عصره عليه، لا من أهل البيت ولا من غيرهم، ثم ذكر أنَّ
صاحب البحر الذي هو مدرس كبار الزيدية ومرجع مذهبهم ومكان البيان لخلافهم
في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم لم ينسب القول بجواز رفع القباب
والمشاهد على قبور الفضلاء إلاَّ إلى الإمام يحيى وحده، فقال ما نصُّه:
مسألة: الإمام يحيى: لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك؛
لاستعمال المسلمين ولم ينكر. انتهى ... )) إلى أن قال الشوكاني رحمه الله:
(( فإذا عرفتَ هذا تقرَّر لك أنَّ هذا الخلافَ واقعٌ بين الإمام يحيى وبين
سائر العلماء من الصحابة والتابعين ومن المتقدِّمين من أهل البيت
والمتأخرين، من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومن جميع المجتهدين أولهم
وآخرهم، ولا يعترض هذا بحكاية مَن حكى قول الإمام يحيى في مؤلَّفِه مِمَّن
جاء بعده من المؤلِّفين، فإنَّ مجردَ حكاية القول لا يدلُّ على أنَّ
الحاكي يختاره ويذهب إليه ... )). إلى أن قال رحمه الله: (( فإذا أردتَ أن
تعرفَ هل الحق ما قاله الإمام يحيى أو
ما قاله غيرُه من أهل العلم فالواجبُ عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالردِّ إليه وهو كتاب الله وسنة رسول الله ... )). [يتبع]