رفع الجدل بإبطال دعوى منكري الجدل
من أبي عبد الله محمد بن عبد الحميد ... كان الله تعالى له .
إلى أخيه خطيب الجمعة ... عمم الله به النفع .. آمين
سلام عليكم ،،، أما بعد ،،،
مما تلي ويتلي على الناس على أعواد المنابر وكثر، القول بذم الجدل في الدين – هكذا بإطلاق- لم يعقبه من كدر .
وهذه الدعوى– غالباً، بحسب تتبعي لها- مصحوبة من قائلها بنشوة العظمة الكاذبة، وطغيان الوجاهة الزائفة، الصادرة عن كبر مع جهل، مرجعها لعدم الوقوف على حقيقة العلم، وقدر النفس .
فيشعرك متعاطيها بأنه هو الخطيب المصقع، وأنه هو العلامة الفهامة المرقع، وإنه المرجعية العلمية التي يجب أن يرجع إليها؛ وذلك لكونه من ذوي الجبة والعمامة الحمراء – التي تنذر بخطر الاقتراب – أو أنه صاحب الدربة والخبرة الواسعة فارس الميدان ، وإمام أهل الزمان بل الأزمان، الخبير بواقع الأنام .
وكم تنتابني الحسرات، ويغلبني الأسى، وهم يتكلمون بكلام الحبيبيق– الأحمق– الذي ما دري فقهاً، ولا رزق فهماً – إلا من رحم .
وعجيب هو حال الناس بعد خطبته تلك – العرجاء الشوهاء والتي شرق فيها وغرب وجمع فيها بين متفرقات ، خطبة خداج بتراء ، بلا منهجية علمية ، ولا هدف تربوي – يقومون عنها ولا منكر؛ إذا الخطيب الملهم قد حذر من الجدل، واذا أنكرت تبسم لك تبسم الليث، وعزا إلى درره التي ألقاها حينما كان ممتطيا المنبر .
لا ، بل يجد من بعض النيام مددا .
وهكذا يضيع الحق بين كبر الجاهل ، وغفلة السامع . ويذهب خير اللقاء الإيماني الأسبوعي الجامع .
لأجل ذلك انتخبت هذه الأحرف؛ مذكراً السادة الخطباء، بضرورة الخوف من الله تعالى أولاً .
ثم بأن يتقوا الله ويحترموا عقول المخاطبين فيحضّروا لذلك المشهد العظيم والمحفل الجليل تحضيراَ يسعدوا به يوم الدين .
ويستشعروا قيمة الأمانة العلمية المنوطة بهم ، ويتزودوا – بل يتضلعوا- بالعلم تزودا .
وفي هذا المقام نتحدث عن الجدل والجدال بحسب الإمكان، وفي حينه نتكلم عن الخطبة العلمية المرجوة وضوابطها ، والله الموفق ، فأقول :
" في اللغة العربية ثلاث كلمات دائرة في الاشتراك عند البحث في أمر من الأمور : المناظرة – الجدل أو الجدال – الحج والمحاجة أو الحجاج .
والمناظرة ([1]) لم ترد في القرآن الكريم .
أما الجدل والحجاج : فإنهما يردان في القرآن الكريم كثيرا (1)
المجادلة بالحق من سنن الأنبياء
وورثتهم تبعاً لهم إذ هم أحق بها وأهلها عند الضرورة الملجئة.
" المجادلة بالحق من سنن الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام- مع الأمم عند الدعوة , والجدال بالحق لإقامة الحجة على أهل الإلحاد والبدع من الجهاد في سبيل الله ، كما روى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم " أخرجه أبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي . قلت: ووافقهما الألباني كما في صحيح الجامع (1/593) برقم (3090) )
وإنما يكون الجهاد باللسان بتبين الحق بالحجة والبرهان، لا بالشغب والهذيان والسب والشتم .
والقرآن أبلغ في حججه وبراهينه([2]) ولهذا أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يجاهد الكفار بالقرآن ([3]) كما قال الله تعالى "وجاهدهم به جهادا كبيرا" سورة "الفرقان" الآية(52)
والجدال بالحق من النصيحة في الدين : وفي قصة نوح - عليه السلام – قولهم له" يا نوح قد جادلنا فأكثرت جدالنا " سورة "هود" الآية (32) فكان جوابه لهم ، قوله "... ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم " سورة "هود" الآية(34)
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في قصة وفد نصارى نجران ، وما اشتملت عليه من فوائد ما نصه :
ومنها : جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم , بل استحباب ذلك , بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام ما يرجي إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليه ""زاد المعاد" (3/42)
وقال الشوكاني - رحمه الله تعالى - عند تفسير قوله " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " سورة "غافر" الآية(4) أي : ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها، إلا الذين كفروا ...
فأما الجدال؛ لاستيضاح الحق، ورفع اللبث، وتمييز الراجح من المرجوح , ودفع ما يتعلق به الميطلون , فهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون""وفتح القدير"الشوكاني(3/42) والنقل عن"الموسوعة الفقهية الكويتية"(15/ 128)
((( نوعا الجدال )))
وعليه نقول : أن الجدال نوعان : مذموم , ومحمود . والله -سبحانه وتعالى -قد أوجب الجدال المحمود ، ودلّ على جميع آدابه : من الرفق ، والبيان ، والتزام الحق ، والرجوع إلى ما أوجبيته الحجة القاطعة .
فالجدال المحمود الواجب: هو الذي يجادل متوليه في إظها ر الحق .
والمذموم وجهان بنص القرآن : فأحد الوجهين المذمومين من الجدل :
جدال من جادل بغير علم .
والثاني : من جادل ناصراً للباطل بشغب وتمويه بعد ظهور الحق إليه .
____ (الحاشية) _____
(1) والمناظرة في القاموس "تاج العروس " (14/354) " أن تناظر أخاك في أمر إذ نظرتما فيه معاً كيف تأتينه . وهو مجاز. والمناظرة والمباحثة والمبارة في النظر . أما النظر هنا فهو: الفكر في الشيء تقدره وتقيسه ؛ لان كل قياس نظر ، وليس كل نظر قياسا "
والحج : هو الغلبة . فالحجة – بضم الحاء – يقال : حج يحجه – بضم الحاء – إذا غلبه على حجته . وأنا أحج خصمي : أغلبه بالحجة . والحجة : مصدر يعني : الاحتجاج ، أي الاستدلال .
أما الجدل : فهو اللدد في الخصومة ، والقدرة عليها " "القاموس المحيط " (3/346-247)
وأما اللدد : فهو الخصومة الشديدة مع الميل عن الحق " "المعجم الوسيط " (827)
ومن الألفاظ ذات الصلة :
المناقشة : وهي مراجعة الكلام بقصد الوصول إلى الحق غالبا " " لسان العرب "
المراء : المراء والمماراة : الجدال ، يقال مريته اذا طعنت في قوله؛ تزيفا للقول ، وتصغيراً للقائل .
قال القيومي : ولا يكون المراء الا اعتراضاً، بحلاف الجدال : فإنه يكون ابتداء واعتراضا " "المصباح المنير " و"دليل الفالحين" (3/80) نقلاً عن "الموسوعة الفقهية الكويتية "(15/126)
[2])) قلت: وكذا السنة ؛ إذ القرآن والسنة صنوان، وكلاهما وحي معصوم.
[3])) قلت: ما اجتمعت القلوب عليه، وإلا فالسنة مفسرة ومفصلة وقاضية .
عدل سابقا من قبل أبو محمد عبدالحميد الأثري في 24.05.08 11:33 عدل 1 مرات