تَبَرُّكُ الشَّافِعِيِّ بِقَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ
إن مما لا شك فيه أن منهجَ أهلِ السنةِ والجماعةِ هو المنهجُ الحقُ الذي
ارتضاهُ اللهُ لعبادهِ ، ولذا وجه أعداءُ أهلِ السنةِ والجماعةِ من
المبتدعةِ وغيرِهم سهامهم للنيلِ منه ومن رموزهِ من العلماءِ والدعاةِ إلى
اللهِ ، ورميهم بأبشعِ الألقابِ ، وقد نال أئمةُ المذاهبِ الأربعةِ - أبو
حنيفةَ ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل - نصيبا من تلك السهام ، فنُسب
إليهم زوراً وبهتاناً بعد التحققِ من صحةِ نسبتها بعضُ القصصِ والمروياتِ
المكذوبةِ التي تقدح في عقائدهم ، ولكن هيهات هيهات أن ينالوا من أولئك
الجبال الأعلام رحمهم الله .
وفي هذه السلسلةِ نستعرضُ قصصاً نُسبت إلى الأئمةِ الأربعةِ - أبي حنيفةَ
، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل - في العقيدة وغيرها مع بيانِ عللها ،
وكلام أهل العلم فيها ، ذباً عن عرضهم ، ونصحاً للأمةِ من الاغترارِ بها
حين إيرادها من قِبل المبتدعةِ .
ونبدأ بقصةِ لا تثبتُ عن الإمامِ الشافعي ، يتشدقُ بها المبتدعة ُ من
الصوفية ِ وغيرهم في مسألةِ التوسلِ بالأمواتِ الصالحين ، ولا تكاد تجدُ
مبتدعاً يتكلمُ عن التوسلِ إلا ويوردُ قصة توسل الشافعي بقبرِ أبي حنيفة
لكي يحتجُ بها على أهلِ السنةِ في تجويزِ التوسلِ بالصالحين .
ونقول كما قال الأولون : " أثبت العرش ثم انقش " .
نَصُ القِصَّةِ :
أخرجَ الخطيبُ البغدادي في " تاريخ بغداد " (1/123) بسنده فقال :
أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري ، قال : أنبأنا
عمر بن إبراهيم المقرئ قال : نبأنا مُكرم بن أحمد قال : أنبأنا عمر بن
إسحاق بن إبراهيم قال : نبأنا علي بن ميمون قال : سمعت الشافعي يقول : إني
لأتبرك بأبي حنيفة ، وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائراً - فإذا عرضت
لي حاجة صليتُ ركعتين وجئت إلى قبره ، وسألت الله تعالى عنده ، فما تبعد
عني حتى تُقضى .
نَقْدُ العُلَمَاءِ لِلقِصَّةِ :
انتقد علماءُ أهلِ السنة القصة ، وطعنوا في صحتها ، وإليك أخي ما قاله أهل العلم فيها :
• كذب شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمه الله القصة ورد على ما جاء فيها فقال في " اقتضاء الصراط المستقيم " (2/692) :
" ... الثاني : أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنا
لفعله المتقدمون ، ولم يفعلوه ، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات ، وهي لا
تتناقض ، وإذا اختلف فيها التأخرون فالفاصل بينهم : هو الكتاب والسنة ،
وإجماع المتقدمين نصا واستنباطا فكيف - والحمدلله - لم ينقل عن إمام معروف
ولا عالم متبع . بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه ، مثل ما
حكى بعضهم عن الشافعي أنه قال : ...فذكره أو كلاما هذا معناه ، وهذا كذلك
معلوم كذبه بالاضطرار عند من له معرفة بالنقل ، فإن الشافعي لما قدم بغداد
لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة ، بل ولم يكن هذا على عهد
الشافعي معروفا ، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من
قبور الأنبياء والصحابة والتابعين ، من كان أصحابها عنده وعند المسلمين
أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء . فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده
. ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن
زياد وطبقتهم ، ولم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند أبي حنيفة ولا غيره .
ثم قد تقدم عند الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور
المخلوقين خشية الفتنة بها ، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه
ودينه . وإما ان يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف ،ونحن لو
روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبه احاديث عمن لاينطلق عن الهوى لما جاز
التمسك بها حتى تثبت . فكيف بالمنقول عن غيره ؟ ا.هـ.
• وقال الإمامُ ابنُ القيمِ في " إغاثة اللهفان " (1/246) : والحكايةُ
المنقولةُ عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاءَ عند قبر أبي حنيفة من الكذب
الظاهر .ا.هـ.
• وقال العلامة المعلمي في " طليعة التنكيل " ( ص58 - 60) بعد أن بين ضعف سندها ،
وفصل فيه : هذا حال السند ، ولا يخفى على ذي معرفة أنه لا يثبت بمثله شيء
، ويؤكد ذلك حال القصة ، فإن زيارته قبر أبي حنيفة كل يوم بعيد في العادة
، وتحريه قصده للدعاء عنده بعيد أيضا ؛ إنما يعرف تحري القبور لسؤال
الحوائج عندها بعد عصر الشافعي بمدة ، فأما تحري الصلاة عنده ، فأبعد
وأبعد .ا.هـ.
• وقال العلامة الألباني عن سند هذه القصة في الضعيفة (1/31ح22) :
فهذه رواية ضعيفة بل باطلة فإن عمر بن إسحاق بن إبراهيم غير معروف وليس له
ذكر في شيء من كتب الرجال ، ويحتمل أن يكون هو " عمرو - بفتح العين - بن
إسحاق بن إبراهيم بن حميد بن السكن أبو محمد التونسي وقد ترجمه الخطيب
وذكر أنه بخاري قدم بغداد حاجا سنة 341هـ ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا
فهو مجهول الحال ، ويبعد أن يكون هو هذا إذ أن وفاة شيخه علي بن ميمون سنة
247هـ على أكثر الأقوال فبين وفاتيهما نحو مائة سنة فيبعد أن يكون قد أن
يكون قد أدركه .
وعلى كل حال فهي رواية ضعيفة لا يقوم على صحتها دليل .ا.هـ.
وقد رد العلامة الألباني على الكوثري في نفس الموضع فقال :
وأما قول الكوثري في مقالاته : وتوسل الإمام الشافعي بأبي حنيفة مذكور في
أوائل تاريخ الخطيب بسند صحيح . فمن مبالغاته بل مغالطاته ا.هـ.
• وقال محمد نسيب الرفاعي في " التوصل إلى حقيقة التوسل " ( ص 331 - 332) :
26- توسل الشافعي بأبي حنيفة رضي الله عنهما
قال ابن حجر المكي في كتابه المسمى (( الخيرات الحسان )) في مناقب أبي
حنيفة النعمان في الفصل الخامس والعشرين أن الإمام الشافعي أيام هو ببغداد
كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة يجيء إلى ضريحه يزوره فيسلم عليه ثم يتوسل
إلى الله به في قضاء حاجاته .
الكلام على متن هذا الخبر
من المعلوم أن معنى التوسل هو القربى والمتوسل عليه ولا شك أن يتحرى في
توسله أن يكون هذا من النوع الموافق لعقيدة هذا المتوسل به فإذا كان الذي
يريد أن يتوسل به يكره ويحرم هذا النوع من التوسل فكيف يعقل من أحد أن
يقدم على عمل هو مكروه عند التوسل به ؟ لأنه موقن بأن المتوسل إليه به لا
يقبل قطعاً هذا التوسل لا سيما وقد منعه منعا باتاً على ألسنة رسله من لدن
آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإن أبا حنيفة كان لا يجيز التوسل إلى
الله بأحد من خلقه فقد ثبت عنه أنه قال : " لا ينبغي لأحد أن يدعو الله
إلا به وأكره أن يقول : أسألك بمعاقد العز من عرشك وأن يقول بحق فلان وبحق
أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام " .
ولا شك أن الشافعي يعلم هذا من مذهب أبي حنيفة في التوسل فكيف يتوسل به
وهو يكره هذا النوع من التوسل بل ويحرمه فهل من المعقول بعد أن يعلم
الشافعي من أبي حنيفة ذلك أن يتوسل به هذا غير معقول البتة بل هو إغضاب
لأبي حنيفة لأنه يكرهه ويحرمه لأن الله كرهه ويحرمه ولا شك أن الشافعي
وأبا حنيفة رضي الله عنهما لا يحبان إلا ما يحب الله ولا يكرهان إلا ما
يكرهه الله سبحانه وتعالى فكيف يتقرب الشافعي إلى الله بالتوسل بأبي حنيفة
بما يغضب الله وأبا حنيفة حاشاه من ذلك وهو بريء مما نسب إليه ولكن ماذا
نقول للكذابين والمفترين أننا نشكوهم إلى الله تعالى : اللهم عاملهم بما
يستحقون .
قال في (( تبعيد الشيطان )) : والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر . اهـ .
منقول.......