من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 19.07.08 7:57
الإمامة عند الجعفرية
الدكتور علي السالوس
بسم الله الرحمن الرحيم .. إياك نعبد وإياك نستعين
مقدمة
الحمد الله تعالى حمداً كثيرا، والصلاة والسلام على رسله الأكرمين، وعلى خاتمهم محمد بن عبد الله ، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين .
وبعد: ففي بحث سابق تحدثت عن الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة بصفة عامة، وبينت عقيدة الإمامة عند الجعفرية بصفة خاصة كما جاءت في كتبهم . وقلت بأن الأدلة التي استند إليها الجعفرية الاثنا عشرة لإثبات عقيدتهم تحتاج إلى بحث آخر.
وفي هذا البحث أقدم عرضا ومناقشة للآيات القرآنية الكريمة التي أولوها للاستدلال بها يما ذهبوا إليه من قولهم في الإمامة. أما السنة النبوة الشريفة فإنها نرجئها لبحث تال إن شاء الله عز وجل .
ونسأله سبحانه وتعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، إنه تعالى نعم المولى ونعم النصير .
المؤلف
علي أحمد السالوس
تمهيد
الجعفرية معنيون كل العناية بالحديث عن الإمامة، ومحاولة إثبات صحة مذهبهم بالأدلة النقلية والعقلية، ولهم في القديم والحديث مئات المؤلفات، بل عشرات المئات فقلما نجد عالماً من علمائهم لم يدل بدلوه في هذا المجال وفي مؤلفاتهم نرى الميل إلى الإكثار الزائد من النقل والجدل، مثال هذا أنهم يستدلون على صحة الإمامة بأحد الأحاديث فجاء كاتب من كتّابهم وألف في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة هذا الحديث وشهرته، ومن قله ألف أحدهم كتاب الألفين – أي من الأدلة – في الإمامة أمير المؤمنين. وأمام هذا الفيض الزاخر رأيت يعرض أدلتهم ومناقشتها أن أسلك المنهج التالي :
أولا – في هذا المبحث أحدد أهم أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم ، وأبين وجهة نظرهم . وأناقشهم فيما ذهبوا إليه . أما بقية الآيات الكرمية التي ظهر أثر الإمامة في قراءتها أو تفسيرها وتأويلها فالحديث عنها يأتي في بحث عن التفسير عندهم إن شاء الله تعالى .
ثانيا- بالنسبة للسنة النبوية الشريفة أجمع ما روى متصلا بالإمامة – وساء أأيد رأيهم أم عارضه – في الموطأ والصحيحين. وكتب السنن الأربعة، والمسند للإمام أحمد، ثم أتحدث عما جمعت سندا ومتنا، وذلك في بحث تال كما ذكرنا، أما كتب الحديث المعتمدة عند الجعفرية فالحديث عنها يأتي في بحث آخر عن السنة كما يرونها .
ومن المعلوم أن القرآن الكريم ليس فيه نص ظاهر يؤيد المذهب الجعفري فلجأ معتنقوه إلى التأويل، والاستدلال بروايات ذكرت في أسباب النزول لآيات كريمة وما استدل به الجعفرية هو:
1- قال تعالى: (( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )) " المائدة: 55 " .
هذه الآية الكريمة يسمونها آية الولاية، ويقولون إنها تدل على أن إمام المسلمين بعد النبي بلا فصل هو علي بن أبي طالب، لأن لفظ (( إنما)) تفيد الحصر و(( وليكم )) تفيد من هو أولى بتدبير الأمور ووجوب طاعته، والآية الكريمة نزلت في علي بلا خلاف – كما يقولون – عندما تصدق بخاتمه وهو راكع .
2- في آية المباهلة (( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم )) " آل عمران : 61 " . قالوا: أن الرسول باهل بأهل الكساء وهم علي وفاطمة والحسن والحسين، فهم أحب الناس إلى الله تعالى، فهم أحق بالإمامة والخلافة من الثلاثة الذين سبقوا الإمام علياً، (( وأنفسنا)) هنا تدل على أن عليا كنفس الرسول ، ومن كان كذلك فمن الذي يتقدمه ؟
3- قال تعالى: (( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )) " الأحزاب: 33 " .
قالوا : أن المراد بأهل البيت هنا علي وفاطمة والحسن والحسين، وهذه الآية الكريمة تدل على عصمتهم ، والإمامة تدور مع العصمة .
4- قال سبحانه: (( إني جاعلك للناس إمام قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين )) " البقرة: 124 " .
قالوا: إن هذه الآية الكريمة قد أبطلت إمامة كل ظالم، فصارت في الصفوة من ذرية إبراهيم الخليل ومن عبد غير الله ولو لحظة فهو ظالم، وعلي هو الذي لم يعبد صنماً قط. أما غيره من الخلفاء فهم ظالمون لا يستحقون هذه الخلافة .
ومعنى هذا أن القرآن الكريم - على قولهم قد أشار في أكثر من موضع أن علياً هو المستحق للإمامة دون غيره ولذلك فهم يعتقدون أن الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على علي وينصبه علما للناس من بعده، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهرة، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم، وإلى اليوم ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاعة النبي وعصمته عن الهوى والغرض ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك، فأوحى إليه : (( بلغ ما أنزل إليكم من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)) "المائدة : 67 " ، فلم يجد بداً من الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غدير خم، فنادى وجلّهم يسمعون : " الست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ فقالوا: اللهم بلى فقال: من كتب مولاه فهذا علي مولاه، إلى آخر ما قال ، ثم أكد ذلك في مواطن أخرى تلويحاً وتصريحا، وإشارة ونصاً حتى أدى الوظيفة (1).
وقبل أن ينصرف الرسول من غدير خم وقبل أن يتفرق الجمع نزل قوله تعالى: (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) " المائدة: 3 " .
فقال رسول الله الله أكبر على اكمال الدين، واتمام النعمة، ورضا الرب رسالتي، والولاية لعلي من بعدي، ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين وفي مقدمتهم الشيخان (2) . فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري، فأتى رسول الله على ناقة له حتى أتى بالأبطح فنزل عن ناقته فأناخها، فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنكم رسول الله فقبلناه ، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهراً قبلناه، وأمرتنا بالحج فقبلناه، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعى ابن عمك ففضلته علينا، وقلت من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أم من الله عز وجل ؟ فقال: والذي لا إليه إلا هو هذا من الله. فولى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب أليم . فما وصل إليها حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله وأنزل الله (( سأل سائل بعذاب واقع)) "المعارج: 1" (3) .
هذه الآيات الكريمة السبعة السابقة هي أساس ما يستدلون به من القرآن الكريم، فلنعرض رأيهم، ونناقش بالتفصيل .
* * *
سورة المعارج مكية وأسباب نزول الآية : 1- أخرج النسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: (( سأل سائل )) قال: هو النضر بن الحارث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطرنا علينا بالحجارة من السماء .
وأخرج بن أبي حاتم عن السدي في قوله (( سأل سائل )) قال: نزلت بمكة في النضر بن الحارث وكان عذابه يوم بدر .
الفصل الأول
الولاية
ننظر في الآية الكريمة الأولى، آية الولاية كما يسميها الجعفرية التي يعتبرونها نصاً صريحاً في إمامته، فنجد أنهم يروون أنها نزلت على علي بن أبي طالب حين سأله سائل وهو راكع في صلاته، فاومى بخنصره اليمنى إليه فأخذ السائل الخاتم من خنصره .
وقالوا في المعنى: أن الله تعالى بين من له الولاية على الخلق، والقيام بأمورهم ، وتجب طاعته عليهم فاقل: (( إنما وليكم الله ورسوله ))، أي الذي يتولى مصالحكم ويدبر أموركم هو الله تعالى ورسوله (( والذين آمنوا )) ثم وصف الذين آمنوا فقال: (( الذين يقيمون الصلاة )) بشرائطها (( ويؤتون الزكاة وهم راكعون )) أي يعطونها في حال الركوع .
ثم قالوا: هذه الآية من أوضح الدلائل على صحة إمامة علي بعد النبي بلا فصل، والوجه فيه أنه إذا ثبت أن لفظة وليكم تفيد من هو أولى بتدبير أموركم ويجب طاعته عليكم، وثبت أن المرد بالذين أمنوا علي ثبت النص عليه بالإمامة ووضح . الذي يدل على الأول هو الرجوع إلى اللغة، فمن تأملها علم أن القوم نصوا على ذلك، ولا يجوز حمل لفظة الولي على المولاة ونفي الحكم عمن عدا المذكور. والذي دل على أن المراد بالذين آمنوا علي الروايات الكثيرة. فهو وحده الذي تصدق في حال الركوع، كما أن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية وإلا أدّى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليهيعنيه (4) .
هذا ما ذهب إليه الجعفرية، ولكن أهل التأويل - كما يقول الطبري (5) - اختلفوا في المعنى بقوله تعالى: (( والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )) ، فقال بعضهم: عنى به علي بن أبي طالب، وقال بعضهم: عنى به جميع المؤمنين .
وذكر الطبري الروايات التي تؤيد ما ذهب إليه القائلون بأن المعنى به جميع المؤمنين، وفي بعضها تعجب ممن سأل عن المراد بالذين آمنوا، لأنه يسأل عن شيء لا يسأل عن مثله . ثم ذكر روايتين : -
الأولى: عن إسماعيل بن إسرائيل قال: حدثنا أيوب بن سويد قال، حدثنا عتبة بن أبي حكيم في هذه الآية (( إنما وليكم الله ورسوله )) قال: علي بن أبي طالب .
الثاني: هي: حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا غالب بن عبيد الله قال، سمعن مجاهداً يقول في قوله: (( إنما وليكم الله )) قال: نزلت في علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع. والرواية الأولى في سندها أيوب بن سويد، وعتبة بن أبي حكيم فأما أيوب فقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. وقال البخاري في الكبير " يتكلمون فيه " (6) وأما عتبة فقد ضعفه ابن معين، وكان أحمد يوهنه قليلا، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات(7)
فهذه الرواية إذاً ضعيفة السند .
والرواية الثانية في سندها غلب بن عبيد الله وهو منكر الحديث متروك (8) فروايته لا يؤخذ بها .
والحافظ ابن كثير عند تفسير الآية الكرمية قال (9): (( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ))، أي ليس اليهود بأوليائكم ، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين، وقوله: (( الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة )) أي : المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من أقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، وهي له وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين. وأما قوله: (( وهم راكعون )) فقد توهم بعض الناس أه هذه الجملة في موضع الحال من قوله: (( ويؤتون الزكاة )) أي في حال ركوعهم، ولو كن هذه كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أضل من غيره لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى، وحتى أن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن علي بن أبي طالب أن هذه الآية نزلت فيه ، وذلك أنه مرّ به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه .
وذكر ابن كثير الروايات التي تشير إلى هذا، ثم بين أنها لا يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها. ثم قال: وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت حيث تبرأ من حلف اليهود، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : ((ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون )) كما قال تعالى: (( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز 000 ألا إن حزب الله هم المفلحون )) .
فكل من رضي بولاية الله ورسله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة، ومنصور في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة : (( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون )) . بعد هذا كله نذكر بعض الملاحظات:
1- بدراسة روايات الطبري، ومما ذكره الحافظ ابن كثير، نجد أن رواية التصدق في حالة الركوع لا تصح سنداً، يضاف إلى هذه أن كتب السنة التي رجعت إليها لم أجد فيها ذكراً لمثل هذه الرواية (10) .
2- الروايات مرفوضة كذلك من ناحية المتن كما أشار ابن كثير وغيره، فالفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات، سواء أكانت كثيرة أم قليلة ، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة لصلاة دون القليلة، ولكن تؤثر قصوراً في معنى إقامة الصلاة ألبتة (11) .
3- قال ثعلب: الركوع الخضوع، ركع يركع، ركعا وركوعا: طأطأ أرسه . وقال الراغب الأصبهاني: الركوع الانحناء، فتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي وتارة في التواضع والتذلل: أما في العبادة، وإما في غيرها وكانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعا إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركع إلى الله، قال الزمخشري: أي اطمأن، قال النابغة الذيباني: -
سيبلغ عذراً أو نجاحا من امرئ إلى ربه رب البرية راكع
وتقول: ركع فلان لكذا وكذا إذا خضع له ، ومنه قول الشاعر:
بيعت بكسر لئيم واستغاث بها من الهزال أبوها بعد ما ركعا
يعني بعد ما خضع من شدة الجهد والحاجة .
ومنه كذلك:
لا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه
وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن الكريم أيضا كما قيل في وقوله سبحانه: (( واركعي مع الراكعين )) ، إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع. وكذا في وقله تعالى: (( وخرّ راكعا )) إلى غير هذا (12) .
فقوله تعالى: (( وهم راكعون )) يعني به وهم خاضعون لربهم منقادون لأمره، متواضعون متذللون في أدانتهم للصلاة وإيتائهم للزكاة فهو بمعنى الركوع الذي هو في اصل اللغة بمعنى الخضوع .