يركز كثير من مريدي هذه الطريقة على العلاقة التي نشأت بين الشيخ متولي الشعراوي والشيخ محمد بقايد باعث هذه الطريقة. ولعل هذا التركيز نابع من الشهرة الكبيرة التي اكتسبها الشيخ الشعراوي خاصة عبر البرامج الدينية الشعبية وطريقته المبسطة في تقريب المفاهيم الاسلامية إلى العامة مازجا اللغة العلمية بالعامية وأسلوب الدعابة المصرية.
وفي غياب انتاج ثقافي وازن لشيوخ هذه الطريقة يصبح من المفهوم الاستعاضة عن ذلك بادخال صورة الشيخ الشعراوي وخاصة قصيدته التي أنشأها في مدح الشيخ محمد بلقايد كنوع من التعويض والتزكية للطريقة في عيون مريديها. وإذا كانت العادة هي نسبة التلميذ إلى شيخه، فإننا في هذه الحالة نجد محاولة مستميتة من أجل نسبة الطريقة برمتها إلى "تلميذها"، او ذكر فضائل الطريقة بالتدليل على انتساب هذا العالم، الشيخ الشعراوي، إليها ومدحه لشيخها.
يقول في هذه القصيدة:
نور الوجود وري روح الوارد *** هبرية تدني الوصول لعابد
تزهو بسلسلة لها ذهبية *** من شاهد للمصطفى عن شاهد
طُوِفتُ في شرق البلاد و غربها *** وبحثت جهدي عن إمام رائد
أشفي به ظمأً لغيب حقيقة *** و أهيم منه في جلال مشاهد
فهداني الوهاب جل جلاله *** حتى وجدت بتلمسان مقاصدي
اليوم آخذ نورها عن شيخنـا *** محيي الطريق محمد بلقايـــد
ذقنا مواجيد الحقيقة عنـــده *** وسمونا به في صفاء مصـاعد
شاهد رسول الله فيه فإنــــه *** إرث تُوُرِثَ ماجدا عن ماجد
الله قصدك والرسول وسيلتـك *** وخطاك خلف محمد بلقايد..
إلى آخر ما قال.
والقصيدة كما هي عادة القصيد الطرقي عموما المشتهر في عصور الانحطاط ضعيفة في مبناها وفي بلاغتها، إلى حد الركاكة الأدبية والضعف اللغوي، وهي تذكر بادب عصر الانحطاط القريب للرجز الشعبي من كونه قصيد ابداعي يجمع روعة النظم لروعة المعنى واستقامة المبنى القصيدي.
تقول الرواية الهبرية أن الشيخ محمد متولي الشعراوي كان يرى المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم كل يوم يقظة ومناما، وهو الذي أمره أن يأتي الجزائر لأن الشيخ المربي هناك وهذا الذي حدث. ذلك ان الهبريين يعتقدون أن فقراء الطريقة مكرمون برؤية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على صورته التي خلقه الله تعالى عليها في الدنيا ويتأتى ذلك بالجد في المجاهدة وكثرة الذكر. وهذا يعود "لتمكن الشيخ من مقامه الذي أقامه الله تعالى فيه ورسوخ قدمه في الولاية الربانية". وهنا لا نريد أن نعلق على هذه الهرطقة التي تدعي ان رسول الله لم يمت وهو يجتمع بالبشر يقظة وهذا خلاف صريح لنص القرآن الكريم ولنواميس الكون التي أجراها الله على الأنبياء كما على جميع البشر.
لقد جاء الشيخ الشعراوي في بعثة تعليمية في بداية الاستقلال إلى الجزائر ومكث فيها حوالي سبع سنوات. لكن الرواية الهبرية تضفي على هذه الاقامة في ديار الجزائر نوعا من القدسية، تقول ان حقيقة بعثته هي الدخول إلى "حضرة ربه" وأخذ العهد من محمد بلقايد. وقد أثر عن الشعراوي قوله:" ذقنا مواجيد الحقيقة عنده" يقصد الشيخ بلقايد.
لكن الشيخ الشعراوي له قصة مماثلة مع الطريقة النقشبندية حيث يتناقل أتباع هذه الطريقة أن الشيخ أخذ العهد أيضا على شيخ وقتها وانتسب لتلك الطريقة أيضا. ويبدو أن الشيخ الشعراوي في تلك المرحلة كان ذواقا يغلب عليه دماثة الخلق والتأدب مع المشائخ خاصة في البلدان التي أقام فيها لفترة طويلة مثل الجزائر. في حين المطالع لكتب الشيخ الشعراوي ومؤلفاته على الرغم من طابعها الشعبي ولغتها القريبة من العامية لكن يلاحظ عليه قربه من الفكر العقلاني الاعتزالي أكثر بكثير من الفكر الطرقي، الذي يبدو ضامرا إلى حد الانطفاء في معظم انتاجه العلمي الذي اشتهر فيما بعد، بخلاف شيخ الأزهر عبد الحليم محمود الذي حاول أن يعقلن الفكر الصوفي ويقربه من العقل الاسلامي المعاصر والعقل الغربي. والشعراوي في كتاباته التي تتعلق بالتربية والتزكية نجده أقرب إلى ابن القيم وابن الجوزي وابن تيمية بدلا من أبي يزيد البسطامي والسهروردي.
صورة الشيخ محمّد عبد اللطيف بلقايد مع الشيخ الشعراوي رحمه الله
ولعل المقام مناسب لنذكر منهجية الشعراوي الخاصة فهو يقول في تعريف مفهوم العبادة:" العبادة لا تقتصر على إقامة الأركان التعبدية في الدين من شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمد رسول الله، و إقامة الصلاة، و إيتاء الزكاة، و صوم رمضان، و حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً. إن هذه هي أركان الإسلام، و لا يستقيم أن ينفصل الإنسان عن ربه بين أوقات الأركان التعبدية. إن الأركان التعبدية لازمة؛ لأنها تشحن الطاقة الإيمانية في النفس حتى تقبل على العمل الخاص بعمارة الدنيا، و يجب أن نفطن إلى أن العبادة في الدنيا هي كل حركة تؤدي إلى إسعاد الناس و عمارة الكون (...) فالعبادة منها ما يصل العبد إلى المعبود ليأخذ الشحنة الإيمانية من خالقه، خالق الكون، و منها ما يتصل بعمارة الكون... فالعبادة منهج يشمل الحياة كلها.. في بيتك، و في عملك، و في السعي في الأرض؟ و لو أراد الله سبحانه و تعالى من عباده الصلاة و التسبيح فقط لما خلقهم مختارين، بل خلقهم مقهورين لعبادته ككل ما خلق ما عدا الإنس و الجن، فهو سبحانه يريد من الإنس و الجن عبادة المحبوبية..."
هذا المقطع يوضح بجلاء بعد الشعراوي عن كل الترسيمات الطرقية في مفهوم العبادة، وحيث يجعل الشعائر التعبدية جزء من مفهوم شامل متعدد الجوانب يتعلق بالدنيا كما يتعلق بالآخرة.
وفي موضع آخر يحدد موقفه من بدعة الرقم "19" مما يعكس نظرته العقلانية الواعية بطبيعة التشريع والوحي الذي لا يغرق في الغيبيات والأساطير ويتعلق بالأوهام فيقول:" الرقم 19 الذي يروج له البهائيون وغيرهم من أصحاب المذاهب الهدامة، يريدون أن يجعلوا منه شيئا مقدسا .. إن الله ذكر في القرآن الكريم أرقاما كثيرة ليس بينهما ترابط.. أي أنها لا تقبل القسمة على عدد واحد مثلا .. ولا هي مثلا كلها أحاد.. ولا كلها أزواج (...) وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى قد استخدم في القرآن الكريم أرقاما كثيرة لا يربط بينها إلا مشيئة الله .. فحملة العرش هم ثمانية .. لأن الله أراد لهم أن يكونوا ثمانية .. وأبواب جهنم سبعة لأن الله أراد لها أن تكون سبعة .. وميقات موسى كان أربعين ليلة لأن الله أراد أن يكون ميقاته أربعين ليلة . وليس هناك معنى لإثارة الجدال في هذا كله ... ذلك أن الجدال ممكن أن يثور حول أي رقم من الأرقام .. ولو أننا قلنا ما الحكمة في أن الله اختار أن يحمل عرشه ثمانية لثار السؤال ما هي الحكمة لو أن الله اختار عشرة أو اثني عشر ملاكا لحمل العرش .. إذن لن توجد العلة في الاختيار لتضع قيودا على مشيئة الله في اختياره. (...) وبذلك نعرف أن كل العبث الذي يقال عن الغيبيات الخمسة وعن رقم 19 ... إنما هو نوع من الإضلال والضلال .."..
وهذه النصوص التي نقلناها على طولها تعكس وجوه التفكير لدى الشعراوي فقد قدم التزكية الروحية بشكل نقي صاف وخال من كل أشكال الابتداع والخرافات، وكان شديد التعلق بمكتسبات العلم ومهموم بتقديم تعاليم الاسلام في أبهى صورها وفي كل بساطتها مبتعدا عن كل ما ينافي البساطة في المعنى والوصف متجنبا لغة التعقيد مقتربا من مدارك عامة الناس.
إن تمسك الهبريين بالطريقة البلقايدية نابع من قناعات يختلط فيها الحب والوفاء برؤية خاصة لنصوص القرآن فيها كثير من الشطح والغلو والخروج عن سياقات التنزيل. وسنستفيد هنا في تحليل نص منسوب إلى أحد البلقايديين الهبريين، فقير ينتسب إلى هذه الطريقة، وهو يتحدث عن طريقته بكل اعجاب وفخر إلى درجة التي يجعل منها الطريقة الأعظم فيقول:" الطريقة الهبرية البلقايدية هي طريق الله في هذا العصر وليس هذا افتخارا ولكن الارادة الربانية حكمت بأن تكون كذلك. قد يصعب على البعض تصديق ذلك ولكنها القلوب يقلبها الله تعالى كيفما شاء. وكما قيل ليس الخبر كالعيان، فليس كل من انتسب إلى طريقة من طرق ساداتنا الأولياء العظام الكبار قد وصل إلى الله تعالى".
ولا يكتفي هذا "الفقير" بمجرد هذا الافتخار لكنه يبحث عن بعض النصوص الشرعية حتى يعزز بها معتقداته الخاصة فيقول :"الباب الموصل إلى الحضرة الربانية باب واحد وهو سيد الوجود صلى الله عليه و سلم وقد ورد في الحديث القدسي: ( وعزتي وجلالي لو سلكوا إليَ كل طريق و استفتحوا عليَ كل باب ما فتحت لهم حتى يأتوا خلفك يا محمد)"
وإذا كان جمهور علماء المسلمين قد فهموا هذا النص بكونه يدل على وجوب اتباع النبي وسنته صلى الله عليه وسلم لكن الهبري يرى رأي آخر. لنتابع قراءة النص:"لا تكون الصحبة إلا للحي لا للميت، وليس هذا تقليلا من شأن ساداتنا الأولياء من الطرق الأخرى لكن الحكمة الإلهية أرادت أن يكون الشيخ المربي أو الوارث المحمدي هو شيخ زمانه وصاحب وقته لأن قدمه على قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم.
عندما نزل قوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله) وقد وقع الوفاق بين ساداتنا أهل الله قـاطبة أن القرآن صالح لكل زمان ومكان فمن هذا الوجه دلت الآية بطريق الإشارة على أنه صلى الله عليه وسلم موجود معنا في كل وقت، وكيف لا وهو نور الكونين وسيد الثقلين؟"
ولما فهم الصحابة هذا الفهم الرفيع قال سيدنا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (أرقبوا محمدا في آل بيته). وهذا هو الحال مع كل مشايخ السلسلة الذهبية أو مشايخ التربية فهم كلهم من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم و الشيخ المربي يكون في الكُمَلِ من آل بيته يلبسه الله تعالى الحُلة المحمدية من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فبها يربي الفقراء ممن انتسبوا إلى حضرته الشريفة فتكون بشرية الشيخ حجاب لخصوصيته - عن العوام و الجهال ممن يدعون العلم- والتي هي سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم"
هذا النص الطريف ينتهي بنوع من الاسقاط الخطير حيث ان "المحمدية" مستمرة في الشيخ المربي، ويقصد بذلك شيخ طريقته حصرا، وذلك بناء على قوله تعالى (واعلموا أن فيكم رسول الله)، فهذا الخطاب بالنسبة للهبري ليس موجها للصحابة على وجه الحصر ولكن موجه لعموم المسلمين، والرسول موجودا ليس بسنته وشريعته وتعاليمه ولكن بذاته المستمرة في آل بيته وتكون بشرية الشيخ المربي حجاب عن خصوصيته التي لا يلحضها العوام والجهال.
وفي الاخير نجد انه من المفيد التذكير بجملة من الأمور التي نرى أنها ستفيد الطرق لتصحيح أوضاعها الداخلية من أجل الانسجام مع مبادئ وتعاليم الإسلام وهدي القرآن الكريم والسنة الصحيحة من جهة، ومواكبة نضج العصر ومتغيرات الزمن. إن التزكية الروحية و"التكوين" القلبي أمر في غاية الاهمية بالنسبة للانسان المسلم، وهو الرأس مال الحقيقي، فالذي يأتي بصلاة وزكاة وصوم وحج خال من مراقبة الله والاحسان لخلقه فإنه ياتي مفلس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمسلم كما هو مطالب بأداء الصلاة واقامتها واداء الصوم والزكاة مطالب بالابتعاد عن مظاهر الشرك الخفي مثل الرياء والامراض القلبية كالحسد والغل والحقد والامراض الخلقية كالغيبة والنميمة والكذب وسوء المعاملة. فهذه الجوانب تتكامل فيما بينها لتشكل شخصية المسلم المتوازن.
والدور الذي تلعبه الطرق لترقية وجدان الانسان دور هام ولكن يجب أن يتوافق مع مؤسسات الشرع الحنيف فلا وصول إلى الله إلا من خلال التزام شرعه وسنة نبيه والابتعاد عن كل مظاهر التخريف التي تراكمت بفعل عصور الانحطاط. ونبذ كل الخرافات والأوهام والعلاقات المشبوهة مع أشكال الجن والشياطين وأعمال التدليس والضرب بالشيش وأعمال السحرة والمنجمين وحساب الرمل والأبراج. والتزام ما صح عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتجنب الاسرائليات والموضوعات والنصوص التي تتعارض مع مقاصد الشريعة، ولا يصح أن يعتبر أن شيخه مطلع على الغيب أو يتصرف في ملك الله ما يشاء. فالطرق تحتاج إلى ثورة منهاجية حتى تتخلص من أدران سنوات التخلف التي تراكمت على جسمها وعقلها.
ومن أكبر الانحرافات التي يجب أن تتخلص منها الطرقية هي ايمانها ببعض الكتاب وكفرها ببعضه، فلا يجوز أن تهتم بتنقية القلب من الرياء ولا تهتم بتنقية أموال الدولة من الربا، ولا يجوز لها أن تهتم بتصحيح المقامات ولا تهتم بتصحيح اوضاع المسلمين الاجتماعية بدعوة السلطات الرسمية لاغلاق الحانات ومحاربة الخنا والدعارة واحترام أذواق المسلمين فيما ينشر على وسائل الاعلام ونصح السلطات الرسمية فيما يتعلق بالأغاني المبتذلة التي تبثها وسائل الاعلام التي تمول باموال الشعب. فدين الله لا يتجزأ، وشرعه واحد متكامل!!
هكذا كان رسول الله يا من يدعي أنه يحب رسول الله ومن آل بيته!!
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الدكتورة عزيزة الهبري أستاذة القانون بجامعة ريتشموند، مؤسسة ورئيسة جمعية كرامة للمحاميات المسلمات الأميركيات
(2) المستقبل اللبنانية - الخميس 24 حزيران 2004 - العدد 1627 - تحقيقات و مناطق - صفحة 7 الرابط: http://www.almustaqbal.com/stories.aspx?CategoryID=25&IssueID=462
(3) ، مطبوعات دار المغرب ، الرباط ، 1976 ، ص : 59 .
عدل سابقا من قبل الشيخ إبراهيم حسونة في 16.09.08 12:33 عدل 1 مرات