التوسل بين أهل السنة والصوفية
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد:
فقد بيّنا في العدد السابق أن لفظ التوسل شرعًا
يطلق على التقرب إلى الله تعالى بما شرعه
من الإيمان به وتوحيده وتصديق رسله، وعلى التوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعلى التوسل إلى الله
بما عمله المتوسل من الأعمال الصالحة
وعلى التوسل إلى الله تعالى بدعاء المتوسّل به للمتوسل وشفاعته.
وفي هذا المقال نلقي الضوء بإذن الله علي أنواع
التوسل غير المشروع حتى تتضح الرؤية للقارئ الكريم وتستبين له السبيل،
سائلين المولي عز وجل أن يهدي الأمة إلى التي هي أقوم، إلى منهج أهل السنة الأسلم والأعلم والأحكم.
تعريف التوسل غير المشروع
هو أن يتوسل إلى الله عز وجل بما ليس بوسيلة أى بما لم يثبت في الشرع أنه وسيلة،
لأن التوسل بمثل ذلك من اللغو والباطل المخالف للمعقول والمنقول.
أو بمعني آخر هو:
أن يقصد الإنسان التقرب إلى الله بالشرك أو البدع
أو المعاصي فهذا لا يوصله لمرضاة ربه، بل لسخطه وعقابه كما أخبر عز وجل عن قصد المشركين للقرب منه « زلفى»
بعبادة غيره، فمن ذبح أو نذر أو حلف أو دعا غير الله يقصد بذلك التقرب إلى الله فقد توسل« وسيلة شركية»
ومن ابتدع في الدين بدعة يريد بها التقرب إلى الله فقد توسل وسيلة محرمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم
« من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
وأما من يتقرب إلى الله بالمعاصي، كمن يسرق ليتصدق فهو يجمع بين البدعة والمعصية.
النوع الأول:
التوسل الشركي؛ كالاستغاثة - بغير الله - ودعاء غيره .
والاستغاثة هي طلب الغوث ولا تكون إلا من مكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة، لأنه من المكروب وغيره.
قال ابن القيم رحمه الله:
من الشرك طلب الحوائج من الموتي والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل
شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عمن استغاث به
أو سأله أن يشفع له عند الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده.
مثال ذلك:
أن يطلب الإنسان المدد من الأموات أو الغائبين سواء كانوا من الأنبياء أو الملائكة
أو الصالحين أو الجن، كأن يقول: يا سيدي فلان أغثني واكشف كربي واشف مريضي
وهو يعتقد في ذلك أن هذا توسل إلى الله بدعاء غيره،
فهذا هو الشرك الأكبر من جنس توسل المشركين الذين قال الله عز وجل فيهم
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وكما قال عنهم:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ
وقال تعالى مندداً بمن يدعون ويعبدون غير الله
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ .
فسماه الله عبادة لهم وإن كانوا هم يعتقدونه (زلفى) إلى الله فهو توسل شركي.
وقال تعالى :
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُمْ يخبر الله تعالى عن حال المدعوين من دونه
من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل علي عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو،
وهي الملك وسماع الدعاء والقدرة علي استجابته
فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته، فكيف إذا عدمت بالكلية، فنفى عنهم الملك بقوله (ما يملكون من قطمير).
قال ابن عباس وغيره « القطمير» اللفافة التي تكون علي نواة التمر ونفي عنهم سماعهم الدعاء بقوله
(إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) لأنهم ما بين ميت وغائب عنهم مشتغل بما خلق له مسخر بما أمر به كالملائكة،
ثم قال (ولو سمعوا ما استجابوا لكم) لأن ذلك ليس بملكهم ثم بين أن دعاء غير الله شرك، لأن الدعاء
عبادة، فقال عز وجل (ويوم القيامة يكفرون بشرككم). فتح المجيد.
وقال تعالى :
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ
وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.
قال ابن القيم: فتأمل كيف أخذت هذه الآية علي المشركين بمجامع الطرق
التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه،
و إلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق قلبه به، وحينئذ فلا يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عباده أو شريكاً لمالكها،
أو ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً له أو وجيهاً ذا حرمة،
ولا يشفع عنده فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجهة وبطلت،
انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده، فنفى سبحانه عن آلهتهم أنها تملك
مثقال ذرة في السماوات والأرض.؟ فقد يقول المشرك،
هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له، فيقول قد تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً فقال:
(وما له منهم من ظهير) فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد من خلقه إلا بإذنه.
النوع الثاني: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الأموات أو الغائبين:
كان يقول للميت أو الغائب اشفع لي عند الله أو ادعو الله لي، وهذا توسل مبتدع لأن الميت
إذا مات انقطع عمله فلا يمكن لأحد أن يدعو بعد موته، وقد أجمع السلف علي عدم جواز هذا النوع من التوسل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن
يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ويستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم، ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد
« يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا، وكذلك لا يقول لمن
مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله، يا رسول الله،
ادع الله لي، سل الله لي، سل الله أن يغفر لي ولا يقول »
أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي،
أو اشكو إليك فلاناً الذي ظلمني، ولا يقول: أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك،
أو أنت تجير من يستجيرك، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين،
كما يفعله النصاري في كنائسهم وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين
أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام،ـ
وبالنقل المتواتر بإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع شيئاً من
ذلك ولا فعل هذا أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين،
لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا ذكر أحد من الأئمة في مناسك
الحج ولا غيرها أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع
له أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين وكان أصحابه
يبتلون بأنواع البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو،
وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول ولا قبر الخليل ولا قبر
أحد من الأنبياء فيقول: نشكو إليك الزمان أو قوة العدو، أو كثرة الذنوب،
ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة.
النوع الثالث: التوسل إلى الله تعالى بذوات الصالحين:
كأن يقول المتوسل: اللهم إني أتوسل إليك بفلان- ولا يعني إلا ذاته وشخصه أن تقضي حاجتي.
إن التوسل بذات المتوسل به وشخصه إلى الله تعالى،
عمل غير شرعي، لأنه لم يأمر به الله،
ولا بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
على أن التوسل بذات الشخص، إنما هو عمل قد ذمه الله تعالى لما
وصف توسل المشركين،
فقال حاكياً عنهم أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ
إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( الزمر:3).
فالتوسل بالعبد الصالح لا يجوز أن يكون وسيلة،
فهذا التزلف بذوات الأشخاص رده الله سبحانه وتعالى ولم يقبله،
وإنه تعالى قد عاب عليهم في هذه الآية أمرين اثنين:
عاب عليهم عبادة الأولياء من دونه،
وعاب عليهم محاولتهم القربي والزلفى إليه تعالى
بالأشخاص والعباد المخلوقين، فكلا الأمرين في الآية، عيب وذنب،
وكلاهما باطل وكذب وضلال،
وقال تعالى وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا
زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37]
أي: إن الذين يقربون عند الله درجات ومنازل عظيمة والذين تضاعف حسناتهم إنما تضاعف بأعمالهم لا بالجاهات ولا الوساطات.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلين تناظرا،
فقال أحدهما:
لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر أن نصل بغير ذلك: فأجاب رحمه الله:
الحمد لله رب العالمين، إن أراد بذلك أنه لابد من واسطة يبلغنا أمر الله،فهذا حق،
فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه،
وما أعده لأوليائه من كرامته، وما توعد به أعداءه من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله من أسمائه الحسنى،
وصفاته العليا،
التي تعجز العقول عن معرفتها، وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين
أرسلهم الله تعالى إلى عباده، فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه
زلفى، ويرفع درجاتهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة، وأما المخالفون للرسل، فإنهم ملعونون وهم عن ربهم ضالون محجوبون.
ثم قال: وإن أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة في جلب المنافع، ودفع المضار،
مثل أن يكون واسطة في رزق العباد، ونصرهم وهداهم، ويسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه،
فهو من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء شفعاء يجتلبون بهم المنافع.
النوع الرابع: التوسل إلى الله تعالى بجاه فلان أو حقه أو حرمته:
كأن يقول المتوسل:
اللهم إني أتوسل إليك بجاه فلان عندك أو حقه عليك، أو حرمته أن تقضي حاجتي،
فهذا عمل لم يشرعه الله ولم يبلغه رسوله ولا أمر به ولا حض عليه ولم يصل إلينا عن أحد من أصحابه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله::
ليس لأحد أن يُدِلّ على الله بصلاح سلفه، فإنه ليس صلاحهم من عمله الذي يستحق به الجزاء،
كأهل الغار الثلاثة، فإنهم لم يتوسلوا إلى الله بصلاح سلفهم، وإنما توسلوا إلى الله بأعمالهم. اهـ.
ولماذا لا تعملون صالحًا كما عملوا، وتتوسلون بأعمالكم الصالحة
كما توسلوا، كما فعل السلف الصالح ممن سبقكم، أما سمعتم قول الشاعر:
لسنا وإن أحسابنا كرمت
يومًا على الآباء نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبنى، ونفعل مثلما فعلوا
وقال شارح العقيدة الطحاوية- رحمه الله-:
«ولا مناسبة بين ذلك- أي صلاح المتوسل به-
وبين استجابة الدعاء، فكأن المتوسل يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين
أجب دعائي ! وأي مناسبة في هذا... وأي ملازمة ؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء،
وقد قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55].
وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم يُنْقَل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن الصحابة،
ولا عن التابعين، ولا عن الأئمة، رضي الله عنهم أجمعين،
وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل-
أي التمائم- التي يكتب بها الجهال والطرقية،
والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والاتباع، لا على الهوى والابتداع.
أما الحديث الذي احتج به القوم: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم».
فهو حديث باطل لا أصل له،
قال شيخ الإسلام: «هو حديث كذبٌ موضوع من الأحاديث المشينات التي ليس لها زمام ولا خطام».
النوع الخامس: الإقسام على الله جل وعلا بالمتوسَّل به:
كأن يقول المتوسل:
اللهم أقسم عليك بفلان أن تقضي حاجتي،
فالأصل في القسم أو الحلف، أن يكون بالله تعالى، لأنه عبادة،
ومعلوم أن العبادة لا يجوز أن تصرف إلا لله عز وجل،
ولذا فإنه لا يجوز القسم أو الحلف بغيره سبحانه، وقد ثبت في الصحيحين:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت». وفي لفظ: «من حلف بغير الله فقد أشرك». رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححوه.
فإذا فهم هذا فيتعين أنه لا يجوز الحلف بمخلوق على مخلوق، فكيف يجوز الحلف بالمخلوق على الخالق؟!
وبذلك يظهر أن الإقسام على الله بمخلوقاته ليس شركًا فحسب،
بل هو تقرب إلى الله تعالى بالشرك به !! وإن هؤلاء الذين يقسمون على الله بمخلوقاته يتقربون إلى ربهم بذلك.
قال شارح العقيدة الطحاوية:
«وإن الإقسام على الله بحق فلان، فذلك محذور، لأن الإقسام بالمخلوق
على المخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق ؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم :
«من حلف بغير الله فقد أشرك».
ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم:
يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، والمشعر الحرام، ونحو ذلك.
كما أن القول: بجاه فلان عندك أو نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك،
ومراده أن فلانًا عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا. وهذا أيضًا محذور
فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه
في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه،
فيطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره،
فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه- لما خرجوا يستسقون-:
اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا.
معناه: بدعائه الله لنا، وشفاعته عنده،
وليس المراد أنَّا نقسم عليك (به) أو نسألك بجاهه عندك إذ لو كان ذلك مرادًا،
لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس». اهـ.
الصحابة رضي الله عنهم لم يقسموا على الله بالنبي صلى الله عليه وسلم ،
ولم يسألوه به:
قال ابن تيمية رحمه الله:
«التوسل بمعنى الإقسام على الله بذاته صلى الله عليه وسلم أو السؤال به،
فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته،
ولا بعد مماته لا عند قبره ولا غير قبره، ولا نعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة
بينهم وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عمن ليس قوله حجة».
دعوة قبورية معاصرة
وبعد هذا العرض لأنواع التوسل الممنوع يتبين لك أخي الكريم أنَّ ما صرح به
بعض الدعاة من قادة الجماعات المعاصرة في الأصل الخامس عشر من أصوله العشرين:
«والدعاءُ إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحدٍ من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة».
ليس صحيحًا على إطلاقه، لما علمت أن في الواقع ما يشهد بأنه خلاف جوهري إذ فيه شرك صريح كما سبق بيانه،
وكان من نتائج هذا القول أن ظن بعض الأتباع أن التوجه إلى الصالحين في قبورهم تبركًا والتماسًا للشفاعة
أمرٌ مشروع لا حرج فيه، وأن جماعتهم لا تميل إلى التشدد في هذا الباب كغيرها من الجماعات كما فعل ذلك صاحب كتاب
«شهيد المحراب»
حيث قال: «قال البعض:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم إذا جاءوه حيًا فقط،
ولم أتبين سبب التقييد في الآية عند الاستغفار بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وليس في الآية ما يدل على هذا التقييد».
ثم قال: «ولذا أراني أميل إلى الأخذ بالرأي القائل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر حيًا وميتًا لمن جاء قاصدًا رحابه الكريم».
وقال أيضًا: «فلا داعي إذن للتشدد في النكير على من يعتقد كرامة الأولياء واللجوء إليهم في قبورهم الطاهرة والدعاء فيها عند الشدائد».
ثم يؤنب المنكرين على القبوريين بقوله: «فما لنا وللحملة على أولياء الله وزوارهم والداعين عند قبورهم».
ثم زعم أن الأمر لا يخدش عقيدة التوحيد بقوله:
«وأقول للمتشددين في الإنكار: هونًا فما في الأمر من شرك ولا وثنية ولا إلحاد».
وهكذا يهوِّن هؤلاء من أمر العقيدة فيدعون الناس إلى شد الرحال إلى قبور الأنبياء
والصالحين والتوسل بهم ودعائهم من دون الله مما كان له الأثر السيئ في تشويه معالم الدين وإفساد عقائد الناس،
ونشر الخرافات والبدع في صفوف الأمة، فإلى الله المشتكى ممن يضللون الأمة ويصرفونها عن عقيدتها. ومنهج عزها وسعادتها
اللهم اهد عموم الأمة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مجلة التوحيد
فقد بيّنا في العدد السابق أن لفظ التوسل شرعًا
يطلق على التقرب إلى الله تعالى بما شرعه
من الإيمان به وتوحيده وتصديق رسله، وعلى التوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعلى التوسل إلى الله
بما عمله المتوسل من الأعمال الصالحة
وعلى التوسل إلى الله تعالى بدعاء المتوسّل به للمتوسل وشفاعته.
وفي هذا المقال نلقي الضوء بإذن الله علي أنواع
التوسل غير المشروع حتى تتضح الرؤية للقارئ الكريم وتستبين له السبيل،
سائلين المولي عز وجل أن يهدي الأمة إلى التي هي أقوم، إلى منهج أهل السنة الأسلم والأعلم والأحكم.
تعريف التوسل غير المشروع
هو أن يتوسل إلى الله عز وجل بما ليس بوسيلة أى بما لم يثبت في الشرع أنه وسيلة،
لأن التوسل بمثل ذلك من اللغو والباطل المخالف للمعقول والمنقول.
أو بمعني آخر هو:
أن يقصد الإنسان التقرب إلى الله بالشرك أو البدع
أو المعاصي فهذا لا يوصله لمرضاة ربه، بل لسخطه وعقابه كما أخبر عز وجل عن قصد المشركين للقرب منه « زلفى»
بعبادة غيره، فمن ذبح أو نذر أو حلف أو دعا غير الله يقصد بذلك التقرب إلى الله فقد توسل« وسيلة شركية»
ومن ابتدع في الدين بدعة يريد بها التقرب إلى الله فقد توسل وسيلة محرمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم
« من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
وأما من يتقرب إلى الله بالمعاصي، كمن يسرق ليتصدق فهو يجمع بين البدعة والمعصية.
النوع الأول:
التوسل الشركي؛ كالاستغاثة - بغير الله - ودعاء غيره .
والاستغاثة هي طلب الغوث ولا تكون إلا من مكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة، لأنه من المكروب وغيره.
قال ابن القيم رحمه الله:
من الشرك طلب الحوائج من الموتي والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل
شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عمن استغاث به
أو سأله أن يشفع له عند الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده.
مثال ذلك:
أن يطلب الإنسان المدد من الأموات أو الغائبين سواء كانوا من الأنبياء أو الملائكة
أو الصالحين أو الجن، كأن يقول: يا سيدي فلان أغثني واكشف كربي واشف مريضي
وهو يعتقد في ذلك أن هذا توسل إلى الله بدعاء غيره،
فهذا هو الشرك الأكبر من جنس توسل المشركين الذين قال الله عز وجل فيهم
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وكما قال عنهم:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ
وقال تعالى مندداً بمن يدعون ويعبدون غير الله
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ .
فسماه الله عبادة لهم وإن كانوا هم يعتقدونه (زلفى) إلى الله فهو توسل شركي.
وقال تعالى :
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُمْ يخبر الله تعالى عن حال المدعوين من دونه
من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل علي عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو،
وهي الملك وسماع الدعاء والقدرة علي استجابته
فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته، فكيف إذا عدمت بالكلية، فنفى عنهم الملك بقوله (ما يملكون من قطمير).
قال ابن عباس وغيره « القطمير» اللفافة التي تكون علي نواة التمر ونفي عنهم سماعهم الدعاء بقوله
(إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) لأنهم ما بين ميت وغائب عنهم مشتغل بما خلق له مسخر بما أمر به كالملائكة،
ثم قال (ولو سمعوا ما استجابوا لكم) لأن ذلك ليس بملكهم ثم بين أن دعاء غير الله شرك، لأن الدعاء
عبادة، فقال عز وجل (ويوم القيامة يكفرون بشرككم). فتح المجيد.
وقال تعالى :
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ
وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.
قال ابن القيم: فتأمل كيف أخذت هذه الآية علي المشركين بمجامع الطرق
التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه،
و إلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق قلبه به، وحينئذ فلا يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عباده أو شريكاً لمالكها،
أو ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً له أو وجيهاً ذا حرمة،
ولا يشفع عنده فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجهة وبطلت،
انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده، فنفى سبحانه عن آلهتهم أنها تملك
مثقال ذرة في السماوات والأرض.؟ فقد يقول المشرك،
هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له، فيقول قد تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً فقال:
(وما له منهم من ظهير) فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد من خلقه إلا بإذنه.
النوع الثاني: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الأموات أو الغائبين:
كان يقول للميت أو الغائب اشفع لي عند الله أو ادعو الله لي، وهذا توسل مبتدع لأن الميت
إذا مات انقطع عمله فلا يمكن لأحد أن يدعو بعد موته، وقد أجمع السلف علي عدم جواز هذا النوع من التوسل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن
يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ويستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم، ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد
« يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا، وكذلك لا يقول لمن
مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله، يا رسول الله،
ادع الله لي، سل الله لي، سل الله أن يغفر لي ولا يقول »
أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي،
أو اشكو إليك فلاناً الذي ظلمني، ولا يقول: أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك،
أو أنت تجير من يستجيرك، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين،
كما يفعله النصاري في كنائسهم وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين
أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام،ـ
وبالنقل المتواتر بإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع شيئاً من
ذلك ولا فعل هذا أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين،
لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا ذكر أحد من الأئمة في مناسك
الحج ولا غيرها أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع
له أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين وكان أصحابه
يبتلون بأنواع البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو،
وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول ولا قبر الخليل ولا قبر
أحد من الأنبياء فيقول: نشكو إليك الزمان أو قوة العدو، أو كثرة الذنوب،
ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة.
النوع الثالث: التوسل إلى الله تعالى بذوات الصالحين:
كأن يقول المتوسل: اللهم إني أتوسل إليك بفلان- ولا يعني إلا ذاته وشخصه أن تقضي حاجتي.
إن التوسل بذات المتوسل به وشخصه إلى الله تعالى،
عمل غير شرعي، لأنه لم يأمر به الله،
ولا بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
على أن التوسل بذات الشخص، إنما هو عمل قد ذمه الله تعالى لما
وصف توسل المشركين،
فقال حاكياً عنهم أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ
إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( الزمر:3).
فالتوسل بالعبد الصالح لا يجوز أن يكون وسيلة،
فهذا التزلف بذوات الأشخاص رده الله سبحانه وتعالى ولم يقبله،
وإنه تعالى قد عاب عليهم في هذه الآية أمرين اثنين:
عاب عليهم عبادة الأولياء من دونه،
وعاب عليهم محاولتهم القربي والزلفى إليه تعالى
بالأشخاص والعباد المخلوقين، فكلا الأمرين في الآية، عيب وذنب،
وكلاهما باطل وكذب وضلال،
وقال تعالى وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا
زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37]
أي: إن الذين يقربون عند الله درجات ومنازل عظيمة والذين تضاعف حسناتهم إنما تضاعف بأعمالهم لا بالجاهات ولا الوساطات.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلين تناظرا،
فقال أحدهما:
لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر أن نصل بغير ذلك: فأجاب رحمه الله:
الحمد لله رب العالمين، إن أراد بذلك أنه لابد من واسطة يبلغنا أمر الله،فهذا حق،
فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه،
وما أعده لأوليائه من كرامته، وما توعد به أعداءه من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله من أسمائه الحسنى،
وصفاته العليا،
التي تعجز العقول عن معرفتها، وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين
أرسلهم الله تعالى إلى عباده، فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه
زلفى، ويرفع درجاتهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة، وأما المخالفون للرسل، فإنهم ملعونون وهم عن ربهم ضالون محجوبون.
ثم قال: وإن أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة في جلب المنافع، ودفع المضار،
مثل أن يكون واسطة في رزق العباد، ونصرهم وهداهم، ويسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه،
فهو من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء شفعاء يجتلبون بهم المنافع.
النوع الرابع: التوسل إلى الله تعالى بجاه فلان أو حقه أو حرمته:
كأن يقول المتوسل:
اللهم إني أتوسل إليك بجاه فلان عندك أو حقه عليك، أو حرمته أن تقضي حاجتي،
فهذا عمل لم يشرعه الله ولم يبلغه رسوله ولا أمر به ولا حض عليه ولم يصل إلينا عن أحد من أصحابه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله::
ليس لأحد أن يُدِلّ على الله بصلاح سلفه، فإنه ليس صلاحهم من عمله الذي يستحق به الجزاء،
كأهل الغار الثلاثة، فإنهم لم يتوسلوا إلى الله بصلاح سلفهم، وإنما توسلوا إلى الله بأعمالهم. اهـ.
ولماذا لا تعملون صالحًا كما عملوا، وتتوسلون بأعمالكم الصالحة
كما توسلوا، كما فعل السلف الصالح ممن سبقكم، أما سمعتم قول الشاعر:
لسنا وإن أحسابنا كرمت
يومًا على الآباء نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبنى، ونفعل مثلما فعلوا
وقال شارح العقيدة الطحاوية- رحمه الله-:
«ولا مناسبة بين ذلك- أي صلاح المتوسل به-
وبين استجابة الدعاء، فكأن المتوسل يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين
أجب دعائي ! وأي مناسبة في هذا... وأي ملازمة ؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء،
وقد قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55].
وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم يُنْقَل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن الصحابة،
ولا عن التابعين، ولا عن الأئمة، رضي الله عنهم أجمعين،
وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل-
أي التمائم- التي يكتب بها الجهال والطرقية،
والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والاتباع، لا على الهوى والابتداع.
أما الحديث الذي احتج به القوم: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم».
فهو حديث باطل لا أصل له،
قال شيخ الإسلام: «هو حديث كذبٌ موضوع من الأحاديث المشينات التي ليس لها زمام ولا خطام».
النوع الخامس: الإقسام على الله جل وعلا بالمتوسَّل به:
كأن يقول المتوسل:
اللهم أقسم عليك بفلان أن تقضي حاجتي،
فالأصل في القسم أو الحلف، أن يكون بالله تعالى، لأنه عبادة،
ومعلوم أن العبادة لا يجوز أن تصرف إلا لله عز وجل،
ولذا فإنه لا يجوز القسم أو الحلف بغيره سبحانه، وقد ثبت في الصحيحين:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت». وفي لفظ: «من حلف بغير الله فقد أشرك». رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححوه.
فإذا فهم هذا فيتعين أنه لا يجوز الحلف بمخلوق على مخلوق، فكيف يجوز الحلف بالمخلوق على الخالق؟!
وبذلك يظهر أن الإقسام على الله بمخلوقاته ليس شركًا فحسب،
بل هو تقرب إلى الله تعالى بالشرك به !! وإن هؤلاء الذين يقسمون على الله بمخلوقاته يتقربون إلى ربهم بذلك.
قال شارح العقيدة الطحاوية:
«وإن الإقسام على الله بحق فلان، فذلك محذور، لأن الإقسام بالمخلوق
على المخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق ؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم :
«من حلف بغير الله فقد أشرك».
ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم:
يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، والمشعر الحرام، ونحو ذلك.
كما أن القول: بجاه فلان عندك أو نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك،
ومراده أن فلانًا عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا. وهذا أيضًا محذور
فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه
في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه،
فيطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره،
فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه- لما خرجوا يستسقون-:
اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا.
معناه: بدعائه الله لنا، وشفاعته عنده،
وليس المراد أنَّا نقسم عليك (به) أو نسألك بجاهه عندك إذ لو كان ذلك مرادًا،
لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس». اهـ.
الصحابة رضي الله عنهم لم يقسموا على الله بالنبي صلى الله عليه وسلم ،
ولم يسألوه به:
قال ابن تيمية رحمه الله:
«التوسل بمعنى الإقسام على الله بذاته صلى الله عليه وسلم أو السؤال به،
فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته،
ولا بعد مماته لا عند قبره ولا غير قبره، ولا نعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة
بينهم وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عمن ليس قوله حجة».
دعوة قبورية معاصرة
وبعد هذا العرض لأنواع التوسل الممنوع يتبين لك أخي الكريم أنَّ ما صرح به
بعض الدعاة من قادة الجماعات المعاصرة في الأصل الخامس عشر من أصوله العشرين:
«والدعاءُ إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحدٍ من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة».
ليس صحيحًا على إطلاقه، لما علمت أن في الواقع ما يشهد بأنه خلاف جوهري إذ فيه شرك صريح كما سبق بيانه،
وكان من نتائج هذا القول أن ظن بعض الأتباع أن التوجه إلى الصالحين في قبورهم تبركًا والتماسًا للشفاعة
أمرٌ مشروع لا حرج فيه، وأن جماعتهم لا تميل إلى التشدد في هذا الباب كغيرها من الجماعات كما فعل ذلك صاحب كتاب
«شهيد المحراب»
حيث قال: «قال البعض:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم إذا جاءوه حيًا فقط،
ولم أتبين سبب التقييد في الآية عند الاستغفار بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وليس في الآية ما يدل على هذا التقييد».
ثم قال: «ولذا أراني أميل إلى الأخذ بالرأي القائل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر حيًا وميتًا لمن جاء قاصدًا رحابه الكريم».
وقال أيضًا: «فلا داعي إذن للتشدد في النكير على من يعتقد كرامة الأولياء واللجوء إليهم في قبورهم الطاهرة والدعاء فيها عند الشدائد».
ثم يؤنب المنكرين على القبوريين بقوله: «فما لنا وللحملة على أولياء الله وزوارهم والداعين عند قبورهم».
ثم زعم أن الأمر لا يخدش عقيدة التوحيد بقوله:
«وأقول للمتشددين في الإنكار: هونًا فما في الأمر من شرك ولا وثنية ولا إلحاد».
وهكذا يهوِّن هؤلاء من أمر العقيدة فيدعون الناس إلى شد الرحال إلى قبور الأنبياء
والصالحين والتوسل بهم ودعائهم من دون الله مما كان له الأثر السيئ في تشويه معالم الدين وإفساد عقائد الناس،
ونشر الخرافات والبدع في صفوف الأمة، فإلى الله المشتكى ممن يضللون الأمة ويصرفونها عن عقيدتها. ومنهج عزها وسعادتها
اللهم اهد عموم الأمة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مجلة التوحيد