[center]منهج السلف أسلم وأعلم وأحكم
[محاضرة مفرغة]
لفضيلة الشيخ الدكتور
صَالِحِ بْنِ سَعْدٍ السُّحَيْمِىّ
- حفظه الله تعالى -
الأستاذ المشارك ورئيس قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية – سابقًا –
والمدرس بالمسجد النبوي الشريف
فرَّغها
عبد الغني بن أحمد الدليمي
غفر الله له ولوالديه
[محاضرة مفرغة]
لفضيلة الشيخ الدكتور
صَالِحِ بْنِ سَعْدٍ السُّحَيْمِىّ
- حفظه الله تعالى -
الأستاذ المشارك ورئيس قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية – سابقًا –
والمدرس بالمسجد النبوي الشريف
فرَّغها
عبد الغني بن أحمد الدليمي
غفر الله له ولوالديه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ وَسَلَمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصَحَابِهِ أَجْمَعِين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أّصْدّقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وّكُلَّ مُحْدّثّةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
إخوتي وأحبتي في الله، لقد اخترتُ هذا العنوان الذي سمعتموه ليكون مدخل هذه المحاضرة؛ وهو:
" منهج السلف أسلمُ وأعلمُ وأحكم"
وهذه العبارة العظيمة: "مَنْهَجُ السَّلَفِ أَسْلَمُ وَأْعَلَمُ وَأَحْكَمُ"، ذَكَرَهَا شيخُ الإسلام ابنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه الله تعالى- في معرض رَدِّهِ على أهل الكلام والمَنْطِقِ، الزاعمين بأن طريقةَ السلف أسلمُ، وطريقةَ الخلف أعلمُ وأحكمُ، ورَدَّ على ما بَنَوْا عليه هذه القاعدةَ الفاسدةَ؛ والتي تتلخص في أمرين:
الأمر الأول: جَهْلُهُمْ بطريقة السلفِ.
والأمر الثاني: خَطَأُهُم وضلَالُهُم بتصويب طريقة الخَلَف.
فقد زعموا في هاتين المُقدّمتَيْن أن السلفَ كانوا لا يَعْلَمُونَ إلا ظَوَاهِرَ النصوص التي ليست لها معانٍ، فَهُمْ يفهمون على أنها ألفاظٌ جوفاءُ؛ خصوصًا في باب الأسماء والصفات. ثم رتَّبوا على ذلك أن الحقَّ هو تلك التأويلاتُ الفاسدةُ التي تَوَصَّل إليها الخَلَفُ، وَهُمُ المشتغلون بِعِلم الفلسفةِ والمنطقِ وعلمِ الكلامِ، الذي ضلَّتْ بِهِ الأمة، أو ضل به كثيرٌ من الناس عن منهج الله الحق.
وما أَشْبَهَ الليلةَ بالبارحةِ!
فإننا نسمع مقولاتٍ من هنا وهناك، شبيهةً بمقولات أهل الكلام والمنطق؛ القائلين بأن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهي قَوْل كثيرٍ من زعماء الفكر في هذا العصر: إِنَّ العلماءَ -يَعْنُونَ بذلك علماءَ الأمة- عَلَى خَير وعلى -يعني- أمرٍ طيب؛ غَيْرَ أنهم لا يُدرِكون ما يُحيط بالأمة من أخطار، ولا يَعُونَ ذلك، وأن أصحاب الفكر وأصحابَ الثقافة الصحفية والكُتب العصرية، هُمُ الَّذين يُدرِكون أو يَملكون الحلولَ لِمشاكل الأمة وإزالة الأخطار التي تحيط بها من كل مكان!
لذا نسمع أوصافًا لا تليق يُوجِّهونها إلى علماء الأمة: من أنه يُرجع إليهم في فتاوى معينة تتعلق بالطلاق، وأحكام الزواج، والوقف والميراث، وما إلى ذلك، وأمّا بقية الأمور تتعلق بمصير الأمة ومستقبلها وعلاجِ مشاكلها، وما يَجِدُّ لها من أمور؛ فإنَّ هذا يُتْرَك لأهل الفكر وزعماء الفكر، الّذين يَدَّعون أنهم أَتَوْا بما لم تأتِ به الأوائل! وأن بِيَدِهم الحلولَ لمشاكل هذه الأمة.
تتمثل تلك الحلول بإشغال الناس عامةً والشبابِ خاصةً بأخبار العالَم وما يَعُجّ به من مشاكل من هنا وهناك، وتَتَبُّعِ تلك الأخبار والانشغال بقُصاصات الصحف والمجلات وما إلى ذلك، مِمَّا يُسَمُّونَهُ بِفِقْهِ الواقع، ومن ثم الاشتغال بالخُطب الرّنّانة والكلام الكثير، الذي في كثير من الأحيان ليس فيه شيء من الحلول؛ وإنما هو عبارة عن إشغال الناس بتلك القضايا وما فيها؛ مما لا يَزيدُ السامِعَ إلا حيرةً وَأَلَمًا وبُعْدًا عن المنهج الحق، الأمر الذي جعلهم لا يهتمّون بمنهج السلف الذي هو أسلم وأعلم وأحكم.
لِذا فإنه لابد من فهم كلمة المنهج أَوَّلاً، وفَهْمِ كلمة السلف، ثم بيانِ هذا المنهج، وبيان أنه المنهجُ الحق ، وبيانِ مقوماته وما يضاده.
فالمنهج خُلاصة مدلوله أنه الطريق والإطار العامّ الذي يُسَارُ عليه، والذي يشمل رَسْمَ الخطوط العريضة والقواعد العامة، والأسس التي ينبغي أن يَسير عليها المرءُ.
وقد ذكر الله تبارك وتعالى لفظةَ المنهج والمنهاج في القرآن الكريم؛ فقال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المائدة: ٤٨]؛ أَيْ: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- جعل لكل أمةٍ شريعةً وأُسُسًا تَسيرُ عليه في عبادتها، وفي أحكامها، وآدابها وأخلاقها؛ وإن كان الأساس العامّ لكل ما جاء به نبيٌ هو توحيد الله -سبحانه وتعالى-.
فالمنهجُ هُوَ القَوَاعِدُ الأَسَاسِيَّةُ وَالأُصُولُ الثَّابِتَةُ الّتِي يَجِبُ أَنْ تَسِيرَ عَلَيْهَا الْأُمَّةُ؛ حتى تُحقِّقَ ما تصبو إليه من مَجْدٍ ورفعةٍ وسؤددٍ.
وأما السلف فَهُمُ الذين تَقَدَّموا من علماء الأمة، الذين ساروا على المنهج القويم، الذي بُنيَ على كتاب الله -تبارك وتعالى-، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بِلا إفراط ولا تفريط.
وهل كلمة السلف قاصرةٌ على أصحاب القرون الثلاثة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني ثم الدين يلونهم ثم الذين يلونهم))[1]؟ أمْ أنَّ ذلك يَعُمُّ كلَّ من تقدم من علماء الأمة وأهل الحلّ والعقد فيها، والذين دعوا إلى السير على المنهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه؟
أظن أنَّ الأمر فيه سَعَة، وأنَّ من قَصَرَ إطلاق كلمة السلف على أصحاب القرون المفضلة، لا يعارِضون إطلاق كلمة السلف على من جاء بعدهم من العلماء الربانين الذين يجددون لهذه الأمة كل ما اندثر من أمر دينها في كل قرن.
ولذلك فإن السلفَ هُمْ كلُّ مَنْ تَقَدَّم على هذا المَنْهج مِن أهل الهدى والرشادِ والعُلماءِ الربانِيِّينَ. وَمَنْ سَارَ عَلَى نهجهم هُمُ السَّلَفِيُّونَ، هُمْ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، هُمُ الطائفةُ الناجيةُ المَنصورةُ، هُمْ أهلُ الحقّ، هُم أهلُ الإيمانِ وأهلُ التقوى وأهلُ الاستقامةِ وأَتْبَاع السلف، والسلفيون والسُّنِّيُّونَ، وهُم الجماعة، ونحوُ ذلك من الأوصاف التي تدل على معنى واحد في حقيقةِ الأمر مَهْمَا اختلفتِ الألفاظ.
ولا يضيرنا من يَتَبَرَّمُ من إطلاق كلمة السلفية؛ لأنه يفَهِمَ أن السلفية حِزبٌ من الأحزاب القائمة، أو طائفة من الطوائف المتصارعة؛ لأن هذا فَهْمٌ مبنيٌّ على خطأ في المنهج، وإنما السلفيُّ ومن يتبع السلف كلُّ من سار على هذا المنهج في أي بقعة من بقاع الأرض. وكما قلت هم أهل الحل والعقد وهم الطائفة المنصورة، وهم أهل الحق، وهم الطائفة الناجية، وهُم أهل السنة، وهم الجماعة، وهم المسلمون، وهم الذين ينهجون نهج سبيل المؤمنين الذي قال فيه الله -تبارك وتعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: ١١٥].
وهم السائرون على هذا المنهج القويم، الذي قال الله في أهله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْها} [التوبة: ١٠٠].
وقد وصف الله -تعالى- السلفَ وأتباعَهم ومن سار على نهجهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ في ثلاث آيات في سورة الحشر؛ قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}[الحشر: ٨ – ١٠] .
فالآية الأولى: تعني المهاجرين، والآية الثانية: تعني الأنصارَ، ومعهم الصحابة الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وشافَهُوه وسمعوا الوحي منه طريًّا كما أُنزل، والآية الثالثة: تعني من تَبعَهم بإحسان ومن يسير على هذا المنهج إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذا هو الصراط المستقيم، وهذا هو الطريق القويم، وهذه هي الجماعة التي أَمَرَ الله -تبارك وتعالى- بلُزُومِها؛ فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: ١٠٣]. وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: ١٥٣]. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: ٧] . وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن يَدَ الله عَلَى الجَماعة))[2]. وقال بعد أَنْ ذَكَرَ افتراقَ الأمة إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا واحدة قال: ((هِيَ الجماعة))[3]، وفي رواية: ((هِيَ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ وَأَصْحَابي))[4]. الرواية الأولى: ((هي الجماعة)) أَصَحّ.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعَضُّو عليها بالنواجذِ))[5].
فلقد تُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أوضَح السبيل، وأقام الدليل، وأنار السبيل، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترك فينا كتابَ ربنا وسُنَّتَهُ صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو حبل الله المتين، وهذا هو الصراط المستقيم؛ صراطُ {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: ٦٩]. الصراطُ الذي من تمسَّكَ به نجا، ومن سار على هديهِ اهتدى، وَمَنْ طبَّقَهُ قولاً وعملاً واعتقادًا؛ سعد في الدارين، ومن طَلَبَ الهُدَى من غيره؛ أضَلَّه الله، ومن ابتغى سبيلَ الخير من غيره؛ أبعده الله. فهو حبْلُ الله المتين، وصراطُه المستقيم، وطريقُ السالكين ابتغاءَ مرضاةِ رب العالمين.
فيجب علينا أن نَعَضَّ عليه بالنواجذ؛ كما أمرنا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بقوله : ((عَلَيْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاءِ الراشدينَ المهديِّين من بعدي، تَمَسَّكُوا بها، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّوَاجذِ))[6]. يقول أبو ذَرٍّ -رضي الله عنه-: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما مِنْ طائرٍ يَطِيرُ بـجَناحَيْهِ إلا وَقَدْ تَرَكَ لَنَا فِيهِ عِلْمًا" - أوْ كما قال رَضِي الله عنه- كَمَا رَوَاهُ الإمام البُخَارِيّ وغيرُه في صحيحه.
فإذا عَلِمْنَا سلامةَ هذَا المنهج، وأَنه أسْلَمُ وأعلَمُ وأحْكَمُ- لأَنّه من عند الله؛ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢]-، إذَا عَلِمْنا ذلك؛ فإنه ينبغي لنا أَنْ ندعُوَ بدُعاء النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ أجْل أن يُثَبِّتَنَا الله -عزّ وجل- على هذا المنهج في قوله: ((اللَّهُمَّ ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تَحكُم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اِهْدِنَا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))[7]. ودعائِه عليه الصلاة والسلام في سُجوده: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ»[8].
فنسألُه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أن يُثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
إذا تبين هذا؛ فإننا نشرع في الأُسُس التي ينبني عليها هذا المنهج، وهو منهجُ السلف الذي قُلْنَا -وقال سلَفُنا الصالح قبلَنا-: إنه أسلم وأعلم وأحكم.
وسنذكر بعضَ هذه الأسُس على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:
الأساس الأول الذي يقوم عليه هذا المنهج، وكما تعلمون أنَّ أيَّ بناءٍ لا يقوم على أساس متينٍ؛ فإنَّ مصيرَه إلى الانهيار؛ قال الله -عز وجل-: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: ١٠٩] الآيةَ.
وَالبَيْتُ لاَ يُبْتَنَى إِلاّ لَهُ عُمُدٌ وَلا عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَـادُ
فَالأَسَاسُ الأَوَّلُ: هُوَ الْعِلْمُ وَالتَّعَلُّمُ وَالتَّفَقُّهُ فِي دِينِ اللهِ؛ لِذا نَرى الإمامَ البخاريَّ -رحمه الله تعالى- يَعْقِدُ باباً في هذا المعنى بعُنْوان: "العلم قبل القول والعمل"، ثم يُصَدِّرُه بقول الله -عَزَّ وَجَلّ-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: ١٩].
فأساسُ هذا المنهجِ هو العِلم والتعلُّم والتَّفَقُّه في دين الله؛ قال الله -تعالى-: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩]، وقال الله -تعالى-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١]
وقال –تعالى؛ مُبَيِّنًا منزلةَ أهل العلم وأنهم أَشَدُّ الناسِ خشيةً لله-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨]، وقال -تعالى-: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: ١٨]، وقال -تعالى-: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: ١٢٢] .
وقال رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُرِدِ الله بهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))[9].
فالفِقهُ في الدين هو أساس كل خيرٍ، وهو أساس صلاح العمل. وعمل لا يبنى على علم؛ فإنه عرضة أن يكون عملاً غير متقبل؛ لأن صحاحبة يتخبط في دياجير الظُّلَمْ؛ يَفعلُ القبيحَ يَظُنُّهُ حسنًا، ويترك الحَسَنَ يظنه قبيحًا:
يُقْضَى عَلَى الـْمَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ حَتَّى يَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ
وقد كان السلفُ الصالحُ لا يُقْدِمون على عَمَلٍ حتى يَعْرِفُوا أَنًّ هذا العملَ مشروعٌ، بأَنْ يَدُلَّ عليه دليلٌ من الكتاب أو السنة. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بالتَّحَلُّمِ))[10].
والعلم لا يأتيك وأنت قابعٌ في بيتك؛ وإنما يأتي بالسَّير الحثيث في طَلَبه، وبَذْلِ الغالي والنفيس في ذلك؛ حتى يتحققَ لَكَ طلبُ العلم النافع والعملُ الصالِحُ.
فهذا هو الأساس الأول؛ العلم: أعني العلمَ الشرعيَّ المستمَدَّ من كتاب الله -تعالى-، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: أن يكون مصدرُ هذا العلمِ: الْمَنْهَلانِ العظيمانِ: كتابُ الله -تعالى- وسُنَّةُ رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؛ هما المرجع عند الاختلاف، والْمَلجأُ عند التَّرَدُّدِ، والموئِلُ عند ظهورِ الفِتَنِ؛ قال الله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: ٥٩] .
وقال -تعالى-: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: ١٠].
وقال -تعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧]، فالعِلم- الذي هو إِدْرَاكُ المعلوم على حقيقتِهِ التي هو عليها- لا يتحقق إلا إذا أُخِذ من هَذَيْن المصدرَيْن: الكتاب والسنة.
ثالِثـًا: أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّعَلُّمُ عَلَى مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وذلك بأنْ نأخَذَ العلم وِفْقَ مفاهيمِ السلفِ، الذين خدموا هذا الدِّين، وقدَّموا لنا هذه الكنوزَ العظيمة: من قواعِدَ وَمُتُونٍ وشروحٍ وحواشي، بذلوا فيها أوقاتهم الثمينة، وقدموها لنا طَريَّةً عظيمةً.
فينبغي أن نَسِيرَ على نهْجِهِم، وأن لا ندعِيَ لأنفسنا الاستقلالَ عن مفاهيمهم؛ لأنهُم هُمُ الَّذين نقلوا إلينا هذا الوحي، وَهُمُ الَّذين استنبطوا منه الأحكام، وهُم الذين أفنَوا أعمارهم في خدمته، وهم الذين قدموه إلينا جاهزًا؛ فما علينا إلا أن نَنْهَلَ مِنه {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٩٠].
وَيُخْطِئُ من يَظُنُّ أَنَّه يستطيع أن يفهم الدِّين فَهْمًا صحيحًا إذَا لم يرجعْ إلى قواعد السلف ومنهجهم في العلم والعمل؛ لأنه مَنْ فَعَلَ ذلك أو من فعل خلاف ذلك؛ فَقَدِ اتَّبَعَ غَيْرَ سبيلِ المؤمنين، وحَادَ عن الطريق السويّ، واتبع السُّبُل التي حذرنا الله -تبارك وتعالى- مِنِ اتِّباعها. فلابد مِنْ أَخْذِ هذا الأمر على مفاهيم السلف الصالح.
وهذا ينقلنا إلى الأساس الرابع: وَهُوَ التَّلَقِّي وَالتَّعَلُّمُ عَلَى أَيْدِي العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيَّينَ الْمُتَخَصِّصِينَ الَّذِينَ سَارُوا عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ، والذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ))[11]. لأن هذه الأمورَ الثلاثَةَ هِيَ مداخلُ الشيطان؛ مَدَاخِلُ الشيطان إما عن طريق الغُلُوِّ، وإِمَّا عَنْ طريق الْجَهْلِ، وإما عن طريق الْهَوَى.
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ)): بيانٌ لخطورة الغلو على الدين.
وقوله: ((وانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ)): بيانٌ لِخُطُورَة الهوَى؛ الذين ليس لهم إلا ما أُشربوا من أهوائهم.
وقوله: ((وتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)): يَدُلّ على خطورة الجهل، وأنه قد يصل بصاحبه إلى مَهَاوِي الرَّدَى، ويُضِلُّه عن طريق الهُدى. ولذلك تَقَدَّمَ لنا ذِكْرُ الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: ((إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم)).
وَمَنْ زعم أنه يستطيع أن يفهم الكتاب والسنة بدون التلقي عن العلماء والدراسةِ عليهِم؛ فإنه على خَطَرٍ عظيم.
ومِمَّا يَنْدَى له الجبين، ومما يُؤسَفُ له، أننا نرى بعضَ أُناسٍ قَرَأُوا لهم، وقرأوا بعض الكتب، وقرأوا بعضَ الأحاديث؛ دون أن يتتلمذوا على العلماء، فنَصبُوا أنفسهم للفتوى، وزعموا أنهم ليسوا بحاجةٍ إلى التَّلَقِّي على هؤلاء العلماء، وَمَنْ كَانَ عِلْمُهُ مِنْ كِتَابهِ فَخَطَؤُهُ أَكْثَرُ مِنْ صَوَابهِ. ولذلك نجد عندهم جُرْأَة خطيرة على الفتوى، وعلى مخالفة أهل العلم، والجُرأة على دين الله، حيث يُفتون بغير عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ ويُضِلُّون. وهؤلاء قد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم خصوصًا عند قِلّة العلماء، أو عند بُعْدِ الناس عن العلماء عندما قال: ((إِنَّ الله لا يَنْتَزِعُ العِلمَ انتزاعًا وإنما يقبضُه بقَبْضِ العلماء، فإذا لم يبق عَالِم اتخذَ الناس رؤوسًا جُهَّالا فسُئِلوا فأَفْتَوْا بغير علمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا))[12].
وهذا ما نشاهده في كثير من المجتمعات، حيث ساد الجُّهال، وأدعياء العلم، وتجرءوا على التَّحَكُّم في مصير الأمة والفتوى بغير علم، حتى في تلك القضايا الْمَصِيرية التي لا يمكنُ أن يفقهوها، وإنما يَفْقَهُهَا أهلُ العلم؛ العلماءُ الربانيون الذين يقولون بالحق وبه يعدلون.
أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إِلاّ بسِتّــَةٍ سَأُنْبيكَ عَنْ تَفْصِيلِيهَا ببَيَانِ
ذَكَاءٌ وَحِرْصٌ وَاصْطِبَارٌ وَبُلْغَةٌ وَصُحْبَةُ أُسْتَاذٍ وَطُولُ زَمَانِ
العلم لا يأتي إلا بالتلقي.
سُئِلَ أَحَدُهُم –أعني: أحد الذين تَصَدَّروا العلم وليسوا من أهله-: هل تَتَلْمذْتَ على الشيخ فلان والشيخ فلان والشيخ فلان، وعَدَّدْنا بعض مشايخنا الكبار؛ وَأَوَّلُهُم شيخُنا الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز؛ قيل هل تَلَقَّيْتَ هذا العلم -عندما يعني كَثُرتْ بعض كتبه وأخطائه التي يعني ينشرها هنا وهناك- سُئِل: هل تتلمذت على الشيخ عبد العزيز؟ قال: لا.
هل تتلمذْتَ على الشيخ محمد بن صالح العُثَيمين؟ قال: لا.
هل تتلمذت على فلان وفلان؟ ( وعُدِّدَ له بعضُ المشايخ ) فأجاب بلا.
وقيل له لماذا ؟ فقال: لا أريد أن أُضيع وقتي! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: ٥]، {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر: ٣٥] .
ما أَجْرَأَهُمْ على الله! إنهم سفهاءُ الأحلام، صِغَارُ العقولِ، نَفَخَ فيهم الشيطان أنهم علماءُ، فتركوا العلماءَ وتصدَّروا، وصار كل واحد منهم يُفتي نفسه ويفتي أتباعه! وهذا دَاءٌ قد دَبَّ في العالم الإسلامي منذ ما يربو على سِتِّينَ أو سبعينَ سنةً، وأخذ لَظَاه ولَهَبُه يصل إلينا عندما ضَعُفَتْ صلة الشباب بعلماء الأمة، وعندما اهتم بعضهم بتقديس البعض، وعندما جعلوا الصحفَ والمجلاتِ والدورياتِ هي مصادر العلم عند الكثير منهم.
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: ٨٣] .
ولماذا لا نَلْتَفُّ حول علمائنا، ونقتدي بهم ونأخذُ عنهم، ونقتبس منهم وهم بقية السلف؟
إنَّ هذا -أعني أخْذَ العلم عن مصادره الصحيحة عن العلماء الربانيين- هو طريقُ السلامة والنجاة، وطريقُ الوصول إلى مرضاة الله، وطريق فَهْمِ الكتاب والسنة.
الأساس الخامس: من هذه الأُسُسِ من أُسُسِ منهج السّلَف الذي هو أَسْلَمُ وأَعْلَمُ وأحكم: التَّوَاضُعُ؛ وأعني: بالتواضعَ؛ لِينِ الجانب للعلم والتعلُّم وللعلماءِ، فإنه من تواضع لله رَفَعَه، وإنَّ الشيطان لَيَنْفُخُ في رأس البعض أنه قد بلغ درجةً لم يَبلغها أحد، فإذا وَصَل إلى هذه الحال؛ فَلْيَعْلَمْ أنه أَجْهَلُ الناس؛ فلا يزال الرجل عالمًا مادام يطلب العلم، فإذا ظنَّ أنه قد علِم؛ فقد جهِل.
والأساس السادس: أَن لا نَعْتَقِدَ العِصْمَةَ لأَحَدٍ بَعْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بعد تعظيمِنا واحترامِنا لعلمائنا وتوقيرهم، وإعطائِهِم حقوقَهُم، وتنزيلِهِم منازلَهُم، وَأْخْذِ الحق عنهم والتلقي عنهم، ومع ذلك لا نعتقد العصمةَ لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إِذِ العصمة للرسل عليهم الصلاة والسلام، والكمال لله والعصمة لِرُسل الله، وأما من دونهم فإنهم عرضةٌ للخطأ والصواب، ومع ذلك نعتقد أن العلماء الربانيين إذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا فأخطأوا فلهم أَجْرٌ واحِد كما هو هديُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سابعًا: اِلْتِمَاسُ العُذْرِ لِمَنْ أَخْطَأَ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ كما هو منهج سلفنا الصالح، بعد أن نعتقد أن العصمة ليست لأحد؛ فإننا يجب أن نعلم أنهم -رحِمهم الله ورحِمَ الله مَيِّتَهم وأجزَلَ المثوبة لِحَيِّهِم ورحم الله الجميع-؛ أقول: بعد أنْ ننزلهم منازلهم، فإننا نلتمس لهم العُذر في المسائل التي حصل فيها خطأ اجتهادي. وهذا يتطلب من طالب العلم أن يعرف قواعدَ السلف في هذا الباب، ولا بُدَّ له مِنْ قراءة كتابٍ عظيم لشيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله تعالى- وهو كتابُ: (رَفْع الْمَلامِ عَنِ الأَئِمَّةِ الأَعْلامِ). فإنه بَيَّنَ أعذارَ العلماء في بعض المسائل التي أخطأوا فيها، وذلك يرجع إلى أسباب ثلاثٍ:
v إما أن الحديث لم يَبْلُغْهم، وهذا لا يَعِيبُهُم، فَقَدْ خَفِيَتْ بعض الأحاديث على كبار الصحابة.
v وإما أن يبلُغَهُم ولكنهم لم يَرَوْا أَنه بلغ درجةَ الصحة الثابتة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
v وإما أنه بلغهم ولكن فهِمُوه فَهْمًا آخَرَ إِما أنه منسوخ، أو أنه مُخَصَّصٌ، أو مُقَيَّد، أو نحوُ ذلك مِنَ الأعذار. فراجعوا هذا الأمر مُفَصَّلا في كتاب رفع الملام عن أئمة الأعلام.
الأساس الثامن: أَخْذُ الإِسْلامِ كُلِّهِ، وَالاهْتِمَامُ بِأُمُورِ الدِّينِ كُلِّهَا بلا اسْتِثْنَاءٍ. فإنَّ المنهجَ الحقَّ هو أنَّ المؤمن لا يتساهل في شيء من أمور دينه، فمتى بلغه الأمرُ في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يَسَعُهُ إلا أن يقول سمعنا وأطعنا، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: ٥١]،
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: ٣٦].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: ٢٤].
فلا نأخذُ جانبًا على حسابِ تضييعِ جانبٍ آخَرَ؛ لأننا نعاني من طرائقَ معاصرةٍ تَهْتَمُّ بجوانِبَ من الدِّينِ، يظُنون أنهم بمنظورهم الضيق أنه يكفي للتطبيق، ويُضيعون ما سواه؛
كالَّذِينَ يُدندنون حول السياسة والسياسيين والأخبار والإخباريين، ويُضيعون أوقاتهم في هذا السبيل.
وطائفةٌ أخرى تهتم بجانب ما يتصورون أنه الزهدُ والعبادةُ، بينما هو تَصَوُّفٌ مَحْضٌ دَخِيلٌ علينا وعلى بلادنا، يتمثل ذلك في الخروج والسِّياحة في الأرض، وهذا هو كل شيء عندهم!
وطائفةٌ أخرى تتنازل عن بعض مبادئ الإسلام، من أجل إرضاء اليهود والنصارى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: ١٢].
وطائفةٌ أخرى عندهم الغايةُ تُبَرِّرُ الوسيلة، فإذا كانت الغايةُ صحيحةً فلا يَهُمُّهُم أن يرتقوا إليها بأَيَّةِ وسيلةٍ ولو كانت مُحَرَّمَةً! فيسلكون في سبيل الدعوة -مثلاً- مسالِكَ مستوردةً؛ كاستخدام المسرحيات والتمثيليات والأناشيد، واستخدامِ بعض الطُّرُق التجميعية التي يَهُمُّها أن تَجْمَعَ من هَبَّ ودَبَّ مَهْمَا كانت عقائدُ أولئك المجتمِعين، تحت ستارِ: (نَجْتَمع فيما نجتمع عليه، ويَعذُر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).
وطائفةٌ أخرى تَتَنَكَّرُ لِلدِّينِ كُلِّه؛ لأنها قدِ استغربَتْ وَتَفَرْنَجَتْ وَانْحَلَّتْ وَبَعُدَتْ عَنِ الدين، ورأَتْ أنه لا يَصلُح، وأنه رجْعِيّة وتَأَخُّر.
وَكُلُّ هذه الطوائف يجب أن نبتعدَ عنها، وأن نَبْرَأَ منها، وأن نسير على منهج الحق؛ بأَخْذِ الدّين كله من مصادره في العقيدة، في العبادة، في الأحكام، في الأخلاق، في الآداب، في الحدود، في كافة نواحي الحياة. مع مراعاة مُقتضَياتِ الأحوال، وملاحظةِ أنَّ لِكلِّ مقامٍ ما يناسبه، خصوصًا من يهتمون بأمر الدعوة والدعاة؛ فإنهم ينبغي أن يعرِفوا الداء فيُشخصوا الدواء. فقد يقتضي المقامُ الكلامَ على العقيدة، قد يقتضي الكلامَ عن الزهد والورع والعبادة، قد يقتضي المقامُ الكلامَ على الْخُلُق، قد يقتضي المقامُ الكلامَ عن مكافحة المعاصي والمنكرات بالطرق الشرعية المعروفة.
فالإسلام دين واحد ومنهج واحد لا يُجَزَّأُ؛ {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: ٥٢].
الأساس التاسع: الْبَدْءُ بالأوْلَوِيَّاتِ، مع مراعاة الأساس الثامن وهو أخذ الإسلام كله. فإنه لابد لنا أن نَبْدَأ بما بدأ الله به؛ وهو الدعوة إلى توحيد الله الخالص، وتحقيقِ التوحيد مما شابَهُ من شَوائبِ الشرك والبدع والمعاصي؛ لأنَّ التوحيد قد أصابه خَلَلٌ في العالم الإسلامي: مِنْ تأويلٍ في أسماء الله وصفاته وإنكارٍ لها وجحد، ومِنْ تَصَوُّفٍ بَغِيضٍ وقُبوريةٍ وتَعَلُّقٍ بالقبور وعبادةِ مَنْ دونَ الله، ومِنْ إلْحادٍ وتَنَكُّرٍ لأوامرِ الله، ومن ماديةٍ مُفْرِطة تُبْعِدُ المسلمَ عن ربه وتجعلُه يَعبُد المادة، ونحو ذلك.
وهذا لا يمكن علاجه إلا بالبدء بما بدأَ الله به، فإنَّ كلَّ خَلَل في هذه الأمور راجعٌ إلى الخلل في التوحيد، وفي العبودية لله، وفي التدين الصحيح والعقيدة الصحيحة. فلو صَحَّ التوحيد؛ لَصَحَّت هذه الأمور كلها، وبِقَدْر ما ينقص من التوحيد بقدر ما يَضِلُّ الناس عن منهج الحق؛ لذلك فإنه لابد من البدء بالتوحيد.
رسول الله صلى الله عليه وسلم مكَث ثلاثَ عشرةَ سنةً يدعو إلى توحيد الله الخالص ونبذِ الشرك والتعلق بغير الله -سبحانه وتعالى-. ولا نلتفِتُ إلى الناعقين القائلين بأنَّ الدعوة إلى توحيد الله تُفرق الأمة! دَعُونا نشتغلُ بما هو أَهَمُّ! وماذا يكون أَهَمّ من توحيدِ الله وتحقيق العُبُوديةِ له في ذاته وفي أسمائه وصفاته، وفي عُبُوديته وأُلُوهيته، وفي ربوبيته وفي قدره وشرعه؟ نُلاحظ أن كثيرًا من الناس يَتَبَرَّمون من الكلام على هذه المسألة، ويقول أنَّ الكلامَ على العقيدة يُمكِن أن يُتَعَلَّم في عَشْرِ دقائق.
نَعَمْ؛ أنا أُسَلِّمُ لصاحب هذه المقالة لو كُنَّا في عصر الصحابة الذين إذا سمعوا قال الله, وقال رسوله، لا يَسَعُهُم إلا الامتثال، وأما بَعْدَ أن ظهر الانحراف عن هذا المنهج، وافترى الناس في توحيد الله، وحرَّفوا في أسمائه وصفاته، وحرَّفوا في أُلوهيته وفي عبوديته، وانحرفوا في ربوبيته وبدَّلوا دينَهم في كثير من الأحوال؛ فإنه لابُدَّ من الاهتمام بهذا الأمر، والاجتهادِ في دحض كل شبهة تَعْتَرِضُ له، لا سيما من طُلاب العلم الّذين لابد أن يَتَصَدَّوا لِدحض الشبهات وإزالةِ كلّ ما عَلِقَ بتوحيد الله -تبارك وتعالى- من خَلَل.
فَتَوْحِيدُ الله -عزَّ وجلَّ- هو الرُّكن الرَّكِين الذي اتَّفقت عليه دعوة الرُّسل مِن لَدُن نُوحٍ -عليه السلام- إلى خاتَمِهم وأفضلِهم نبيِّنا محمدٍ رسول الله، كلٌّ منهم يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: ٥٩].
وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: ٣٦]{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى: ١٣]؛ فلابُد من العناية بهذا الأمر أَيَّما عناية.
لَمَّا بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعاذًا إلى اليمن قال له: « إنك تأتي قَوْمًا من أهل الكتاب؛ فَلْيَكُن أَوَّلَ مَا تَدْعوهم إليه شهادةُ أَن لا إله إلا الله، فإنْ هُمْ أطاعوك لِذلك، فَأَخْبرْهم أنَّ الله افترض عليهم خَمْسَ صلواتٍ في كل يوم وليلة، فإِنْ هُمْ أَجَابوك لِذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدَقةً تُؤخذُ من أغنيائهم وتُرَدُّ على فقرائهم ... »[13]. فلا بُدَّ من البَدْءِ بما بدأَ الله به، ولابد من التأسيس على هذا الركنِ الركين والحصنِ العظيم، ألا وهو تحقيقُ توحيد الله وتخليصُه من شوائب الشرك والبدع التي علِقتْ به.
الأساس العاشِرُ: اِبْتِغَاءُ وَجْهِ الله فِيمَا نَقُولُ وَفِيمَا نَعْمَلُ، وهذا مِنْ أعظم الأسُس وهو جزءٌ وأساسٌ من أُسُس توحيد الله -سبحانه وتعالى-، فهو أَسَاسُ نَجَاحِ المسيرة على هذا المنهج، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص: ٧٧]، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: ٢-٣].
فَالإخلاص وصِدْق النية مع الاقتداءِ والمتابعةِ؛ هُمَا شرطَا قَبُولِ أيِّ عملٍ نَتَقَرَّبُ به إلى الله -سبحانه وتعالى-.
ولذلك يقول النبي: ((إِنَّمَا الأعمالُ بالنِّياتِ وإنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى))[14]، فقد صَدَّر كثيرٌ من أهل العلم -لاسيما علم الحديث- كُتُبَهُم بهذا الحديث العظيم، الذي هو أَحَدُ الأحاديث الأربعةِ التي ذَكَرَ أهلُ العلم أنَّ عليها مدارَ الإسلام كلِّه وهي:
v حديثُ: ((إنما الأعمال بالنيات)).
v وحديثُ: ((الدِّينُ النصيحةُ, الدِّينُ النصيحةُ، الدِّينُ النصيحةُ؛ قُلْنَا: لِمَنْ يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابهِ ولِرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتِهِم))[15].
[fo