التفصيل المنير في حكم رضاع الكبير ..
للشيخ
رائد بن عبد الجبار المهداوي
---------------
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله
أما بعد:
فإنَّ مسألة رَضاعِ الكبير مما اختلف فيه أهل العلم قديماً، وكثر الجدال فيه حديثاً بعد ما تناقلته بعضُ وسائل الإعلام من فتاوى ـ في هذه المسألة ـ عن بعض الأزهريين ـ جائرةٍ عن السبيل، ومخالفة للدليل
فرَغِبْتُ في أن تكونَ لي مشاركة علميّةٌ في توضيح هذه المسألة وتجليَتِها، وبيان أقرب الأقوال إلى الصواب فيها ـ فيما يظهر لي
والله أسألُ أن يوفقني وسائر المسلمين لمعرفة الحق واتِّباعه والدعوة إليه.
خلاف العلماء في رضاع الكبير:
اختلف أهل العلم في مسألة رضاع الكبير على ثلاثة أقوالٍ؛ طرفين ووسط.
القول الأوّل:
أنَّ رضاع الكبير ليس بشيء، وأنّه لا يحصل به التحريم كما يحصل في رضاع الصغير.
وقد نقل الحافظ أبو عمر بن عبد البَرِّ في "التمهيد" (3/616 ط:العلمية تحقيق عبد القادر عطا)، أنَّ هذا القول هو مذهب جماعة فقهاء الأمصار ومنهم الأئمة الأربعة وأصحابهم، والثوري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، والطبري.
وقال به من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس، وسائر أمهات المؤمنين غير عائشة، وجمهور التابعين.
وينظر أيضاً: "المغني" لابن قدامة (9/201 ط:العلمية)، و"بداية المجتهد" لابن رشد الحفيد (3/1311 ط:دار السلام).
القول الثاني :
أنَّ رضاع الكبير يثبت به التحريم مطلقاً كرضاع الصغير.
وقد نقل ابن حزم في "المحلّى" (9/205)، وعنه الشوكانيُّ في "نيل الأوطار" (6/751) أنَّ هذا القول هو مذهب علي بن أبي طالب، وضعّف ذلك ابن عبد البرِّ في "التمهيد" (3/614) وقال: "ولا يصح عنه، والصحيح عنه أن لا رضاع بعد فطام" ا.هـ.
وهذا القول هو مذهب داود الظاهري كما نقله عنه النووي في "شرح صحيح مسلم"(5/375 ط:دار إحياء التراث، تحقيق عرفان حسونة).
ونصره ابن حزم في "المحلّى" (9/202) وقال: " ورضاع الكبير محرِّمٌ ـ ولو أنّه شيخ يحرِّمُ ـ كما يحرِّ م رضاع الصغير ولا فرق" ا.هـ
وبه قال الليث بن سعد، وابن عليّة، وهو ثابت عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ ومروي عن عروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح.
وينظر في ذلك:المغني(9/201 ط: العلمية)، و"التمهيد" (3/614)، و"بداية المجتهد" (3/1311 ط:دار السلام) و"نيل الاوطار" (6/751ط:دار الخير)، و "المحلى" (10/205 ط:العلمية تحقيق الدكتور عبد الغفار البنداري)، و"شرح مسلم للنووي" (5/375ط:دار إحياء التراث)، و"زاد المعاد" (5/515ط:الرسالة)، و "الروضة الندية" (2/331)، و"توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (6/10).
القول الثالث:
وسط بين طرفين؛ وهو أنَّ الرضاع يعتبر فيه الصغر، إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها منه،
كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثَّر رضاعه، وأما من عداه فلا يؤثِر إلا رضاع الصغير .
وبه قال شيخ الإسلام ابن تيميّة، وابن القيّم، ورجّحه الشوكانيّ، وصدّيق حسن خان، والألبانيُّ، وغيرهم.
وينظر: "زاد المعاد" (5/527)، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (34/60)، و"نيل الأوطار" (6/752)، و" الروضة الندية" (2/331)، و"فتح الباري" (9/ 68 ط:دار مصر للطباعة) تحت حديث:(5102)، و"الموسوعة الفقهية الميسّرة" (5/89)، و"فقه السنة" (2/162 ط:دار الجيل)، و"نظام الأسرة في الإسلام" (3/420، 423)
سبب الاختلاف في هذه المسألة :
قال ابن رشد الحفيد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (3/1312 ط:دار السلام، تحقيق الدكتور عبد الله العبادي): " وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك حديثان؛ أحدهما: حديث سالم، والثاني: حديث عائشة خرجه البخاري ومسلم قالت: " دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعندي رجل، فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله.. إنه أخي من الرَّضاعة. فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "انظرن من إخوانكنَّ من الرَّضاعة، فإنَّ الرَّضاعة من المجاعة".
فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث قال: لا يحرِّمُ اللبنُ الذي لا يقومُ للمُرضَع مقام الغذاء، إلا أنَّ حديث سالم نازلة في عين، وكان سائر أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرون ذلك رخصة لسالم، ومن رجَّح حديث سالم وعلل حديث عائشة بأنّها لم تعمل به قال: يحرِّم رضاع الكبير" ا.هـ
أدلة الأقوال السابقة:
أولاً: أدلة القول الأوّل:
1. قال ـ تعالى ـ: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ" [البقرة : 233]
قال في "المغني" (9/202): "فجعل تمام الرضاعة حولين، فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما" ا.هـ
2. عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " لا يحرِّم من الرَّضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام" أخرجه الترمذي (1152) في الرضاع، وابن حبّان في "صحيحه"(1250)، وابن ماجة(1946) مختصراً، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألبانيُّ في الإرواء (2150).
قال ابن القيّم ـ رحمه الله ـ في "زاد المعاد" (5/512): "قالوا: فجعل تمام الرضاعة حولين، فدلَّ على أنَّه لا حكم لما بعدهما، فلا يتعلق به التحريم. قالوا: وهذه المدة هي مدة المجاعة التي ذكرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقصر الرضاعة المحرمة عليها. قالوا: وهذه مدة الثدي الذي قال فيها: "لا رضاع إلا ما كان في الثدي"، أي في زمن الثدي، وهذه لغة معروفة عند العرب، فإنَّ العرب يقولون فلان مات في الثدي أي: في زمن الرضاع قبل الفطام، ومنه الحديث المشهور: "إنَّ إبراهيم مات في الثدي وإنَّ له مرضعاً في الجنة تتم رضاعه" ـ يعني إبراهيم ابنه صلوات الله وسلامه عليه ـ . قالوا : وأكد ذلك بقوله: "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان في الثدي قبل الفطام"
فهذه ثلاثة أوصاف للرضاع المحرم، ومعلوم أنَّ رضاع الشيخ الكبير عار من الثلاثة" ا.هـ
3. واستدلوا بما روي عن أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود مرفوعاً: " لا رضاع إلا ما أنشر العظم، وأنبت اللحم" أخرجه أبو داود(2059)، والبيهقي(7/461)، وإسناده ضعيف لجهالة أبي موسى الهلالي وأبيه كما في الإرواء(2153)
والصواب وقفه على ابن مسعود كما حقق ذلك الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (1798) ولفظه: " لا رضاع إلا ما شدَّ العظم، وأنبت اللحم" فقال أبو موسى الأشعري: لا تسألونا وهذا الحبر فيكم. قالوا: ورضاع الكبير لا ينبت لحماً، ولا يُنشز عظماً.
4. عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: دخل عليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعندي رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، قالت: فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، قالت: فقال: "انظرن إخوتَكُنَّ من الرَّضاعة، فإنَّما الرَّضَاعة من المجاعة". أخرجه البخاري(2647)، و(5102)، ومسلم (1455) واللفظ له.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/68 ط: دار مصر للطباعة): "قوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة" فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر ؛ لأن الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرماً .
وقوله: "من المجاعة " أي: الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة، هي حيث يكون الرضيع طفلا لسد اللبن جوعته؛ لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة، أو المطعمة من المجاعة، كقوله ـ تعالى ـ: (أطعمهم من جوع)" ا.هـ
وقال ابن القيّم في "زاد المعاد" (5/516): "قالوا: ولو كان رضاع الكبير محرِّماً لما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة ـ وقد تغير وجهه وكره دخول أخيها من الرضاعة عليها لما رآه كبيراً ـ : "انظرن من إخوانكن " فلو حرم رضاع الكبير لم يكن فرق بينه وبين الصغير، ولما كره ذلك وقال: "انظرن من إخوانكن ". ثم قال: " فإنما الرضاعة من المجاعة" وتحت هذا من المعنى خشية أن يكون قد ارتضع في غير زمن الرضاع وهو زمن المجاعة، فلا ينشر الحرمة فلا يكون أخاً" ا.هـ
5. واستدلوا بما روي عن ابن عباس عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا رضاع إلا ما كان في الحولين" أخرجه الدارقطنيُّ في سننه (3/408 ط:المعرفة) برقم(4284)، والبيهقي في سننه (7/462)، وابن عدي في الكامل(7/103). وقال الدارقطني: "لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ."، وصحح البيهقي وقفه. وقال ابن عدي: "هذا يعرف بالهيثم بن جميل عن ابن عيينة مسنداً، وغير الهيثم يوقفه على ابن عباس، والهيثم بن جميل يسكن أنطاقية، ويقال: هو البغدادي، ويغلط على الثقات كما يغلط غيره، وأرجو أن لا يتعمد الكذب" ا.هـ وينظر أيضاً "التلخيص الحبير" (4/ 8 ط: قرطبة)
للشيخ
رائد بن عبد الجبار المهداوي
---------------
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله
أما بعد:
فإنَّ مسألة رَضاعِ الكبير مما اختلف فيه أهل العلم قديماً، وكثر الجدال فيه حديثاً بعد ما تناقلته بعضُ وسائل الإعلام من فتاوى ـ في هذه المسألة ـ عن بعض الأزهريين ـ جائرةٍ عن السبيل، ومخالفة للدليل
فرَغِبْتُ في أن تكونَ لي مشاركة علميّةٌ في توضيح هذه المسألة وتجليَتِها، وبيان أقرب الأقوال إلى الصواب فيها ـ فيما يظهر لي
والله أسألُ أن يوفقني وسائر المسلمين لمعرفة الحق واتِّباعه والدعوة إليه.
خلاف العلماء في رضاع الكبير:
اختلف أهل العلم في مسألة رضاع الكبير على ثلاثة أقوالٍ؛ طرفين ووسط.
القول الأوّل:
أنَّ رضاع الكبير ليس بشيء، وأنّه لا يحصل به التحريم كما يحصل في رضاع الصغير.
وقد نقل الحافظ أبو عمر بن عبد البَرِّ في "التمهيد" (3/616 ط:العلمية تحقيق عبد القادر عطا)، أنَّ هذا القول هو مذهب جماعة فقهاء الأمصار ومنهم الأئمة الأربعة وأصحابهم، والثوري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، والطبري.
وقال به من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس، وسائر أمهات المؤمنين غير عائشة، وجمهور التابعين.
وينظر أيضاً: "المغني" لابن قدامة (9/201 ط:العلمية)، و"بداية المجتهد" لابن رشد الحفيد (3/1311 ط:دار السلام).
القول الثاني :
أنَّ رضاع الكبير يثبت به التحريم مطلقاً كرضاع الصغير.
وقد نقل ابن حزم في "المحلّى" (9/205)، وعنه الشوكانيُّ في "نيل الأوطار" (6/751) أنَّ هذا القول هو مذهب علي بن أبي طالب، وضعّف ذلك ابن عبد البرِّ في "التمهيد" (3/614) وقال: "ولا يصح عنه، والصحيح عنه أن لا رضاع بعد فطام" ا.هـ.
وهذا القول هو مذهب داود الظاهري كما نقله عنه النووي في "شرح صحيح مسلم"(5/375 ط:دار إحياء التراث، تحقيق عرفان حسونة).
ونصره ابن حزم في "المحلّى" (9/202) وقال: " ورضاع الكبير محرِّمٌ ـ ولو أنّه شيخ يحرِّمُ ـ كما يحرِّ م رضاع الصغير ولا فرق" ا.هـ
وبه قال الليث بن سعد، وابن عليّة، وهو ثابت عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ ومروي عن عروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح.
وينظر في ذلك:المغني(9/201 ط: العلمية)، و"التمهيد" (3/614)، و"بداية المجتهد" (3/1311 ط:دار السلام) و"نيل الاوطار" (6/751ط:دار الخير)، و "المحلى" (10/205 ط:العلمية تحقيق الدكتور عبد الغفار البنداري)، و"شرح مسلم للنووي" (5/375ط:دار إحياء التراث)، و"زاد المعاد" (5/515ط:الرسالة)، و "الروضة الندية" (2/331)، و"توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (6/10).
القول الثالث:
وسط بين طرفين؛ وهو أنَّ الرضاع يعتبر فيه الصغر، إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها منه،
كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثَّر رضاعه، وأما من عداه فلا يؤثِر إلا رضاع الصغير .
وبه قال شيخ الإسلام ابن تيميّة، وابن القيّم، ورجّحه الشوكانيّ، وصدّيق حسن خان، والألبانيُّ، وغيرهم.
وينظر: "زاد المعاد" (5/527)، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (34/60)، و"نيل الأوطار" (6/752)، و" الروضة الندية" (2/331)، و"فتح الباري" (9/ 68 ط:دار مصر للطباعة) تحت حديث:(5102)، و"الموسوعة الفقهية الميسّرة" (5/89)، و"فقه السنة" (2/162 ط:دار الجيل)، و"نظام الأسرة في الإسلام" (3/420، 423)
سبب الاختلاف في هذه المسألة :
قال ابن رشد الحفيد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (3/1312 ط:دار السلام، تحقيق الدكتور عبد الله العبادي): " وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك حديثان؛ أحدهما: حديث سالم، والثاني: حديث عائشة خرجه البخاري ومسلم قالت: " دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعندي رجل، فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله.. إنه أخي من الرَّضاعة. فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "انظرن من إخوانكنَّ من الرَّضاعة، فإنَّ الرَّضاعة من المجاعة".
فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث قال: لا يحرِّمُ اللبنُ الذي لا يقومُ للمُرضَع مقام الغذاء، إلا أنَّ حديث سالم نازلة في عين، وكان سائر أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرون ذلك رخصة لسالم، ومن رجَّح حديث سالم وعلل حديث عائشة بأنّها لم تعمل به قال: يحرِّم رضاع الكبير" ا.هـ
أدلة الأقوال السابقة:
أولاً: أدلة القول الأوّل:
1. قال ـ تعالى ـ: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ" [البقرة : 233]
قال في "المغني" (9/202): "فجعل تمام الرضاعة حولين، فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما" ا.هـ
2. عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " لا يحرِّم من الرَّضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام" أخرجه الترمذي (1152) في الرضاع، وابن حبّان في "صحيحه"(1250)، وابن ماجة(1946) مختصراً، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألبانيُّ في الإرواء (2150).
قال ابن القيّم ـ رحمه الله ـ في "زاد المعاد" (5/512): "قالوا: فجعل تمام الرضاعة حولين، فدلَّ على أنَّه لا حكم لما بعدهما، فلا يتعلق به التحريم. قالوا: وهذه المدة هي مدة المجاعة التي ذكرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقصر الرضاعة المحرمة عليها. قالوا: وهذه مدة الثدي الذي قال فيها: "لا رضاع إلا ما كان في الثدي"، أي في زمن الثدي، وهذه لغة معروفة عند العرب، فإنَّ العرب يقولون فلان مات في الثدي أي: في زمن الرضاع قبل الفطام، ومنه الحديث المشهور: "إنَّ إبراهيم مات في الثدي وإنَّ له مرضعاً في الجنة تتم رضاعه" ـ يعني إبراهيم ابنه صلوات الله وسلامه عليه ـ . قالوا : وأكد ذلك بقوله: "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان في الثدي قبل الفطام"
فهذه ثلاثة أوصاف للرضاع المحرم، ومعلوم أنَّ رضاع الشيخ الكبير عار من الثلاثة" ا.هـ
3. واستدلوا بما روي عن أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود مرفوعاً: " لا رضاع إلا ما أنشر العظم، وأنبت اللحم" أخرجه أبو داود(2059)، والبيهقي(7/461)، وإسناده ضعيف لجهالة أبي موسى الهلالي وأبيه كما في الإرواء(2153)
والصواب وقفه على ابن مسعود كما حقق ذلك الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (1798) ولفظه: " لا رضاع إلا ما شدَّ العظم، وأنبت اللحم" فقال أبو موسى الأشعري: لا تسألونا وهذا الحبر فيكم. قالوا: ورضاع الكبير لا ينبت لحماً، ولا يُنشز عظماً.
4. عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: دخل عليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعندي رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، قالت: فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، قالت: فقال: "انظرن إخوتَكُنَّ من الرَّضاعة، فإنَّما الرَّضَاعة من المجاعة". أخرجه البخاري(2647)، و(5102)، ومسلم (1455) واللفظ له.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/68 ط: دار مصر للطباعة): "قوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة" فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر ؛ لأن الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرماً .
وقوله: "من المجاعة " أي: الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة، هي حيث يكون الرضيع طفلا لسد اللبن جوعته؛ لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة، أو المطعمة من المجاعة، كقوله ـ تعالى ـ: (أطعمهم من جوع)" ا.هـ
وقال ابن القيّم في "زاد المعاد" (5/516): "قالوا: ولو كان رضاع الكبير محرِّماً لما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة ـ وقد تغير وجهه وكره دخول أخيها من الرضاعة عليها لما رآه كبيراً ـ : "انظرن من إخوانكن " فلو حرم رضاع الكبير لم يكن فرق بينه وبين الصغير، ولما كره ذلك وقال: "انظرن من إخوانكن ". ثم قال: " فإنما الرضاعة من المجاعة" وتحت هذا من المعنى خشية أن يكون قد ارتضع في غير زمن الرضاع وهو زمن المجاعة، فلا ينشر الحرمة فلا يكون أخاً" ا.هـ
5. واستدلوا بما روي عن ابن عباس عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا رضاع إلا ما كان في الحولين" أخرجه الدارقطنيُّ في سننه (3/408 ط:المعرفة) برقم(4284)، والبيهقي في سننه (7/462)، وابن عدي في الكامل(7/103). وقال الدارقطني: "لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ."، وصحح البيهقي وقفه. وقال ابن عدي: "هذا يعرف بالهيثم بن جميل عن ابن عيينة مسنداً، وغير الهيثم يوقفه على ابن عباس، والهيثم بن جميل يسكن أنطاقية، ويقال: هو البغدادي، ويغلط على الثقات كما يغلط غيره، وأرجو أن لا يتعمد الكذب" ا.هـ وينظر أيضاً "التلخيص الحبير" (4/ 8 ط: قرطبة)