الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين .
أحمده حمد الشاكرين . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . كلمة حق قامت عليها السماوات والأرضين وبها أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين . ولأجلها انقسم الناس إلى مؤمنين وكافرين . فمن سبقت له السعادة بالإيمان كان من الناجين . ومن تنكب عنها واتبع هواه كان من الهالكين . وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، وأمينه على وحيه ، وخيرته من خلقه ، المبعوث بالدين القويم ، والصراط المستقيم . أرسله الله رحمة للعالمين ، وإماما للمتقين ، وحجة على الخلائق أجمعين . فلم يزل صلى الله عليه وسلم يجتهد في تبليغ الدين ، وهدى العالمين ، وجهاد الكفار والمنافقين . حتى طلعت شمس الإيمان ، وأدبر ليل الكفر والبهتان ، وعز جند الرحمن ، وذل حزب الشيطان ، وظهر نور الفرقان ، فبلغت دعوته القاصي والداني ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما مقرونا بالرضوان .
أما بعد ، فإن الله افترض على العباد طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وتوقيره والقيام بحقوقه . وسد الطريق إلى جنته فلن تفتح لأحد إلا من طريقه ، فشرح الله له صدره ، ووضع عنه وزره ، ورفع له ذكره ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره .
فقام المسلمون بأداء ما افترضه الله عليهم من محبة نبيه وتوقيره وإكرامه وبره واتباعه وطاعته حق قيام ، وظهر من حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جعلهم يفدونه بكل عزيز وغال ، ويؤثرونه على الأهل والأوطان والأموال ، حتى باعوا أنفسهم وأموالهم لرب العالمين . نصرة لدينه ، ودفاعا عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونشرا لهذا الدين في العالمين ، فرضي الله عنهم أجمعين .
حتى إذا دب الضعف في هذه الأمة ، أدركتها سنة الله في الأمم ، فظهر فيها التفرق والاختلاف ، والعداوة والبغضاء ، وتفرق أهل القبلة على فرق شتى وطرائق قددا ، واتخذ النفاق فرصته السانحة في توسيع شقة الخلاف ، ورفعت الزندقة رأسها ، ودخلت معترك الفرق بقديم حقدها ، وكوامن غيظها . كيدا لهذا الدين الذي قوض أركانها ، وأذهب من الأرض سلطانها . استمال هؤلاء الزنادقة الأغرار بالعقائد الباطلة ، واستغلوا الفتن التي وقعت بتدبيرهم في تزيين الكفر وإلباسه ثوب الغلو في علي رضي الله عنه وآل البيت من ذريته . حتى خرجوا بأكثر الناس من الإسلام إلى مذاهبهم الباطلة .
وتوارث أخلافهم سنتهم في الغلو . فغلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخرجوه من نطاق البشرية إلى مرتبة الألوهية ، ونسبوا إلى الله ورسوله ما لا يليق من صنوف الكفر والبهتان ، الهادمة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أصول الإسلام والإيمان . وزعموا أنهم بذلك يريدون إظهار حبه وتعظيمه ، وأوهموا المخدوعين بهم أنهم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثرهم حبا له . وحاولوا إخفاء زندقتهم بدعاوي الزهد والتنسك والتصوف . فمال إليهم الأغرار ، وظنوا أنهم من الأبرار الأخيار ، وأنهم أحباب النبي المصطفى المختار .
ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . فقيض سبحانه من عباده المخلصين ، وحزبه المفلحين من أزاح الغشاوة عن الأبصار ، وبين للناس زيف الزنادقة الأشرار ، وأنهم لا يريدون إلا هدم الدين وتغيير سنة خاتم المرسلين . فتتبعوا أقوالهم وأحوالهم ، وكشفوا عن وجوه زندقتهم . حتى غدا أمرهم لأولي الأبصار مكشوفا واضحا ، وتبين لأولي النهى من كان لله ورسوله محبا صادقا ، ومن كان في دعوى المحبة دجالا كاذبا ، ولإفساد دين المسلمين ساعيا .
ولما كانت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي دعوى الفريقين ومتنازع الحزبين . أردت أن أجلي في هذا البحث عن وجه الحقيقة كاشفا عن الصواب ، مستعينا بالعزيز الوهاب ، ورغبت في تحرير محل النزاع ، فأسميته (محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بين الاتباع والابتداع) .
ووقع الاختيار على هذا الموضوع لأسباب منها :
- كون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ركنا أصيلا من أركان الإيمان ، أصابه ما أصاب الإيمان من ضعف لدى بعض المسلمين ، فأردت أن أبين مكانة المحبة من الإيمان .
- أن المحبة أمر قد يستتر وراء الدعاوي والمزاعم فأردت أن أبين الشواهد الصادقة لهذه المحبة والأمور الفارقة بين الصادق فيها والكاذب . والتي من أهمها الاتباع .
ظن كثير من المسلمين- تأثرا بغلاة الصوفية- أن من لوازم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الغلو فيه فأردت أن أبين أن المحبة شيء مختلف تماما عن الغلو . فالأول فرض عين ، والثاني ضلال ومين .
- اتهام كثير من الغلاة عامة المسلمين بالجفاء للرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يوافقوهم في غلوهم الذي يسمونه محبة . فأردت أن أبين وجه الصواب في المسألة .
- أن حال كثير من الغلاة مخالف لأصول الشرع ، مع ادعائهم أنهم أحب الأمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فأردت أن أبين حقيقة أمرهم على ضوء الكتاب والسنة .
- ما حدث في الأمة بسبب الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم من صنوف البدع التي شوهت معالم الدين عند أكثر المسلمين ، فأردت أن أبين آثار الغلو على الدين اعتقادا ، وتعبدا وسلوكا .
وقد رسمت خطة بحثي هذا على النحو التالي :
التمهيد :
ويشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : وسأتحدث فيه عن معنى النبوة والرسالة بإيجاز .
المبحث الثاني : عن بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وسأبين أن كمال الرسول أن يكون بشرا رسولا .
المبحث الثالث : النبوة اصطفاء إلهي ، وسأتحدث فيه عن بعض مظاهر اصطفاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بإيجاز .
الباب الأول (المحبة والاتباع) الفصل الأول : محبة الرسول صلى الله عليه وسلم .
يحتوي هذا الفصل على أربعة مباحث :
المبحث الأول : مفهوم المحبة ، وسأتحدث فيه عن معنى المحبة في اللغة عموما ومعناها في الشرع على وجه الخصوص .
المبحث الثاني : وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسأتحدث فيه عن حكم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرع ، ومكانتها من الإيمان .
المبحث الثالـث : دواعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسباب زيادتها ، وسأتكلم فيه عن الدواعي والدوافع التي تدفع المسلم إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسباب زيادة هذه المحبة .
المبحث الرابع : مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وسأبين فيه العلامات الواضحة والشواهد الصادقة التي من اتصف بها كان صادقا في حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأتبعه ببيان آثار هذه المحبة على سلوك المسلم وأفعاله .
الفصل الثاني : الاتبـاع :
يتكون هذا الفصل من ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : مفهوم الاتباع وسأبين فيه معنى الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اللغة والشرع .
المبحث الثاني : وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، واتباعه ، وسيكون الكلام فيه أدلة هذا الوجوب من القرآن والسنة .
المبحث الثالث : مظاهر الاتباع ، وسأبين فيه العلامات الواضحة التي من اتصف بها كان متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
الباب الثاني (الغلو والابتداع)
يشتمل هذا الباب على فصلين :
الفصل الأول : الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم ويحتوي هذا الفصل على ستة مباحث :
المبحث الأول : مفهوم الغلو ، وسيكون الحديث فيه عن معنى الغلو في اللغة والشرع ، وأنواع الغلو والأسباب التي أدت إلى ظهوره عند المسلمين .
المبحث الثاني : الغلو عند اليهود والنصارى : على أساس أنهم ابتلوا بداء الغلو في أنبيائهم ، وأن من غلا من المسلمين فهو متشبه بهم ، آخذ بسنتهم التي حذرنا الله ورسوله من اتباعها .
المبحث الثالث : الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند الشيعة باعتبار أنهم أول من فتح باب الغلو في الأشخاص في هذه الأمة بغلوهم في علي رضي الله عنه وآل البيت من ذريته .
المبحث الرابع : الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصوفية وسيكون الكلام فيه عن مطلبين :
المطلب الأول : الغلو عند الحلاج وذلك باعتباره أول صوفي اشتهر عنه الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم كغلو النصارى في عيسى عليه السلام منطلقا من مذهبه في الحلول .
المطلب الثاني : الغلو عند ابن عربي باعتباره ممثلا لمذهب وحدة الوجود وسأتحدث في هذا المطلب عن مذهب ابن عربي في الحقيقة المحمدية التي كان لها أكبر الأثر في انحراف الصوفية من بعده في اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم إذ جعلوه مساويا لله عز وجل في ذاته وصفاته تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
البحث الخامس : آثار الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم ، على الاعتقاد والأعمال ، وسأبين فيه كيف أن الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم كان سببا في إفساد العقيدة وتشويه معالم الدين .
المبحث السادس : حكم الإسلام في الغلو . وسأبين فيه حكم الشرع في الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحكم من اعتقد مقالة الغلاة في الرسول صلى الله عليه وسلم .
الفصل الثاني : الابتـداع .
يتكون هذا الفصل من ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : تعريف البدعة وبيان حكمها
وسأتعرض فيه بشيء من التفصيل إلى أقوال العلماء في تعريف البدعة ، وهل تنقسم إلى حسنة وسيئة أم لا ؟ ثم أتبعه بتحرير محل النزاع بين الفريقين في هذا الموضوع .
المبحث الثاني : البدع التي ظهرت بدعوى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
وسأتحدث فيه عن نماذج من هذه البدع على سبيل المثال لا على سبيل الحصر والإحصاء ، فمن هذه البدع اعتقاد الصوفية بحياة النبي صلى الله عليه وسلم حياة تامة لها كل خصائص الأحياء وبنوا على ذلك زعمهم بأنهم يرونه يقظة لا مناما ، ويجتمعون به ، وسأبين ما انبنى على هذه البدعة من بدع أخرى ومن هذه البدع التوسل غير المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم البدع المتعلقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، ثم بدعة المولد ثم أعرض نماذج من الصيغ المبتدعة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
المبحث الثالث : آثار الابتداع .
وسأتحدث فيه عن آثار البدعة الوخيمة على المبتدع في نفسه ، وعلى الدين ، وعلى المجتمع المسلم وأتبعه ببيان موجز عن كيفية مقاومة البدع .
الخاتمـة :
وسأتحدث فيها عن أهم النتائج التي أتوصل إليها من خلال بحثي في هذا الموضوع .
وقد رسمت لنفسي منهجا في معالجة هذا الموضوع على النحو التالي :
1- أن أقوم بجمع مادة هذا البحث من مظانه المعتبرة حسبما يتيسر لي من مراجع ومصادر .
2- سأقوم بعزو الآيات القرآنية التي ترد في أثناء البحث إلى مواضعها من سور القرآن .
3- تخريج ما يرد من أحاديث في أثناء البحث .
4- الرجوع إلى معاجم اللغة في التعريفات اللغوية .
5- سأترجم لمن يرد ذكره في أثناء البحث من الأعلام غير المشهورين ترجمة موجزة .
6- سأقوم بعزو الأقوال إلى أصحابها ، أو إلى المصدر الذي اقتبسته منه .