الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلي الله عليه وسلم وبعد:
فإن الهدف من هذا
البحث هو بيان مدى مشروعية ما يفعله كثير من الناس ، من الاجتماع في البيوت
والمساجد في أوقات معينة ، أو مناسبات معينة ، أو بعد الصلوات المكتوبة لذكر الله
تعالى بشكل جماعي ، أو يردد أحدهم ويرددون خلفه هذه الأذكار .
ولأن هذا الفعل
قد كثر وشاع بين الناس في كثير من بلدان المسلمين (أي ظاهرة الذكر الجماعي ) في
المساجد والبيوت، والمنتديات وغيرها ، وذلك في كثير من البلدان الإسلامية ، حتى
عمت بها البلوى .
تمهيد : مشروعية الذكر ووجوب الإتباع في العبادة
من المعلوم أن
الذكر من أفضل العبادات ، وهو مأمور به شرعاً كما قال تعالى : { يا أيها الذين
آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً . وسبحوه بكرةً وأصيلاً } [ الأحزاب : 41 ، 42 ] .
فالمسلم مطالب بذكر الله تعالى في كل وقت ، بقلبه ،
وبلسانه ، وبجوارحه ، وهذا الذكر من أعظم مظاهر وبراهين التعلق بالله تعالى ،
ولاسيما أذكار ما بعد الصلاة ، وطرفي النهار ، والأذكار عند العوارض والأسباب ،
فإن الذكر عبادة ترفع درجات صاحبها عند الله ، وينال بها الأجر العظيم دون مشقة أو
تعب وجهد .
لكن ينبغي للمسلم
أن يكون في ذكره لله تعالى ملتزماً بحدود الشريعة ونصوصها ، وهدي النبي صلي الله عليه وسلم، وصحابته وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، وذلك
لأن الإتباع شرط لصحة العمل ، وقبوله عند الله تعالى ، كما قال صلي الله عليه وسلم : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
)) أي باطل مردود على صاحبه
ومما هو معلوم أن
العبادات - ومنها الذكر - كلها توقيفية ، أي : لا مجال فيها للاجتهاد ، بل لابد من
لزوم سنة النبي صلي الله عليه وسلم وشريعته
فيها ، لأنها شرع من عند الله تعالى ، فلا يجوز التقرب إلى الله بتشريع شيء لم
يشرعه الله تعالى ، وإلا كان هذا اعتداءً على حق الله تعالى في التشريع ، ومنازعة
لله تعالى في حكمه ، وقد قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم
يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] .
قال السعدي في
تفسير هذه الآية : ({ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } من الشرك والبدع
وتحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ، ونحو ذلك ، مما اقتضته أهواؤهم مع أن
الدين لا يكون إلا ما شرعه الله تعالى ، ليدين به العباد ويتقربوا به إليه . فالأصل : الحجر على كل أحد أن يشرع شيئاً ما
جاء عن الله ولا عن رسوله ... )) أهـ . فلا ينبغي، بل ولا يجوز التقرب إلى الله
تعالى إلا بما شرع، وبما بيَّن على لسان رسوله صلي الله عليه وسلم. ومن هنا
كان لازماً على المسلم أن يلزم السنة في كل عباداته، وألا يحيد عنها قيد أنملة،
وإلا أحبط عمله وأبطله إذا كان مخالفاً هدي رسول الله صلي الله عليه وسلم في العمل.
ولهذا فإن المسلم
ينبغي له ألا يحدث في ذكره لله شيئاً مخالفاً لما كان عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم هو وأصحابه، وإلا كان مبتدعاً في الدين، محدثاً في
العبادة ما ليس منها.
ومهما استحسن
الإنسان بعقله شيئاً في العبادة ، فإنه - أي الاستحسان - ليس دليلاً على مشروعية
تلك العبادة ، بل إن هذا الاستحسان قد يكون مصادماً لحكم الله تعالى ، فلا ينبغي
أبداً أن يتعبد الإنسان لله تعالى إلا بما شرع الله على لسان رسوله صلي الله عليه
وسلم .
تعريف الذكر الجماعي
الذكر الجماعي يتركب من كلمتين ، وإليك بيان معنى كل منهما :
أولاً ( الذِّكر ): بالكسر: الشيء الذي يجري على اللسان، وتارة يقصد به
الحفظ للشيء.
قال الراغب في المفردات: (( الذكر: تارة يقال ويراد به: هيئة للنفس بها
يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً
باحترازه، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره، وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول. ولذلك قيل منهما ضربان : ذكر عن نسيان . وذكر لا عن نسيان ، بل عن إدامة الحفظ ))
وأما معنى الذكر في الشرع فهو كل قول سيق للثناء والدعاء. أي ما تعبدنا الشارع بلفظ منا يتعلق بتعظيم الله
والثناء عليه، بأسمائه وصفاته، وتمجيده وتوحيده، وشكره وتعظيمه، أو بتلاوة كتابه،
أو بمسألته ودعائه.
ثانياً: معنى ( الجماعي ): هو ما ينطق به المجتمعون للذكر بصوت واحد، يوافق
فيه بعضهم بعضاً.
والمقصود بكلامنا وقولنا : الذكر الجماعي هو ما يفعله بعض الناس من
الاجتماع أدبار الصلوات المكتوبة ، أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت
جماعي أذكاراً وأدعية وأوراداً وراء شخص معين ، أو دون قائد ، لكنهم يأتون بهذه
الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد ، فهذا هو المقصود من وراء هذا البحث
الأدلة علي بدعية
الذكر الجماعي:
أولاً: أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي صلي الله عليه وسلم ولا حث الناس عليه، ولو أمر به أو حث عليه لنُقل
ذلك عنه عليه الصلاة والسلام. وكذلك لم
يُنقل عنه الاجتماع للدعاء بعد الصلاة مع أصحابه .
قال الشاطبي:(
الدعاء بهيئة الاجتماع دائماً لم يكن من فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم ) الاعتصام ( 1 / 219 ).
وقال شيخ الإسلام
ابن تيمية : (( لم ينقل أحد أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو
والمأمومون جميعاً ، لا في الفجر ، ولا في العصر ، ولا في غيرهما من الصلوات ، بل
قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه ويذكر
الله ويعلمهم ذكر الله عقب الخروج من الصلاة ) الفتاوى الكبرى ( 2 / 467 ) .
ثانياً : فعل السلف من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ، فإنهم قد أنكروا على من
فعل هذه البدعة ، كما سيأتي ذلك في النصوص الآتية
عن عمر وابن مسعود وخباب رضي الله عنهم ، ولو لم يكونوا يعدون هذا العمل شيئاً
مخالفاً للسنة ما أنكروا على فاعله ، ولا اشتدوا في الإنكار عليه ، فممَّن أنكر من
الصحابة هذا العمل :
1 - عمر بن الخطاب رضي الله عنه . فقد روى ابن وضاح بسنده إلى أبي عثمان النهدي
قال : (( كتب عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه : أن ها هنا قوماً يجتمعون،
فيدعون للمسلمين وللأمير . فكتب إليه عمر
: أقبل وأقبل بهم معك فأقبل . فقال عمر ،
للبواب : أعِدَّ سوطاً ، فلما دخلوا على عمر ، أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط
. فقلت: يا أمير المؤمنين إننا لسنا أولئك
الذي يعني، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق )) ما جاء في البدع لابن وضاح (54
). وابن أبي شيبة في المصنف ( 8 / 558
) . وسنده حسن
2 - وممن أنكر من الصحابة كذلك الاجتماع للذكر:
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وذلك في الكوفة.
فعن أبي البختري قال : أخبر رجل ابن مسعود رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في
المسجد بعد المغرب ، فيهم رجل يقول : كبروا الله كذا ، وسبحوا الله كذا وكذا ،
واحمدوه كذا وكذا ، واحمدوه كذا وكذا .
قال عبد الله : فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني ، فأخبرني بمجلسهم . فلما جلسوا، أتاه الرجل ، فأخبره . فجاء عبد
الله بن مسعود، فقال: والذي لا إله إلا غيره ، لقد جئتم ببدعة ظلماً ، أو قد فضلتم
أصحاب محمد علماً . فقال عمرو بن عتبة :
نستغفر الله . فقال: (( عليكم الطريق فالزموه،
ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً ))(61) الدرامي ( 1 / 68 - 69 ) بإسناد جيد. وأورده السيوطي في الأمر بالإتباع
( ص 83 - 84 )
3 - وممن أنكر عليهم من الصحابة : خباب بن الأرت ، فقد
روى ابن وضاح بسند صحيح عن عبد الله بن أبي هذيل العنزي عن عبد الله بن الخباب قال
: (( بينما نحن في المسجد ، ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي . فأرسل إليَّ أبي . فوجدته قد احتجز معه هراوة له . فأقبل عليَّ .
فقلت: يا أبت ! مالي مالي ؟! قال: ألم أرك جالساً مع العمالقة (والعملقة:
التعمق في الكلام. فشبَّه القصاص بهم لما
في بعضهم من الكبر والاستطالة على الناس.
أو بالذين يخدعونهم بكلامهم. وهو
أشبه) ؟ ثم قال : هذا قرن خارجٌ الآن )) ) ابن وضاح في البدع
والنهي عنها ( ص 32 رقم 32 ) ، وابن أبي شيبة في المصنف ( 8 / 559 ) ، كما أنكر عامة التابعين رحمهم الله تعالى كذلك
هذه البدع ومن جملة ذلك : كراهية الإمام مالك الاجتماع لختم القرآن في ليلة من
ليالي رمضان . وكراهيته الدعاء عقب الفراغ من قراءة القرآن بصورة جماعية كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي( ص 62 ، 63 - )68 . وقد نقل الشاطبي
في فتاواه ص ( 206 - 208 ) كراهية مالك الاجتماع لقراءة الحزب، وقوله: إنه شيء أُحدث،
وإن السلف كانوا أرغب للخير، فلو كان خيراً لسبقونا إليه )
فهذه النقول ،
التي أوردناها في هذا الباب ، كلها توضح أن السلف - رضي الله عنهم - كانوا لا يرون
مشروعية الاجتماع للذكر بالصورة التي أحدثها الخلف . ولله در السلف ! ما كان خير إلا سبقوا إليه ،
ولا كانت بدعة منكرة إلا كانوا أبعد الناس عنها ، محذرين منها . فما من إنسان يخالف هديهم إلا كان تاركاً لسبل
الخير ، معرضاً عنها ، مقتحماً أبواب الضلال .
فلو كان الذكر
الجماعي مشروعاً أو مستحباً لفعله السلف، ولو فعلوه لنُقل عنهم، ولَوَرَدَ إلينا. فلما لم يُنقل ذلك عنهم، بل نُقل عنهم ما يخالف
من الإنكار على فاعله، كما حدث من ابن عمر، وابن مسعود، وغيرهما. دل ذلك على أن هذا العمل غير مشروع أصلاً.
ثالثاً : النصوص العامة التي فيها المنع من الابتداع
في الدين ، كحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس
منه فهو رد )) متفق عليه . ومعلوم أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي صلي الله عليه وسلم ولم يدل عليه ، فلو شرعه النبي صلي الله عليه وسلم لأمر به وحث الناس عليه ، ولشاع ذلك عنه صلي الله عليه وسلم بينهم مع قيام المقتضى .
رابعاً : أن في القول باستحباب الذكر الجماعي استدراكاً
على شريعة النبي صلي الله عليه وسلم بحيث إن
المبتدعين له شرعوا أحكاماً لم يشرعها النبي صلي الله عليه وسلم
، قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من
الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] . فلما لم يشرع النبي صلي الله عليه وسلم لأمته هذا العمل، دل ذلك على بدعيته .
خامساً : مفاسد الذكر الجماعي فمن هذه المفاسد :
الأولى: مخالفة هدي النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فإنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك. ولا شك أن ما خالف هدي النبي صلي الله عليه وسلم وهدي أصحابه الكرام رضي الله عنهم، فهو بدعة ضلالة. ولو كان خيراً لفعله صلي الله عليه وسلم، ولتبعه في ذلك الصحابة الكرام، ولنقل ذلك عنهم ولا
شك. فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على أنهم لم
يفعلوه. وما لم يكن ديناً في زمانهم فليس
بدين اليوم الثانية : الخروج عن السمت والوقار ، فإن الذكر الجماعي قد يتسبب في التمايل
، ثم الرقص ، ونحو ذلك ، وهذا لا يجوز بحال ، بل هو منافٍ للوقار الواجب عند ذكر
الله تعالى ، وحال أهل الطرق الصوفية معروف في هذا الباب .
الثالثة: التشويش على المصلين، والتالين للقرآن،
وذلك إذا كان الذكر الجماعي في المساجد.
ولاشك أن المجيزين له يعدون المساجد أعظم الأماكن التي يتم الالتقاء فيها
للذكر الجماعي.
الرابعة : أنه قد
يحصل من الذاكرين تقطيع في الآيات، أو إخلال بها وبأحكام تلاوتها، أو بأذكار مما
يجتمع عليها ، كما لو أن أحدهم قد انقطع نَفَسُه ثم أراد إكمال الآية فوجد الجماعة
قد سبقوه ، فيضطر لترك ما فاته واللحاق بالجماعة فيما يقرأون . أو أن يكون بعض القارئين مخلاً بالأحكام فيضطر
المجيد للأحكام إلى مجاراتهم حتى لا يحصل نشاز وتعارض ، ونحو ذلك .
الخامسة: أن في الذكر الجماعي تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في
كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية جماعة وبصوت واحد. وهذا التشبه بأهل الكتاب مع ورود النهي الشديد
عن موافقتهم في دينهم دليل واضح على عدم جواز الذكر الجماعي .
السادسة : أن فتح باب الذكر الجماعي قد يؤدي إلى أن تتبع كل طائفة شيخاً
معيناً يجارونه فيما يذكر ، وفيما يقول ، ولو أدى ذلك إلى ظهور أذكار مبتدعة ،
ويزداد التباعد بين أرباب هذه الطرق يوماً بعد يوم ؛ لأن السنة تجمع ، والبدعة
تفرق
السابعة : أن اعتياد الذكر الجماعي قد يؤدي ببعض
الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجد من يشاركه ، وذلك لاعتياده
الذكر الجماعي دون غيره .
ولاشك أن للذكر الجماعي
مفاسد أخرى، وفيما ذكرت كفاية،،،، ولله
الحمد .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلي الله عليه وسلم وبعد:
فإن الهدف من هذا
البحث هو بيان مدى مشروعية ما يفعله كثير من الناس ، من الاجتماع في البيوت
والمساجد في أوقات معينة ، أو مناسبات معينة ، أو بعد الصلوات المكتوبة لذكر الله
تعالى بشكل جماعي ، أو يردد أحدهم ويرددون خلفه هذه الأذكار .
ولأن هذا الفعل
قد كثر وشاع بين الناس في كثير من بلدان المسلمين (أي ظاهرة الذكر الجماعي ) في
المساجد والبيوت، والمنتديات وغيرها ، وذلك في كثير من البلدان الإسلامية ، حتى
عمت بها البلوى .
تمهيد : مشروعية الذكر ووجوب الإتباع في العبادة
من المعلوم أن
الذكر من أفضل العبادات ، وهو مأمور به شرعاً كما قال تعالى : { يا أيها الذين
آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً . وسبحوه بكرةً وأصيلاً } [ الأحزاب : 41 ، 42 ] .
فالمسلم مطالب بذكر الله تعالى في كل وقت ، بقلبه ،
وبلسانه ، وبجوارحه ، وهذا الذكر من أعظم مظاهر وبراهين التعلق بالله تعالى ،
ولاسيما أذكار ما بعد الصلاة ، وطرفي النهار ، والأذكار عند العوارض والأسباب ،
فإن الذكر عبادة ترفع درجات صاحبها عند الله ، وينال بها الأجر العظيم دون مشقة أو
تعب وجهد .
لكن ينبغي للمسلم
أن يكون في ذكره لله تعالى ملتزماً بحدود الشريعة ونصوصها ، وهدي النبي صلي الله عليه وسلم، وصحابته وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، وذلك
لأن الإتباع شرط لصحة العمل ، وقبوله عند الله تعالى ، كما قال صلي الله عليه وسلم : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
)) أي باطل مردود على صاحبه
ومما هو معلوم أن
العبادات - ومنها الذكر - كلها توقيفية ، أي : لا مجال فيها للاجتهاد ، بل لابد من
لزوم سنة النبي صلي الله عليه وسلم وشريعته
فيها ، لأنها شرع من عند الله تعالى ، فلا يجوز التقرب إلى الله بتشريع شيء لم
يشرعه الله تعالى ، وإلا كان هذا اعتداءً على حق الله تعالى في التشريع ، ومنازعة
لله تعالى في حكمه ، وقد قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم
يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] .
قال السعدي في
تفسير هذه الآية : ({ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } من الشرك والبدع
وتحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ، ونحو ذلك ، مما اقتضته أهواؤهم مع أن
الدين لا يكون إلا ما شرعه الله تعالى ، ليدين به العباد ويتقربوا به إليه . فالأصل : الحجر على كل أحد أن يشرع شيئاً ما
جاء عن الله ولا عن رسوله ... )) أهـ . فلا ينبغي، بل ولا يجوز التقرب إلى الله
تعالى إلا بما شرع، وبما بيَّن على لسان رسوله صلي الله عليه وسلم. ومن هنا
كان لازماً على المسلم أن يلزم السنة في كل عباداته، وألا يحيد عنها قيد أنملة،
وإلا أحبط عمله وأبطله إذا كان مخالفاً هدي رسول الله صلي الله عليه وسلم في العمل.
ولهذا فإن المسلم
ينبغي له ألا يحدث في ذكره لله شيئاً مخالفاً لما كان عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم هو وأصحابه، وإلا كان مبتدعاً في الدين، محدثاً في
العبادة ما ليس منها.
ومهما استحسن
الإنسان بعقله شيئاً في العبادة ، فإنه - أي الاستحسان - ليس دليلاً على مشروعية
تلك العبادة ، بل إن هذا الاستحسان قد يكون مصادماً لحكم الله تعالى ، فلا ينبغي
أبداً أن يتعبد الإنسان لله تعالى إلا بما شرع الله على لسان رسوله صلي الله عليه
وسلم .
تعريف الذكر الجماعي
الذكر الجماعي يتركب من كلمتين ، وإليك بيان معنى كل منهما :
أولاً ( الذِّكر ): بالكسر: الشيء الذي يجري على اللسان، وتارة يقصد به
الحفظ للشيء.
قال الراغب في المفردات: (( الذكر: تارة يقال ويراد به: هيئة للنفس بها
يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً
باحترازه، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره، وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول. ولذلك قيل منهما ضربان : ذكر عن نسيان . وذكر لا عن نسيان ، بل عن إدامة الحفظ ))
وأما معنى الذكر في الشرع فهو كل قول سيق للثناء والدعاء. أي ما تعبدنا الشارع بلفظ منا يتعلق بتعظيم الله
والثناء عليه، بأسمائه وصفاته، وتمجيده وتوحيده، وشكره وتعظيمه، أو بتلاوة كتابه،
أو بمسألته ودعائه.
ثانياً: معنى ( الجماعي ): هو ما ينطق به المجتمعون للذكر بصوت واحد، يوافق
فيه بعضهم بعضاً.
والمقصود بكلامنا وقولنا : الذكر الجماعي هو ما يفعله بعض الناس من
الاجتماع أدبار الصلوات المكتوبة ، أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت
جماعي أذكاراً وأدعية وأوراداً وراء شخص معين ، أو دون قائد ، لكنهم يأتون بهذه
الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد ، فهذا هو المقصود من وراء هذا البحث
الأدلة علي بدعية
الذكر الجماعي:
أولاً: أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي صلي الله عليه وسلم ولا حث الناس عليه، ولو أمر به أو حث عليه لنُقل
ذلك عنه عليه الصلاة والسلام. وكذلك لم
يُنقل عنه الاجتماع للدعاء بعد الصلاة مع أصحابه .
قال الشاطبي:(
الدعاء بهيئة الاجتماع دائماً لم يكن من فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم ) الاعتصام ( 1 / 219 ).
وقال شيخ الإسلام
ابن تيمية : (( لم ينقل أحد أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو
والمأمومون جميعاً ، لا في الفجر ، ولا في العصر ، ولا في غيرهما من الصلوات ، بل
قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه ويذكر
الله ويعلمهم ذكر الله عقب الخروج من الصلاة ) الفتاوى الكبرى ( 2 / 467 ) .
ثانياً : فعل السلف من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ، فإنهم قد أنكروا على من
فعل هذه البدعة ، كما سيأتي ذلك في النصوص الآتية
عن عمر وابن مسعود وخباب رضي الله عنهم ، ولو لم يكونوا يعدون هذا العمل شيئاً
مخالفاً للسنة ما أنكروا على فاعله ، ولا اشتدوا في الإنكار عليه ، فممَّن أنكر من
الصحابة هذا العمل :
1 - عمر بن الخطاب رضي الله عنه . فقد روى ابن وضاح بسنده إلى أبي عثمان النهدي
قال : (( كتب عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه : أن ها هنا قوماً يجتمعون،
فيدعون للمسلمين وللأمير . فكتب إليه عمر
: أقبل وأقبل بهم معك فأقبل . فقال عمر ،
للبواب : أعِدَّ سوطاً ، فلما دخلوا على عمر ، أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط
. فقلت: يا أمير المؤمنين إننا لسنا أولئك
الذي يعني، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق )) ما جاء في البدع لابن وضاح (54
). وابن أبي شيبة في المصنف ( 8 / 558
) . وسنده حسن
2 - وممن أنكر من الصحابة كذلك الاجتماع للذكر:
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وذلك في الكوفة.
فعن أبي البختري قال : أخبر رجل ابن مسعود رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في
المسجد بعد المغرب ، فيهم رجل يقول : كبروا الله كذا ، وسبحوا الله كذا وكذا ،
واحمدوه كذا وكذا ، واحمدوه كذا وكذا .
قال عبد الله : فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني ، فأخبرني بمجلسهم . فلما جلسوا، أتاه الرجل ، فأخبره . فجاء عبد
الله بن مسعود، فقال: والذي لا إله إلا غيره ، لقد جئتم ببدعة ظلماً ، أو قد فضلتم
أصحاب محمد علماً . فقال عمرو بن عتبة :
نستغفر الله . فقال: (( عليكم الطريق فالزموه،
ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً ))(61) الدرامي ( 1 / 68 - 69 ) بإسناد جيد. وأورده السيوطي في الأمر بالإتباع
( ص 83 - 84 )
3 - وممن أنكر عليهم من الصحابة : خباب بن الأرت ، فقد
روى ابن وضاح بسند صحيح عن عبد الله بن أبي هذيل العنزي عن عبد الله بن الخباب قال
: (( بينما نحن في المسجد ، ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي . فأرسل إليَّ أبي . فوجدته قد احتجز معه هراوة له . فأقبل عليَّ .
فقلت: يا أبت ! مالي مالي ؟! قال: ألم أرك جالساً مع العمالقة (والعملقة:
التعمق في الكلام. فشبَّه القصاص بهم لما
في بعضهم من الكبر والاستطالة على الناس.
أو بالذين يخدعونهم بكلامهم. وهو
أشبه) ؟ ثم قال : هذا قرن خارجٌ الآن )) ) ابن وضاح في البدع
والنهي عنها ( ص 32 رقم 32 ) ، وابن أبي شيبة في المصنف ( 8 / 559 ) ، كما أنكر عامة التابعين رحمهم الله تعالى كذلك
هذه البدع ومن جملة ذلك : كراهية الإمام مالك الاجتماع لختم القرآن في ليلة من
ليالي رمضان . وكراهيته الدعاء عقب الفراغ من قراءة القرآن بصورة جماعية كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي( ص 62 ، 63 - )68 . وقد نقل الشاطبي
في فتاواه ص ( 206 - 208 ) كراهية مالك الاجتماع لقراءة الحزب، وقوله: إنه شيء أُحدث،
وإن السلف كانوا أرغب للخير، فلو كان خيراً لسبقونا إليه )
فهذه النقول ،
التي أوردناها في هذا الباب ، كلها توضح أن السلف - رضي الله عنهم - كانوا لا يرون
مشروعية الاجتماع للذكر بالصورة التي أحدثها الخلف . ولله در السلف ! ما كان خير إلا سبقوا إليه ،
ولا كانت بدعة منكرة إلا كانوا أبعد الناس عنها ، محذرين منها . فما من إنسان يخالف هديهم إلا كان تاركاً لسبل
الخير ، معرضاً عنها ، مقتحماً أبواب الضلال .
فلو كان الذكر
الجماعي مشروعاً أو مستحباً لفعله السلف، ولو فعلوه لنُقل عنهم، ولَوَرَدَ إلينا. فلما لم يُنقل ذلك عنهم، بل نُقل عنهم ما يخالف
من الإنكار على فاعله، كما حدث من ابن عمر، وابن مسعود، وغيرهما. دل ذلك على أن هذا العمل غير مشروع أصلاً.
ثالثاً : النصوص العامة التي فيها المنع من الابتداع
في الدين ، كحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس
منه فهو رد )) متفق عليه . ومعلوم أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي صلي الله عليه وسلم ولم يدل عليه ، فلو شرعه النبي صلي الله عليه وسلم لأمر به وحث الناس عليه ، ولشاع ذلك عنه صلي الله عليه وسلم بينهم مع قيام المقتضى .
رابعاً : أن في القول باستحباب الذكر الجماعي استدراكاً
على شريعة النبي صلي الله عليه وسلم بحيث إن
المبتدعين له شرعوا أحكاماً لم يشرعها النبي صلي الله عليه وسلم
، قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من
الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] . فلما لم يشرع النبي صلي الله عليه وسلم لأمته هذا العمل، دل ذلك على بدعيته .
خامساً : مفاسد الذكر الجماعي فمن هذه المفاسد :
الأولى: مخالفة هدي النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فإنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك. ولا شك أن ما خالف هدي النبي صلي الله عليه وسلم وهدي أصحابه الكرام رضي الله عنهم، فهو بدعة ضلالة. ولو كان خيراً لفعله صلي الله عليه وسلم، ولتبعه في ذلك الصحابة الكرام، ولنقل ذلك عنهم ولا
شك. فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على أنهم لم
يفعلوه. وما لم يكن ديناً في زمانهم فليس
بدين اليوم الثانية : الخروج عن السمت والوقار ، فإن الذكر الجماعي قد يتسبب في التمايل
، ثم الرقص ، ونحو ذلك ، وهذا لا يجوز بحال ، بل هو منافٍ للوقار الواجب عند ذكر
الله تعالى ، وحال أهل الطرق الصوفية معروف في هذا الباب .
الثالثة: التشويش على المصلين، والتالين للقرآن،
وذلك إذا كان الذكر الجماعي في المساجد.
ولاشك أن المجيزين له يعدون المساجد أعظم الأماكن التي يتم الالتقاء فيها
للذكر الجماعي.
الرابعة : أنه قد
يحصل من الذاكرين تقطيع في الآيات، أو إخلال بها وبأحكام تلاوتها، أو بأذكار مما
يجتمع عليها ، كما لو أن أحدهم قد انقطع نَفَسُه ثم أراد إكمال الآية فوجد الجماعة
قد سبقوه ، فيضطر لترك ما فاته واللحاق بالجماعة فيما يقرأون . أو أن يكون بعض القارئين مخلاً بالأحكام فيضطر
المجيد للأحكام إلى مجاراتهم حتى لا يحصل نشاز وتعارض ، ونحو ذلك .
الخامسة: أن في الذكر الجماعي تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في
كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية جماعة وبصوت واحد. وهذا التشبه بأهل الكتاب مع ورود النهي الشديد
عن موافقتهم في دينهم دليل واضح على عدم جواز الذكر الجماعي .
السادسة : أن فتح باب الذكر الجماعي قد يؤدي إلى أن تتبع كل طائفة شيخاً
معيناً يجارونه فيما يذكر ، وفيما يقول ، ولو أدى ذلك إلى ظهور أذكار مبتدعة ،
ويزداد التباعد بين أرباب هذه الطرق يوماً بعد يوم ؛ لأن السنة تجمع ، والبدعة
تفرق
السابعة : أن اعتياد الذكر الجماعي قد يؤدي ببعض
الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجد من يشاركه ، وذلك لاعتياده
الذكر الجماعي دون غيره .
ولاشك أن للذكر الجماعي
مفاسد أخرى، وفيما ذكرت كفاية،،،، ولله
الحمد .
عدل سابقا من قبل أبو عبد الله أحمد بن نبيل في 07.09.08 5:14 عدل 4 مرات