الرد بإتقان على الجاهل الخوان
الذي نسف قاعدة
"كلام الأقران"
بالهوى والذان
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده، أما بعد:الذي نسف قاعدة
"كلام الأقران"
بالهوى والذان
بسم الله الرحمان الرحيم
لقد وقفت على كلام لأحد المتطاولين على شيخنا حفظه الله تعالى نشره بموقع سحاب فحواه:
1- أنَّ القاعدةَ المشهورة "كلام الأقران يطوى ولا يروى" قاعدة مزعومة باطلة.
2- وأنَّه يلهج بها كثيرٌ ممَّن يتعصَّب لمشايخهم.
3- وأنها في الحقيقة قاعدةٌ اخترعها أهلُ البدع ليحموا بها كبرائهم.
4- ولا يليق بسلفيٍّ شمَّ رائحة السَّلفية أنْ يردِّد كلامهم دون وعْي، ولا إدراك لمعناه.
5- وأنَّ أهل الباطل أرادوا بهذه القاعدة المزعومة إبطال كلام أهل السنة في زعمائهم.
6- وأنَّ هذه الكلمة عند أهل السنّة استثناء من قاعدة: "مَن عَلِم حجة على مَن لم يعلم"، وقاعدة: "الجرح المفسّر مقدَّمٌ على التعديل".
7- وأنَّه لا يُعمَل بها إلا في حدود ضيقة، و بشروط.
هذا ملخَّص القول، وأصلُه طلبُ مَدَدٍ من القرَّاء بكلام أحد العلماء الفضلاء لتفنيد هاته القاعدة.
وحين قرأت ذاك استغربته، إذْ كيف يخفى تقريرُ حفَّاظِ الملَّة وحماة الشريعة لمثل هذه القاعدة؛ والتي بثُّوها في مصنَّفاتهم المشهورة، ولقَّنوها للآخدين عنهم نَهْج السلف، لئلا تحكمَهم الأهواءُ والعصبيةُ؛ فتجرَّهم إلى الفرقة والاختلاف من غير مُوجِب شرعي، أو مُسوِّغ علمي، ويقَطِّعوا أمرهم بينهم زُبُرًا؛ كلٌ بما لديه فرِحٌ مسرورٌ، وهم صيدٌ في حبائل الشيطان الغرور.
وازداد استغرابي حين لم أر من نبه من القراء صاحب المقال على غلطه ذا؛ فكتبت إليه برسالة نصح وبيان مع أحد الإخوان، ولا أدري ما كان موقفه مما نقلته إليه من كلام الأيمة الأعلام. ورغبةً في نفع إخواني بما كتبته في هذا الموضوع، وطمعًا في توجيهاتهم وتنبيهاتهم أحببت عرضه عليهم هنا، فأقول مستعينا بالله وحده:
أولا: مما ينبغي على السَّلفي أنْ يعيَه أنْ يكون ساعيا في نشر الخير، ومعينا عليه، ومفتاحا له، ساعيا في كف الشر، ناهيا عنه، ومغلاقا له؛ فطوبى لعبد جعله الله جل وعلا كذلك، كما صحَّ في الخبر.
ومن المحزنِ جدًّا أنَّ مثل هاته الخصال قلَّت في الشباب السَّلفي - أولى الناس بالحق -، فيا أسفى على حالنا، وإلى الله المشتكى.
ثانيا: ذكر صاحب المقال - هداه الله - أنه عازمٌ على كتابة بحث حول القاعدة، وقبل ذاك حكم عليها بأنها مزعومة مفنَّدة، وهذا لا يستقيم عند ذوي الأفهام؛ فكيف يُحكَم على شيء قبل النظر فيه، والبحث عنه، فليس هذا بسبيل العلم والمعرفة.
وأهل السُّنة يطلبون الدليل ثم يقولون بما دل عليه، لا أن يعتقدوا القول ثم يتطلَّبون له حجةً؛ لأن ذلك طريق البدعة والانحراف.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: وكذلك مَن قال في الدِّين قولا بلا دليل شرعي فإنه تذرع إلى البدعة وإنْ تبيَّن له فيما بعد موافقته للسنة.اهـ درء تعارض العقل والنقل 1/140.
ثالثا: قرَّر صاحب المقال أنَّ هذه القاعدة باطلة، وكان ينبغي أن يوضِّح للقراء وجه بطلانها، ومن أبطل من أهل العلم المحقِّقين؛ فالقاعدة مشهورة بين طلاب العلم، ومنثورة في كتب العلماء؛ فنسْفُها على هذا النحو من غير تبيين ولا توثيق لا يليق.
رابعا: كونُ هذه القاعدة يلهج بها المتعصبة، وأنَّ أهل الباطل أرادوا بهذه القاعدة المزعومة إبطال كلام أهل السنة في زعمائهم. فهذا لا يلزم منه بطلانُها من أصلها أو صوابُها، بل السبيل إلى معرفة ذلك هو الرجوع إلى منهج السلف، وههنا أمرٌ مهم ينبغي التفطُّنُ له؛ وهو: أنَّ البعض إذا سمع كلاما من أهل البدع أو قرأ مقالا لمن يخالف سبيل السلف سارع إلى رده من حينه وبطريق غير سديدة، وقد يكون ما قرَّره ذلك المخالف صوابا لكن لماَّ لم يُعلَم إلا من طريقه رُدَّ؛ نعم صُدُوره ممن عُلمت مخالفتُه لأهل الحق مما يُوجب الريبة، لكن القطع بخطأ ما قاله فهذا بابه الحجة والبرهان، والمسارعة إلى تغليطه من غير تحقيق أو تدقيق قد يُوقع في الغلط، وعدم التنبه لمثل هذا جرّ أقواما إلى البدعة والانحراف، بل كثير من البدع والأقوال الباطلة نشأت من رد الباطل بطريق غير مشروع، ولذا ذمَّ السلف مَن ردَّ الأقوال الفاسدة المحدثة بطريقة أهل الكلام وإنْ قصد صاحبُها الدفاعَ عن الحق وقالوا ردَّ بدعةً ببدعة وقابل باطلا بباطل.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في بيان معنى قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ): وَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ التَّفْسِيرُ وَمَعْرِفَةُ الْمَعْنَى وَيُوقَفَ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا خَطَأٌ قَطْعًا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَقُولُ مَا يُنَاقِضُهُ . وَهَذَا الْقَوْلُ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَيُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الرِّسَالَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ لَمْ يَتَدَبَّرُوا لَوَازِمَهُ وَحَقِيقَتَهُ بَلْ أَطْلَقُوهُ وَكَانَ أَكْبَرُ قَصْدِهِمْ دَفْعَ تَأْوِيلَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ لِلْمُتَشَابِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَصَدُوهُ حَقٌّ وَكُلُّ مُسْلِمٍ يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ ؛ لَكِنْ لَا نَدْفَعُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ آخَرَ وَلَا نَرُدُّ بِدْعَةً بِبِدْعَةٍ.اهـ مجموع الفتاوى 17/419.
وقال أيضا - رحمه الله -: هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات والجدل باطلا وإن قصد به نصر الكتاب والسنة فيذمون من قابل بدعة ببدعة وقابل الفاسد بالفاسد.اهـ درء تعارض العقل والنقل 3/374
خامسا: ذكر صاحب المقال أنَّ هذه القاعدة اخترعها أهل البدع ليحموا بها كبرائهم. فإن كنت يا صاحب المقال وقفت على من اخترعها أو على من ذكر هذا الكلام من أهل العلم فأرجو إفادتي بذلك، وإلا فالذي أعلمه من كلام أهل العلم خلاف ما ذكرت، وإليك بعض ما وقفت عليه من كلامهم:
1- قال الحافظ أبو زرعة الدمشقي: حدثني أحمد بن صالح قال: قلت لابن وهب ما كان مالك يقول في ابن سمعان، قال: لا تقبل قول بعضهم في بعض.
تاريخ أبي زرعة الدمشقي ص166 ت832؛ ومن طريقه ابن عدي في الكامل 4/126؛ وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/1106؛ وابن عساكر في تاريخ دمشق 28/278
2- قال أمير المؤمنين في الحديث وجبل الحفظ محمد بن إسماعيل البخاري: ولو صحَّ عن مالك تناوله من ابن إسحاق فلربما تكلم الإنسان فيرمي صاحبه بشيء واحد ولا يتهمه في الأمور كلها. وقال إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فليح: نهاني مالك عن شيخين من قريش وقد أكثر عنهما في الموطأ، وهما مما يحتج بحديثهما، ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم نحو ما يذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي وكلام الشعبي في عكرمة، وفيمن كان قبلهم ، وتأويل بعضهم في العرض والنفس، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة ولم يسقط عدالتهم إلا ببرهان ثابت وحجة، والكلام في هذا كثير.اهـ جزء القراءة خلف الإمام ص40
قال المؤرِّخُ السَّلفي الحافظ الذهبي - بعد نقله لهذا الكلام - : قلت: لسنا ندّعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر، ولا من الكلام بنفس حاد فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة، وقد عُلم أنَّ كثيرا من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر لا عبرة به، ولا سيما إذا وَثَّق الرجلَ جماعةٌ يلوح على قولهم الإنصاف، وهذان الرجلان كل منهما قد نال من صاحبه، لكن أثر كلام مالك في محمد بعض اللين، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة، وارتفع مالك، وصار كالنجم، والآخر فله ارتفاع بحسبه، ولاسيما في السير، وأما في أحاديث الأحكام، فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذ فيه، فإنه يعد منكرا. هذا الذي عندي في حاله، والله أعلم.اهـ السير 7/40-41
3- قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس، وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أنَّ مَن صحَّت عدالتُه وثبتت في العلم أمانتُه، وبانت ثقته وعنايته بالعلم، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قاله لبراءته من الغل والحسد والعداوة والمنافسة وسلامته من ذلك كله، فذلك كله يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته ولا عرفت عدالته ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه، والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين أن السلف -رضوان الله عليهم- قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد، كما قال ابن عباس ومالك بن دينار وأبو حازم، ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم القول فيه ما قاله القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا لا يزم تقليدهم في شيء منه دون برهان ولا حجة توجبه، ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلة الثقات السادة بعضهم في بعض مما لا يجب أن يلتفت فيهم إليه ولا يعرج عليه ما يوضح لك صحة ما ذكرنا، والله بالتوفيق.اهـ جامع بيان العلم وفضله: 2/1093-1094
4- ووقع بين محمد بن عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن سليمان مطين الحضرمي كلام حتى خرج كل واحد منهما إلى الخشونة والوقيعة في صاحبه.
قال الحافظ أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني المعروف بالإستراباذي(1):
وقد كنت وقفت على تعصب وقع بينهما بالكوفة سنة سبعين وعلى أحاديث ينكر كل واحد منهما على صاحبه ثم ظهر أنَّ الصوابَ الإمساك عن القبول عن كلِّ واحد منهما في صاحبه.اهـ
وقال الذهبي في ترجمة مطين الحافظ :حط عليه محمد بن عثمان بن أبي شيبة وحط هو على ابن أبي شيبة وآل أمرهما إلى القطيعة ولا يعتد بحمد الله بكثير من كلام الأقران بعضهم في بعض.اهـ الميزان 3/607
وقال أيضا: وقد تكلم فيه محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وتكلم هو في ابن عثمان، فلا يعتد غالبا بكلام الأقران، لا سيما إذا كان بينهما منافسة، فقد عدد ابن عثمان لمطين نحوا من ثلاثة أوهام، فكان ماذا ؟ ومطين أوثق الرجلين، ويكفيه تزكية مثل الدارقطني له.اهـ
السير 14/42
5- قال أبان العطار: ذُكر يحيى بن أبي كثير عند قتادة، فقال: متى كان العلم في السَّمَّاكين، فذُكر قتادةُ عند يحيى، فقال: لا يزال أهل البصرة بشر ما كان فيهم قتادة.
قال الحافظ الذهبي: قلت: كلام الأقران يطوى ولا يروى، فإنْ ذُكر تأمَّله المحدِّث، فإنْ وجد له متابعا، وإلا أعرض عنه.اهـ السير 5/275
6- قال الإمام أحمد بن حنبل: بلغ ابن أبي ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث "البيعان بالخيار" فقال: يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه.
ثم قال أحمد: هو أورع وأقول بالحق من مالك.
قال الحافظ الذهبي قلت: لو كان ورعا كما ينبغي، لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم. فمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث، لأنه رآه منسوخا. وقيل: عمل به وحمل قوله: " حتى يتفرقا " على التلفظ بالإيجاب والقبول، فمالك في هذا الحديث، وفي كل حديث، له أجر ولا بد، فإن أصاب، ازداد أجرا آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية.
وبكل حال فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يعول على كثير منه، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه، ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته هذه، بل هما عالما المدينة في زمانهما - رضي الله عنهما - ولم يسندها الإمام أحمد، فلعلها لم تصح.اهـ
السير: 7/142-143
7- قال الحافظ الذهبي: كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية، لا يلتفت إليه، بل يطوى ولا يروى، كما تقرَّر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفو القلوب، وتتوفر على حب الصحابة، والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علَّمنا الله تعالى حيث يقول: ﴿ والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ﴾ [ الحشر: 10 ] فالقوم لهم سوابق، وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محَّاء، وعبادة ممحِّصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة، نقطع بأن بعضهم أفضل من بعض، ونقطع بأن أبا بكر وعمر أفضل الأمة، ثم تتمة العشرة المشهود لهم بالجنة، وحمزة وجعفر ومعاذ وزيد، وأمهات المؤمنين، وبنات نبينا صلى الله عليه وسلم، وأهل بدر مع كونهم على مراتب، ثم الأفضل بعدهم مثل أبي الدرداء وسلمان الفارسي وابن عمر وسائر أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم بنص آية سورة الفتح، ثم عموم المهاجرين والأنصار كخالد ابن الوليد والعباس، وعبد الله بن عمرو، وهذه الحلبة، ثم سائر من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهد معه، أو حج معه، أو سمع منه، رضي الله عنهم أجمعين، وعن جميع صواحب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرات، والمدنيات، وأم الفضل، وأم هانئ الهاشمية، وسائر الصحابيات.
فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك، فلا نُعرِّج عليه، ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب الروافض رواية الأباطيل، أو ردُّ ما في الصِّحاح والمسانيد، ومتى إفاقة مَن به سكران ؟!، ثم قد تكلم خلق من التابعين بعضهم في بعض، وتحاربوا، وجرت أمور لا يمكن شرحها، فلا فائدة في بثها، ووقع في كتب التواريخ وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة، والعاقل خصم نفسه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ولحوم العلماء مسمومة، وما نقل من ذلك لتبيين غلط العالم، وكثرة وهمه، أو نقص حفظه، فليس من هذا النمط، بل لتوضيح الحديث الصحيح من الحسن، والحسن من الضعيف.
وإمامنا - يعني الشافعي -، فبحمد الله ثبْتٌ في الحديث، حافظٌ لما وعى، عديم الغلط، موصوف بالإتقان، متين الديانة، فمن نال منه بجهل وهوى ممن علم أنه منافس له، فقد ظلم نفسه، ومقتته العلماء، ولاح لكل حافظ تحامله، وجر الناس برجله، ومن أثنى عليه، واعترف بإمامته وإتقانه، وهم أهل العقد والحل قديما وحديثا، فقد أصابوا، وأجملوا، وهدوا، ووفقوا.
وأما أئمتنا اليوم وحكامنا، فإذا أعدموا ما وجد من قدح بهوى، فقد يقال: أحسنوا ووفقوا، وطاعتهم في ذلك مفترضة لما قد رأوه من حسم مادة الباطل والشر. وبكل حال فالجهال والضلال قد تكلموا في خيار الصحابة. وفي الحديث الثابت: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدا، وإنه ليرزقهم ويعافيهم".
وقد كنت وقفت على بعض كلام المغاربة في الإمام رحمه الله، فكانت فائدتي من ذلك تضعيف حال من تعرض إلى الإمام، ولله الحمد.
ولا ريب أنَّ الإمام لما سكن مصر، وخالف أقرانه من المالكية، ووهى بعض فروعهم بدلائل السنة، وخالف شيخه في مسائل، تألموا منه، ونالوا منه، وجرت بينهم وحشة، غفر الله للكل، وقد اعترف الإمام سحنون، وقال: لم يكن في الشافعي بدعة(2).
فصدق والله، فرحم الله الشافعي، وأين مثل الشافعي والله ! في صدقه، وشرفه، ونبله، وسعة علمه، وفرط ذكائه، ونصره للحق، وكثرة مناقبه، رحمه الله تعالى.اهـ السير 10/92-95
8- قال أبو بكر المروذي: ذكر أحمد بن حنبل هشام بن عمار، فقال: طياش خفيف.
قال الحافظ الذهبي: قلت: أما قول الإمام فيه: طياش، فلأنه بلغه عنه أنه قال في خطبته: الحمد الله الذي تجلى لخلقه بخلقه.
فهذه الكلمة لا ينبغي إطلاقها، وإن كان لها معنى صحيح، لكن يحتج بها الحلولي والاتحادي. وما بلغنا أنه سبحانه وتعالى تجلى لشيء إلا بجبل الطور، فصيره دكا. وفي تجليه لنبينا، صلى الله عليه وسلم، اختلاف أنكرته عائشة، وأثبته ابن عباس.
وبكل حال كلام الأقران بعضهم في بعض يحتمل، وطيه أولى من بثه إلا أن يتفق المتعاصرون على جرح شيخ، فيعتمد قولهم، والله أعلم.اهـ السير 11/427، 431
9- قال الحافظ الذهبي: قرأت بخط يوسف بن أحمد الشيرازي الحافظ، رأيت بخط ابن طاهر المقدسي يقول: أسخن الله عين أبى نعيم، يتكلم في أبى عبد الله بن منده، وقد أجمع الناس على إمامته وسكت عن لاحق وقد أجمع الناس على أنه كذاب.
قلت: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنَّه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلاَّ مَن عَصَم الله، ومَا علمتُ أنَّ عصرًا من الأعصار سلِم أهلُه من ذلك، سوى الأنبياء والصِّدِّيقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللَّهمَّ فلا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم.اهـ ميزان الاعتدال 1/111.
10- قال الحافظ الذهبي: وهذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى ويطرح ولا يجعل طعنا ويعامل الرجل بالعدل والقسط.اه الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ص24.ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
الهامش
(1) قال أبو علي الحافظ النيسابوري: كان أبو نعيم الجرجاني أحد الأئمة ما رأيت بخراسان بعد أبي بكر محمد بن إسحاق يعني بن خزيمة مثله أو أفضل منه كان يحفظ الموقوفات والمراسيل كما نحفظ نحن المسانيد.اهـ
تاريخ بغداد 10/428.
(2) وأقول مقتبسا: لا ريب أنّ شيخنا لما استقر بوطنه، وخالف أقرانه ووهَّى بعض ما يرونه من مسائل فرعية بدلائل الوحيين وإجماع خيار هذه الأمة، مخالفا في ذلك بعض العلماء الأجلَّة، نقموا عليه ذلك وتألموا منه ونالوا منه فجرت بينهم وحشة، غفر الله للجميع، وقد اعترف بعضهم بأن الشيخ قويّ في العلم وإذا طرق مسألة قتلها بحثا، وقال آخر: لا نعلم للشيخ غلطا في المنهج أو المعتقد