من طرف سليمان بن هاشم السلفى 03.08.10 14:44
هميَّة الرَّد على المخالفِ، وبيانُ جملةٍ من ثماره/ الحلقة الخامسة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين،وبعد:
فهذه هي النقطة الخامسة، وهي متعلِّقة بذكر بعض ثمرات الرَّدِّ على
المخالفِ،رأيت جعلها في حلقتين؛ مراعاةً لحال الإخوة القرَّاء، استيعاباً و
إدْرَاكاً، فالله أسألُ التَّوفيق والسَّداد للجيمعِ في الدَّارين إنَّه
سميعٌ مجيبٌ.
فأقولُ مستعيناً بالله العليِّ المتعال:
الخامسة: ذكرُ جملةٍ من ثمار الرَّدِّ علَى المُخَالِفِ.
بدايةً أقول: إنَّك إذَا مَا فتحتَ
كتَاباً في ( الرَّدِّ عَلى نِحْلَةٍ مُخَالِفَةٍ) أو ( أَحْدِ
الْمُخَالِفينَ ) أو (قَولٍ مُخالفٍ للدَّليل) ألَّفَه أَحَدُ أَئمَّةِ
الدِّين، خُذْ مَثلاً: الإمام عُثمان بن سعيد الدَّارمي، وكتابهُ (الرَّد
على الجهميَّة)، وَ شَيخ الإسْلام ابن تيميَّة، وَ كتَابه (الرَّد على
البَكْري) مثلاً أو غيره، أوْ تَحذيرِ الإمام عبدالعزيز بن باز مِنْ
مُخْتَصرات (الصَّابوني) أو ردِّه علَى غَيرهِ، أو ردِّ الإمَام الألباني
عَلَى (حسَّان عبدالمنان) أوْ ردِّ العلاَّمة حُمود التويجري على جماعة
التَّبليغ في (القَول البليغ)، أو ردِّ العلاَّمة ربيع بن هَادي علَى
(عبدالرحمن عبدالخالق) في (النَّصر العزيز)، أو غَيرهَا كثير مِنْ كُتُب
عُلَمَاء الأُمَّة السَّابقين وَ اللاحِقين، مَاذَا سَتَجدُ فِي دَاخِلِ
هَذَه الكُتُب؟.
الجوابُ اختصره لك بأنْ أَقُول:
سَتَجِدُ جُملةً منَ الفَوائَدِ وَالثَّمَرَات، وأَسْتَخْلِصُها لكَ بِمَا يَلِي:
1/ إِظْهَارُ الْحَقِّ وَتَقريرُهُ وَإيْضَاحُهُ، بِأَدلَّتهِ مِنَ الوَحْيَينِ بِنَاءً علَى فَهْمِ سَلَفِ الأُمَّة الصَّالِحِ.
2/ كَشْفُ الشُّبْهَة وَبَيان زَيْفها وَبُطْلاَنها، كَيْلاَ يَقعَ أَتْبَاع الْحَقِّ في التَّشكيك في الْحَقِّ الذي هُم عليهِ.
3/ القِيَامُ بِوَاجبِ النَّصيحةِ للهِ وَلِكَتابهِ وَ لِرَسُولهِ ? وَلعَامَّة الْمُسْلمين.
4/ تَحْقِيْقُ شَعِيْرةِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالقِيَام بِالفَرْض الكِفَائِي.
5/ مَحْقُّ البَاطلِ وَتَعْرِيَتُهُ، مَعَ
كَسْرِ الْمُبْطِلِ الْمُعَانِدِ للحقِّ وَتَعْرِيتهُ، لِيَكْتَفِ النَّاس
شَرَّه وَأَذَاهُ، وَلاَ يَغْترّ بهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ.
6/ تَثبيتُ الْمُؤْمنينَ عَلَى مَا هُمْ عَليهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى.
7/ الْحِرْصُ عَلَى هِدَايَةِ الْمُسْتَرشِدِ إنْ كَانَ طَالِباً لِلْحَقِّ بَاحِثَاً عَنْهُ.
إذاً هَذهِ هَي جُمْلَةٌ مِنَ الثَّمراتِ
فِي مَسْأَلَةِ ( الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ وَالْمُخَالَفَةِ)، وَهِيَ
فَوائدُ سَنِيَّةٌ سُنِّيَّةٌ، تَتَحقَّقُ مِنْهَا مَقاصد شَرعيَّة
عَظِيمة، وَفوائد مُبَاركة تُفيدُ العِبَادَ وَالبِلاَدَ بإذنِ الله، وقد
تَجتَمعُ هذه الثِّمار فِي رَدٍّ عَلَى مُخَالِفٍ مُبْتَدِعٍ، وقَدْ
يَتَخَلَّف بَعضها فِي ردٍّ عَلَى مُخَالِفٍ سُنِّي غَير مُعَانِدٍ وَلاَ
مُكَابِرٍ، لَهُ قَولٌ خَالَفَ فِيه الْحَقّ.
وَفيْمَا يَلي أَعْرِضُ كُلَّ فَائِدةٍ
مِمَّا تَقدَّمت مُدَّعَمَةً بِأَقْوَالِ أهْلِ العِلْمِ تَحْتَهَا،
لِتَظْهَرَ الفَائِدَةُ أَكْثَر وَ تَتَأَصَّل الْمَسْأَلَة بِشَكلٍ
أَقْعَد، وَ اللهَ أسألُ التَّوفيق والسَّداد.
الفَائدةُ الأُولى: إِظْهَارُ الْحَقِّ
وَتَقريرُهُ وَإيْضَاحُهُ، بِأَدلَّتهِ مِنَ الوَحْيَينِ بِنَاءً علَى
فَهْمِ سَلَفِ الأُمَّة الصَّالِحِ.
هَذه الفائدةُ ظاهرةٌ في كُتبِ أَهْلِ
العِلْمِ عُمُوماً، و التي مِنْهَا كُتُبُ الرَّدودِ عَلَى الْمُخَالِفين؛
لأنَّ بيانَ الحقِّ وعَدَمَ كَتْمهِ مِيْثَاقٌ أَخَذَهُ الله عزَّ وجلَّ
عَلى أهلِ العِلْم، وتَوَعَّد مَنْ كَتَمَهُ، وهي مُهمَّتُهم، قَالَ
تَعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)
(آل عمران:187)، قَالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ في (تفسيره)(1/446):"...وفي هذا
تحذيرٌ للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم،ويسلك بهم مسلكهم،
فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل
الصالح، و لا يكتموا منه شيئاً..".
وقَال سُبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ
مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) (البقرة:159).
قال الإمامُ ابنُ كثير في (تفسيره)(1/206):" هَذا وعيدٌ شديدٌ لِمَنْ
كَتَمَ مَا جاءتْ به الرُّسُل من الدّلاَلات البيِّنة عَلَى الْمَقاصدِ
الصَّحِيحة وَالْهُدى النَّافع للقُلوب مِنْ بَعد مَا بَيَّنَه الله تعالى
لِعِبادهِ فِي كُتُبه الَّتي أنْزَلها عَلى رُسله".
أ/ قَالَ الإمامُ الدَّارميُّ في
(الرَّدِّ على الجهميَّة)(ص 18-19):" فحينَ رَأيْنَا ذَلِكَ مِنْهُم،
وَفطنَّا لِمَذْهَبهم، وَمَا يَقْصِدُون إليهِ مِنَ الكُفْرِ وَإبْطَالِ
الكُتُبِ وَالرُّسل، وَ نَفْي الكَلامِ وَالعِلْمِ وَالأَمْرِ عَنِ الله
تَعالى، رَأيْنَا أنْ نُبيِّنَ مِنْ مَذَاهِبهمْ رُسُوماً مِنَ الكتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَكَلاَمِ العُلَمَاء، مَا يَسْتَدلُّ بِهِ أَهْل الغَفْلَةِ
مِنَ النَّاسِ عَلَى سُوءِ مَذْهَبهم؛ فَيَحْذَروهُم عَلَى أَنْفُسهمْ
وَعَلى أَوْلاَدِهم وَأَهْلِيهمْ، وَيَجْتَهِدُوا فِي الرَّدِّ عَليهمْ،
مُحْتَسِبينَ مُنَافِحينَ عَنْ دِيْنِ الله تَعالَى، طَالِبينَ بِه مَا
عِنْدَ الله.
وقَدْ كَانَ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلفِ يَكْرَهُون الْخَوضَ فِي هَذا وَمَا
أَشْبَههُ، وَقَدْ كَانوا رُزقُوا العَافيةَ مِنْهُمْ، وَ ابْتُلِيْنَا
بِهمْ عِنْدَ دُرُوسِ الإسْلاَمِ، وَذَهَابِ العُلَماءِ، فَلَمْ نَجِد
بُدَّاً مِنْ أنْ نَردَّ مَا أَتَوا بِهِ مِنَ البَاطِلِ بِالْحَقِّ، وَقَد
كَانَ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَتَخوَّفُ مَا أَشْبَه هَذا
علَى أُمَّتهِ، وَيُحَذِّرهم إيَّاهُم، ثُمَّ الصَّحابَة بَعده
والتَّابِعُون...".
ب/ قَالَ الإمامُ شيخُ الإسلام ابن
تيميَّة كمَا في (مَجموع الفتاوى)(9/233):"..والمقصودُ: أنَّ هَذهِ
الأُمَّة ولله الْحَمْدُ لَم يَزل فيْهَا مَنْ يَتَفطَّنُ لِمَا فِي كَلامِ
أهْلِ البَاطلِ مِنَ البَاطِلِ وَ يَردّهُ، وَهُمْ لِمَا هَداهم اللهُ به
يَتَوافَقُونَ فِي قَبُولِ الْحَقِّ، وَ ردِّ البَاطِلِ رَأياً وَ رِوَايةً
مِنْ غَيْر تَشَاعرٍ وَلا تَواطؤٍ".
وقالَ أيضاً كمَا في (ردِّه على
البكري)(1/218- 219):" والْمُؤمنُ الْمُحْسنُ المتَّبعُ لسنَّةِ رَسُول
الله صلَّى الله عليه وسلَّم لاَ يَأْمرُ أحداً بأمرٍ لِمُجرَّد غَرضهِ... و
لا يسألُ أحداً شيئاً، بل إذَا أمرَ أحداً بأمرٍ كانَ مَقْصُودهُ بذلكَ
انْتَفاع الْمَأْمُور وَحُصول مَصْلحتهِ، وَلَهُ أَجْرُ النَّاصحِ الدَّالِ
عَلى الْخَير الدَّاعي إلَى الْهُدَى، فَيَكونُ لَهُ مِثل أَجْر العَاملِ
الْمَأْمُورِ مِنْ غَيرِ أنْ يَنْقص مِنْ أَجْرِ العَامِلِ شَيء...فَالمؤمن
المتَّبعُ للسُّنَّة يُحْسنُ إلى الْخَلقِ وَيَطْلُبُ الأجرَ مِنَ
الْخَالِقِ، فَيَكون قَائماً بِحقِّ الله وحَقِّ عبَادهِ..".
وقالَ أيضاً كما في (منهاج السُّنَّة
النَّبويَّة)(5/239):"...هَكَذَا الرَّدُّ عَلَى أَهْلِ البدعِ مِنَ
الرَّافِضَةِ وَ غَيرِهمْ: إنْ لَمْ يَقْصُد فيهِ بَيان الْحَقِّ وهَدي
الْخَلْق وَرَحمتهم والإحسان إليهم، لَمْ يكن عمله صالِحَاً".
ج/ قال الإمامُ الهمام ابنُ القيِّم في
مقدِّمة كتابه العظيم (هداية الحيارى)(ص 39):"... وضمَّنْتُهُ أجَوبةَ
الْمَسائلِ وَتَقرير نُبوَّة مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، بِجَميعِ
أَنْواع الدَّلائلِ، فَجَاء بِحَمدِ الله و منِّه وتَوفيقهِ كِتَاباً
مُمْتِعاً معْجباً، لاَ يَسْأمُ قَاريه، وَلاَ يَمَلُّ النَّاظرُ
فيهِ...يُعطيكَ مَا شئتَ منْ أعْلاَم النُّبوَّةِ وَ بَراهين الرِّسَالَةِ،
وَبِشَاراتِ الأنْبِياء بِخَاتمهم، واسْتِخْرَاج اسْمهِ الصَّريح مِنْ
كُتُبهم، وذِكْرِ نَعْتهِ وَصفتهِ وَ سِيرتهِ مِنْ كُتُبهمْ، وَالتَّمييز
بَينَ صَحيحِ الأَدْيَانِ وَ فَاسدِهَا وَكَيْفيَّة فَسَادِهَا بَعْدَ
اسْتِقَامَتِها، وَ جُملة مِن فَضائح أهلِ الكِتَابَيْن وَمَا هُم عَليهِ، و
أنَّهم أَعظم النَّاس بَراءةً مِنْ أنْبِيَائهم، وأنَّ نُصوصَ أنْبيائِهم
تَشْهَدُ بِكُفْرِهِمْ وَضَلاَلِهم، وَغَيْر ذَلك مِنْ نُكَتٍ بَدِيعَةٍ
لاَ تُوجَدُ فِي سِوَاهُ".
وقالَ أيضاً في كتابه النَّافع
(الرَّسَالة التَّبوكية)(ص 74) في مَعْرض بَيانهِ لِمَعْنَى (أُوِلي
الأَمْرِ) مِنْ آية النِّساء:"..والصَّحيحُ أنَّها مُتَناولة للصِّنفين
جَميعاً؛ فَإنَّ العُلَماءَ وَالأُمَراءَ هُم وُلاَةُ الأمْرِ الَّذي بَعثَ
الله به رَسولهُ.
فَالعُلَماءُ وُلاَتهُ حِفْظَاً وَبَيَانَاً وبَلاَغاً وَذبَّاً عنْهُ،
وَرَدَّاً علَى مَنْ ألْحَدَ فيه وَزَاغَ عنْهُ، وَقَدْ وَكَّلهم الله
بذلكَ، فقال تعالى (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا
بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)-(الأنعام: من الآية89)-، فَيَا
لَهَا مِنْ وَكَالَةٍ أَوْجَبت طَاعَتهمْ وَالانْتِهَاء إلَى أَمْرِهم،
وَكَون النَّاس تَبعاً لَهم".
الفَائدةُ الثَّانية: كَشْفُ الشُّبْهَة
وَبَيان زَيْفها وَبُطْلاَنها، كَيْلاَ يَقعَ أَتْبَاع الْحَقِّ في
التَّشكيك في الْحَقِّ الَّذي هُم عليهِ.
وهَذا أمرٌ ظاهرٌ أيضاً في كُتبُ
الرُّدُودِ، وَ القُرآنُ الكريم والسُّنَّة النَّبوية المطهَّرة مَليئةٌ
بِهَذَا النَّوعِ، قَالَ الله تعالى ( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ
جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان:33)، قالَ الحافظُ
ابنُ كثير في (التفسير)(3/330):"( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ) أيْ:
بِحُجَّةٍ وشُبهةٍ، (إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)
أيْ: لا يَقُولونَ قَولاً يُعَارِضُونَ بِه الْحَقَّ إلاَّ أَجَبْنَاهُم
بِمَا هُو الْحقّ فِي نَفْسِ الأمرِ وَأَبْيَن وَ أَوْضَح وَأفْصَح مِنْ
مَقَالتهم".
وَ مِنَ الْمَعْلُومِ أنَّ أَهْلَ
البَاطِلِ لاَ يَفْتُرُونَ مِنَ الصَّدِّ عَنِ الْحَقِّ بِكُلِّ وَسَيْلةٍ
يَسْتِطيعونَها، وَمِنْ ذَلِكَ: إلْقَاءُ الشُّبه رَغْبَةً فِي زَعْزَعَةِ
أهْلِ الْحَقِّ عمَّا هُمْ عَليهِ، وَصَدِّ مَنْ أَرَادَ الْحَقَّ مِنَ
الوُصُول إليهِ، فَالرَّدُّ علَى تِلْكَ الشُّبَهِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْواعِ
الْجِهَادِ فِي سَبِيْلِ الله تَعالَى.
أ/ قَالَ الإمام مُحمَّدُ بْنُ يَحيى
الذهلي: سمعتُ يَحيى بن معين يقولُ: " الذَّب عنِ السُّنَّةِ أفضل من
الْجَهادِ فِي سبيل الله. فقلتُ ليحيى: الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ وَ
يُتْعِبُ نَفسهُ وَ يُجَاهِدُ، فَهذَا أفضل منْه؟! قَالَ: نَعَمْ،
بِكَثيرٍ" (سير أعلام النبلاء) للذهبي (10/518).
ب/ قالَ الإمام الدارمي في (الرَّدِّ علَى
الجهمية)(ص 19):".. وقَدْ كَان مَنْ مَضَى مِنَ السَّلف يكرهونَ الْخَوضَ
فِي هَذا ومَا أَشْبَهه، وقَد كَانُوا رُزقُوا العَافيةَ مِنْهُم،
وَابْتُليْنا بِهم عِنْدَ دُرُوسِ الإسْلاَمِ، وَذَهَابِ العُلَماءِ، فَلَم
نَجد بُدَّاً مِنْ أنْ نَرَدَّ مَا أَتَوا به مِنَ البَاطِلِ بِالْحَقِّ".
ج/ قالَ الإمامُ ابن بطة العكبري في
(الإبانة الكبرى)(2/542):".. ورجلٌ آخر يَحْضُر فِي مَجْلسٍ أنتَ فِيه
حَاضِرٌ تَأْمَنُ فيهِ عَلَى نَفْسِكَ ، وَيَكثر نَاصِرُوك وَمُعِيْنُوك،
فَيتَكلَّمُ بِكَلامٍ فيهِ فِتْنة وَبَليَّة علَى قُلوبِ مُسْتَمعيه؛
ليُوقِعَ الشَّكَّ فِي القُلُوبِ، لأنَّه هُو مِمَّن فِي قَلبهِ زَيغٌ
يَتَّبِعُ الْمُتَشابِه ابْتَغاءَ الفِتْنَةِ وَ البِدْعة.
وقَد حَضَر مَعكَ مِنْ إِخْوَانكَ وَأهلِ
مَذْهَبكِ مَنْ يَسمعُ كَلاَمَهُ، إلاَّ أنَّهُ لاَ حُجَّةَ عِنْدَهم عَلَى
مُقَابلتِهِ، وَ لاَ عِلْمَ لَهُم بِقَبيحِ مَا يَأتِي بِه؛ فَإنْ سَكَتَّ
عنْهُ لَمْ تَأْمَن فِتْنَتَهُ بِأنْ يُفْسِدَ بِهَا قُلُوب
الْمُسْتَمِعين، وَ إدْخَال الشَّكِّ عَلَى الْمُسْتَبصرينَ، فَهَذا أيضاً
مِمَّا تَرَدُّ عَليهِ بِدْعتَهُ، وَخَبِيثَ مَقَالتهِ، وَتَنْشُرُ مَا
عَلَّمَكَ اللهُ مِنَ العِلْمِ وَالْحِكْمَةَ.
وَلاَ يَكُنْ قَصْدك فِي الكَلاَم خُصَومتهُ وَلاَ مُنَاظرتهُ، وَلْيَكُن
قَصْدكَ بِكَلامكَ خَلاَصَ إِخْوَانكَ مِنْ شَبَكَتهِ، فَإنَّ خُبَثَاء
الْمَلاَحدةِ إنَّمَا يَبْسُطُونَ شبَاكَ الشَّيَاطين لِيَصِيْدُوا بِهَا
الْمُؤْمِنين، فَلْيَكُن إقْبَالكَ بِكَلامِكَ وَنَشْرِ عِلمكَ
وَحِكْمَتِكَ وَبِشْرِ وَجْهِكَ وَ فَصِيْحِ مَنْطِقكَ عَلَى إخْوانِكَ
وَمَنْ قَدْ حَضَر مَعَكَ لاَ عَليهِ ، حَتَّى تَقْطَعَ أُولئِكَ عَنْهُ
وَتَحولَ بَينهمْ وَبَيْنَ اسْتِمَاعِ كَلاَمهِ، بَلْ إنْ قَدرتَ أنْ
تَقْطَعَ عليْهِ كَلاَمَهُ بِنَوعٍ مِنَ العِلْمِ تُحَوِّلُ بهِ وُجُوهَ
النَّاسِ عَنْهُ؛ فَافْعَلْ...".
وينظر أيضاً (الإبانة الصغرى) له (ص 348).
د/ قالَ العلاَّمةُ ابنُ قُدامةَ فِي
(تَحريمِ النَّظرِ فِي كُتُبِ الكَلامِ) (ص 35):" وَمَا عَادَتِي ذِكر
مَعائِبِ أصْحَابِنَا، وَ إنَّنِي لأُحِبُّ سَتْرَ عَورَاتِهم، وَلكِن
وَجبَ بَيان حَال هَذَا الرَّجُل حِيْنَ اغْترَّ بِمَقَالتهِ قَومٌ وَ
اقْتدىَ بِبِدْعَتهِ طَائفةٌ مِنْ أصْحَابِنَا، وَشَكَّكَهُمْ فِي
اعْتِقَادِهمْ حُسْنُ ظَنِّهمْ فِيْهِ، وَاعْتِقَادِهم أنَّهُ مِنْ
جُمْلَةِ دُعَاةِ السُّنَّةِ، فَوَجبَ حِيْنَئذٍ كَشْفُ حَالهِ، وَإِزَالَة
حُسْن ظَنِّهم فيهِ؛ لِيزَوُلَ عَنْهُم اغْتِرَارهمْ بِقَولهِ، وَ
يَنْحَسِمَ الدَّاء بِحَسْمِ سَبَبهِ، فَإنَّ الشَّيءَ يَزُولُ مِنْ حَيثُ
ثَبتَ".
قُلتُ: يريدُ رحمه الله بالرَّجل الْمَرُدودِ عَليه: ابن عقيل الحنبلي.
وقالَ أيضاً في موضعٍ آخر (ص 68):"
وأرْجُو أنْ تَكُونَ هَذه الرِّسَالة أَعْظَم الأشَياء بَرَكةً عليهِ
وَنَفْعَاً لَهُ، مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الضَّلالِ
بِكَلامهِ فَيَنْقَطِع عنْه الإثْم الَّذي كَانَ يُعرِّض الوصُول إليهِ
بِضَلالِهم بِه".
هـ/ قالَ العلاَّمةُ ابْنُ البَنَّاء فِي
(الْمُخْتَارِ فِي أُصُولِ السُّنَّةِ)(ص 135-136):" اعْلَمْ رَحِمَنَا
الله وَ إيَّاكَ أنَّ هَذه الأَحَاديث الَّتي قَد ذَكرنَا فِي صِفَات الله
تعالى، قَد ذكرها الإمام أبُو عبدالله أحمدُ بنُ مُحمَّد بن حَنْبل وَ
أشباهها،ورَواهَا شُيُوخنَا، وجَمَعها شَيخنُا الإمامُ أَبُو يَعْلَى
نَضَّر الله وجْهَهُ عَلى مَا سَاقها الإمام أبو عبدالله بن بطَّة،
وأَوْجَبُوا كُلُّهم الإيْمَان بِها وَالتَّسليمَ ولا تُرَدُّ وَ لا
تُتَأوَّل، وَكَذلك ساقهَا مُسْلمٌ فِي (صَحيحه)..وجَميع أصْحَاب الحديثِ،
وإنَّما زَادَ عليهمْ شَيخنُا رحمه الله أنَّهُ ذَكَرَ أسئِلَةً اعْترضَ
بها المتكلِّمون عليهاَ إمَّا لِيُبْطِلُوهَا أوْ يَتَأوَّلُوهَا، فَردَّ
عَليهم ذلكَ عَلى مَا قَالهُ السَّلفُ الْمَهْديِّون وَالْخَلَف
الْمَرْضِيُّونَ...وَ مَنْ كانَ قَبْلُ، فَكانَ لَهُمْ مِنْ قوَّةِ
الإيْمَانِ وَصِحَّةِ الإِتْقَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَ البَيَانِ مَا لاَ
يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى مَنْ يَتَجرَّدُ لِذَلك، فَأمَّا فِي زَمانِنَا
هَذا فَالنَّاسُ بِهِم حَاجة إلَى ذَلك، فَلو لَمْ يَفْعَلْ لَكَانُوا فِي
حَيْرَةٍ، وَالله يُحْسِنُ جَزاءَه، وَيَجْمع لَهُ خَير آخِرتهِ
وَدُنْياهُ..".
و/ قالَ الحافظُ ابنُ عساكر في (تبين كذب
المفتري)(ص 99):"..فلمَّا ظَهرت فيْمَا بَعْدُ أَقْوال أَهْل البِدَعِ،
واشْتَهرت، وعَظُمت البَلْوى بِفِتْنَتِهم عَلى أهْلِ السُّنَّة
وَانْتَشَرت، وانْتُدبَ لِلرَّدِّ عَليهم وَ مُنَاظَرَتِهم أئمَّة أَهْلِ
السُّنَّةِ لِمَّا خَافوا علَى العَوام مِنَ الابْتِدَاعِ
وَالفِتْنَةِ..خَوْفاً مِن التْبِاسِ الْحقِّ عَلَى الْخَلْقِ
وَاشْتِبَاهِهِ".
ز/ قال الإمامُ ابن القيم في كتاب
(التِّبيان في أقسام القُرآن)(ص 132):" القَلَمُ الثَّانِي عَشر: القَلَمُ
الْجَامِع: وَ هُو قَلَمُ الرَّدِّ عَلَى الْمُبْطِلين، وَ رَفْعِ سُنَّةِ
الْمُحِقِّينَ، وَ كَشْفِ أَبَاطِيْل الْمُبْطِلين، عَلى اخْتِلاَفِ
أنْوَاعهَا وَ أَجْنَاسِهَا، وَ بَيان تَنَاقُضُهمْ وَ تَهَافتِهمْ، وَ
خُروجهم عن الحقِّ، و دُخُولهم فِي البَاطلِ.
وَ هَذا القَلمُ فِي الأَقْلامِ نَظير الْمُلوك فِي الأنَامِ، وَ
أصْحَابُهُ أهل الْحُجَّة النَّاصرونَ لِمَا جَاءت بهِ الرُّسُل،
الْمُحَاربونَ لأَعْدَائِهم، و هُم الدَّاعونَ إلى الله بالْحِكْمَةِ وَ
الْمَوْعِظَة الْحَسنَةِ، الْمُجَادِلُونَ لِمنَ خَرجَ عَنْ سَبيلهِ
بِأَنْواعِ الْجِدَالِ، وَ أصحابُ هَذا القَلَمِ حَربٌ لِكُلِّ مُبْطِلٍ،
وَ عَدوٌ لِكُلِّ مُخَالِفٍ لِلرُّسِلِ، فَهُم فِي شَأْنٍ وَ غَيرهُم مِنْ
أصْحَابِ الأَقْلاَمِ فِي شَأنٍ".
ح/ قَالَ العلاَّمةُ ابنُ النَّجار في
(شَرْح الكوكب المنير)(4/371-372) تَحت فَصل في ( أحْكَام الجدل وآدابه..)
قالَ:"... قَالَ فِي (الوَاضح): ومِنْ أَدَبِ الْجِدَال: أنْ يَجْعلَ
السَّائل وَ المسؤول مَبْدأ كلاَمهما حَمْد الله تعالى، والثَّناء
عليه...ويَجْعلا قَصْدهما أحد أَمْرين، وَيَجتَهِدا فِي اجْتِنَاب
الثَّالثِ، فَأعلى الثَّلاثة مِنَ الْمَقاصدِ: نُصْرَةُ الْحقِّ بِبَيَانِ
الْحُجَّةِ، وَدَحض البَاطلِ بِإبْطَالِ الشُّبهة؛ لِتَكُونَ كَلمَةُ الله
هِي العُليا..".
الفائدةُ الثَّالثة: القِيَامُ بِوَاجبِ النَّصيحةِ للهِ وَلِكَتابهِ وَ لِرَسُولهِ ? وَلعَامَّة الْمُسْلمين.
أخرجَ الإمامُ مُسْلمٌ فِي (الصَّحيح) -(1/رقم 55- ط عبدالباقي) حَديث
تَميمٍ الدَّاري رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
(الدِّينُ النَّصيحة ثَلاثاً. قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ:
للهِ وَلِكتَابهِ وَ لِرَسُولهِ وَلأئمَّةِ الْمُسْلِمينَ وَعَامَّتهم).
قَالَ الإمامُ ابنُ رجبٍ الحنبلي في (جامع
العلوم و الحكم)(1/223):"..ومنْ أنْواعِ النُّصح لله تعالى وكتَابهِ
وَرَسولهِ، وهُو مِمَا يَخْتصُّ بِه العُلماء:
رَدُّ الأهْواء الْمُضلَّة بالكتَابِ وَالسُّنَّةِ، وبيانُ دلالتهما على ما يُخالف الأهواء كلَّها.
وكذَلكَ رَدُّ الأقْوال الضَّعيفة مِنْ زَلاَّتِ العُلُمَاءِ، وبيانُ دِلاَلَة الكتَابِ وَالسُّنَّة عَلَى ردِّها.
ومِنْ ذَلكَ بَيان مَا صَحَّ مِنْ حَديثِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه
وسلَّم، وَما لَمْ يَصح منْهُ؛ بِتَبْيينِ حَالِ رُواتِهِ، وَمَنْ تُقْبلُ
رِوَاياتهُ مِنْهُمْ وَمَنْ لاَ تُقْبَلُ، وَبَيان غَلَط مَنْ غَلط مِنْ
ثِقَاتِهم الَّذين تُقْبَل رِوَايَتهمْ.."، ومِمَّا يُظْهِرُ قِيَامَ أهل
العلم بذلكَ:
أ/ أخرجَ اللالكائي في (شرح أصول اعتقاد
أهل السُّنَّة)(1/رقم 256) عن الحافظِ قتَادة بن دِعامة السَّدوسي أنَّه
قالَ:" إنَّ الرَّجلَ إذا ابتدعَ بدعةً ينبغي لها أنْ تُذْكر حتى تُحْذر".
ب/ جاءَ في ترجمة (الحسن بن صالح بن حي
الكوفي (ت 196هـ) مِنْ (سير أعلام النبلاء) (7/361): (قالَ أبو صالح
الفَرَّاء: حكيتُ ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً مِنْ أَمْر الفِتَنِ،
فَقالَ: ذاكَ يُشْبه أُسْتَاذه، يعني الحسن بن حي، فقلتُ ليوسف: أَمَا
تَخافُ أنْ تَكون هَذه غيبة؟ فقال: لِمَ يَا أَحْمَق؟ أنَا خيرٌ لهؤلاء
مِنْ آبائهم وأُمَّهَاتِهم، أنَا أَنْهَى النَّاس أنْ يَعْمَلُوا بِمَا
أَحْدَثُوا، فَتتبعهم أَوْزَارهم، وَمَنْ أَطْرَاهُم كانَ أَضرَّ عَليهم".
ج/ وَقالَ شيخ الإسلام ابن تيمية كما في
(المجموع)(28/231-232):" ومثل أئمَّة البِدَعِ مِنْ أهل المقالات المخالفةِ
للكتاب والسُّنَّة، أو العِبَادات المخالفة للكتِابِ وَالسُّنَّة، فإنَّ
بَيانَ حَالهم، وتَحذيرَ الأُمَّةِ مِنْهُم، واجبٌ باتِّفاق المسلمين،
حَتَّى قيل لأحمد بن حنبل: الرَّجل يَصُوم وَ يُصلِّي ويعتكفُ أحب إليك أو
يتكلَّم في أهل البدعِ؟ فقال: إذا قَام وصلَّى واعتكفَ فإنَّما هو لنفسهِ،
وإذا تكلَّم في أهلِ البدعِ فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل.
فبيَّن أَنَّ نَفْعَ هَذا عامٌّ للمسلمين فِي دِينهم، مِنْ جِنْسِ
الْجِهَادِ فِي سَبيل الله؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيْل الله وَ دِيْنهِ وَ
مِنْهَاجهِ وَشِرْعَتهِ، ودفع بغي هَؤلاء وعُدوانهم علَى ذَلك، وَاجبٌ علَى
الكِفَايَةِ باتِّفاقِ المسلمينَ، ولَولا مَنْ يُقِيْمهُ الله لدَفْعِ
ضَرَرِ هَؤلاء لَفَسَدَ الدِّين، وكانَ فَسَادُهُ أَعظم مِنْ فَسادِ
اسْتِيْلاءِ العَدوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَربِ؛ فإنَّ هَؤلاء إذَا اسْتَولوا
لَمْ يُفْسِدُوا القُلُوبَ وَمَا فيها مِنَ الدِّينِ إلاَّ تَبَعاً، وأمَّا
أُولئكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ القُلُوبَ ابْتِدَاءً" انتهى كلامه.
د/ وقالَ الإمامُ ابنُ القيِّم في (مدارج
السَّالكين)(1/372):" واشْتدَّ نكيرُ السَّلفِ والأئمَّة لَهَا- أي
البدعة-،وصَاحوا بأهلهَا مِنْ أَقطار الأرضِ، وحَذَّروا فِتْنَتَهُمْ
أَشدَّ التَّحذير، وبَالغوا في ذلك ما لَمْ يُبَالِغُوا مثله فِي إنكار
الفَواحشِ، وَالظُّلم، والعُدوان؛ إذْ مَضرَّةُ البِدَعِ، وَهَدْمِهَا
للدِّينِ، وَمنافاتها لَه أَشدّ".
هـ/ عَقدَ العلاَّمة ابنُ مفلح في (الآداب
الشَّرعية)(1/230) فَصْلاً فقَالَ:" فَصْلٌ: في وُجُوبِ إبْطَالِ البِدَعِ
الْمُضِلَّةِ، وَإقَامَةِ الْحُجَّة عَلى بُطْلانِهَا".
ثُم قالَ:" قالَ في (نِهَاية المبتدئين): ويَجِبُ إنكارُ البدعِ المضلَّة،
وإقامة الحجَّة على إبطالها، سواءٌ قَبِلَها قائلها أو ردَّها، ومَنْ قَدر
على إنهاءِ المنكر إلى السُّلطان أنهاهُ، وإنْ خَافَ فوتهُ قبل إنهائهِ
أنكرهُ هُو".
الفائدةُ الرَّابِعَةُ: تَحْقِيْقُ
شَعِيْرةِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ،
وَالقِيَام بِالفَرْض الكِفَائِي.
أ/ قَالَ الله تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ
عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا
وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78-79).
قَالَ العَلاَّمةُ الشَّوكانِيُّ في (فَتْحِ القَدير)(2/65) :" الَّلعنُ
بِسَببِ الْمَعْصِيَةِ وَ الاعتداءِ لا بِسببٍ آخَر ، ثُمَّ بَيَّن
سُبْحَانه الْمَعْصِيَةَ وَ الاعتِدَاءَ بقولهِ ( كَانُواْ لاَ
يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ) ، فَأَسندَ الفِعلَ إليهم؛ لِكَونِ
فَاعلهِ مِنْ جُمْلَتِهمْ وَ إنْ لَمْ يَفْعلوهُ جَميعاً.
والمعنى : أنَّهم كَانُوا لا يَنْهَونَ العَاصي عَنْ مُعَاودَةِ مَعصيةٍ
قَد فَعلها، أَوْ تَهَيَّأَ لِفِعْلهَا ، وَ يحتملُ أنْ يكونَ وَصفهم
بِأنَّهم قَدْ فَعَلُوا الْمُنْكَرَ بِاعتبارِ حَالةِ النُّزُولِ لاَ حَالة
تَرْكِ الإنْكَارِ وَبَيان العِصيان وَ الاعتداء بِتَركِ التَّنَاهِي عَنِ
الْمُنْكَرِ؛ لأنَّ مَنْ أخلّ بِوَاجِبِ النَّهي عَنِ المنكرِ، فَقَدْ
عَصَىَ الله سُبحانَهُ وَتعدّى حُدُودهُ .
والأمرُ بالمعروفِ والنَّهي عَن المنكرِ مِنْ أَهمّ القواعدِ الإسلاميَّة،
وأَجلّ الفَرائض الشَّرعيَّة ، ولِهَذا كان تَاركهُ شَريكاً لِفَاعلِ
الْمَعْصِيَةِ، ومُسْتَحقاً لغضبِ الله وانْتِقَامهِ كمَا وَقع لأهلِ
السَّبْتِ .... ثُمّ إنَّ الله سُبحانه قَالَ مُقَبِّحَاً لِعَدمِ
التَّناهي عَنِ المنْكَرِ ( لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ )؛ أي: مِنْ
تَرْكِهم لإنْكارِ مَا يَجبُ عَليهم إِنْكَارُهُ".
ب/ وَ قالَ تَعالى: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْم وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:63).
قَالَ العلاَّمة الشَّوكاني في (فتحِ القَدير) (2/55):" فوبَّخَ سُبحانهُ
الْخَاصَّة؛ وهُم العُلمَاء التَّارِكُونَ للأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهي عَنِ الْمُنْكَرِ، بِمَا هُو أَغْلَظ وَأشدّ مِنْ تَوبيخِ
فَاعِلِ الْمَعَاصِي، فَليفَتْح العُلماء لِهَذه الآية مَسَامعهم، وَ
يفْرجوا لَها عن قُلوبهم، فَإنَّها قَدْ جَاءَتْ بِمَا فيهِ البَيان
الشَّافي لَهُمْ، بِأَنَّ كفَّهم عَن المعاصي ، مَع تَرْكِ إنكارهمْ عَلى
أهلها لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، بَلْ هُم أَشدّ حَالاً وَأَعظم
وَبالاً مِنَ العُصَاة، فَرحمَ الله عَالماً قامَ بِما أوجبهُ الله عليهِ
مِنْ فَريضةِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهيِّ عَن الْمُنكر ، فهو
أعظم ما افترضه الله عليه وأوجب ما أوجب عليه النهوض به . اللهم اجْعَلنا
مِنْ عِبادك الصَّالحين الآمرين بِالمعروف النَّاهين عن الْمُنْكَر الذين
لا يَخافونَ فيكَ لومة لائم ، وأعنَّا على ذلك، وَقَوّنا عليه، ويسِّره
لنَا ، وانْصرنَا عَلى مَنْ تَعدَّى حُدودك ، وظَلَمَ عبَادك، إنَّهُ لا
نَاصر لنا سِوَاكَ ، ولا مُسْتَعان غيرك ، يا مَالكَ يَوم الدِّين ،
إيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَ إيَّاكَ نَسْتعين".
ج/ قالَ الإمامُ عثمان بن سعيد الدارمي في
(الرَّدِّ عَلَى الْجَهْميَّة)(ص18/ رقم 15):"..فَحِينَ رأيْنَا ذَلكَ
مِنْهُم، وفَطنَّا لِمَذْهَبهم، ومَا يَقْصِدُونَ إليه مِنَ الكُفر وإبطالِ
الكتُب والرُّسل، ونَفي الكَلام والعِلْم والأَمْر عَن الله تعالى،
رأَيْنَا أنْ نُبيِّن مِنْ مَذَاهِبهم رُسُومَاً مِنَ الكتَابِ وَالسُّنَّة
وَ كلاَمِ العُلماءِ، ما يَسْتدلُّ بهِ أَهْل الغَفْلَةِ منَ النَّاسِ
علَى سُوءِ مذْهَبهم، فَيَحْذَرُوهُم عَلَى أَنْفُسِهم وَعَلى أَوْلاَدِهم
وَأَهْلِيهم، وَيَجْتَهدونَ في الرَّدِّ عليهم، مُحْتَسِبينَ مُنَافِحينَ
عَنْ دِيْنِ الله تعالَى، طَالِبِينَ بِه مَا عنْدَ الله".
د/ قالَ الإمامُ شيخ الإسلام ابن تيمية في
(الرَّدِّ عَلَى الإخْنَائي)(ص 474-475):" الوجْهُ الثَّانِي عَشر: أنْ
يُقَالَ: لاَ رَيْبَ أنَّ الْجِهَادَ وَالقِيَامَ عَلَى مَنْ خَالَفَ
الرُّسل، وَالقَصد بِسَيْفِ الشَّرع إليْهم، وَإقَامَة مَا يَجِبُ بِسببِ
أَقْوالهم، نُصرةً للأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلينَ، وَليكونَ عِبْرَةً
لِلْمُعْتَبِريْنَ؛ لِيَرْتَدِعَ بِذَلكَ أَمْثَالهمْ مِنَ
الْمُتَمَرِّدِينَ، مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ الَّتي أَمَرنَا الله أنَّ
نَتَقرَّبَ بِهَا إليْهِ، وَذَلكَ قَدْ يَكُونُ فَرْضَاً عَلَى الكفَايَةِ،
وَقَدْ يَتَعيَّنُ عَلَى مَنْ عَلِمَ أنَّ غَيْرَهُ لاَ يَقُومُ بهِ.
والكتَابُ وَالسُّنَّةِ مَمْلُوءَانِ
بِالأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَذِكْرِ فَضِيْلَتهِ، لكنْ يَجبُ أَنْ يُعْرفَ
أنَّ الْجَهِادَ الشَّرعيّ الَّذي أَمَرَ اللهُ بِه وَرَسولُهُ مِنَ
الْجِهَادِ البِدْعِيّ، جِهَاد أهْلِ الضَّلاَلِ الَّذين يُجَاهِدونَ فِي
طَاعةِ الشَّيْطَان، وَهُمْ يَظنُّونَ أَنَّهُم مُجَاهِدُونَ فِي طَاعَةِ
الرَّحْمَن.
كَجَهِادِ أَهْلِ البِدَعِ وَالأهْواءِ كَالْخَوارجِ وَنَحْوهِم الَّذين
يُجَاهِدُونَ أهْلَ الإسْلاَمِ، وَفِيْمن هُو أَوْلَى بالله وَرَسُوله
مِنْهُم مِنَ السَّابِقينَ الأَوَّلِين مِنَ الْمُهَاجِرينَ وَالأنْصَار
وَالَّذين اتَّبَعُوهم بِإحْسَانٍ إلَى يَومِ الدِّين..".
د/ قَالَ الإمامُ ابن القيِّم في
(الصَّواعق المرسلة)(1/301-302):" فكشفُ عَوراتِ هَؤُلاء وَبَيانُ
فَضَائِحهمْ، وفَسَاد قَواعدهمْ، مِنْ أفْضَلِ الْجِهَادِ فِي سَبيلِ الله،
وقدْ قَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِحَسَّان بن ثابت: إنَّ
روحَ القُدُسِ مَعَك مَا دُمْتَ تُنَافِحُ عَنْ رَسُولهِ، وَقَال
(اهْجُهُمْ أوْ هَاجِمْهُمْ، وَجِبْريلُ مَعَك)، وقالَ (اللهمَّ أيِّدهُ
بِرُوحِ القُدُسِ مَا دامَ يُنَافِحُ عَن رَسُولكَ)، وقالَ عَن هِجَائهِ
لَهُم (والَّذي نَفسي بيدهِ لَهُو أشَدُّ فِيْهم مِنَ النَّبْلِ)، وكيفَ
لاَ يَكُون بَيان ذَلكَ مِن الْجِهَادِ فِي سَبيلِ الله، وأكْثَر هَذه
التَّأويلات الْمُخَالفَةِ للسَّلف الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعينَ، وَأهْلِ الْحَديثِ قَاطبة، وَأئمَّة الإسلامِ الَّذين
لَهُم في الأُمَّةِ لِسَانَ صِدْقٍ، يَتَضمَّن مِن عَبَث الْمُتكلِّم
بِالنُّصوصِ وَسُوء الظَّنِّ بِهَا، مِنْ جنْسِ مَا تَضمَّنُه طَعن الَّذين
يلمزونَ الرَّسُول وَدينهُ وَأهْل النِّفاق وَالإلْحَاد، لِمَا فِيهِ مِنْ
دَعوىَ أنَّ ظَاهرَ كَلاَمهِ إِفْكٌ، وَمُحَالٌ، وكُفْرٌ، وضَلالٌ،
وتَشبيهٌ، وتمثيلٌ، أو تخييلٌ، ثُمَّ صَرْفهَا إلَى مَعَانٍ يَعْلَمُ أنَّ
إرادتَها بتِلك الألفَاظِ مِنْ نَوع الأَحَاجِي وَالألْغَاز، لاَ يَصْدُر
مِمَّن قَصدهُ نُصْحٌ وبيانٌ، فَالْمُدَافَعةُ عَنْ كَلامِ الله
وَرَسُولهِ، وَالذَّبُّ عنْهُ مِنْ أفْضَلِ الأَعْمَالِ وَأحبِّهَا إلى
اللهِ، وَ أَنْفَعِهَا للعَبْدِ".
وقالَ أيضاً في (مفتاح دار
السعادة)(1/103) في وصف أهل السُّنة وجهادهم :" فكمْ مِنْ قَتِيْلٍ لإبليس
قد أَحْيَوه، ومِنْ ضَالٍ جاهلٍ لا يَعْلَم طَريق رشده قَدْ هدوه، ومِنْ
مُبْتَدعٍ في دينِ الله بشُهُبِ الْحقِّ قد رَموهُ، جِهَاداً في الله،
وابتغاء مَرضاته..".
يُتبعُ بحول الله تعالى
وكتب
عبدالله بن عبدالرَّحيم البخاري- كان اللهُ له-
1/ ربيع الأول/ 1430هـ