أهمِّيةُ الرَّدِّ علَى المخالفِ، وبيانُ جُمْلَةٍ مِنْ ثَمَارهِ
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الْحَمْدُ لله رَبِّ العَالِمين وَالصَّلاةُ وَالسَّلاَمُ عَلى نَبيِّنا مُحمَّدٍ وآله وصَحْبهِ أَجْمَعين، وَبعدُ:
تمهيدٌ:
فَإنَّ الله عزَّ وجلَّ قَدْ أَتَمَّ عَليْنَا النِّعمة بِأَنْ أَرْسَلَ
إلينا خَيرَ رُسله مُحمَّداً صلى الله عليه وآله وسلَّم، وأَنْزَلَ عَليهِ
خَيرَ كُتُبه الَّذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا
مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).
وَتَكَفَّلَ سُبْحَانَهُ بِحِفْظهِ فَقَال ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).
ووجه الدلالة: أنَّ الله تعالى تَكفَّل بِحِفْظ الذِّكر الَّذي أَنْزَلَهُ، وَالذِّكْرُ يَشْمَلُ الكتَاب وَالسُّنَّة،
فَكِلاَهُما مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ الله بِنَصِّ الآية، وكلاَهُما
مَحْفُوظٌ، قَال الْحَافِظُ ابنُ حَزْمٍ:" وَضَمَانُ الله تعالَى قَدْ
صَحَّ فِي حِفْظِ كُلّ مَا قَالَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "
(النُّبذ )(ص 86).
لذَا فَإنَّ مِنْ أَهمِّ و آكَد الوَاجِبَات الْمُحَافَظةُ عَلى الشَّريعة الْمُحَمَّدية، وصيَانتهَا وَتَنقيتهَا مِنَ الدَّخيل،
وَ قَدْ أَدْركَ الصَّحابةُ رضي الله عنهم هَذا الوَاجب؛ فَقَاموا به
حَقَّ قيامٍ، وتَبعهم عليه مَنْ سلكَ سبيلهم من التَّابعين وأئمَّة
الدِّين والملَّة، قَالَ الحافظ أبو حاتم ابنُ حبَّان البستي (ت 354هـ):"
فُرْسَانُ هَذا العِلْم الَّذين حَفِظُوا عَلى الْمُسْلِمينَ الدِّين،
وهَدوهم إلى الصِّراط المستَقيم، الَّذين آثروا قَطْعَ الْمَفَاوِزِ وَ
القِفَار علَى التَّنَعُم في الدِّيار والأوْطان في طَلَبِ السُّنَنِ في
الأمْصَارِ، وجَمْعِها بالرَّحَلِ والأسْفار والدَّورانِ في جميعِ
الأقطارِ،حتَّى إنَّ أحدَهم لَيَرْحُلُ في الحديثِ الواحِدِ الفَرَاسخَ
البعيدة وفي الكَلمةِ الواحدةِ الأيامَ الكثيرةَ، لِئَلا يُدْخِلَ مُضِلٌّ
في السُّنَنِ شيئاً يُضِلُّ به، و إنْ فَعَلَ فَهُمُ الذَّابُّونَ عَنْ
رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذَلك الكَذب، والقَائمونَ بنُصْرةِ
الدِّينِ" (المجروحين)(1/27).
وَ إنَّ من المسلَّماتِ أنَّ الصِّراعَ بين الحقِّ
والباطل بَاقٍ ومُستمرٍ حتَّى قيام السَّاعة، وعليهِ فلا بُدَّ - والحالة
هذه- اسْتِمْرَارُ مَنْهج الصَّحابة رضي الله عنهم والتَّابعين وأئمَّة
الدِّين:
مِنْ حِرَاسةِ الشَّريعة المحمَّدية مِنْ تَحريفِ الغَالين وانْتِحَال
المبطلين وتَأْويل الجاهلين، وَ الْمُحَافَظة عَلى بقائها نقيَّة صافية،
مَعَ القِيامِ بِمَا أَوجبَ اللهُ مِنْ بَيَان الحقِّ للخلقِ وردِّ الباطل.
وفي نصوص الشَّرْع مَا يدَلَّ على ذَلكَ:
1/ ما أخرجهُ البخاريُّ في (صحيحه) (13/رقم 7022) واللفظ له، ومسلمٌ في
(الصَّحيح)(رقم 1037) منْ حديث معاويةرضي الله عنه قال: سمعتُ النَّبيَّ
صلى الله عليه وسلَّم يقولُ: ( لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتي أمَّةٌ قائمةٌ
بأمرِ اللهِ، مَا يَضُرُّهم مَنْ كذَّبهم وَلا مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى
يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ).
ووردَ نحوهُ من حديث المغيرة رضي الله عنه في الصَّحيحين أيضاً، ومنْ حديث
جابر رضي الله عنه عند مسلم، و عَنْ غيرهما منَ الصَّحابة رضي الله عن
الجميع.
2/ ما أخرجه البُخاريُّ في (صحيحه)(8/رقم 4547/209- فتح) واللفظ له،
ومسلمٌ في (الصحيح) (16/ ص 216- نووي) مِنْ حَديثِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
( تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم هَذِهِ الآيةَ{هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ رسول الله صلى الله وسلَّم :
فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ ).
وجهُ الاستدلال: ما قَاله الحافظُ النَّووي في (شرحه لصحيح
مسلم)(16/218):" في هَذا الْحَديثِ التَّحْذيرُ مِنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ
الزَّيغِ وأَهْلِ البِدَعِ وَ مَنْ يَتَّبعُ الْمُشْكلاَت للفِتْنةِ..".
3/ وَ أيضاً قَوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (سَيَكُون في آخر أمتي
نَاسٌ يُحدِّثونكم بِمَا لَمْ تَسْعَمُوا أَنْتُم وَ لا آبَاؤُكُم
فَإيَّاكُمْ وَإيَّاهُمْ)، أَخرجه مسلمٌ في (مقدِّمة الصَّحيح)(رقم 6)
(باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها).
قال الإمامُ البغوي في (شرح السنة)(1/ص 223):" حديثٌ حسنٌ..".
وجه الاستدلال: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أخبرَ بِهَذا
الغَيْبِ عَنْ أَقوامٍ يَأتونا بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، فَأَمَرَنَا
بِمُجَانبتهم، وحذَّرنا منْهُم.
إذَا تقرَّر هذا لابُدَّ وأنْ يُعلمَ أنَّ: .
منَ الأصول الشَّرعيَّة المقرَّرة والمدلَّل عليها من
الكتاب والسُّنَّة وعمل سلفِ الأمَّة الصَّالح: الرَّدُّ على المخالفِ
ومخالفتِهِ.
1/ قَالَ الإمام مُحمَّدُ بْنُ يَحيى الذهلي: سمعتُ يَحيى بن معين يقولُ: " الذَّب عنِ السُّنَّةِ أفضل من الْجَهادِ فِي سبيل الله.
فقلتُ ليحيى: الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ وَ يُتْعِبُ نَفسهُ وَ
يُجَاهِدُ، فَهذَا أفضل منْه؟! قَالَ: نَعَمْ، بِكَثيرٍ". (سير أعلام
النبلاء) للذهبي (10/518).
2/ قالَ الإمامُ عثمان بن سعيد الدارمي في (الرَّد على الجهمية)(ص18/ رقم
15):"..فحينَ رأينا ذلكَ منهم، وفطنَّا لمذهبهم، وما يَقصدونَ إليه من
الكُفر وإبطالِ الكتُب والرُّسل، ونفي الكَلام والعِلْم والأمر عن الله
تعالى، رأينا أنْ نُبيِّن من مذاهبهم رسوماً من الكتاب والسُّنَّة وَ كلام
العُلماءِ، ما يَسْتدل به أهل الغفلةِ منَ النَّاسِ على سوءِ مذْهَبهم،
فيحذروهم على أنفسهم وعلى أولادهم وأهليهم، ويجتهدونَ في الرَّدِّ عليهم،
محتسبين منافحين عن دين الله تعالى، طالبين به ما عند الله".
3/ قَالَ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة كما في (المجموع)(28/231-232):" ومثل
أئمَّة البِدَعِ مِنْ أهل المقالات المخالفةِ للكتاب والسُّنَّة، أو
العِبَادات المخالفة للكتِابِ وَالسُّنَّة، فإنَّ بَيانَ حَالهم، وتَحذيرَ
الأُمَّةِ مِنْهُم، واجبٌ باتِّفاق المسلمين، حَتَّى قيل لأحمد بن حنبل:
الرَّجل يَصُوم وَ يُصلِّي ويعتكفُ أحب إليك أو يتكلَّم في أهل البدعِ؟
فقال: إذا قَام وصلَّى واعتكفَ فإنَّما هو لنفسهِ، وإذا تكلَّم في أهلِ
البدعِ فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل.
فبيَّن أَنَّ نَفْعَ هَذا عامٌّ للمسلمين فِي دِينهم، مِنْ جِنْسِ
الْجِهَادِ فِي سَبيل الله؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيْل الله وَ دِيْنهِ وَ
مِنْهَاجهِ وَشِرْعَتهِ، ودفع بغي هَؤلاء وعُدوانهم علَى ذَلك، وَاجبٌ
علَى الكِفَايَةِ باتِّفاقِ المسلمينَ، ولَولا مَنْ يُقِيْمهُ الله
لدَفْعِ ضَرَرِ هَؤلاء لَفَسَدَ الدِّين، وكانَ فَسَادُهُ أَعظم مِنْ
فَسادِ اسْتِيْلاءِ العَدوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَربِ؛ فإنَّ هَؤلاء إذَا
اسْتَولوا لَمْ يُفْسِدُوا القُلُوبَ وَمَا فيها مِنَ الدِّينِ إلاَّ
تَبَعاً، وأمَّا أُولئكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ القُلُوبَ ابْتِدَاءً".
وقالَ أيضاً:" المقصودُ أنَّ هذه الأُمَّة- ولله الحمد- لم يزلْ فيها مَنْ
يتفطَّنُ لما في كلامِ أهلِ البَاطلِ و يردّه، وهم لما هداهم الله به،
يتوافقونَ في قبولِ الحقِّ، وردِّ البَاطلِ رأياً وروايةً من غير تشاعرٍ
ولا تواطؤٍ" (المجموع)(9/233).
4/ وقالَ الإمامُ ابنُ القيِّم في (مفتاح دار السعادة)(1/103) في وصْف أهل
السُّنة وجهَادهم :" فَكْمْ مِنْ قَتِيْلٍ لإبليس قد أَحْيَوه، ومِنْ
ضَالٍ جاهلٍ لا يَعْلَم طَريق رشده قَدْ هدوه، ومِنْ مُبْتَدعٍ في دينِ
الله بشُهُبِ الْحقِّ قد رَموهُ، جِهَاداً في الله، وابتغاء مَرضاته..".
وقال في النُّونيَّة:
هذا ونصرُ الدِّين فرضٌ لازم...لا للكفاية بل على الأعيان
بيدٍ وإما باللسان فإنْ عجز...ت فبالتَّوجه والدعا بجنان.
وقالَ أيضاً في (مدارج السَّالكين)(1/372):" واشْتدَّ نكيرُ السَّلفِ
والأئمَّة لَهَا- أي البدعة-، وصَاحوا بأهلهَا مِنْ أَقطار الأرضِ،
وحَذَّروا فِتْنَتَهُمْ أَشدَّ التَّحذير، وبَالغوا في ذلك ما لَمْ
يُبَالِغُوا مثله فِي إنكار الفَواحشِ، وَالظُّلم، والعُدوان؛ إذْ
مَضرَّةُ البِدَعِ، وَهَدْمِهَا للدِّينِ، وَمنافاتها لَه أَشدّ".
وقال في (هداية الحيارى)(ص 10):" مِنْ حقِّ الله على عبادهِ رد
الطَّاعنينَ على كتابهِ ورسولهِ،ودينهِ، ومجاهدتهم بالحجَّةِ والبيان،
والسَّيفِ والسِّنان، والقلبِ والجنان، وليس وراء ذلك حبَّة خردل من
إيمان".
5/ عَقدَ العَلاَّمة ابنُ مفلح في (الآداب الشَّرعية)(1/230) فَصْلاً
فقالَ:" فَصْلٌ: في وُجُوبِ إبْطَالِ البِدَعِ الْمُضِلَّةِ، وَإقَامَةِ
الْحُجَّة عَلى بُطْلانِهَا".
ثُم قالَ:" قالَ في (نِهَاية المبتدئين): ويَجِبُ إنكارُ البدعِ المضلَّة،
وإقامة الحجَّة على إبطالها، سواءٌ قَبِلَها قائلها أو ردَّها، ومَنْ قدر
على إنهاءِ المنكر إلى السُّلطان أنهاهُ، وإنْ خَافَ فوتهُ قبل إنهائهِ
أنكرهُ هُو".
لعلَّ فيما سبق منَ هذا التَّمهيد يتَّضحُ لنا أهميَّة الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ.
فالله أسأل التوفيق والسداد للجميع، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم.
وكتب
تمهيدٌ:
فَإنَّ الله عزَّ وجلَّ قَدْ أَتَمَّ عَليْنَا النِّعمة بِأَنْ أَرْسَلَ
إلينا خَيرَ رُسله مُحمَّداً صلى الله عليه وآله وسلَّم، وأَنْزَلَ عَليهِ
خَيرَ كُتُبه الَّذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا
مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).
وَتَكَفَّلَ سُبْحَانَهُ بِحِفْظهِ فَقَال ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).
ووجه الدلالة: أنَّ الله تعالى تَكفَّل بِحِفْظ الذِّكر الَّذي أَنْزَلَهُ، وَالذِّكْرُ يَشْمَلُ الكتَاب وَالسُّنَّة،
فَكِلاَهُما مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ الله بِنَصِّ الآية، وكلاَهُما
مَحْفُوظٌ، قَال الْحَافِظُ ابنُ حَزْمٍ:" وَضَمَانُ الله تعالَى قَدْ
صَحَّ فِي حِفْظِ كُلّ مَا قَالَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "
(النُّبذ )(ص 86).
لذَا فَإنَّ مِنْ أَهمِّ و آكَد الوَاجِبَات الْمُحَافَظةُ عَلى الشَّريعة الْمُحَمَّدية، وصيَانتهَا وَتَنقيتهَا مِنَ الدَّخيل،
وَ قَدْ أَدْركَ الصَّحابةُ رضي الله عنهم هَذا الوَاجب؛ فَقَاموا به
حَقَّ قيامٍ، وتَبعهم عليه مَنْ سلكَ سبيلهم من التَّابعين وأئمَّة
الدِّين والملَّة، قَالَ الحافظ أبو حاتم ابنُ حبَّان البستي (ت 354هـ):"
فُرْسَانُ هَذا العِلْم الَّذين حَفِظُوا عَلى الْمُسْلِمينَ الدِّين،
وهَدوهم إلى الصِّراط المستَقيم، الَّذين آثروا قَطْعَ الْمَفَاوِزِ وَ
القِفَار علَى التَّنَعُم في الدِّيار والأوْطان في طَلَبِ السُّنَنِ في
الأمْصَارِ، وجَمْعِها بالرَّحَلِ والأسْفار والدَّورانِ في جميعِ
الأقطارِ،حتَّى إنَّ أحدَهم لَيَرْحُلُ في الحديثِ الواحِدِ الفَرَاسخَ
البعيدة وفي الكَلمةِ الواحدةِ الأيامَ الكثيرةَ، لِئَلا يُدْخِلَ مُضِلٌّ
في السُّنَنِ شيئاً يُضِلُّ به، و إنْ فَعَلَ فَهُمُ الذَّابُّونَ عَنْ
رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذَلك الكَذب، والقَائمونَ بنُصْرةِ
الدِّينِ" (المجروحين)(1/27).
وَ إنَّ من المسلَّماتِ أنَّ الصِّراعَ بين الحقِّ
والباطل بَاقٍ ومُستمرٍ حتَّى قيام السَّاعة، وعليهِ فلا بُدَّ - والحالة
هذه- اسْتِمْرَارُ مَنْهج الصَّحابة رضي الله عنهم والتَّابعين وأئمَّة
الدِّين:
مِنْ حِرَاسةِ الشَّريعة المحمَّدية مِنْ تَحريفِ الغَالين وانْتِحَال
المبطلين وتَأْويل الجاهلين، وَ الْمُحَافَظة عَلى بقائها نقيَّة صافية،
مَعَ القِيامِ بِمَا أَوجبَ اللهُ مِنْ بَيَان الحقِّ للخلقِ وردِّ الباطل.
وفي نصوص الشَّرْع مَا يدَلَّ على ذَلكَ:
1/ ما أخرجهُ البخاريُّ في (صحيحه) (13/رقم 7022) واللفظ له، ومسلمٌ في
(الصَّحيح)(رقم 1037) منْ حديث معاويةرضي الله عنه قال: سمعتُ النَّبيَّ
صلى الله عليه وسلَّم يقولُ: ( لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتي أمَّةٌ قائمةٌ
بأمرِ اللهِ، مَا يَضُرُّهم مَنْ كذَّبهم وَلا مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى
يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ).
ووردَ نحوهُ من حديث المغيرة رضي الله عنه في الصَّحيحين أيضاً، ومنْ حديث
جابر رضي الله عنه عند مسلم، و عَنْ غيرهما منَ الصَّحابة رضي الله عن
الجميع.
2/ ما أخرجه البُخاريُّ في (صحيحه)(8/رقم 4547/209- فتح) واللفظ له،
ومسلمٌ في (الصحيح) (16/ ص 216- نووي) مِنْ حَديثِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
( تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم هَذِهِ الآيةَ{هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ رسول الله صلى الله وسلَّم :
فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ ).
وجهُ الاستدلال: ما قَاله الحافظُ النَّووي في (شرحه لصحيح
مسلم)(16/218):" في هَذا الْحَديثِ التَّحْذيرُ مِنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ
الزَّيغِ وأَهْلِ البِدَعِ وَ مَنْ يَتَّبعُ الْمُشْكلاَت للفِتْنةِ..".
3/ وَ أيضاً قَوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (سَيَكُون في آخر أمتي
نَاسٌ يُحدِّثونكم بِمَا لَمْ تَسْعَمُوا أَنْتُم وَ لا آبَاؤُكُم
فَإيَّاكُمْ وَإيَّاهُمْ)، أَخرجه مسلمٌ في (مقدِّمة الصَّحيح)(رقم 6)
(باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها).
قال الإمامُ البغوي في (شرح السنة)(1/ص 223):" حديثٌ حسنٌ..".
وجه الاستدلال: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أخبرَ بِهَذا
الغَيْبِ عَنْ أَقوامٍ يَأتونا بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، فَأَمَرَنَا
بِمُجَانبتهم، وحذَّرنا منْهُم.
إذَا تقرَّر هذا لابُدَّ وأنْ يُعلمَ أنَّ: .
منَ الأصول الشَّرعيَّة المقرَّرة والمدلَّل عليها من
الكتاب والسُّنَّة وعمل سلفِ الأمَّة الصَّالح: الرَّدُّ على المخالفِ
ومخالفتِهِ.
1/ قَالَ الإمام مُحمَّدُ بْنُ يَحيى الذهلي: سمعتُ يَحيى بن معين يقولُ: " الذَّب عنِ السُّنَّةِ أفضل من الْجَهادِ فِي سبيل الله.
فقلتُ ليحيى: الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ وَ يُتْعِبُ نَفسهُ وَ
يُجَاهِدُ، فَهذَا أفضل منْه؟! قَالَ: نَعَمْ، بِكَثيرٍ". (سير أعلام
النبلاء) للذهبي (10/518).
2/ قالَ الإمامُ عثمان بن سعيد الدارمي في (الرَّد على الجهمية)(ص18/ رقم
15):"..فحينَ رأينا ذلكَ منهم، وفطنَّا لمذهبهم، وما يَقصدونَ إليه من
الكُفر وإبطالِ الكتُب والرُّسل، ونفي الكَلام والعِلْم والأمر عن الله
تعالى، رأينا أنْ نُبيِّن من مذاهبهم رسوماً من الكتاب والسُّنَّة وَ كلام
العُلماءِ، ما يَسْتدل به أهل الغفلةِ منَ النَّاسِ على سوءِ مذْهَبهم،
فيحذروهم على أنفسهم وعلى أولادهم وأهليهم، ويجتهدونَ في الرَّدِّ عليهم،
محتسبين منافحين عن دين الله تعالى، طالبين به ما عند الله".
3/ قَالَ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة كما في (المجموع)(28/231-232):" ومثل
أئمَّة البِدَعِ مِنْ أهل المقالات المخالفةِ للكتاب والسُّنَّة، أو
العِبَادات المخالفة للكتِابِ وَالسُّنَّة، فإنَّ بَيانَ حَالهم، وتَحذيرَ
الأُمَّةِ مِنْهُم، واجبٌ باتِّفاق المسلمين، حَتَّى قيل لأحمد بن حنبل:
الرَّجل يَصُوم وَ يُصلِّي ويعتكفُ أحب إليك أو يتكلَّم في أهل البدعِ؟
فقال: إذا قَام وصلَّى واعتكفَ فإنَّما هو لنفسهِ، وإذا تكلَّم في أهلِ
البدعِ فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل.
فبيَّن أَنَّ نَفْعَ هَذا عامٌّ للمسلمين فِي دِينهم، مِنْ جِنْسِ
الْجِهَادِ فِي سَبيل الله؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيْل الله وَ دِيْنهِ وَ
مِنْهَاجهِ وَشِرْعَتهِ، ودفع بغي هَؤلاء وعُدوانهم علَى ذَلك، وَاجبٌ
علَى الكِفَايَةِ باتِّفاقِ المسلمينَ، ولَولا مَنْ يُقِيْمهُ الله
لدَفْعِ ضَرَرِ هَؤلاء لَفَسَدَ الدِّين، وكانَ فَسَادُهُ أَعظم مِنْ
فَسادِ اسْتِيْلاءِ العَدوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَربِ؛ فإنَّ هَؤلاء إذَا
اسْتَولوا لَمْ يُفْسِدُوا القُلُوبَ وَمَا فيها مِنَ الدِّينِ إلاَّ
تَبَعاً، وأمَّا أُولئكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ القُلُوبَ ابْتِدَاءً".
وقالَ أيضاً:" المقصودُ أنَّ هذه الأُمَّة- ولله الحمد- لم يزلْ فيها مَنْ
يتفطَّنُ لما في كلامِ أهلِ البَاطلِ و يردّه، وهم لما هداهم الله به،
يتوافقونَ في قبولِ الحقِّ، وردِّ البَاطلِ رأياً وروايةً من غير تشاعرٍ
ولا تواطؤٍ" (المجموع)(9/233).
4/ وقالَ الإمامُ ابنُ القيِّم في (مفتاح دار السعادة)(1/103) في وصْف أهل
السُّنة وجهَادهم :" فَكْمْ مِنْ قَتِيْلٍ لإبليس قد أَحْيَوه، ومِنْ
ضَالٍ جاهلٍ لا يَعْلَم طَريق رشده قَدْ هدوه، ومِنْ مُبْتَدعٍ في دينِ
الله بشُهُبِ الْحقِّ قد رَموهُ، جِهَاداً في الله، وابتغاء مَرضاته..".
وقال في النُّونيَّة:
هذا ونصرُ الدِّين فرضٌ لازم...لا للكفاية بل على الأعيان
بيدٍ وإما باللسان فإنْ عجز...ت فبالتَّوجه والدعا بجنان.
وقالَ أيضاً في (مدارج السَّالكين)(1/372):" واشْتدَّ نكيرُ السَّلفِ
والأئمَّة لَهَا- أي البدعة-، وصَاحوا بأهلهَا مِنْ أَقطار الأرضِ،
وحَذَّروا فِتْنَتَهُمْ أَشدَّ التَّحذير، وبَالغوا في ذلك ما لَمْ
يُبَالِغُوا مثله فِي إنكار الفَواحشِ، وَالظُّلم، والعُدوان؛ إذْ
مَضرَّةُ البِدَعِ، وَهَدْمِهَا للدِّينِ، وَمنافاتها لَه أَشدّ".
وقال في (هداية الحيارى)(ص 10):" مِنْ حقِّ الله على عبادهِ رد
الطَّاعنينَ على كتابهِ ورسولهِ،ودينهِ، ومجاهدتهم بالحجَّةِ والبيان،
والسَّيفِ والسِّنان، والقلبِ والجنان، وليس وراء ذلك حبَّة خردل من
إيمان".
5/ عَقدَ العَلاَّمة ابنُ مفلح في (الآداب الشَّرعية)(1/230) فَصْلاً
فقالَ:" فَصْلٌ: في وُجُوبِ إبْطَالِ البِدَعِ الْمُضِلَّةِ، وَإقَامَةِ
الْحُجَّة عَلى بُطْلانِهَا".
ثُم قالَ:" قالَ في (نِهَاية المبتدئين): ويَجِبُ إنكارُ البدعِ المضلَّة،
وإقامة الحجَّة على إبطالها، سواءٌ قَبِلَها قائلها أو ردَّها، ومَنْ قدر
على إنهاءِ المنكر إلى السُّلطان أنهاهُ، وإنْ خَافَ فوتهُ قبل إنهائهِ
أنكرهُ هُو".
لعلَّ فيما سبق منَ هذا التَّمهيد يتَّضحُ لنا أهميَّة الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ.
فالله أسأل التوفيق والسداد للجميع، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم.
وكتب
عبدالله بن عبدالرحيم البخاري- كان الله له-
المدينة النبوية
في 16/ ذي الحجة/ 1429هـ
(يتبعه في حلقة أخرى -بحول الله- الكلام عن جملة من ثمار الرَّد على المخالف)
منقول / سحاب السلفية
منقول / سحاب السلفية