بسم الله الرحمن الرحيم
هَـلْ مِنْ مُسـتجـيـب
هَـلْ مِنْ مُسـتجـيـب
الحمد لله ربّ العالمين , و الصلاة و السلام على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
مِن أبرز و أهم صفات المسلم الصادق مع ربِّه, والمخلص لدينه , المتّبع لهدي نبيِّه – صلى الله عليه وسلم- حبه لإخوانه , وصدقه معهم , وإيثارهم على نفسه , وكل هذه الصفات لابدّ أنْ تكون مِن أجل الله –عزّ و جلّ- مجردة عن كل منفعة دنيوية , بريئة مِن كل غرض دنيوي, فهذه الرابطة الأخوية,هي رابطة الإيمان بالله .
قال تعالى :"{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " (10 سورة الحجرات)
وأخّوة الإيمان أوثق روابط النفوس , وأمتن عُرى القلوب , وأسمى صلات العقول والأرواح,فبهذه الرابطة تتحقق حلاوة الإيمان .
قال - صلى الله عليه وسلم- :" ثلاث مَنْ كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان,أنْ يكون الله ورسوله أحبُّ إليه مما سواهما , وأنْ يحبَّ المرء لا يحبه إلا لله وأنْ يكره أنْ يعود في الكفر بعد أنْ أنقذه الله منه كما يكره أنْ يُقذف في النار "
( متفق عليه)
ومِنْ ثمرة هذه المحبة الإيمانية , أنها ترفع مِن مقام المتحابين في الله, وتظلهم تحت عرش الرحمن,قال - صلى الله عليه وسلم-:" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .... ورجلان تحابّا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه...." ( متفق عليه )
وكفاهم شرفاً أنَّ ربَّ العزة يحفل بهم يوم الحشر فيقول:"أين المتحابون بجلالي؟اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي " ( رواه مسلم)
ويقول:" المتحابون في جلالي لهم منابر مِن نور يَغبِطهم النبيون والشهداء"
( رواه مسلم )
وهذه المحبة لا تتحقق إلا مَنْ صفت نفوسهم , وسمت أرواحهم , وهانت عليهم الدنيا بجانب مرضاة الله, وارتفاعهم عن مشاغل الدنيا وحطامها,وما أعظم هذه المحبة إذا كانت مِن اجل الله , بل قرر النبي – صلى الله عليه وسلم- أنّ أفضل الأخويَن المتحابيْن في الله مِن أشد حباً لأخيه, فقال :" ما تحابَّ رجلان إلا كان أفضلهما أشدُّ حباً لصحابه " ( رواه الحاكم و الحديث صحيح )
و مِن حرصه – صلى الله عليه وسلم – على هذه المحبة أنّه كان لا يَدَعْ مناسبة إلا و يدعُو المسلمين إلى التحابب , و يأمرهم أن يعلنوا هذا التحابب , لتنفتح مغاليق القلوب , و تشيع المودة و الألفة و المحبة و الصفاء بين الصفوف , فعن أنس – رضي الله عنه – أنّ رجلاً كان عند النبي – صلى الله عليه و سلم – فمر به رجل فـقال : يا رسول الله , إني لأحب هذا فقال له النبي – صلى الله عليه و سلم – " أأعلمتَه ؟ قال : لا " قال أَعلِمْهُ " فلحـقه فقال : إني لأحبك في الله , فقال : أَحبَّك الله الذي أحببتني مِن أجله "
( رواه أبو داود و الحديث حسن صحيح )
و كان – صلى الله عليه و سلم - يفعل ذلك بنفسه معـلـماً و مرشـداً المسلمين , حتى يتحقق التوادّ و التـآخي , و ذلك عندما أخذ بيد معاذ و قال له : و الله إني لأحبك ... "
( رواه أحمد بإسناد صحيح )
و جعل النبي – صلى الله عليه و سلم – المحبة مِن أسباب دخول الجنة , فقال :" و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا , و لا تؤمنوا حتى تحابّوا ,أوَ لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم "
( رواه مسلم )
و كل هذا مِن أجل انتزاع الحسد مِن النفوس و الحقد مِن الصدور , حتى ينتفي منها الكيد و الغل و التباغض , ولذلك دعا إلى إفشاء السلام بين الإخوة لتتلاقى القلوب , على الخير و المحبة.
و بهذه المحبة الصادقة استطاع المسلمون الأوائل التماسك و الثبات على دين الله , و بنى بها النبي – صلى الله عليه و سلم – جيل الإسلام الأول الذي بلغ الرسالة و نشر تعاليمها في الخافقين .
و المسلم الحق الواعي أحكام دينه , يعلم أن الإسلام الذي دعا إلى المحبة , والتواصل و التـعـاطـف و التراحـم و التواصي , هو الذي حرّم التباغض و القطيعة و الهجر بين المتحابين الصادقين , و ذلك لأنّ عروة الحب في الله أوثق و أقوى مِن أنْ تنقطع مِنْ أول ذنب أو خطأ يقترفه أحدهما .
قال – صلى الله عليه و سلم - :" ما توادّ اثنان في الله –جلّ و عزّ – أو في الإسلام , فيفرق بينها أول ذنب يحدثه أحدهما " ( رواه البخاري في الأدب المفرد و الحديث صحيح )
فمَن منا لا يخطئ , و مَن منا لا يذنب , و هذه طبيعة النفس البشرية , و أنها عرضة لنزوات الغضب, و تقلّبات العاطفة في لحظات الضعف , فلا نجعل هذا مِن أسباب الفُرقة و الاختلاف, و المسلم الصادق لا يصبر على هجر أخيه و مخاصمته , مهما تكن الأسباب , بل يسارع إلى مصافحته و التسليم عليه , لأنّ خيرهما الذي يبدأ بالسلام , فإنْ ردّ عليه السلام اشتركا الاثنان في أجر المصالحة , و إن لم يردّ عليه فقد بريء المسلم مِن إثم القطيعة و الهجر , و باء الممتنع عن رد السلام وحده بالإثم .
قال – صلى الله عليه و سلم - :" لا يحلّ لأحد أن يهجر أخاه فوق ثـلاث ليـال , يلتقيان , فيصدّ هذا و يصدّ هذا , و خيرهما الذي بدأ بالسلام " ( متفق عليه )
و كلما زادت مدة القطيعة و الهجر زاد الإثم و اشتد الوعيد للمتخاصمين المتنازعين .
كما قال – صلى الله عليه و سلم - :" مَن هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه "
( رواه أبو داود و الحديث صحيح )
و لهذا جاء الوعيد شديداً لأولئك أصحاب القلوب القاسية , الملتوين عن جادة الإسلام الخُلُقية , المحجوبين عن بشاشته و سماحته , بإصرارهم على الهجر و القطيعة , و يحجب عنهم رحمته و مغفرته , و يغلق دونهم أبواب الجنة , لقوله – صلى الله عليه و سلم -:" تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين و يوم الخميس , فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا , إلا رجلاً كانت بينه و بين أخيه شحناء , فيُقال أَنظروا هذين حتى يصطلحا , أَنظروا هذين حتى يصطلحا, أَنظروا هذين حتى يصطلحا" ( رواه مسلم )
و المسلم الحق إذا مسّه الغيظ مِن أخيه , كظمه و ما أسرعه إلى العفو عنه و التغاضي عن زلته , و لا يرى في صفحه عن أخيه ذلاً يحيق به , و لا عاراً يلبسه , بل يرى فيه إحسانا يقرّبه مِن الله زُلفى , و يكسبه محبته التي خصّ بها المحسنين مِن عباده .
قال تعالى :"الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (134سورة آل عمران)
و تواضع المسلم لأخيه المسلم و عفوه عنه,مبتغياً بذلك مِن الله العزة,والرفعة ,كما قال – صلى الله عليه و سلم- :
" ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزاً , و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله "
( رواه مسلم )
إن الحقد لا مكان له في قلب العبد المسلم , الواعي توجيهات دينه , ذلك أنّه يدرك قيمة العفو , و صفـاء القلـب في مغفرة الله له .
و أنّه لحريٌّ بنا نحن طلبة العلم بعد هذا كله أنْ نكون مِمـَّن تخلّقـوا بأخـلاق النـبي – صلى الله عليه و سلم – , و أن نواجه بعضنا بعضا , ببشاشة الوجه , مبتسمين فرحين , بما أكرمنا الله – عز و جل – به مِن المحبة الصادقة.
فبشاشة الوجه خليقة حسنة حضَّ عليها الإسلام و جعلها مِن الأعمال الصالحة التي تُكسـب صاحـبها المـثوبة , و الأجر لأن الوجه الطليق الصافي , مرآة القلب النظيـف الصافي , و هذا الصفاء لابدّ أن يـظهر على أخـلاقنـا و محبتنا , كما قال – صلى الله عليه و سلم - :" تبسمك في وجه أخيك لك صدقة "
( رواه الترمذي و الحديث صحيح )
و هكذا النبي – صلى الله عليه و سلم - ,ما كان يقع بصره على أحد مِن صحابته إلا ابتسم له ,و هذا ما حصل مع الصحابي الجليل جرير بن عبد الله البجلي , قال :"ما حجبني رسول الله – صلى الله عليه و سلم – منذ أسلـمـت , و لا رآني إلا ابتسم " ( متفق عليه )
لقد حبّب الإسلام إفشاء السلام , و المصافحة و المعانقة عند تلاقي الإخوة , إذا قدموا مِن سفر , لتبقى أسباب الودِّ بين القلوب , و المحبة بين النفوس , فـهـل مـن مسـتـجـيـب .
و آخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
كتبه
سمير المبحوح
13 / جمادى الآخر / 1431 هـ