طالب العلم والتأليف
يقول الأخ:
نويت أن أقوم بتأليف كتاب، ولكن ينتابني وسواس: أن هذا رياء، وأن لا أكتب اسمي وأرمز بلقبي، فهل هذا حل للوسواس، أم ترون أن أكتب اسمي كاملاً ولا أهتم بهذا الوسواس( [149])؟
الجواب:
أولاً: لا أرى أن كل إنسان -عنت له فكرة التأليف- أن يكتب إلا بشروط ثلاثة:
أ- الأهلية في العلم والتأليف: وتكون بشهادة أهل العلم للشخص.
جلس الإمام مالك رحمه الله ذات يوم بين طلابه، فسأل سائل عن مسألة، فأجابه عبد الرحمن بن القاسم العتقي، وهو من أصحاب مالك، فغضب مالك رحمه الله وقال: لا ينبغي لأحد أن يفتي حتى يشهد له من هو خير منه أنه أهل للفتوى، والله ما أفتيت الناس حتى شهد لي سبعون من أهل هذا المسجد -يعني مسجد النبي صلى الله عليه وسلم- أني أهل للفتوى( [150])، فلا ينبغي التصدر الكامل للفتوى والتأليف، إلا ممن شهد له أهل العلم بأنه أهل لهذا المقام
.
فالعينُ تُبصِرُ ما دنى ونأى *** ولا تَرى ما بها إلا بمـرآةِ
فالعينُ تُبصِرُ ما دنى ونأى *** ولا تَرى ما بها إلا بمـرآةِ
ويعلم الله( [151]): أنني عرض عليّ مجلس أفضل من هذا المجلس، في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصغر سناً من الآن، وامتنعت؛ لأن التصدر يحتاج إلى أهلية.
أما كون الإنسان يجمع من هنا وهناك، ويعيد صياغة العبارات، ثم يخرجها، وتحسب على أنها كتب علمية فلا.
والأهلية تحتاج إلى أمور ثلاثة:
أ- علم موروث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ب- سنوات طويلة من طلب العلم، وكان السلف ربما جلس الواحد منهم عند العالم ثلاثين عاماً، قبل أن يتصدر للتدريس.
ج- عقل؛ لان الإنسان قد يكون عالم ولا عقل له. والعلماء ثلاثة مراتب:
أ- عالم عقله أكبر من علمه، عنده علم قليل، ولكن عنده حكمة وبصيرة في توجيه الناس وإرشادهم إلى ما يكون فيه خير كثير.
ب- عالم علمه أكبر من عقله، عنده علم كثير ويحفظ ويقرأ، ولكنه لا يحسن وضع الأمور في نصابها.
ج- عالم استوى عقله وعلمه، وهذه مرتبة الكمال، فلا بد من الأمرين للمتصدر.
العلم: وهو الركيزة الأولى، والعقل: الذي يعرف به محاسن الأمور ومساوئها، وهذه الركيزة الثانية.
وأما التصدر الجزئي فيكفي فيه علم الشخص بالمسألة التي يتكلم فيها.
ومن لم يتوفر فيه هذا الشرط، فليتقِ الله في نفسه وفي المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذّر من اتخاذ الجهال رؤوساً في توجيه الأمة وتعليمها،
وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (حتى إذا لم يبقَ عالم، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)( [152]).
ولأن من ألف فقد عرض عقله على الناس في طبق، فإما أن يرى منه عقل كامل، أو ما هو دون ذلك.
إضافة إلى مدح الناس وثنائهم عليه بالخير أو ذمهم
ولذلك قالوا: من ألف فقد استهدف، أي صار هدفاً للناس في المدح أو الذم.
وكان علماء السلف إذا الفوا، عرضوا مؤلفاتهم على علماء عصرهم حتى يشهدوا بأهلية المؤلف( [153]).
ب- أن توجد الحاجة لهذا التأليف:
وهي من علامات وثمرات الإخلاص وإرادة وجه الله، أما إذا لم توجد حاجة، فلماذا يؤلف الإنسان! وما وجد هذا الزخم والغثاء في التآليف المعاصرة إلا حين فُقد هذا الشرط، وصار كل من اشتهى ألّف، ولذلك انظر إلى السلف الصالح -رحمة الله عليهم- ما كانوا يؤلفون حتى يلحّ عليهم في الطلب ويسألوا( [154]).
ولله أمر عجيب: أن ترى من يؤلف اليوم في مسالة قُتِلَت بحثاً من علماء سلفنا الصالح -رحمة الله عليهم-، وأنهوا الكلام فيها واستوعبوها بحثاً، وكفونا فيها المؤنة.
فيأتي هذا ويقول: أحكام الوضوء، والثاني يؤلف في أحكام السواك أو الطهارة، وكلها مسائل ليست طارئة أو نازلة، بل ربما من المسائل التي هي من الفروع الواضحة، والتي قلّ أن يخلو منها كتاب.
فيأتي هذا -وليته يكتفي بالنقل المقيد-، لا.. بل المصيبة أنه يجمع من كتب بعض المذاهب الزلات والهنات، ويطلق لسانه بالسب والشتم والثلب وانتقاص العلماء، وربما نقل عبارة لكي يعلق عليها بصفحات يثرب فيها على من ألف قبله، وهذا خطأ، وإلا لما ألّف أحد( [155]). نسأل الله السلامة والعافية.
بل ربما نصَّب نفسه حكماً بين فحول الأئمة والعلماء، كالإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد -رحمة الله عليهم-.
مواقف كان يهابها العلماء الحفاظ الأتقياء، ويأتي هذا يزعم أنه أتى بالقول الفصل الذي لا ينبغي اتّباع قول غيره( [156])، ويخرج على الناس في المسائل بأشذ وأضعف قول عند السلف. نعم هناك تعصب ولا شك، والإنسان ليس بكامل.
والتعصب جبلّة، والمعصوم من عصمه الله من التعصب لغير الحق، والمبالغة في ذلك حتى يخرج الإنسان فيها عن حدّ الشرع لا تحمد.
ولا نقصد بهذا الكلام تقديس أقوال العلماء، لكن أن نعرف قدرنا ومن نحن بعد الله لولا كتبهم وعلمهم، والتآليف أمانة، والناس إذا قرأت لك أو استمعت لمحاضرتك أو دروسك تأتمنك على الدين.
ج- أن يكتب وهو يريد وجه الله والدار الآخرة، ونفع الأمة، لا الرياء والشهرة، ولا مزاحمة الغير.
ولما ألّف الإمام مالك رحمه الله موطأه، ألّف الناس الموطآت، فقالوا له: يا أبا عبد الله.. كثرت الموطآت، فقال: ستعلمون ما أريد به وجه الله( [157]).
والآن -بالله عليكم- هل تعرفون موطأ غير موطأ الإمام مالك برواية محمد بن الحسن أو يحيى بن يحيى الليثي، اندثرت كل تلك الموطآت، فالأمور التي يقصد بها غير وجه الله عز وجل، غالباً تكون وبالاً على صاحبها، فما كان لله دام واتصل.
ثانياً: التأليف لا يدل دائماً على العلم:
فبعض الناس قد يعجز أثناء درسه عن إباحة كل ما في نفسه من علم، ويكون علمه مختبئاً، لا يظهر إلا إذا أمسك قلمه، والبعض العكس، وبعض العلماء جمع الله له بين التدريس والتأليف، وهذا موجود في كتب التراجم، تجد بعضهم أثني عليه في التدريس، ولم يُثن عليه في التأليف؛ ولذلك اليوم تجد البعض من العلماء وعاء من أوعية العلم، حافظاً يستحضر الشتات في المسألة، لكن لو سألته عن نازلة، لا يحسن الفتوى فيها، ولله تعالى في خلقه شؤون وحِكم.
ولا مانع أن تؤلف وتنفع إخوانك، ولو أخذت كتاباً من كتب السلف، أخرجته للنور -تحتسب عند الله الأجر، ويكون لك مثل أجر مؤلفه ووفاءً لحقهم علينا- لكان أجدى من هذا الزخم الموجود في المكتبات، والذي لا نحتاجه.
لصاحب الفضيلة الدكتور
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
الأستاذ المساعد بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
والمدرس بالمسجد النبوي الشريف
والنقل
لطفـاً .. من هنـــا
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=38821
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
الأستاذ المساعد بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
والمدرس بالمسجد النبوي الشريف
والنقل
لطفـاً .. من هنـــا
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=38821