لذة التعبد عند السلف
فلله در أقوام؛ شغلهم تحصيل زادهم عن أهليهم وأولادهم، ومال بهم ذكر المآل عن المال في معادهم، وصاحت بهم الدنيا فما أجابوا شغلا بمرادهم، وتوسدوا أحزانهم بدلًا عن وسادهم، واتخذوا الليل مسلكًا لجهادهم واجتهادهم، وحرسوا جوارحهم من النار عن غيهم وفسادهم
فيا طالب الهوى جز بناديهم ونادهم: أَحيَوا فُؤَادِي! ولَكِنَّهم علَى صَيحَة من البين ماتُوا جميعًا، حرمُوا رَاحة النَّوم أَجفَانهم، وَلَفُّوا علَى الزفرات الضُّلوعَا، طُول السَّواعد شُمُّ الأُنوف؛ فطابُوا أُصُولًا، وطَابُوا فُرُوعا، أَقبلت قلوبهم تراعي حق الحق، فذهلت بذلك عن مناجاة الخلق 0 فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى، والقُلوب في رياض الملكوت ترعى، نازلهم الخوف فصاروا والهين، وناجاهم الفكر فعادوا خائفين، وجَنَّ عليهم الليل فباتوا ساهرين، وناداهم منادى الصَّلاح حىّ على الفلاح فقاموا متهجدين، وهبت عليهم ريح الأَسحار فتيقظوا مستغفرين، وقطعوا بند المجاهدة فأصبحوا واصلين، فلمَّا رجعوا وقت الفجر بالأَجر نادى الهجر: يا خيبة النائمين.
لله قَوْمٌ شَرُوا مِنْ الله أَنْفُسَهُم *** فَأَتْعَبُوهَا بِذِكْرِ اللهِ أَزْمَانَا
أَمَّا النَّهَارُ فَقَدْ وَافَوا صِيامَهُمُ *** وَفِي الظَّلَامِ تَرَاهُمْ فِيهِ رُهْبَانَا
أَبْدَانُهُم أَتْعَبَتْ فِي اللهِ أَنْفُسَهَم *** وَأَنْفُسٌ أَتْعَبَتْ فِي اللهِ أَبْدَانَا
ذَابَتْ لُحُومُهُمُ خَوْفَ العَذَابِ غَدًا *** وَقَطَّعُوا اللَّيلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا
فلله در أقوام هجروا لذيذ المنام، وتنصلوا لما نصبوا له الأقدام، وانتصبوا للنصب في الظلام يطلبون نصيبًا من الإنعام، إِذا جنّ الليل سهروا، وإذا جاء النَّهار اعتبروا، وإذا نظروا في عيوبهم استغفروا، وإذا تفكروا في ذنوبهم بكوا وانكسروا.
وإليك بعضًا من صورهم، ونماذج من هديهم، عسى أن نحذو حذوهم، ونتأسى بهديهم.
لذةُ التعبد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ونبدأ بسيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي ما اكتحلت العيون بمثل رؤيته، ولا شرفت النفوس بمثل صحبته، إِنْ كَانَ - صلى الله عليه وسلم - لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا.
وَعَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ فِي قَصَصِهِ يَذْكُرُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ أَخًا لَكُمْ لَا يَقُولُ الرَّفَثَ - يَعْنِي بِذَاكَ ابْنَ رَوَاحَةَ - قَالَ:
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ *** إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ من الْفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ***بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ *** إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ
بل إن شئت أن تراه قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا، أو ذاكرًا، في أي ساعة من ليل أو نهار وجدته - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله قائمًا، ولعبادة الله ملازمًا، فقد كان عمله - صلى الله عليه وسلم - ديمة.
عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ - رضي الله عنها -: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْتَصُّ من الْأَيَّامِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُطِيقُ؟!.
ولذلك نرى الصَّحابة - رضي الله عنهم - ما رأت عيونهم ولا سمعت آذانهم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو على طاعة.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى، من الْبُكَاءِ - صلى الله عليه وسلم -.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَحَسَّسْتُهُ فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ، يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي لَفِي شَأْنٍ وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ.
وعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاة مِنْ اللَّيْلِ؛ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ، صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ.
بل نرى عند الشدائد والصعاب وتغير الزمان، يكون هو أقرب الخلق من الرحمن.
فَعَنْ عَلِي بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَومَ بَدرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا قَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ.
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ من شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَابْنِ رَوَاحَةَ.
سماعه القرآن:
وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب سماع القرآن من غيره.
فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ: لِي النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ من غَيْرِي، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ؛ حَتَّى بَلَغْتُ [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا من كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا]قَالَ: أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي مُوسَى: لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ؛ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا من مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ.
لذة التعبد عند الصحابة رضي الله عنهم:
فمهما سطَّر البنان، وتكلم العلماء بكلِّ لسان؛ فإن سير هؤلاء يعجز عن وصفها إنسان.
فهم أولى بالحديث من قول العباس بن الأحنف عن محبوبته:
وَحَدَّثْتَنِي يَا سَعْدُ عَنْهًا فَزِدْتَنِي جُنُونًا فَزِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ يَا سَعْدُ
فهم مصابيح الدُّجى، وينابيع الرشد والحجى، خصوا بخفي الاختصاص، ونقوا من التصنع بالإخلاص، وهم الواصلون بالحبل، والباذلون للفضل، والحاكمون بالعدل، هم المبادرون إلى الحقوق من غير تسويف، والموفون للطَّاعات من غير تطفيف.
هُم الرِّجَالُ وَعَيْبٌ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ *** لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَانِيَ وَصْفِهم رَجُلُ
أبو بكر الصديق:
السّابق إلى التَّصديق، الملقب بالعتيق المؤيد من الله بالتوفيق، {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [سورة التوبة: 40]
كان رقيق القلب غزير الدَّمع، عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَتَاهُ بِلَالٌ يُوذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ، قُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاة دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاة، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ من تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ.
كان صِدِّيقًا ما اهتز إيمانه ولا تزعزع وجدانه، عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - زَوْجِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ - يَعْنِي بِالْعَالِيَةِ - فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ، مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُذِيقُكَ اللَّهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا. ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ! فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَقَالَ [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] وَقَالَ [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] قَالَ فَنَشَجَ النَّاس يَبْكُونَ.
عمر بن الخطاب:
الفاروق، ذو المقام الثابت المأنوق، أعلن الله به دعوة الصّادق المصدوق، فجمع الله له بما منحه من الصَّولة؛ ما نشأت لهم به الدَّولة، كان معارضًا للمبطلين، موافقًا في الأحكام لرب العالمين، كان فارقًا بين الحق والباطل.
فَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنهما - لَمَّا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذين عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ.
ورغم شدته على الكفّار كان على إخوانه رقيق القلب سريع الدَّمع.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ؛ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ - ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا، فَأَتَى إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ - مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.
وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقّاصٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - رضي الله عنه - يَقْرَأُ فِي العَتَمَةِ بسُورَةِ يُوسُف، وأنا في مُؤَخِّرِ الصُّفُوفِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكرُ يُوسُف؛ سَمِعْتُ نَشِيجَهُ فِي مُؤَخِّرِ الصَّفِّ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: هَذَانِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ.
عثمان - رضي الله عنه -:
القانت الحيي ذو الهجرتين، الكريم الجواد ذو النورين، كان حظُّه من النَّهار الجود والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبشر بالجنة على بلوى تصيبه.
كان - رضي الله عنه - يحيي الليل بالقرآن، وثبت أنه قرأ القرآن في ركعة.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: قُمْتُ خَلْفَ الْمَقَامِ وَأَنَا أُرِيُد أَنْ لَا يَغْلِبَنِي عَلَيهِ أَحَدٌ تِلْكَ اللَّيلة، فَإِذَا رَجُلٌ يَغْمِزُنِي فَلَمْ ألْتَفِتْ، ثُمَّ غَمَزَنِي فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفّان - رضي الله عنه - فَتَنَحَّيْتُ فَتَقَدَّمَ فَقَرَأَ القُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ.
وكان - رضي الله عنه - رقيق القلب، غزير الدمع، كان أذا رأى قبرًا بكى حتى يرحم.
عَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ - رضي الله عنه - إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي من هَذَا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ.
بشَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة على بلوى تصيبه؛ فكان صابرًا محتسبًا حتى لقي ربه.
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: لَأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا. فَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: خَرَجَ وَوَجَّهَ هَا هُنَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ عَلَى إِثْرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ - وَبَابُهَا من جَرِيدٍ -حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ، وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ؛ وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ: لَأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْيَوْمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ، فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟! فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُ فِي الْقُفِّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدْ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا - يُرِيدُ أَخَاهُ - يَأْتِ بِهِ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَجِئْتُ فَقُلْتُ: ادْخُلْ، وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقُفِّ عَنْ يَسَارِهِ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدْ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ، فَجَاءَ إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ، فَجِئْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُكَ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ، فَجَلَسَ وِجَاهَهُ من الشَّقِّ الْآخَرِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ.
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
نُور المطيعين، وولي المتقين، وإمام العابدين، من أسرع الصحابة إجابة، وأعظمهم حلما، وأوفرهم علما، وأقومهم قضية، حُرمنا علمه بسبب غلو الشِّيعة فيه وكذبهم عليه -وإلى الله المشتكى، وأما فضائله فقد لاحت في الأفق، وإليك ما قيل بحضرة خصمه ومن لاحت بينهما السيوف - معاوية - رضي الله عنه -.
دخل ضرار بن ضمرة الكِناني على معاوية، فقال له: صِفْ لي عليًا، فقال أو تعفيني يا أمير المؤمنين، قَالَ: لا أعفيك، قَالَ: أما إذ لا بد؛ فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب، كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا؛ لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه؛ وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه يميل في محرابه قابضًا على لحيته يتململ تململ السَّليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا يتضرع إليه ثم يقول للدنيا: إلَيَّ تغررَّتِ، إلَيَّ تشوفت، هيهات هيهات، غُرِّي غَيْري، قد بنتك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السَّفر، ووحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية على لحيته؛ ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن - رحمه الله -، ثم قَالَ: كَيْفَ وَجْدُك عليه يا ضرار؟ قَالَ: وَجْدُ مَنْ ذُبِحَ وَاحِدُهَا فِي حَجْرِهَا؛ لَا تَرْقَأُ دَمْعَتُهَا، وَلَا يَسْكُنُ حُزْنُها - ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ.
أبو عبيدة ابن الجراح:
أبو عبيدة الأمين الرَّشيد، والقائد السَّديد اختاره عمر؛ وهو يتمنى ملأ مكانه رجالًا كأبي عبيدة.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ.
دخل عمر بن الخطاب على أبي عبيدة بن الجراح، فإذا هو مضطجع على طنفسة رحله متوسدًا الحقيبة، فقال له عمر: ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك؟! فقال: يا أمير المؤمنين هذا يبلغني المقيل.
وعن عمر بن الخطاب أنه قَالَ لأَصْحَابِهِ: تَمَنُّوا، فقال رجل: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله، ثم قَالَ: تَمَنُّوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدًا وجوهرًا؛ أنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قَالَ: تَمَنُّوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أن هذه الدّار مملوءة رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجراح.
معاذ بن جبل:
مقدام العلماء، وإمام الحكماء!!!
قَالَ ابن مسعود رضي الله - تعالى -عنه: إن معاذ بن جبل رضي الله - تعالى -عنه كان أمة قانتًا لله حنيفًا، فقيل له: إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا! فقال: ما نسيت، هل تدرون ما الأمة وما القانت؟ ! الأمة الذي يُعَلِّم الخير، والقانت المطيع لله وللرسول، وكان معاذ يُعَلِّم النَّاس الخير، ومطيعًا لله ولرسوله.
وكان معاذ بن جبل شابًا جميلًا سمحًا من خير شباب قومه، لا يُسأل شيئا إلا أعطاه، حتى أدان دينا أغلق ماله، فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكلم غرماءه ففعل، فلم يضعوا له شيئًا، فلو ترك لأحد لكلام أحد لترك لمعاذ لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعاه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يبرح حتى باع ماله وقسمه بين غرمائه، فقام معاذ لا مال له، فلما حجَّ بعثه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ليجبره، وكان أول من حجز عليه في هذا المال معاذ، فقدم على أبي بكر رضي الله - تعالى -عَنْهُ من اليمن وقد تُوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ أبو نعيم: وغُرماء معاذ كانوا يهودًا فلهذا لم يضعوا عنه شيئًا.
فلما قبض النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - واستخلفوا أبا بكر، فاستعمل أبو بكر عمر على الموسم فلقي معاذًا بمكة ومعه رقيق، فقال: هؤلاء أهدوا لي وهؤلاء لأبي بكر، فقال عمر: إني أرى لك أن تأتي أبا بكر، قَالَ فَلَقِيه من الغد، فقال: يا ابن الخطاب! لقد رأيتني البارحة وأنا أنزوي إلى النار وأنت آخذ بحجزتي، وما أراني إلا مطيعك، فأتى بهم أبا بكر، فقال: هؤلاء أهدوا لي وهؤلاء لك، قَالَ: فإنا قد سلمنا لك هديتك، فخرج معاذ إلى الصَّلاة؛ فإذا هم يُصلون خلفه، فقال: لمن تصلون هذه الصَّلاة؟ قالوا لله - عز وجل -، قَالَ: فأنتم لله فأعتقهم.
وعن معاذ - رحمه الله تعالى -لَمّا أن حضره الموت، قَالَ: انظروا أصبحنا؟ فأتى، فقيل: لم تصبح، قَالَ: انظروا أصبحنا؟ فأتي فقيل: لم تصبح حتى أتى في بعض ذلك، فقيل له: قد أصبحت، قَالَ: أَعُوذُ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، مرحبًا زائر مغيب، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني قد كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم أن كنت تعلم أني لم أكن أحب الدُّنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار، ولا لغرس الشَّجر، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة السّاعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
يتبع
فلله در أقوام؛ شغلهم تحصيل زادهم عن أهليهم وأولادهم، ومال بهم ذكر المآل عن المال في معادهم، وصاحت بهم الدنيا فما أجابوا شغلا بمرادهم، وتوسدوا أحزانهم بدلًا عن وسادهم، واتخذوا الليل مسلكًا لجهادهم واجتهادهم، وحرسوا جوارحهم من النار عن غيهم وفسادهم
فيا طالب الهوى جز بناديهم ونادهم: أَحيَوا فُؤَادِي! ولَكِنَّهم علَى صَيحَة من البين ماتُوا جميعًا، حرمُوا رَاحة النَّوم أَجفَانهم، وَلَفُّوا علَى الزفرات الضُّلوعَا، طُول السَّواعد شُمُّ الأُنوف؛ فطابُوا أُصُولًا، وطَابُوا فُرُوعا، أَقبلت قلوبهم تراعي حق الحق، فذهلت بذلك عن مناجاة الخلق 0 فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى، والقُلوب في رياض الملكوت ترعى، نازلهم الخوف فصاروا والهين، وناجاهم الفكر فعادوا خائفين، وجَنَّ عليهم الليل فباتوا ساهرين، وناداهم منادى الصَّلاح حىّ على الفلاح فقاموا متهجدين، وهبت عليهم ريح الأَسحار فتيقظوا مستغفرين، وقطعوا بند المجاهدة فأصبحوا واصلين، فلمَّا رجعوا وقت الفجر بالأَجر نادى الهجر: يا خيبة النائمين.
لله قَوْمٌ شَرُوا مِنْ الله أَنْفُسَهُم *** فَأَتْعَبُوهَا بِذِكْرِ اللهِ أَزْمَانَا
أَمَّا النَّهَارُ فَقَدْ وَافَوا صِيامَهُمُ *** وَفِي الظَّلَامِ تَرَاهُمْ فِيهِ رُهْبَانَا
أَبْدَانُهُم أَتْعَبَتْ فِي اللهِ أَنْفُسَهَم *** وَأَنْفُسٌ أَتْعَبَتْ فِي اللهِ أَبْدَانَا
ذَابَتْ لُحُومُهُمُ خَوْفَ العَذَابِ غَدًا *** وَقَطَّعُوا اللَّيلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا
فلله در أقوام هجروا لذيذ المنام، وتنصلوا لما نصبوا له الأقدام، وانتصبوا للنصب في الظلام يطلبون نصيبًا من الإنعام، إِذا جنّ الليل سهروا، وإذا جاء النَّهار اعتبروا، وإذا نظروا في عيوبهم استغفروا، وإذا تفكروا في ذنوبهم بكوا وانكسروا.
وإليك بعضًا من صورهم، ونماذج من هديهم، عسى أن نحذو حذوهم، ونتأسى بهديهم.
لذةُ التعبد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ونبدأ بسيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي ما اكتحلت العيون بمثل رؤيته، ولا شرفت النفوس بمثل صحبته، إِنْ كَانَ - صلى الله عليه وسلم - لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا.
وَعَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ فِي قَصَصِهِ يَذْكُرُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ أَخًا لَكُمْ لَا يَقُولُ الرَّفَثَ - يَعْنِي بِذَاكَ ابْنَ رَوَاحَةَ - قَالَ:
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ *** إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ من الْفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ***بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ *** إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ
بل إن شئت أن تراه قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا، أو ذاكرًا، في أي ساعة من ليل أو نهار وجدته - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله قائمًا، ولعبادة الله ملازمًا، فقد كان عمله - صلى الله عليه وسلم - ديمة.
عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ - رضي الله عنها -: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْتَصُّ من الْأَيَّامِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُطِيقُ؟!.
ولذلك نرى الصَّحابة - رضي الله عنهم - ما رأت عيونهم ولا سمعت آذانهم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو على طاعة.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى، من الْبُكَاءِ - صلى الله عليه وسلم -.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَحَسَّسْتُهُ فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ، يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي لَفِي شَأْنٍ وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ.
وعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاة مِنْ اللَّيْلِ؛ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ، صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ.
بل نرى عند الشدائد والصعاب وتغير الزمان، يكون هو أقرب الخلق من الرحمن.
فَعَنْ عَلِي بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَومَ بَدرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا قَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ.
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ من شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَابْنِ رَوَاحَةَ.
سماعه القرآن:
وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب سماع القرآن من غيره.
فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ: لِي النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ من غَيْرِي، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ؛ حَتَّى بَلَغْتُ [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا من كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا]قَالَ: أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي مُوسَى: لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ؛ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا من مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ.
لذة التعبد عند الصحابة رضي الله عنهم:
فمهما سطَّر البنان، وتكلم العلماء بكلِّ لسان؛ فإن سير هؤلاء يعجز عن وصفها إنسان.
فهم أولى بالحديث من قول العباس بن الأحنف عن محبوبته:
وَحَدَّثْتَنِي يَا سَعْدُ عَنْهًا فَزِدْتَنِي جُنُونًا فَزِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ يَا سَعْدُ
فهم مصابيح الدُّجى، وينابيع الرشد والحجى، خصوا بخفي الاختصاص، ونقوا من التصنع بالإخلاص، وهم الواصلون بالحبل، والباذلون للفضل، والحاكمون بالعدل، هم المبادرون إلى الحقوق من غير تسويف، والموفون للطَّاعات من غير تطفيف.
هُم الرِّجَالُ وَعَيْبٌ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ *** لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَانِيَ وَصْفِهم رَجُلُ
أبو بكر الصديق:
السّابق إلى التَّصديق، الملقب بالعتيق المؤيد من الله بالتوفيق، {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [سورة التوبة: 40]
كان رقيق القلب غزير الدَّمع، عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَتَاهُ بِلَالٌ يُوذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ، قُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاة دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاة، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ من تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ.
كان صِدِّيقًا ما اهتز إيمانه ولا تزعزع وجدانه، عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - زَوْجِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ - يَعْنِي بِالْعَالِيَةِ - فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ، مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُذِيقُكَ اللَّهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا. ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ! فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَقَالَ [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] وَقَالَ [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] قَالَ فَنَشَجَ النَّاس يَبْكُونَ.
عمر بن الخطاب:
الفاروق، ذو المقام الثابت المأنوق، أعلن الله به دعوة الصّادق المصدوق، فجمع الله له بما منحه من الصَّولة؛ ما نشأت لهم به الدَّولة، كان معارضًا للمبطلين، موافقًا في الأحكام لرب العالمين، كان فارقًا بين الحق والباطل.
فَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنهما - لَمَّا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذين عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ.
ورغم شدته على الكفّار كان على إخوانه رقيق القلب سريع الدَّمع.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ؛ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ - ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا، فَأَتَى إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ - مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.
وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقّاصٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - رضي الله عنه - يَقْرَأُ فِي العَتَمَةِ بسُورَةِ يُوسُف، وأنا في مُؤَخِّرِ الصُّفُوفِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكرُ يُوسُف؛ سَمِعْتُ نَشِيجَهُ فِي مُؤَخِّرِ الصَّفِّ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: هَذَانِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ.
عثمان - رضي الله عنه -:
القانت الحيي ذو الهجرتين، الكريم الجواد ذو النورين، كان حظُّه من النَّهار الجود والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبشر بالجنة على بلوى تصيبه.
كان - رضي الله عنه - يحيي الليل بالقرآن، وثبت أنه قرأ القرآن في ركعة.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: قُمْتُ خَلْفَ الْمَقَامِ وَأَنَا أُرِيُد أَنْ لَا يَغْلِبَنِي عَلَيهِ أَحَدٌ تِلْكَ اللَّيلة، فَإِذَا رَجُلٌ يَغْمِزُنِي فَلَمْ ألْتَفِتْ، ثُمَّ غَمَزَنِي فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفّان - رضي الله عنه - فَتَنَحَّيْتُ فَتَقَدَّمَ فَقَرَأَ القُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ.
وكان - رضي الله عنه - رقيق القلب، غزير الدمع، كان أذا رأى قبرًا بكى حتى يرحم.
عَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ - رضي الله عنه - إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي من هَذَا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ.
بشَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة على بلوى تصيبه؛ فكان صابرًا محتسبًا حتى لقي ربه.
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: لَأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا. فَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: خَرَجَ وَوَجَّهَ هَا هُنَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ عَلَى إِثْرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ - وَبَابُهَا من جَرِيدٍ -حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ، وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ؛ وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ: لَأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْيَوْمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ، فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟! فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُ فِي الْقُفِّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدْ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا - يُرِيدُ أَخَاهُ - يَأْتِ بِهِ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَجِئْتُ فَقُلْتُ: ادْخُلْ، وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقُفِّ عَنْ يَسَارِهِ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدْ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ، فَجَاءَ إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ، فَجِئْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُكَ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ، فَجَلَسَ وِجَاهَهُ من الشَّقِّ الْآخَرِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ.
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
نُور المطيعين، وولي المتقين، وإمام العابدين، من أسرع الصحابة إجابة، وأعظمهم حلما، وأوفرهم علما، وأقومهم قضية، حُرمنا علمه بسبب غلو الشِّيعة فيه وكذبهم عليه -وإلى الله المشتكى، وأما فضائله فقد لاحت في الأفق، وإليك ما قيل بحضرة خصمه ومن لاحت بينهما السيوف - معاوية - رضي الله عنه -.
دخل ضرار بن ضمرة الكِناني على معاوية، فقال له: صِفْ لي عليًا، فقال أو تعفيني يا أمير المؤمنين، قَالَ: لا أعفيك، قَالَ: أما إذ لا بد؛ فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب، كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا؛ لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه؛ وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه يميل في محرابه قابضًا على لحيته يتململ تململ السَّليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا يتضرع إليه ثم يقول للدنيا: إلَيَّ تغررَّتِ، إلَيَّ تشوفت، هيهات هيهات، غُرِّي غَيْري، قد بنتك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السَّفر، ووحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية على لحيته؛ ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن - رحمه الله -، ثم قَالَ: كَيْفَ وَجْدُك عليه يا ضرار؟ قَالَ: وَجْدُ مَنْ ذُبِحَ وَاحِدُهَا فِي حَجْرِهَا؛ لَا تَرْقَأُ دَمْعَتُهَا، وَلَا يَسْكُنُ حُزْنُها - ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ.
أبو عبيدة ابن الجراح:
أبو عبيدة الأمين الرَّشيد، والقائد السَّديد اختاره عمر؛ وهو يتمنى ملأ مكانه رجالًا كأبي عبيدة.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ.
دخل عمر بن الخطاب على أبي عبيدة بن الجراح، فإذا هو مضطجع على طنفسة رحله متوسدًا الحقيبة، فقال له عمر: ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك؟! فقال: يا أمير المؤمنين هذا يبلغني المقيل.
وعن عمر بن الخطاب أنه قَالَ لأَصْحَابِهِ: تَمَنُّوا، فقال رجل: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله، ثم قَالَ: تَمَنُّوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدًا وجوهرًا؛ أنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قَالَ: تَمَنُّوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أن هذه الدّار مملوءة رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجراح.
معاذ بن جبل:
مقدام العلماء، وإمام الحكماء!!!
قَالَ ابن مسعود رضي الله - تعالى -عنه: إن معاذ بن جبل رضي الله - تعالى -عنه كان أمة قانتًا لله حنيفًا، فقيل له: إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا! فقال: ما نسيت، هل تدرون ما الأمة وما القانت؟ ! الأمة الذي يُعَلِّم الخير، والقانت المطيع لله وللرسول، وكان معاذ يُعَلِّم النَّاس الخير، ومطيعًا لله ولرسوله.
وكان معاذ بن جبل شابًا جميلًا سمحًا من خير شباب قومه، لا يُسأل شيئا إلا أعطاه، حتى أدان دينا أغلق ماله، فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكلم غرماءه ففعل، فلم يضعوا له شيئًا، فلو ترك لأحد لكلام أحد لترك لمعاذ لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعاه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يبرح حتى باع ماله وقسمه بين غرمائه، فقام معاذ لا مال له، فلما حجَّ بعثه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ليجبره، وكان أول من حجز عليه في هذا المال معاذ، فقدم على أبي بكر رضي الله - تعالى -عَنْهُ من اليمن وقد تُوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ أبو نعيم: وغُرماء معاذ كانوا يهودًا فلهذا لم يضعوا عنه شيئًا.
فلما قبض النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - واستخلفوا أبا بكر، فاستعمل أبو بكر عمر على الموسم فلقي معاذًا بمكة ومعه رقيق، فقال: هؤلاء أهدوا لي وهؤلاء لأبي بكر، فقال عمر: إني أرى لك أن تأتي أبا بكر، قَالَ فَلَقِيه من الغد، فقال: يا ابن الخطاب! لقد رأيتني البارحة وأنا أنزوي إلى النار وأنت آخذ بحجزتي، وما أراني إلا مطيعك، فأتى بهم أبا بكر، فقال: هؤلاء أهدوا لي وهؤلاء لك، قَالَ: فإنا قد سلمنا لك هديتك، فخرج معاذ إلى الصَّلاة؛ فإذا هم يُصلون خلفه، فقال: لمن تصلون هذه الصَّلاة؟ قالوا لله - عز وجل -، قَالَ: فأنتم لله فأعتقهم.
وعن معاذ - رحمه الله تعالى -لَمّا أن حضره الموت، قَالَ: انظروا أصبحنا؟ فأتى، فقيل: لم تصبح، قَالَ: انظروا أصبحنا؟ فأتي فقيل: لم تصبح حتى أتى في بعض ذلك، فقيل له: قد أصبحت، قَالَ: أَعُوذُ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، مرحبًا زائر مغيب، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني قد كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم أن كنت تعلم أني لم أكن أحب الدُّنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار، ولا لغرس الشَّجر، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة السّاعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
يتبع