2- محبة ما عَلِمه والاهتمام به:
إذ إن الإنسان إذا بلغه علم معين ينبئه بأن السلوك الذي يمارسه خطأ وفيه ضرر عليه فإنه ليس بالضرورة أن يبادر بترك ذلك السلوك الخاطئ وإنما يكون حاله بين أمرين اثنين لا ثالث لهما
فإما أن يحب ذلك الأمر، ويهتم به، ويبحث فيه، ومن ثم يتدرج إلى ترك ذلك السلوك الخاطئ.
وإما أن يكره ذلك الأمر الذي أُبْلِغ به ولا يقبله وذلك لأسباب عديدة ولعل منها عدم فهمه لذلك الأمر أو عدم قناعته به، أو محبته لما كان يمارسه من سلوك خاطئ وتعوده عليه، ونحو ذلك.
فتكون النتيجة أن يمكث على سلوكه الخاطئ ولا يغيره،
يقول تعالى:
{ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون }
[ المائدة 70] ،
فبالرغم من صدق ما بلغهم به المرسلون عليهم السلام وأن الخير كل الخير فيه، إلا أن أنفسهم لم تهوَ ما بُلِّغوا به فكانت النتيجة أن كذبوهم ولم يقبلوا ما جاءوا به بل قتلوهم قاتلهم الله .
وفي موضع آخر يقول الله سبحانه:
{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون }
[ الأنعام 113]،
فإن شياطين الإنس والجن عندما أوحى بعضهم إلى بعض القول الباطل المزخرف المزين كان من نتيجة ذلك أن تميل إليه قلوب الكافرين بالآخرة ويستقبلونه بالمحبة والرضى ومن ثم يسفر ذلك عن العمل والسلوك الفاسد وذلك بأن يقترفوا ما هم مقترفون.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى:
{ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى }
[ فصلت 17] .
وفي موضع آخر يقول الله جل من قائل:
{ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان }
[ الحجرات 7] ،
وكفى بهذه الآيات دليلاً على أهمية هذه المرحلة من مراحل التغيير.
وهكذا فإن على الملقي أن لا يدخر وسعاً في تحبيب موضوع إلقائه للمستمعين ليضمن انتقال المستمع من مرحلة العلم والإدراك إلى هذه المرحلة إذا شاء الله لهذا المستمع هداية وتوفيقا.
3- التقيـيم و الموازنة الفكرية:
فإن الإنسان إذا علم شيئا وأدرك انه الحق ثم أحبَّه واهتم به فإنه ليس بالضرورة أن يتبنى السلوك الذي يدعو إليه ذلك العلم بل لابد له وأن يَخْضَع لمرحلة الموازنة بين المصالح والخسائر التي سيجنيها من وراء تَبَنِّيه لذلك السلوك سواء أكانت أخروية أم دنيوية.
فإن ترجح لديه جانب المصلحة عمل بذلك السلوك وإلا تركه.
والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتا عظيما فمنهم من يُقَدِّم المصلحة الأخروية الآجلة على الدنيوية العاجلة مهما كانت خسائره المادية.
ومنهم من يفعل العكس فيُقَدِّم المصلحة الدنيوية الفانية على الأخروية الباقية.
ففي كتاب الله آيات كثيرة تتحدث عن حال الناس في هذه المرحلة
منها قول الله تعالى عن أهل الكتاب:
{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون }
[ الأنعام 20] .
ومنها قوله جل وعلا في حق آل فرعون:
{ فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين }
[ النمل 13-14].
ولعل من أمثلة ذلك في السنة الشريفة
قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم حيث إنه ناصر دعوة ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم وأقر بصحة دين الإسلام حيث قال منشدا:
والله لن يصلوا إليك بجمعهــم*****حتى أُوَسَّد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضـة*****وأبشر وقـــرّ بذاك منك عيونا
ودعوتني وعرفت أنك ناصحــي*****ولقـد صدقـت وكنت ثمّ أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنـــه*****مــن خير أديــان البريّة دينا
لولا الملامة أو حذار مسـبــة*****لـوجدتني سمحا بذاك مبينا
فبالرغم من ذلك لم يُسلم حتى وهو على فراش الموت، ومات وهو يقول " هو على ملة عبد المطلب" ،
والنبي الداعية الأعظم صلى الله عليه وسلم بين يديه ويقول له :
( يا عم قل لا اله إلا الله، كلمة أشفع لك بها عند الله )
[ رواه البخاري ومسلم].
ومثال آخر من السنة
هو ما رواه البخاري في صحيحه عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره ( أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة - أي صلح الحديبية - التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال : أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
فقال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا.
فقال أدنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ث
م قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا الرجل ، فإن كذبني فكذِّبوه.
فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه.
ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت هو فينا ذو نسب.
قال فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟
قلت لا.
قال فهل كان من آبائه من ملك؟
قلت لا.
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟
فقلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟
قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟
قلت: لا، ونحن في مدّةٍ لا ندري ما هو فاعل فيها.
قال - أي أبو سفيان - ولم تُمكِنِّي كلمة أُدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة.
قال: فهل قاتلتموه؟
قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟
قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم؟
قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم. ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل ترسل في نسب قومها.
وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول ، فذكرت أن لا ، فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتي بقولٍ قيل قبله.
وسألتك هل كان من آبائه من ملك ، فذكرت أن لا ، قلت فلو كان من آبائه من ملك قلتُ رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ، فذكرت أن لا ، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك بم يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميَّ هاتين.
وقد كنتُ أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه:
" بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين.
فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين
{ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون } ".
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات، وأُخرجنا. فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمِرَ أَمرُ ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
وكان ابن الناطور-صاحب إيلياء وهرقل- سُقُفاً على نصارى الشام يحدِّث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناطور: وكان هرقل حزَّاءً - أي كاهنا - ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملَكَ الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يُهِمَّنَّك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود.
فبينما هم على أمرهم أُتِي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه، فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون.
فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.
ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم. وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي.
فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة - أي قصر - له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغُلِّقَت، ثم اطَّلَعَ فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غُلِّقَت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيِس من الإيمان قال: ردُّوهم علي.
وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أَختبر بها شِدَّتَكُم على دينكم، فقد رأيت. فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل. رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري).
[رواه البخاري فتح الباري كتاب الإيمان المجلد الأول حديث رقم (51) ] .
4- التجربة و المحاولة العملية:
بعد الموازنة الفكرية وترجيح المصالح على الخسائر، والاقتناع بهجر السلوك الخاطئ وتبني السلوك الصحيح، تبرز مرحلة مهمة من مراحل التغيير، ألا وهي مرحلة التجربة العملية لممارسة السلوك الصحيح.
وهذه المرحلة تعتبر من أخطر المراحل، حيث أن العلم النظري شيء والتطبيق العملي شيء آخر.
فقد تواجه الإنسان في هذه المرحلة صعوبات كثيرة لم يكن يحسب لها حسابا.
فقد تكون ممارسة السلوك القويم أمر شاق ومكلف وبالذات لشخص لم يتعود عليه.
كما أن انتقادات المنحرفين ممن حوله له ، وسخريتهم به قد تشكل عائقا دون ثباته على ذلك السلوك.
لذا كان واجبا على الداعية أن يبصر من يدعوهم إلى خطورة هذه المرحلة وكيفية التغلب على مصاعبها.
كما وعليه أن يكتنف من يعيش هذه المرحلة ويؤازره حتى يثبت على السلوك القويم، ولا يكتفي فقط بإلقاء المحاضرة أو الدرس ثم الخلود إلى الراحة.
إن آيات القرآن التي تبصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام بما سيعرض لهم من مشاق وصعاب في مسيرة الدعوة كثيرة ولا تحصى. فما قصص الأنبياء في القرآن إلا من هذا القبيل حيث يقول جل من قائل في أواخر سورة هود بعد أن قص على نبيه صلى الله عليه وسلم قصص الأمم السابقة وتكذيبهم لأنبيائهم و ما نزل بهم من العذاب:
{ وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين }
[ هود 120].
ومن الأحاديث ذات الدلالة على تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه حديث خباب بن الأرت في صحيح البخاري حيث قال:
( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة - قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟
قال: كان الرجل قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ، وما يصده ذلك عن دينه.
والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ، و الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ).
[صحيح الجامع مجلد رقم 3-4 برقم (4326) ].