قال ابن بطال المالكي- رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث وما فيه من فوائد قال:
«وفيه حجة الجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك القيام على أئمة الجور» أهـ(12).
ثم ذكر ابن بطال أقوال أهل العلم في «معنى الجماعة» ثم قال: «قال الطبري: والصواب في ذلك أنه أمر منه- عليه السلام- بلزوم إمام جماعة المسلمين، ونهي عن فراقهم فيما هم عليه مجتمعون من تأميرهم إياه، فمن خرج من ذلك فقد نكث بيعته، ونقض عهده بعد وجوبه» أهـ (13).
2- عن عبدالله بن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فينا، فقال: «أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب، حتى يحلف الرجل ولا يستخلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة، إلا كان ثالثهما الشيطان عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو مع الأثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة،فليلزم الجماعة، من سرته حسنته، وساءته سيئة فذلكم المؤمن»(14).
تأمل قوله: «عليكم بالجماعة» «أي: المنتظمة بنصب الإمامة»، قوله: «وإياكم والفرقة»، «فأي: احذروا مفارقتها ما أمكن»(15).
هذا واعلم أيها المسلم أن الفتن في ازدياد، وكما تأخر الزمان ازدادت الفتن، فكثرة القتل، وسفك الدماء من الفتن وعلامات الساعة والخروج على الحكام وولاة الأمر وكثرته في هذا الزمان من الفتن التي عصفت بالأمة، وكثرة المغريات والشهوات من الفتن ولا منقد منها إلا بالتمسك بالدين، والصلاح، والتقوى، والالتفاف حول العلماء الثقات الربانين ولزوم الجماعة، والسمع والطاعة لولاة الأمر، والتعاون معهم على البر والتقوى، والخير والهدى،واصلاح الأمور بالحكمة، والتعقل، والمعروف. وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كثرة الفتن:
1- عن سفيان عن أم عيينة عن الزهري عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة عن زينب بنت جحش أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استيقظ من نومه وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» وعقد سفيان بيده عشرة. قلت: يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث»(16).
2- عن أبي هريرة قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير نم الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذبه»(17).
3- عن أبي هريرة قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قتل» (18).
4- عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه»(19).
وقد كثرت الفتن في زمننا من أبرزها فتنة الخروج على ولاة الأمر، وزعزعة الأمن وسفك الدماء، ومخالفة الكتاب والسنة وآثار السلف الداعية إلى السمع و الطاعة، والصبر بشجاعة.
ولقد بلغ الجهل، والسفه، وقلة الدين والإيمان ببعض الناس أن استباح دماء المسلمين بالتفجير الذي جاء عقب التفكير، حتى قتلوا النساء والصبيان وهم يغدرون للمدارس أو يروحون منها.
بل وقف بعضهم بجانب نقطة تفتيش فاطلق النار على رجال الأمن المسلمين وهم مسلمون معصومو الدم، فالمسلم إسلامه يعصم دمه، ويحفظ له عرضه وماله، فبأي دليل، وفي أي شرع، وعلى أي مذهب يقتل المسلم المعصوم، سواء أكان من رجال الأمن أم لم يكن؟!
لكن هذا انتاج الطيش والتهييج، والنفخ في الشباب، ومكر الليل والنهار والمحاضرات المهيجة، والدروس المشعلة، والغمز واللمز تارة، والطعن الصرح في ولاة الأمر تارة، والنصح الفاضح المسموع تارة، هذه ثمار من خالف السلف، ومنهج الأنبياء في طريقة الإصلاح والإنكار والتعديل.
إن الأمن نعمة لا تقدر بثمن، فلولا الأمن، لما استطتعنا الصلاة في المساجد ولا السفر للحج والعمرة، ولا حتى الخروج لشراء الحاجات من الأسواق، ولا أمن الناس على أموالهم، ولا أعراضهم، ولا على أنفسهم، ولا أهلهم، وأولادهم.
كم يبكي الذين فقدوا الأمن، ويتمنون عودته، وعودة ذلك السلطان الجائر الذي تمنوا زواله، وصار لسان حالهم يقول: كنا في سيء فصرنا إلى الأسوأ. فالمال والصحة والفراغ نعم عظيمة، تستوجب شكر الله وطاعته وحمده، لكن ذلك لا يجدي نفعاً عند فقد الأمن، فما فائدة الصحة مع فقد الأمن، فأنت معرض للتلف والهلاك في أي لحظة، لذا تراك خامداً في مكانك، وخائفاً في سربك لا طعم للحياة عندك، وما فائدة المال مع فقد الأمن، فتلفه ممكن في أي لحظة، وخروجك به يعني قتلك، أو اختطافك أو سرقتك، فأنت مهدد به في أي ثانية، فصار نقمة عليك بعد أن كان نعمة.
فجزى الله خيراً رجال الأمن العادلين المنصفين، فكم لهم من الأجر والثواب إذا خلصوا النية في جهودهم واعتبروا ما يقومون به لأجل الإسلام والمسلمين، ولحماية الدين من العابثين، ولحماية أموال الناس وأعراضهم واستقرارهم، فإنها نية مهمة بها ينالون الأجر الكبير، فجزاهم الله خيراً أن وفروا لنا نعمة من أكبير النعم،بها صلينا، وحججنا، واعتمرنا، وخرجنا وولجنا وأمنا على أهلنا وأنفسنا وأموالنا وأعراضنا، وتعلمنا وطلبنا العلم براحة وطمأنينة، ودعونا الله وعلمنا الناس، واجتهدنا في الدعوة في أمن وأمان وسعادة واطمأنان، فالله اسأل لهم التوفيق والسداد. وعلى من لم يشعر بنعمة الأمن أن يسأل من حرم من هذه النعمة ليعلم أن كل من يسلك المسلك المتلف لهذه النعمة فهو خاطئ، جان على دينه ونفسه ومجتمعه، فليحذر الناس كل وسائل التخريب، والتشعيب فإنها الحالقة، الهالكة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) «لسان العرب» (1/223) بتصرف . ط.. دار إحياء التراث العربي - بيروت.
(2) «الموسوعة الفقهية الكويتية» (6/270).
(3) أخرجه أبو داود في «سننه» (2608)، وصحَّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/125).
(4) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لأحمد بن تيمية (ص 163-164) ط: دار الراوي: الدمام. ت: عبد الباسط الغريب.
(5) أخرجه البخاري (7054).
(6) أخرجه البخاري (7057).
(7) أخرجه البخاري (7052).
(8) أخرجه البخاري (7053).
(9) شرح السنة، لأبي محمد البربهاني (ص 68) ط: دار السلف: الرياض. ت: خالد الردادي.
(10) درر السلوك في سياسة الملوك، لأبي الحسن علي بن حبيب الماوردي (ص 58-59) ط: دار الوطن- الرياض،ت: فؤاد عبد المنعم.
(11) أخرجه البخاري واللفظ له (7084)، ومسلم (1874).
(12) شرح صحيح البخاري، لأبي الحسن علي بن خلف، المشهور بابن بطال (10/33) ط: مكتبة الرشد- الرياض ت: ياسر بن ابراهيم.
(13) المصدر السابق (10/35).
(14) اخرجه الترمذي (2165) وابن ماجه (2363)، وقال الترمذي:
«حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه»، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2/457).
(15) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد بن عبدالرحمن المبار كفوري (6/320) ط: دار الكتب العلمية.
(16) أخرجه مسلم (2880).
(17) أخرجه مسلم (2908).
(18) أخرجه مسلم (2886).
(19) أخرجه مسلم (157).
والنقل
http://www.almenhaj.net/Report.php?linkid=7663