( قواعد في التبرك )
لقد خُصَّ رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة لم يشاركه فيها أحد من أمته، من تلك الأمور التمسُّـح والتبرُّك بما انفصـل عنه صلى الله عليه وسلم وبآثـاره، كما صحَّ بذلك الخبـر عن عـروة بن مسعود الثقفي وأبي جُحيفة رضي الله عنهما.
بل من الصحابة من شرب دمه، وهو عبد الله بن الزبير، ومنهم من شرب بوله، وهي بركة، ومنهم من كان يسلت عَرَقه ويضعه في طيبه ويتطيب به، ويقول: هو من أطيب الطيب، وهي أم سُليم رضي الله عنهم جميعاً.
خرَّج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي جُحيفة رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأتي بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به"، وفيه: "كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه".
وخرَّج البخاري في صحيحه عن عروة عندما جاء مفاوضاً عن قريش في الحديبية: "وما انتخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده".
قال الشاطبي رحمه الله: (وخرَّج غيره ـ أي البخاري ـ من ذلك كثيراً في التبرك بشعره وثوبه وغيرهما، حتى أنه مس بأصبعه أحدهم بيده فلم يحلق ذلك الشعر الذي مسه عليه السلام حتى مات).[1]
ماكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم بذلك، بل قد أنكر على بعضهم، فقد قال لعبد الله بن الزبير عندما علم أنه شرب دمَ حجامته: ويحك، لِمَ شربتَ الدم؟!
وقال كذلك لبركة عندما وجد القدح الذي كان يبول فيه من الليل فارغاً: لعلك شربته؟! متعجباً ومستنكراً لفعلها.
قال الشاطبي رحمه الله: (خرَّج ابن وهب في جامعه من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: حدثني رجل من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أوتنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم، فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم: "لِمَ يفعلون هذا؟"، قالوا: نلتمس الطهور والبركة بذلك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان منكم يحب أن يحبه الله ورسوله فليصدق الحديث، وليؤد الأمانة، ولا يؤذ جاره".
فإن صحَّ هذا النقل فهو مشعر بأن الأولى تركه، وأن يتحرى ما هو الآكد والأحرى من وظائف التكليف، ولا يلزم الإنسان في خاصة نفسه، ولم يثبت من ذلك كله إلا ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها).[2]
مما يدل على أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم وأنه انفرد بذلك عن أمته، أنه لم يقع من الصحابة رضي الله عنهم أنهم فعلوا ذلك بعد موته لأحد منهم، لا لأفضلهم وأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر ولا لغيره.
لقد ردَّ الشاطبي رحمه الله على من يعتقد مشروعية هذا في حق من ثبتت ولايته واتباعه لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبرك بفضل وضوئه ويستشفي بآثاره ونحو ذلك قائلاً: (إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه.. وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك ولا عمر رضي الله عنهما، وهو كان أفضلَ الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرَّك به على أحد تلك الوجوه، أونحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسِّير التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء.
ثم ردَّ عدم فعلهم لذلك لأحد سببين، هما:
1. اعتقادهم أن ذلك كان من خصائصه التي انفرد بها عن أمته.
2. أو أنهم تركوا ذلك سداً للذريعة.
حيث قال: وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يعتقدوا فيه الاختصاص، وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله، للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير، لأنه عليه السلام كان نوراً كله[3] في ظاهره وباطنه، فمن التمس منه نوراً وجده على أي جهة التمسه، بخلاف غيره من الأمة ـ وإن كان حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله ـ لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبته، ولا تقاربه، فصار هذا النوع مختصاً به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بعض الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القسم على الزوجات، وشبه ذلك، فعلى هذا المأخذ لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة.
الثاني: أن لا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع، خوفاً من أن يجعل ذلك سنة ـ كما تقدم ذكره في اتباع الآثار ـ والنهي عن ذلك، أولأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد، بل تتجاوز فيه الحدود، وتبالغ بجهلها في التماس البركة حتى يداخلها للمتبرَّك به تعظيم يخرج به عن الحد، فربما اعتقد في المتبرَّك به ما ليس فيه، وهذا التبرك هو أصل العبادة، ولأجله قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية.. فخاف عمر رضي الله عنه أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تعبد من دون الله، فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم).[4]
وعليه فإنه لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتدلك أويتمسَّح بوضوء ونخامة أوما انفصل من شخص مهما كانت مكانته ومنزلته، فإن فعل فليعلم أنه مبتدع وأنه غير مقتدٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مقتدٍ بأتباع زنادقة الصوفية كالحلاج ونحوه.
قال الشاطبي رحمه الله: (حكى الفرغاني في مذيل تاريخ الطبري عن الحلاج أن أصحابه بالغوا في التبرك به حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته، حتى ادعوا فيه الألوهية، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ولأن الولاية وإن ظهر لها في الظاهر آثار قد يخفى أمرها، لأنها في الحقيقة راجعة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله، فربما ادعيت الولاية لمن ليس بوليّ[5]، أوادعا هو لنفسه، أوأظهر خارقة من خوارق العادات هي من باب الشعوذة، لا من باب الكرامة، أومن باب السحر، أو الخواص، أوغير ذلك، والجمهور[6] لا يعرف الفرق بين الكرامة والسحر، فيعظمون من ليس بعظيم، ويقتدون بمن لا قـدوة فيه ـ وهو الضلال البعيد ـ إلى غير ذلك من المفاسد، فتركوا العمل بما تقدم ـ وإن كان له أصل ـ لما يلزم عليه من الفساد في الدين).[7]
قلت: هنيئاً لأتباع الحلاج ومن اقتدى بهم بهذا المسوح والبخور، فقد ازدادوا رجساً حسياً إلى رجسهم المعنوي، حيث اعتقدوا ألوهية الحلاج، لا شك أن الله جامع بينهم وبينه إن لم يكونوا قد تابوا ورجعوا إلى الإسلام.
لقد أجمع علماء الإسلام في بغداد في عصره على كفر الحلاج، وأباحوا قتله، فقتل بسيف الشرع لزندقته دون استتابة، مع ذلك نجد بعض المتصوفة يستغيثون به وبأمثاله حتى اليوم: "بالشبلي، بالحلاج، بابن عربي".
قال القاضي عياض رحمه الله: (وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية[8] على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الألوهية، والقول بالحلول، وقوله أنا الحق، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته).[9]
وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية[10]: (قدِّم الحلاج فضرب ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وحزَّ رأسُه، وأحرقت جثته، وألقي رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمِل إلى خرسان وطيف به في تلك النواحي).
مع كل ذلك نجد من بعض مرضى القلوب من يصف الحلاج وأمثاله كمحمود محمد طه أوغيرهما بشهداء الفكر، نعوذ بالله من الضلال والخذلان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، حامي حمى التوحيد، وعلى وآله وصحبه أجمعين.