بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه . أما بعد
فمما لا شك فيه أن دعاء الله عزوجل من أفضل أنواع العبادة، فقد ثبت أن رسول الله قال : (( الدعاء هو العبادة)) وفي رواية أخرى : (( الدعاء مخ العبادة)) . ودعاء المسلم لأخيه المسلم في ظهر الغيب سبب لقبول الدعاء ، وإِجابته عند الله عزوجل ، والدعاء لولاة أمور المسلمين بالصلاح والتسديد والأخذ بأيديهم إِلى ما يصلح رعاياهم وينصرهم على أعدائهم من الكفرة والملحدين،وهو من الأمور التي حثت عليها شريعة الله ، إذ بصلاحهم تصلح أمور البلاد والعباد.
فإِن ولي الأمر إذا صلح صلح شأن الرعية ، واستقام أمرها ، ومن هنا كان دعاء الله لهم من أفضل ما يتقرب به الإنسان إِلى الله عزوجل ، حيث إِن نفعه لا يقتصر على شخص بعينه ، ولكنه عام يستفيد منه كل أفراد الأمة . والدعاء لولاة أمور المسلمين فيه إِبراء للذمة فالدعاء من النصيحة لهم ، والنصح لهم أمر حثت عليه الشريعة ، فقد ثبت أن رسول الله قال : (( الدين النصيحة)) كرر ذلك ثلاثا قال الصحابة :لمن يا رسول الله قال: (( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )) وثبت عن جرير بن عبد الله البجلي ; قال : (( بايعت رسول الله على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم)). والنصح لأئمة المسلمين يشمل كل من له ولاية على المسلمين من الحكام والأمراء والقضاة سواء أكانت ولاية صغيرة أو كبيرة وهذا يتمثل في السمع لهم والطاعة ما لم يأمروا بمعصية الله ، فإذا أمروا بمعصية الله فلا سمع لهم ولا طاعة كما ورد بذلك الحديث.
الإمامة
من هم ولاة الأمر :
إن مما هو معلوم – بالضرورة – لكل أحد ، أن أمور بني الإِنسان لا يمكن أن تأخذ السيرة المستقيمة إِلا بوجود إِمام يلتف الناس حوله ، يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه ، يردع الظالم ويضع الحق في نصابه . وقديماً قال ذاك الشاعر الجاهلي :
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ولا ســـــراة إذا جهّالهم سادوا
وحين جاء الإِسلام أكد على هذا الأمر تأكيداً عظيماً وجعل ( اتخاذ الإمارة دينا وقربة ، يُتقرب بها إِلى الله عزوجل) .
بل لقد أجمع المسلمون إِلا من لا يعتد بخلافه على وجوب الإِمامة وعلى وجوب نصب الإِمام . قال الإِمام أحمد رحمه الله : ( الفتنة ؛ إِذا لم يكن إِمام يقوم بأمر الناس ) .
بيد أن المقصود الأعظم من الإِمامة ( إِصلاح دين الخلق ؛ الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ، ولم ينفعهم ما نَعِموا به في الدنيا وإِصلاح ما لا يقوم الدين إِلا به من أمر دنياهم) .
وبدون إِمامة لا تقوم للدين قائمة ، ولا يشاد له مَعْلم ، يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله : ( يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إِلا بها فإِن بني آدم لا تتم مصلحتهم إِلا بالاجتماع ، لحاجة بعضهم إِلى بعض ، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ، حتى قال النبي ( إِذا خرج ثلاثة في سفر فلْيؤمِّروا أحدهم )) رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما .
السمع والطاعة
إن من أكبر ما ينهض بتلكم الإِمامة ، أن يلتزم المجتمع بالسمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية ، وفي هذا انتظام شؤون العباد الدينية والدنيوية ، ويوم لا يعلن المجتمع ذلك ، ولا يدين به ، فلا وجود – حقيقي – لإِمامة ، ولا اعتبار لحاكم ، ومن مشهور الكلم : (( لا إمامة إلا بسمع وطاعة)) .
ولقد تظافرت النصوص التي توجب على المسلم السمعَ والطاعة َ بالمعروف ، من مثل قوله : (( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ، إِلا أن يؤمر بمعصية )) رواه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله : ( وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا ، وبها تنتظم مصالحُ العباد في معايشهم ، وبها يستعينون على إِظهار دينهم وطاعة ربهم ) .
والمسلم إِذا سمع وأطاع ، أ ُجِر ، لأنه – في حقيقة الأمر – ممتثل أمر الشرع المطهر ، والعكس بالعكس، أي إِذا لم يسمع ولم يطع أَثِم ، ففي المتفق عليه من حديث أبي هريرة ;، قال : قال رسول الله (( من أطاعنـي فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعنـي ، ومن يعص الأمير فقد عصاني))
ويقول شيخ الإِسلام ابن تيميه رحمه الله : ( فطاعة الله والرسول واجبة على كل أحد ، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله . ومن كان لا يطيعهم إِلا لما يأخذه من الولاية والمال ، فإِن أعطوه أطاعهم وإِن منعوه عصاهم ؛ فماله في الآخرة من خلاق )) .
والسمع والطاعة لولاة المسلمين من الحكام والأمراء والعلماء شيء مجمع على وجوبه عند أهل السنة والجماعة ، وهو أصل من أصولهم التي باينوا بها أهل البدع والأهواء.
وقل أن ترى مؤلفاً في عقائد أهل السنة ، إِلا وهو ينص على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر ، وإِن جاروا وظلموا وإِن فسقوا وفجروا ما لم يأمروا بمعصية الله .
والإجماع الذي انعقد عند أهل السنة والجماعة على وجوب السمع والطاعة لهم مبنيُّ على النصوص الشرعية الواضحة التي تواترت بذلك .
منها قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء{59} وعن عوف بن مالك ;قال : قال رسول الله
ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره الذي يأتي من معصية الله ولا ينزع يداً من طاعة )) حديث صحيح رواه مسلم.
وعن فضالة بن عبيد ;قال : قال رسول الله (( ثلاثة لا تسأل عنهم : رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا ...)) حديث صحيح رواه ابن أبي عاصم وابن حبان والحاكم.
النهي عن سب الأمراء والصبر على جورهم
الوقيعةُ في أعراض الأمراء ،والاشتغال بسبهم ، وذكر معايبهم : خطيئة كبيرة ، وجريمة شنيعة ، نهى عنها الشرع المطهر ، وذم فاعلها ،وهي نواة الخوراج على ولاة الأمر ، الذي هو أصل فساد الدين والدنيا معاً . وقد علم أن الوسائل لها أحكام المقاصد ، فكل ُّ نص في تحريم الخروج وذم أهله ، فهو دليل على تحريم السب وذم فاعله .
عن أنس ;قال : نهانا كبراؤنا من أصحاب محمد قالوا : قال رسول الله : (( لا تسبوا أمراءكم ولا تغـشـوهم ولا تبغضوهم واتقوا الله واصبروا فإن الأمر قريب )) حديث صحيح رواه ابن أبي عاصم وصححه الألباني .
عن حذيفة بن اليمان ;قال : قال رسول الله : (( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إِنس )) قلت : كيف أصنع إن أدركت ذلك ؟ قال : (( تسمع وتطيع للأمير وإِن ضرب ظهرك وأخذ مالك)) حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه .
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ( سيكون بعدي أمراء فتعرفون و تنكرون فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع )) قالوا : أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : ((لا ما أقاموا فيكم الصلاة )) حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه .
عن أبي بكرة ;قال : قال رسول الله : (( السلطان ظل الله في الأرض فمن أهانه أهانه الله ومن أكرمه أكرمه الله )) حديث صحيح رواه ابن أبي عاصم وأحمد و الطيالسي والترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني في الظلال.
عن عرفجة الاشجعي ;قال : قال رسول الله (( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق كلمتكم فاقتلوه)) حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه .
عن وائل بن حجر ;قال : قلنا يا رسول الله : أرأيت إِن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم ؟ فقال : (( اسمعوا و أطيعوا . فإِنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)) حديث صحيح رواه مسلم.
النصيحة
النصيحة : ( حيازة الحظ للمنصوح له ) والواجب في كل مجتمع مسلم أن يشيع فيه مبدأ التناصح ، لأن شيوع هذا المبدأ يأخذ بالمجتمع نـحو الكمال وينأى به عن مهاوي النقص . إِذ المؤمنون إِخوة يحب الواحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه ، بل جاء في الحديث الشريف أن المؤمن مرآة أخيه . أي يخبره بجوانب النقص التي تخدش دينه وتثلم مروءته ، لا سيما وأن النقصان سمة الإِنسان ولا يكون الكمال إِلا لواهبه.
وما أحسن صنيع بعض العلماء حين ربط بين المعنيين ، اللغوي والعرفي للنصيحة بقوله النصيحة مأخوذة من نَصَحَ الرجلُ ثوبَه ، إذا خاطه ، فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صالح المنصوح له ، بما يسده من خلل الثوب )
ولقد كان نبيناحريصا على انتشار التناصح في الأمة حتى جعل يبايع بعض الصحابة على بذل النصيحة للمسلمين ، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله ;قال : (( بايعت رسول الله على إِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم )) .
وليست نصيحة المسلم لإِخوانه مقصورة على إهدائهم عيوبهم فحسب ، بل هي عامة تشمل كل ما فيه نفعهم مثلُ : ( إِرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم ، وكفِّ الأذى عنهم ، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم ، ويعينُهم عليه بالقول والفعل ، وستر عوراتهم وسدِّ خلاتهم ، ودفع المضار عنهم ، وجلب المنافع لهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإِخلاص ، والشفقة عليهم وتوقير كبيرهم ، ورحمة صغيرهم ، وتخوُّلِهم بالموعظة الحسنة ، وترك غشهم وحسدهم ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير ، وأن يكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل ، وتنشيط هممهم إِلى الطاعات ) ونـحو ذلك.
فكل هذه الأشياء داخلة في مفهوم النصيحة ،ولهذا عظم النبي شأنها بقوله : (( الدين النصيحة ..)) فجعلها عماد الدين وقوامه . ولذا كان هذا الحديث عند بعض العلماء أحد عدة أحاديث يدور عليها الدين .
وإذا كانت حاجةُ المسلم - أيِّ مسلم - شديدةً إِلى النصيحة ، فإِن حاجة وليِّ الأمر إِليها أشدُّ وأعظم ، لأنه القائمُ على شؤون الناس والراعي لمصالحهم أجمعين.
فلما ينهض به من جليل الأعمال وعظيم المهام احتاج إِلى الناصح الأمين والموجه المخلص ،ومن هنا حض المصطفى على إِزجاء النصيحة لولي الأمر في غير ما حديث ، فقال عليه الصلاة والسلام – في الحديث المشار إِليه قريباً ( الدين النصيحة )) قيل : لمن يا رسول ؟ قال ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )) رواه مسلم من حديث تميم الداري; .
وعن أبي هريرة ; قال : قال ( إِن الله يرضى لكم ثلاثا ؛ يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ،وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)) .
وعن جبير بن مطعم ; أن النبي قال في خطبته بالخَيْف من منى ( ثلاث لا يُغِلُّ عليهن قلبُ امريء مسلم : إِخلاص العمل لله و مناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين)) .
فهذه النصوص النبوية وما ماثلها تحث المؤمن على أن يقوم بحسب استطاعته بواجب النصيحة لمن ولاه الله أمره .
ولا يتوهَّمنَّ أحد أن مناصحة ولي الأمر لا تكون إِلا في الوقوف أمامه ووقْفِه على مواضع تقصيره ، كلا ، بل مفهوم المناصحة أوسع من ذلك إِذ يشمل هذا وغيره مما هو أكثر منه ، وفي ظني أن الناس إِنما دخل عليهم النقص والخلل في نصيحة أولي الأمر ، حين لم يفقهوا ما تشمله تلك النصيحة ، ذلك أن نصيحة ولي الأمر تشمل ما يلي :
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه . أما بعد
فمما لا شك فيه أن دعاء الله عزوجل من أفضل أنواع العبادة، فقد ثبت أن رسول الله قال : (( الدعاء هو العبادة)) وفي رواية أخرى : (( الدعاء مخ العبادة)) . ودعاء المسلم لأخيه المسلم في ظهر الغيب سبب لقبول الدعاء ، وإِجابته عند الله عزوجل ، والدعاء لولاة أمور المسلمين بالصلاح والتسديد والأخذ بأيديهم إِلى ما يصلح رعاياهم وينصرهم على أعدائهم من الكفرة والملحدين،وهو من الأمور التي حثت عليها شريعة الله ، إذ بصلاحهم تصلح أمور البلاد والعباد.
فإِن ولي الأمر إذا صلح صلح شأن الرعية ، واستقام أمرها ، ومن هنا كان دعاء الله لهم من أفضل ما يتقرب به الإنسان إِلى الله عزوجل ، حيث إِن نفعه لا يقتصر على شخص بعينه ، ولكنه عام يستفيد منه كل أفراد الأمة . والدعاء لولاة أمور المسلمين فيه إِبراء للذمة فالدعاء من النصيحة لهم ، والنصح لهم أمر حثت عليه الشريعة ، فقد ثبت أن رسول الله قال : (( الدين النصيحة)) كرر ذلك ثلاثا قال الصحابة :لمن يا رسول الله قال: (( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )) وثبت عن جرير بن عبد الله البجلي ; قال : (( بايعت رسول الله على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم)). والنصح لأئمة المسلمين يشمل كل من له ولاية على المسلمين من الحكام والأمراء والقضاة سواء أكانت ولاية صغيرة أو كبيرة وهذا يتمثل في السمع لهم والطاعة ما لم يأمروا بمعصية الله ، فإذا أمروا بمعصية الله فلا سمع لهم ولا طاعة كما ورد بذلك الحديث.
الإمامة
من هم ولاة الأمر :
إن مما هو معلوم – بالضرورة – لكل أحد ، أن أمور بني الإِنسان لا يمكن أن تأخذ السيرة المستقيمة إِلا بوجود إِمام يلتف الناس حوله ، يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه ، يردع الظالم ويضع الحق في نصابه . وقديماً قال ذاك الشاعر الجاهلي :
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ولا ســـــراة إذا جهّالهم سادوا
وحين جاء الإِسلام أكد على هذا الأمر تأكيداً عظيماً وجعل ( اتخاذ الإمارة دينا وقربة ، يُتقرب بها إِلى الله عزوجل) .
بل لقد أجمع المسلمون إِلا من لا يعتد بخلافه على وجوب الإِمامة وعلى وجوب نصب الإِمام . قال الإِمام أحمد رحمه الله : ( الفتنة ؛ إِذا لم يكن إِمام يقوم بأمر الناس ) .
بيد أن المقصود الأعظم من الإِمامة ( إِصلاح دين الخلق ؛ الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ، ولم ينفعهم ما نَعِموا به في الدنيا وإِصلاح ما لا يقوم الدين إِلا به من أمر دنياهم) .
وبدون إِمامة لا تقوم للدين قائمة ، ولا يشاد له مَعْلم ، يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله : ( يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إِلا بها فإِن بني آدم لا تتم مصلحتهم إِلا بالاجتماع ، لحاجة بعضهم إِلى بعض ، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ، حتى قال النبي ( إِذا خرج ثلاثة في سفر فلْيؤمِّروا أحدهم )) رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما .
السمع والطاعة
إن من أكبر ما ينهض بتلكم الإِمامة ، أن يلتزم المجتمع بالسمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية ، وفي هذا انتظام شؤون العباد الدينية والدنيوية ، ويوم لا يعلن المجتمع ذلك ، ولا يدين به ، فلا وجود – حقيقي – لإِمامة ، ولا اعتبار لحاكم ، ومن مشهور الكلم : (( لا إمامة إلا بسمع وطاعة)) .
ولقد تظافرت النصوص التي توجب على المسلم السمعَ والطاعة َ بالمعروف ، من مثل قوله : (( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ، إِلا أن يؤمر بمعصية )) رواه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله : ( وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا ، وبها تنتظم مصالحُ العباد في معايشهم ، وبها يستعينون على إِظهار دينهم وطاعة ربهم ) .
والمسلم إِذا سمع وأطاع ، أ ُجِر ، لأنه – في حقيقة الأمر – ممتثل أمر الشرع المطهر ، والعكس بالعكس، أي إِذا لم يسمع ولم يطع أَثِم ، ففي المتفق عليه من حديث أبي هريرة ;، قال : قال رسول الله (( من أطاعنـي فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعنـي ، ومن يعص الأمير فقد عصاني))
ويقول شيخ الإِسلام ابن تيميه رحمه الله : ( فطاعة الله والرسول واجبة على كل أحد ، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله . ومن كان لا يطيعهم إِلا لما يأخذه من الولاية والمال ، فإِن أعطوه أطاعهم وإِن منعوه عصاهم ؛ فماله في الآخرة من خلاق )) .
والسمع والطاعة لولاة المسلمين من الحكام والأمراء والعلماء شيء مجمع على وجوبه عند أهل السنة والجماعة ، وهو أصل من أصولهم التي باينوا بها أهل البدع والأهواء.
وقل أن ترى مؤلفاً في عقائد أهل السنة ، إِلا وهو ينص على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر ، وإِن جاروا وظلموا وإِن فسقوا وفجروا ما لم يأمروا بمعصية الله .
والإجماع الذي انعقد عند أهل السنة والجماعة على وجوب السمع والطاعة لهم مبنيُّ على النصوص الشرعية الواضحة التي تواترت بذلك .
منها قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء{59} وعن عوف بن مالك ;قال : قال رسول الله
ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره الذي يأتي من معصية الله ولا ينزع يداً من طاعة )) حديث صحيح رواه مسلم.
وعن فضالة بن عبيد ;قال : قال رسول الله (( ثلاثة لا تسأل عنهم : رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا ...)) حديث صحيح رواه ابن أبي عاصم وابن حبان والحاكم.
النهي عن سب الأمراء والصبر على جورهم
الوقيعةُ في أعراض الأمراء ،والاشتغال بسبهم ، وذكر معايبهم : خطيئة كبيرة ، وجريمة شنيعة ، نهى عنها الشرع المطهر ، وذم فاعلها ،وهي نواة الخوراج على ولاة الأمر ، الذي هو أصل فساد الدين والدنيا معاً . وقد علم أن الوسائل لها أحكام المقاصد ، فكل ُّ نص في تحريم الخروج وذم أهله ، فهو دليل على تحريم السب وذم فاعله .
عن أنس ;قال : نهانا كبراؤنا من أصحاب محمد قالوا : قال رسول الله : (( لا تسبوا أمراءكم ولا تغـشـوهم ولا تبغضوهم واتقوا الله واصبروا فإن الأمر قريب )) حديث صحيح رواه ابن أبي عاصم وصححه الألباني .
عن حذيفة بن اليمان ;قال : قال رسول الله : (( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إِنس )) قلت : كيف أصنع إن أدركت ذلك ؟ قال : (( تسمع وتطيع للأمير وإِن ضرب ظهرك وأخذ مالك)) حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه .
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ( سيكون بعدي أمراء فتعرفون و تنكرون فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع )) قالوا : أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : ((لا ما أقاموا فيكم الصلاة )) حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه .
عن أبي بكرة ;قال : قال رسول الله : (( السلطان ظل الله في الأرض فمن أهانه أهانه الله ومن أكرمه أكرمه الله )) حديث صحيح رواه ابن أبي عاصم وأحمد و الطيالسي والترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني في الظلال.
عن عرفجة الاشجعي ;قال : قال رسول الله (( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق كلمتكم فاقتلوه)) حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه .
عن وائل بن حجر ;قال : قلنا يا رسول الله : أرأيت إِن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم ؟ فقال : (( اسمعوا و أطيعوا . فإِنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)) حديث صحيح رواه مسلم.
النصيحة
النصيحة : ( حيازة الحظ للمنصوح له ) والواجب في كل مجتمع مسلم أن يشيع فيه مبدأ التناصح ، لأن شيوع هذا المبدأ يأخذ بالمجتمع نـحو الكمال وينأى به عن مهاوي النقص . إِذ المؤمنون إِخوة يحب الواحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه ، بل جاء في الحديث الشريف أن المؤمن مرآة أخيه . أي يخبره بجوانب النقص التي تخدش دينه وتثلم مروءته ، لا سيما وأن النقصان سمة الإِنسان ولا يكون الكمال إِلا لواهبه.
وما أحسن صنيع بعض العلماء حين ربط بين المعنيين ، اللغوي والعرفي للنصيحة بقوله النصيحة مأخوذة من نَصَحَ الرجلُ ثوبَه ، إذا خاطه ، فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صالح المنصوح له ، بما يسده من خلل الثوب )
ولقد كان نبيناحريصا على انتشار التناصح في الأمة حتى جعل يبايع بعض الصحابة على بذل النصيحة للمسلمين ، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله ;قال : (( بايعت رسول الله على إِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم )) .
وليست نصيحة المسلم لإِخوانه مقصورة على إهدائهم عيوبهم فحسب ، بل هي عامة تشمل كل ما فيه نفعهم مثلُ : ( إِرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم ، وكفِّ الأذى عنهم ، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم ، ويعينُهم عليه بالقول والفعل ، وستر عوراتهم وسدِّ خلاتهم ، ودفع المضار عنهم ، وجلب المنافع لهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإِخلاص ، والشفقة عليهم وتوقير كبيرهم ، ورحمة صغيرهم ، وتخوُّلِهم بالموعظة الحسنة ، وترك غشهم وحسدهم ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير ، وأن يكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل ، وتنشيط هممهم إِلى الطاعات ) ونـحو ذلك.
فكل هذه الأشياء داخلة في مفهوم النصيحة ،ولهذا عظم النبي شأنها بقوله : (( الدين النصيحة ..)) فجعلها عماد الدين وقوامه . ولذا كان هذا الحديث عند بعض العلماء أحد عدة أحاديث يدور عليها الدين .
وإذا كانت حاجةُ المسلم - أيِّ مسلم - شديدةً إِلى النصيحة ، فإِن حاجة وليِّ الأمر إِليها أشدُّ وأعظم ، لأنه القائمُ على شؤون الناس والراعي لمصالحهم أجمعين.
فلما ينهض به من جليل الأعمال وعظيم المهام احتاج إِلى الناصح الأمين والموجه المخلص ،ومن هنا حض المصطفى على إِزجاء النصيحة لولي الأمر في غير ما حديث ، فقال عليه الصلاة والسلام – في الحديث المشار إِليه قريباً ( الدين النصيحة )) قيل : لمن يا رسول ؟ قال ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )) رواه مسلم من حديث تميم الداري; .
وعن أبي هريرة ; قال : قال ( إِن الله يرضى لكم ثلاثا ؛ يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ،وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)) .
وعن جبير بن مطعم ; أن النبي قال في خطبته بالخَيْف من منى ( ثلاث لا يُغِلُّ عليهن قلبُ امريء مسلم : إِخلاص العمل لله و مناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين)) .
فهذه النصوص النبوية وما ماثلها تحث المؤمن على أن يقوم بحسب استطاعته بواجب النصيحة لمن ولاه الله أمره .
ولا يتوهَّمنَّ أحد أن مناصحة ولي الأمر لا تكون إِلا في الوقوف أمامه ووقْفِه على مواضع تقصيره ، كلا ، بل مفهوم المناصحة أوسع من ذلك إِذ يشمل هذا وغيره مما هو أكثر منه ، وفي ظني أن الناس إِنما دخل عليهم النقص والخلل في نصيحة أولي الأمر ، حين لم يفقهوا ما تشمله تلك النصيحة ، ذلك أن نصيحة ولي الأمر تشمل ما يلي :