وحدة الوجود عند عبد الحليم محمود بين الحقيقة والوهم وأسلمتها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده رسوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ، { خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } ، { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } .
أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
إن وحدة الوجود هي الغاية القصوى في التوحيد عند خواص الصوفية أو كما يعبر عنهم بخاصة الخاصة ، وهذه العقيدة هي المرتبة الرابعة من مراتب التوحيد عند الصوفية ، فما هي هذه العقيدة ؟ هي أن ترى الوجود واحد ، أي الله عين كل شيء – عياذا بالله – وفي الحقيقة ليس كل الصوفية يعتقدون هذه العقيدة بل هي عقيدة الخواص كما قال الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين في باب التوحيد ، فغالب من يدافع عن هذه العقيدة من الصوفية الذين اطلعت على كلامهم خلطوا بين المرتبة الثالثة والرابعة من مراتب التوحيد عند الصوفية ، فالمرتبة الثالثة هي كما قال العزالي في إحياء علوم الدين قال : (( والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار )) ، فهذه المرتبة يفرق بين وجودين فهو يلحظ سر قدر الله فيها سبحانه وتعالى وهذا تفريق بين الذاتين أو الوجودين ، أما المرتبة الرابعة فقد قال عنها الغزالي : (( والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد، لأنه من حيث لا يرى إلا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياً عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق )) ، فهو في هذه المرتبة لا يشهد إلا واحدا حتى نفسه لا يشاهدها ، أي الكل واحد ، ومن خلال ما تقدم يظهر لك جليا الفرق بين المرتبتين فالثالثة تفرق بين والرابعة لا ترى إلا واحدا .
وبعد ما عرفت الفرق بين المرتبة الثالثة والرابعة من مراتب التوحيد نحب أن ننبه عليها وهي أن هناك خلط يخلطه المنافحون عن وحدة الوجود بين مصطلحات الصوفية وبين علم الكلام ، فينزل معنى الوجود عند أهل الكلام على معنى الوجود عند خواص الصوفية ، وهناك فرق في معنى الوجودين وإن اتفق الاسم أي اسم الوجود .
والآن نذكر أقوال خواص الصوفية في وحدة الوجود بمعنى أن الوجود واحد ، قال القاشاني وهو يتكلم عن مصطلح وحدة الوجود : (( يعني به عدم انقسامه إلى واجب والممكن ، وذلك أن الوجود عنده هذه الطائفة ليس ما يفهمه أرباب العلوم النظرية من المتكلمين والفلاسفة ، فإن أكثرهم يعتقد أن الوجود عرض الذي ظنوا عرضيته هو ما به تحقق حقيقة كل موجود وذلك لا يصح أن يكون أمراً غير الحق عز شأنه .
وأيضاً : لما كان للذات الموصوفة بالوحدة اعتباران :
أحدهما : اعتبار واحديتها ، وإحاطتها ، وشمولها للأسماء والحقائق وهي الحضرة التي تمسى مرتبة الجمع والوجود كما عرفت .
وثانيهما : اعتبار أنها هي عين تلك الحقائق التي اشتملت عليها وأحاطت بها لا غيرها ، وكان الوجود أصل تلك الحقائق ، وأظهرها حكما للمدارك ، فكان الوجود عين الذات بهذا )) [ لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام ص 465 ] .
قد بين القاشاني في تعريفه السابق أن معنى الوجود عند الصوفية يختلف عن أهل النظر والفلاسفة حيث قال : (( وذلك أن الوجود عنده هذه الطائفة ليس ما يفهمه أرباب العلوم النظرية من المتكلمين والفلاسفة )) ، فالوجود عند أهل النظر ينقسم إلى وجودين وجود الله تعالى (( الواجب أو واجب الوجود )) ، ووجود المخلوقات (( الممكن أو الموجودات )) ، فما هو الوجود عند الصوفية الجواب كما قاله القاشاني قال : (( يعني به عدم انقسامه إلى واجب والممكن )) ، فالوجود عند الصوفية لا ينقسم إلى قسمين كما هو الحال عند أهل النظر بل هو واحد كم قال الغزالي .
ويبين القاشاني سبب اختلاف الصوفية مع أهل النظر وهو أن أهل النظر يعتقدون أن الوجود عرض أي زائل وهو يعني هنا وجود المخلوقات ، أما الصوفية فالوجود عندهم هو (( ما به تحقق حقيقة كل موجود )) ، وحقيقة كل موجود عندهم هو الله عز وحل حيث قال : ((وذلك لا يصح أن يكون أمراً غير الحق عز شأنه )) فهذه نظرة خواص الصوفية للوجود بشكل عام .
والوجود أو الذات كما يسمى أيضا لها اعتباران عند الصوفية فالاعتبار الأول هو أن تجمع الأسماء والحقائق أي تجمع الاسم (( أي موجود )) وحقيقته (( أي الله )) وهذا يسمى عندهم بالجمع أي الحق بلا خلق ، وهذا الاعتبار يخص الوجود جيمعه أو كله ، وليس تعين أو موجود واحد .
والاعتبار الثاني أن الحقائق أو الموجودات أو التعينات هي عين الله عز وجل أو عين الذات أو عين الوجود ، فالله والذات والوجود أسماء لمسمى واحد فحتى في حال الفرق يكون كل موجود أي تعين ؛ عين الله ، فلذلك قال القاشاني في نهاية هذا الاعتبار : (( فكان الوجود عين الذات بهذا )) .
ونذكر الآن أقوال الصوفي الصريحة في هذا المعنى قال ابن عربي : (( فإن العارف مَنْ يرى الحق في كل شيء ، بل يراه عين كل شيء )) [ فصوص الحكم ص 192 ] ، فالعارف عند ابن عربي من يرى الله عين كل شيء وصرح هنا ابن عربي حتى لا يفهم من عبارته (( الحق في كل شيء )) المرتبة الثالثة من مراتب التوحيد أو الفناء فصرح أن الحق (( عين كل شيء )) حتى لا يلتبس على القارئ المعنى الذي يريده ابن عربي .
ولم يكن هذا النص الوحيد الذي يصرح فيه ابن بوحدة الوجود فقد قال في تفسيره لآية : { فإينما تولوا فثم وجه الله } قال : ابن عربي : (( { فأينما تولوا } أي أيّ جهة تتوجهون من الظاهر و الباطن { فثمة وجه الله } أي ذات الله المتجلية بجميع صفاته أو ولله الإشراق على قلوبكم بالظهور فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة شهودكم وفنائكم والغروب فيها بتستره واحتجابه بصورها وذواتها واختفائه بصفة جلاله حالة بقائكم بعد الفناء فأيّ جهة تتوجهوا حيئذ فثم وجه لم يكن شيء إلا إياه وحده { إن الله واسع عليم } جميع الوجود شامل لجميع الجهات والموجودات { عليم } بكل العلوم والمعلومات ... )) [ ص 43 / 1 ] .
فابن عربي هنا يقول : أي وجه تتوجهون لها فهي ذات الله تعالى لأنه عين كل شيء ، وحتى يوضح أن هذه المرتبة تسبقها مرتبة أخرى وهي المرتبة الثالث وحدة الشهود فقال : (( أو ولله الإشراق على قلوبكم بالظهور فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة شهودكم وفنائكم والغروب فيها بتستره واحتجابه بصورها وذواتها واختفائه بصفة جلاله حالة بقائكم بعد الفناء فأيّ جهة تتوجهوا حيئذ فثم وجه لم يكن شيء إلا إياه وحده )) ففي هذه المرتبة لا يشهد واحد بل يشهد الصورة التي احتجب الله بها وإن كان في الظاهر هو يشهد صورا إلا أن هذه الصور هي حجاب الحق يراها الفاني صورا لأنه لم يرتق إلى المرتبة الرابعة فإذا زاد فناءه وارتقى للمرتبة الربعة علم أن الوجود واحد وأن الله تعالى عبارة عن جميع الجهات والموجودات لذلك قال : (({ إن الله واسع عليم } جميع الوجود شامل لجميع الجهات والموجودات )) .
ولقد صرح ابن عربي بهذه العقيدة في شعره فقال :
وقال أيضاً :
وقال أيضاً :
فهذه مقدمة مختصر لنظرية وحدة الوجود كما يعتقدها أرباب التصوف ومقدميهم ذكرناها مدخلا لموضوعنا الأصلي وهو مفهوم الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر السابقة لوحدة الوجود حيث الشيخ تناول هذا الموضوع في كتابه (( أبو العباس المرسي )) فخلط بين وحدة الشهود ووحدة الوجود أو بين المرتبة الثالثة والمرتبة الرابعة إما عن تأثره بعلم الكلام أو إخفاء حقيقة وحدة الوجود (( عقيدة الخواص )) عند الناس وتلميعها ، وهذا ما سيتضح من خلال المبحث التالي بالتعليق على كلامه ، وقبل التعليق نسرد كلامه بحروفه حتى تتضح الصورة للقارئ الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده رسوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ، { خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } ، { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } .
أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
إن وحدة الوجود هي الغاية القصوى في التوحيد عند خواص الصوفية أو كما يعبر عنهم بخاصة الخاصة ، وهذه العقيدة هي المرتبة الرابعة من مراتب التوحيد عند الصوفية ، فما هي هذه العقيدة ؟ هي أن ترى الوجود واحد ، أي الله عين كل شيء – عياذا بالله – وفي الحقيقة ليس كل الصوفية يعتقدون هذه العقيدة بل هي عقيدة الخواص كما قال الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين في باب التوحيد ، فغالب من يدافع عن هذه العقيدة من الصوفية الذين اطلعت على كلامهم خلطوا بين المرتبة الثالثة والرابعة من مراتب التوحيد عند الصوفية ، فالمرتبة الثالثة هي كما قال العزالي في إحياء علوم الدين قال : (( والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار )) ، فهذه المرتبة يفرق بين وجودين فهو يلحظ سر قدر الله فيها سبحانه وتعالى وهذا تفريق بين الذاتين أو الوجودين ، أما المرتبة الرابعة فقد قال عنها الغزالي : (( والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد، لأنه من حيث لا يرى إلا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياً عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق )) ، فهو في هذه المرتبة لا يشهد إلا واحدا حتى نفسه لا يشاهدها ، أي الكل واحد ، ومن خلال ما تقدم يظهر لك جليا الفرق بين المرتبتين فالثالثة تفرق بين والرابعة لا ترى إلا واحدا .
وبعد ما عرفت الفرق بين المرتبة الثالثة والرابعة من مراتب التوحيد نحب أن ننبه عليها وهي أن هناك خلط يخلطه المنافحون عن وحدة الوجود بين مصطلحات الصوفية وبين علم الكلام ، فينزل معنى الوجود عند أهل الكلام على معنى الوجود عند خواص الصوفية ، وهناك فرق في معنى الوجودين وإن اتفق الاسم أي اسم الوجود .
والآن نذكر أقوال خواص الصوفية في وحدة الوجود بمعنى أن الوجود واحد ، قال القاشاني وهو يتكلم عن مصطلح وحدة الوجود : (( يعني به عدم انقسامه إلى واجب والممكن ، وذلك أن الوجود عنده هذه الطائفة ليس ما يفهمه أرباب العلوم النظرية من المتكلمين والفلاسفة ، فإن أكثرهم يعتقد أن الوجود عرض الذي ظنوا عرضيته هو ما به تحقق حقيقة كل موجود وذلك لا يصح أن يكون أمراً غير الحق عز شأنه .
وأيضاً : لما كان للذات الموصوفة بالوحدة اعتباران :
أحدهما : اعتبار واحديتها ، وإحاطتها ، وشمولها للأسماء والحقائق وهي الحضرة التي تمسى مرتبة الجمع والوجود كما عرفت .
وثانيهما : اعتبار أنها هي عين تلك الحقائق التي اشتملت عليها وأحاطت بها لا غيرها ، وكان الوجود أصل تلك الحقائق ، وأظهرها حكما للمدارك ، فكان الوجود عين الذات بهذا )) [ لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام ص 465 ] .
قد بين القاشاني في تعريفه السابق أن معنى الوجود عند الصوفية يختلف عن أهل النظر والفلاسفة حيث قال : (( وذلك أن الوجود عنده هذه الطائفة ليس ما يفهمه أرباب العلوم النظرية من المتكلمين والفلاسفة )) ، فالوجود عند أهل النظر ينقسم إلى وجودين وجود الله تعالى (( الواجب أو واجب الوجود )) ، ووجود المخلوقات (( الممكن أو الموجودات )) ، فما هو الوجود عند الصوفية الجواب كما قاله القاشاني قال : (( يعني به عدم انقسامه إلى واجب والممكن )) ، فالوجود عند الصوفية لا ينقسم إلى قسمين كما هو الحال عند أهل النظر بل هو واحد كم قال الغزالي .
ويبين القاشاني سبب اختلاف الصوفية مع أهل النظر وهو أن أهل النظر يعتقدون أن الوجود عرض أي زائل وهو يعني هنا وجود المخلوقات ، أما الصوفية فالوجود عندهم هو (( ما به تحقق حقيقة كل موجود )) ، وحقيقة كل موجود عندهم هو الله عز وحل حيث قال : ((وذلك لا يصح أن يكون أمراً غير الحق عز شأنه )) فهذه نظرة خواص الصوفية للوجود بشكل عام .
والوجود أو الذات كما يسمى أيضا لها اعتباران عند الصوفية فالاعتبار الأول هو أن تجمع الأسماء والحقائق أي تجمع الاسم (( أي موجود )) وحقيقته (( أي الله )) وهذا يسمى عندهم بالجمع أي الحق بلا خلق ، وهذا الاعتبار يخص الوجود جيمعه أو كله ، وليس تعين أو موجود واحد .
والاعتبار الثاني أن الحقائق أو الموجودات أو التعينات هي عين الله عز وجل أو عين الذات أو عين الوجود ، فالله والذات والوجود أسماء لمسمى واحد فحتى في حال الفرق يكون كل موجود أي تعين ؛ عين الله ، فلذلك قال القاشاني في نهاية هذا الاعتبار : (( فكان الوجود عين الذات بهذا )) .
ونذكر الآن أقوال الصوفي الصريحة في هذا المعنى قال ابن عربي : (( فإن العارف مَنْ يرى الحق في كل شيء ، بل يراه عين كل شيء )) [ فصوص الحكم ص 192 ] ، فالعارف عند ابن عربي من يرى الله عين كل شيء وصرح هنا ابن عربي حتى لا يفهم من عبارته (( الحق في كل شيء )) المرتبة الثالثة من مراتب التوحيد أو الفناء فصرح أن الحق (( عين كل شيء )) حتى لا يلتبس على القارئ المعنى الذي يريده ابن عربي .
ولم يكن هذا النص الوحيد الذي يصرح فيه ابن بوحدة الوجود فقد قال في تفسيره لآية : { فإينما تولوا فثم وجه الله } قال : ابن عربي : (( { فأينما تولوا } أي أيّ جهة تتوجهون من الظاهر و الباطن { فثمة وجه الله } أي ذات الله المتجلية بجميع صفاته أو ولله الإشراق على قلوبكم بالظهور فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة شهودكم وفنائكم والغروب فيها بتستره واحتجابه بصورها وذواتها واختفائه بصفة جلاله حالة بقائكم بعد الفناء فأيّ جهة تتوجهوا حيئذ فثم وجه لم يكن شيء إلا إياه وحده { إن الله واسع عليم } جميع الوجود شامل لجميع الجهات والموجودات { عليم } بكل العلوم والمعلومات ... )) [ ص 43 / 1 ] .
فابن عربي هنا يقول : أي وجه تتوجهون لها فهي ذات الله تعالى لأنه عين كل شيء ، وحتى يوضح أن هذه المرتبة تسبقها مرتبة أخرى وهي المرتبة الثالث وحدة الشهود فقال : (( أو ولله الإشراق على قلوبكم بالظهور فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة شهودكم وفنائكم والغروب فيها بتستره واحتجابه بصورها وذواتها واختفائه بصفة جلاله حالة بقائكم بعد الفناء فأيّ جهة تتوجهوا حيئذ فثم وجه لم يكن شيء إلا إياه وحده )) ففي هذه المرتبة لا يشهد واحد بل يشهد الصورة التي احتجب الله بها وإن كان في الظاهر هو يشهد صورا إلا أن هذه الصور هي حجاب الحق يراها الفاني صورا لأنه لم يرتق إلى المرتبة الرابعة فإذا زاد فناءه وارتقى للمرتبة الربعة علم أن الوجود واحد وأن الله تعالى عبارة عن جميع الجهات والموجودات لذلك قال : (({ إن الله واسع عليم } جميع الوجود شامل لجميع الجهات والموجودات )) .
ولقد صرح ابن عربي بهذه العقيدة في شعره فقال :
ظنـنت ظنـوناً بأنك أنتَ ** وما أن تكـون ولا قطٌ كنـتَ
فــإن أنـت أنت فإنك ربٌ ** وثاني اثنـين دع مــا ظننـتَ
فـلا فـرق بيـن وجوديكما ** فما بان عنك و لا عنـه بنـتَ
فإن قلـت جهلاً بأنك غيـرٌ ** خشنت وإن زال جهلك لـنتَ
فوصلـك هجـر وهجـرك ** وصل وبعدك قربٌ بهذا حسنتَ
دع العقل وافهم بنور انكشا ** لئلا يفوتـك ما عنـه صـنتَ
ولا تشـرك مـع الله شيـئاً ** لئـلا تهـون وبالشرك هنـتَ
[ الرسالة الوجودية ص 42 ]فــإن أنـت أنت فإنك ربٌ ** وثاني اثنـين دع مــا ظننـتَ
فـلا فـرق بيـن وجوديكما ** فما بان عنك و لا عنـه بنـتَ
فإن قلـت جهلاً بأنك غيـرٌ ** خشنت وإن زال جهلك لـنتَ
فوصلـك هجـر وهجـرك ** وصل وبعدك قربٌ بهذا حسنتَ
دع العقل وافهم بنور انكشا ** لئلا يفوتـك ما عنـه صـنتَ
ولا تشـرك مـع الله شيـئاً ** لئـلا تهـون وبالشرك هنـتَ
وقال أيضاً :
عرفـت الـرب بالـرب ** بلا شــك ولا ريــب
فذاتـي ذاتــه حقــاً ** بـلا نقـص ولا عيــب
ولا غـيران بينهــمـا ** فنفسـي مظهــر الغيب
ومـن عرفتـه نفســي ** فـلا مــرجٍ ولا شـوب
وصلـت وصـول محبوبٍ ** بــلا بعــدٍ ولا قـرب
ونلـت عطـاء ذي قـدم ** بـلا مــن ولا سبــب
ولا فنيـت لـه نفســي ** ولا تبقـى لــذوي ذوب
ولكـن قـد تعـرت منك ** عن عبــد وعــن رب
[ الرسالة الوجودية ص 44 ]فذاتـي ذاتــه حقــاً ** بـلا نقـص ولا عيــب
ولا غـيران بينهــمـا ** فنفسـي مظهــر الغيب
ومـن عرفتـه نفســي ** فـلا مــرجٍ ولا شـوب
وصلـت وصـول محبوبٍ ** بــلا بعــدٍ ولا قـرب
ونلـت عطـاء ذي قـدم ** بـلا مــن ولا سبــب
ولا فنيـت لـه نفســي ** ولا تبقـى لــذوي ذوب
ولكـن قـد تعـرت منك ** عن عبــد وعــن رب
وقال أيضاً :
الحق عين الخلق إن كنــت ذا عين ** والخلق عين الحق إن كنت ذا عقل
وإن كنت ذا عين وعقل فمـا ترى ** سوى عين شيء واحد فيه بالكـل
[ المعرفة ص 87 ] وإن كنت ذا عين وعقل فمـا ترى ** سوى عين شيء واحد فيه بالكـل
فهذه مقدمة مختصر لنظرية وحدة الوجود كما يعتقدها أرباب التصوف ومقدميهم ذكرناها مدخلا لموضوعنا الأصلي وهو مفهوم الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر السابقة لوحدة الوجود حيث الشيخ تناول هذا الموضوع في كتابه (( أبو العباس المرسي )) فخلط بين وحدة الشهود ووحدة الوجود أو بين المرتبة الثالثة والمرتبة الرابعة إما عن تأثره بعلم الكلام أو إخفاء حقيقة وحدة الوجود (( عقيدة الخواص )) عند الناس وتلميعها ، وهذا ما سيتضح من خلال المبحث التالي بالتعليق على كلامه ، وقبل التعليق نسرد كلامه بحروفه حتى تتضح الصورة للقارئ الكريم