همسة في أذن أم ناجحة
أم اليتيم ... أيتها المجاهدة الصامتة ... دعيني أخاطبك بحديث دون الأمهات ... دعيني أناجيك دون بقية النساء,
ارعيني سمعك يا رعاك الله , دعيني أحدثك حديث الروح للروح , لا حديث اللسان للآذان :
حديث الروح للروح يسري .... وتدركه القلوب بلا عناء
دعي كل ما في يدك , اتركي كل ما يشغلك , واستمعي لحديثي إستماع من ألقى السمع وهو شهيد
فحديثي إليكـِ هو لكـِ وليس لي , هو من أجلك انتِ فقط , لا من أجل غيركِ من الأمهات , واظنكـِ بعد هذا الحديث ستغيرين كثير من قناعتكـِ , وستنظرين إلى الحياة بخلاف ما كنت تنظرين إليها من قبل .
فانا على يقين بأنكـِ طالما نظرت إلى غيرك من النساء اللاتي وهن في كنف أزواجهن وما يلقينه من الرعاية والعناية , وكفايتهن أعباء الحياة , وتمنيتِ أن لو كنتِ مثلهن .
وطالما جلستِ الساعات الطوال على ذكريات زوجكـِ , وتذكرتِ أيامه معكـِ ومع أولاده , فسبح بكـِ الخيال في بحر الآمال , فترقرقت بالدمع عيناكِ , فتحدر منها بدون أن تشعري , وربما كان ذلكِـ بحضرة أولادكِ , وربما سألوك والحيرة تملاء اعينهم عن سبب الدموع , فسارعت بكفكفتها ومسحها عن وجنتيك , ثم غيرتِ مجرى الحديث , وكأن شياً لم يكن , حتى لا تكسري قلوبهم وتخدشي مشاعرهم وتصطلي انتِ وحدكِ بلهيب الفراق , وتتجرعي ألم الإشتياق .
وطالما ... وطالما ... ولكن قبل أن ادخل في صميم حديثي إليكِـ , اظنكِـ قد اعياك التعب وأجهدك الإعياء في خدمة بيتكِـ الذي ليس فيه خادمة كبيت فلانة وفلانة , لانه ليس لديك ما تستقدمين به الخادمة , ولا ما تدفعينه مرتب لها , فأحب أن اقص عليكِـ قصة جميلة تبعث في نفسكِـ الشوق إلى بقية حديثي , وتهيئ نفسك للاستماع إلي .
يحكى أنه كان في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي هذه المدينة المباركة فتاة تكنى أم سليم , عاشت في بداية حياتها كغيرها من الفتيات في الجاهلية قبل مجيء الإسلام , فتزوجت رجلاً اسمه مالك بن النظر , وأنجبت منه ابناً اسمياه أنساً , وكانت تعيش معه كغيرها من بنات جنسها , كل شيء في حياتها هو زوجها وأبنها , تفكر في حياة ملؤها الأنس والسرور ويتطلع ابنها إلى بيت ملؤه الحنان والأمان في كنف أب حنون وأم رؤوم .
فلما جاء الإسلام , وبزع فجره , واضاء نوره , وأستجابت وفود الانصار ... شرح الله صدر أم سليم للإسلام ... فأسلمت مع السابقين الأولين , فارادت أن تواصل هذا الهدى والنور الذي لامس شغاف قلبها , وخالطت بشاشة فؤادها , احب الناس اليها , وهو زوجها , فعرضت عليه الإسلام , والحت عليه في الإستجابة لداعي الإيمان , ولكن لم يرد الله له الهداية , وشَرِقَ بانتشار الدعوة في المدينة وازدياد الإسلام بها شيئاً فشيئاً , فلم يجد له بداً من ترك المدينة .. والخروج إلى الشام , فهلك هناك .
وكانت تلقن ابنها أنساً الشهادتين قبل أن يبلغ سنتين كما ذكر سعد في الطبقات وكان زوجها يغضب من ذلكـ ويقول : لا تفسدي عليّ ابني , وتقول : إني لا افسده بل اصلحه .
ولما مات زوجها رفضت الأزواج , وكانت تقول : لا اتزوج حتى يبلغ أنس ويجلس في المجالس ويتكلم .
هذا نموذج للأمومة الصادقة , التي يتمناها فلذات الأكباد ...
ابناؤنا اكبادنا ...تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم ... لمتنعت عيني عن الغمض
فصبرت على تربية ابنها , وتنشئته على الإسلام في حين ان حاجتها إلى الزواج في ذلك الزمن كان أعظم شيء تفكر فيه المرأة .
فلم بلغ أنس مبلغ الرجال , كان ابو طلحة الأنصاري يريد الزواج منها , وهي رافضة للزواج بحجة تربية ابنها , والقيام على ما يصلح حاله .
اما زواجها في الإسلام فذاك هو العجب بعينه , ولم يتكرر في التاريخ مثله , فعن أنس رضي الله عنه قال : ( خطب أبو طلحة أم سليم قبل أن يسلم فقالت : أما اني فيك لراغبه , وما مثلك يرد , ولكنك رجل كافر , وانا امرأة مسلمة , فإن تسلم فذاك مهري , لا اسأل غيره , فلما اسلم قبلت بالزواج منه ) .
ولهذه المرأة المسلمة من المواقف ما يطول المقام بذكرها , وانا لا أريد أن اطيل عليكِـ واظنكِـ في شوق إلى ما سأحدثكـ عنه .
أختي الغالية ... ربما يعتريكِـ شكـ وينتابكـ ريب في عدم نجاحكِـ في تربية أولادك لوحدك , بدون أب يتحمل عنكِـ شيئاَ من أعباء هذه التربية , التي أصبحت من الصعوبة بمكان في هذه الأزمان المتأخرة , وربما القى الشيطان ذلكـ الهاجس في نفسك وقوّاه ضميرك , حتى يصبح عندك يقيناً جازماً لا يقبل الشك , فتتركين التربية , وتهملين الأولاد , وتشتغلين فقط بتأمين لقمة العيش لهم على حساب إهمال تربيتهم , والعناية بهم ديناً وخلقاً .
ولكن الامر أختي الكريمة بخلاف ذلكـ تماماً , الم تسمعي بالحكمة القائلة : وراء كل رجل عظيم امرأة , الم تسمعي قول شوقي :
الأم مدرسة إذا اعددتها ... اعددت شعباَ طيب الأعراق
الأم نبت إن تعاهده الحيا ... بالري اورق أيما إيراق
الأم نبت إن تعاهده الحيا ... بالري اورق أيما إيراق
انتِ ايتها الأم يسمونها صانعة الرجال , ومربية الاجيال , وقديماً قيل : المرآة التي تهز المهد بيمينها , تحرك العالم بشمالها .
والواقع – ايتها الفاضلة – اكبر شاهد على ذلكـ , فقد مر معنا قصة أنس بن مالكـ - رضي الله عنه – وقد عاش يتيماً في كنف أم سليم فحرصت على تربيته وإعداده إعداداً إيمانياً فكان من كبار علماء الأمة فحفظ للأمة كثيراً من احاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - , وكان من كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم .
وهذه أم الأمام احمد رحمهما الله كانت حريصة على تنشئته على ألإيمان , وتربية القرآن , وأن يتعلم العلم الشرعي , وينهل من معينه الصافي , وينبوعه العذب, فكانت توقظه قبل الفجر في الشتاء , وتسخن له الماء حتى يتوضا , فتاخذ بيده , وتوصله إلى المسجد , وتقف له عند الباب حتى تنقضي الصلاة , ثم تأخذ بيده إلى البيت .
وهذا الامام الشافعي رحمه الله عاش يتيماً في كنف أمه , وكذلك القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة النعمان رحمهما الله وغيرهم من علماء المسلمين وعظماء الإسلام وأبطاله أيتاماً , يتفيؤون ظلال الأمهات , وتصنعهم النساء المؤمنات الصابرات .
وكانت أم سفيان الثوري رحمهما الله , تغزل الصوف وتبيعه وتنفق على ابنها من ثمنه وتقول له : يا بني اطلب الحديث , وانا اكفيك بمغزلي هذا , فأنظر فإن حفظت عشرة احاديث , فإن ظهر أثرها عليكـ , والا لا تتبعني .
ارأيت كيف أن كنت ما كنتِ تظنين من عجزك عن تربية أبنائك لوحدك غير صحيح , بل أن المرأة قد تكون في تربيتها وحرصها على أبنائها أعظم من الرجل , وما مر معنا من الامثلة اكبر شاهد على ذلكـ .
ثم الم تعلمي ايتها المباركة ما رتب ربنا - جل في علاه - من الثواب الجزيل والاجر العظيم على كفالة اليتيم والقيام عليه بما يصلح حاله وشانه .
فلا تظني ان فضل ذلك وأجره قاصر على من يقوم بدفع المال ثم يذهب , بل أن لكـِ من ذلكـ النصيب المذخور والحظ الموفور .
فتعالي معي نتأمل هذه النصوص النبوية في فضل كفالة اليتيم :
روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ) , وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما .
وروى مسلم عن ابي هريرة قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة ) وأشار مالك بالسبابة والوسطى , رواه مسلم برقم 2983
وروى البيهقي في السنن عن الزهري قال حدثني سعيد بن المسيب : أن أول شيء عتب فيه - رسول الله صلى الله عليه وسلم - على أبي لبابة بن عبد المنذر أنه خاصم يتيما له في عذق نخلة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة بالعذق فضج اليتيم واشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة (هب لي هذا العذق يا أبا لبابة لكي نرده إلى اليتيم ) فأبى أبو لبابة أن يهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا أبا لبابة أعطه هذا اليتيم ولك مثله في الجنة ) فأبى أبو لبابة أن يعطيه فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أرأيت إن ابتعت هذا العذق فأعطيت اليتيم , إلى مثله في الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نعم ) فانطلق الأنصاري وهو بن الدحداحة حتى لقي أبا لبابة فقال ( يا أبا لبابة أبتاع منك هذا العذق بحديقتي ) وكانت له حديقة نخل فقال أبو لبابة نعم فابتاعه منه بحديقة فلم يلبث بن الدحداحة إلا يسيرا حتى جاء كفار قريش يوم أحد فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم فقتل شهيدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة ). صححه الألباني في صحيح الجامع .
سبحان الله ما اعضمه من أجر وما اجزله من ثواب , ان تكوني مرافقة لسيد العالمين في جنة النعيم , فلا تدعي لليأس إلى قلبكِـ طريقاً , ولا للقنوط إلى حياتكِـ سبيلاً وتزودي بالصبر واليقين واجعلي قدوتك أم سليم الانصارية رضي الله عنها , وأم الشافعي , واحمد , والبخاري ... اللاتي اخرجن للأمة أمثال هؤلاء العظماء , الذين سطر التاريخ سيرتهم بمداد من نور , ولا يزال الناس يذكرونهم ويترحمون عليهم وعلى من كان سبباَ فيمن اوصلهم إلى ما وصلوا إليه , حتى يرث الله ومن عليها .
أختي أم اليتيم ... إن مؤسسة مكة المكرمة الخيرية - مكتب المدينة الإقليمي – تفتخر بأعظم مشروع تقوم عليه , ونذرت نفسها من أجله , الا وهو مشروع كفالة ايتام مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقُراها, بكل ما تعنيه هذه الكلمة حتى تعوض اليتيم فقد والده , وكأنه حي لم يمت , بل ربما تكون افضل لليتيم من بعض الآباء المفرطين المضيعين لأبنائهم .
فنحن نهتم بعلاج اليتيم , وتوفير الدواء له , حيث خاطبنا المستشفيات الأهلية ,والمراكز المتخصصة في العلاج , فتكفل بعضهم بعلاج اليتيم مجاناً , في حين ساهم البعض الأخر في نسبة كبيرة من العلاج , فجزاهم الله خير الجزاء على تلكـ المبادرة الموفقة , والبادرة الرائدة في عمل الخير .
ونهتم بتعليمه والرفع من مستواى تحصيله الدراسي , فخاطبنا إدارة التربية والتعليم في ذلكـ , وتم التنسيق معهم من أجل تهيئة بعض البرامج الخاصة بهذا الجانب .
ونهتم بتأمين إحتياجات اليتيم المعيشية على اكمل وجه حتى يعيش كغيره من أبناء جنسه لا يشتكي ألم الفقر ولا يتكبد عناء تحصيل الرزق ليتفرغ هو وأسرته للعناية به في علمه ودينه وخلقه , حتى لا يستغل من قبل ارباب الشهوات المفسدين فينالوا منه بحجة تأمين الرزق وتحصيل المال .
ونقدم لأم اليتيم الإستشارات التربوية والحلول الاسرية , في كل ما يطرا على حياة اليتيم وحياتها , من خلال قسم التوجيه والإرشاد بالمؤسسة , ومن خلال بعض المتخصصات من الأخوات في هذا المجال سواء بالاتصال بالهاتف , او بالزيارة الميدانية لاسرة اليتيم .
اختي أم اليتيم إن ثمرة العناية باليتيم أنت من يقطفها ويتفياً ظلالها الوراقة , فأحرصي على تربيته التربية الإيمانية , التي تعود على اليتيم وعليك وعلى الامة بخير الدنيا والاخرة
وإذا كانت المؤسسة او من يقوم على كفالة اليتيم لا يتصلون إلا في اضيق الأوقات , فأنت التي مع اليتيم في كل لحظاته , تعرفين ما يحب وما يكره , تشعرين بما يدور في خلده , وما يختلج في ضميره , بإحساسك المرهف , وبعين أمومتكـ الحانية , ترقبين سلوكه إن كان صالحاً او خلاف ذلكـ .
فالله الله ... لا يؤتى اليتيم من قبل تقصيرك وإهمالكـ , إتقي الله في هذه الأمانة التي استرعاك إياها , لا تلقين اباهم يوم القيامة فيكون حجيجاً او خصيماً لكِـ في تضييع اولاده , يقول لكـ تركتهم على خير حال في محافظتهم على الصلاة والإستقامة على أمر الله , فآثرت حظوظ نفسك وشهواتها على القيام عليهم وتربيتهم , اهكذا ترعى الأمانة ؟ فما جوابكـ في ذلكـ اليوم ؟ فاعدي للسؤال جواباً .. وللجواب صواباً ...
تم بحمد الله
منقول
لطفــــاً .. من هنـــــــــــا