الفهم الصحيح للورع والزهد
فإن من المفاهيم التي أصابها الخلل عند بعض المتنسكة مفهوم الورع والزهد حتى جاوزوا فيها منهج سلف الأمة المهديين وأتوا بتصورات ومواقف عدوها من الزهد والورع وهي ليست منها في شيء
لأنها إما جانحة إلى الغلو والزيادة أو إلى التقصير والتفريط والتلبيس كما أن الشيطان قد صوَّر لبعضهم بأنه من أهل الورع والزهد بتركه لبعض المباحات أو الشبهات مع أنه متلبس ببعض المحرمات الواضحة أو تاركًا لبعض الواجبات الصريحة وهو يعلم بذلك أو لا يعلم.
من أجل ذلك جاءت هذه المقالة السريعة في تحديد الفهم الصحيح للورع والزهد كما فهمه السلف الصالح رحمهم الله تعالى مع التحذير من نزغات الشيطان وتلبيسه في هذا الباب.
جاء عن السلف عدة تعريفات للورع والزهد بعضها ذهـب إلى مظهر أو نوع من أنواع الزهد والورع وبعضها الآخر ذهب إلى مظهر أو نـوع آخر، ولذلك فالاختلاف فيما بينها إنما هو اختلاف تنوع لا اخـتلاف تضـاد، لأنهـا تعـود في جملتها إلى تعريف عام منضبط هو الذي اختاره الإمـام ابن القـيم رحمه الله تعالى حيث يقول:
سمعت شيخ الإسلام ابن تيميـة قدَّس الله روحه يقول: الزهــد: هـو ترك مالا ينفـع في الآخرة، والورع: ترك ما تخاف ضـرره في الآخرة. وهـذه العبارة من أحسـن ما قيـل في الزهـد والـورع وأجـمعـها)) [1]اهـ.
وبالتأمل في هذين التعريفين للزهد والورع وبالتدقيق في مدلولهما نخرج بالفوائد التالية:
* أن مقام الزهد أعلى من مقام الورع، لأن الزاهد لاتراه إلا محـاسبًا لنفسه شحيحًا بوقته لا يضيع عمره في شيء لا يقربه إلى الله عز وجل ولا ينفعه في الآخرة وإنما ينظر إلى ما يقوله ويفعله
]فإن كان مما ينفـعه عند الله عز وجل أخذ به وعلق همته به
]وإن كان لا يرجو نفعـه في الآخرة زهد به وتركه ولو لم يكن منه ضرر في الآخرة
ولا يعني هذا أن الزاهـد لا يتمـتع بالمباحات بل إنه يتـمتع بها من غير توسع وينوي بها التقوِّى على طاعة الله عز وجل وبهذا تنفعه في الآخرة.
]أما الورع فصاحبه يتجنب ما يخاف ضرره في الآخرة فإذا خلا من الضرر فقد يأخذ به ولو لم ينتفع به في الآخرة، أي أنه يتجنب الحرام وشبهه ويفعل الواجب وشبهه، وما سوى ذلك فهو متوسع فيه تركًا أو فعلاً من دون استحضار نية التعبد بذلك.
وهذا مقام رفيع لكنه دون مقام الزهد.
وبذلك نستطيع القول بأن كل زاهد فهو ورع، وليس كل ورع زاهد.
بالفهم الصحيح للزهد والورع حسب التعريفات السابقة نتخلص من الفهم الخاطئ والغلط الذي قد يقع فيه بعض الناس في موضوع الزهد والورع ، ولذلك صور منها :
]أ- قصر الزهد على مظاهر معينة في المأكل والمشرب والملبس والمسكن أو ترك الاكتساب، والتفرغ للذكر والقرآن ونوافل العبادات... الخ، ونسيان ما هو أهم من ذلك وهو زهد القلب وميله إلى الآخرة ومحبته وتوكله على الله عز وجل وترك ما يضره من الآثام الباطنة والظاهرة
ولذلك فأول ما ينبغي أن ينصب إليه اهتمام الزاهد بحق: زهده في ما حرم الله عز وجل وقيامه بما أوجب الله عز وجل ويلي ذلك زهده في مشتبهات الحرام وفعله لمشتبهات الواجب ثم يصل بعد ذلك إلى زهده في المباحات التي لا تنفعه في الآخرة وإن أخذ بها نوى بها التقوى على طاعة الله سبحانه فتتحول المباحات في حقه إلى عبادات ينتفع بها في الآخرة.
ب- اعتقاد بعض النـاس أن الزهد والورع يختصان بجانب التروك فقط فلا يرون الورع أو الزهد إلا في ترك الحرام أو مشتبهاته لا في أداء الواجبات ومشتبهاتها مع أننا لو أمعنا النظر في مفهوم الترك- الوارد في تعريف الزهد والورع لرأيناه يشمل ترك المحرم ومشتبهاته وفعل الواجب ومشتبهاته ومن قام بذلك فقد ترك ما يخاف ضرره في الآخرة.
ومن هذا الغلط تنشأ بعض الصور المتناقضة في حياة من يدعي الزهد أو الورع.
]فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يفصل هذه الحالة فيقول : يقع الغلط في الورع على ثلاث جهات:
منها : اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب
وهذا ما ابتلي به كثير من المتدينة المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا
ومع هذا يترك أمورًا ، واجبة عليه؛ إما عينًا أو كفـاية وقـد تعينت عليه، من: صلة رحم، وحق جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحق مسلم، وذي سلطان، وذي علم، وعن أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله... إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه.
أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى ؛ بل من جهة التكليف ونحو ذلك ))[2] أ هـ.
عدل سابقا من قبل الشيخ إبراهيم حسونة في 08.01.09 16:46 عدل 2 مرات