خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    توضيح مختصر حول كتاب الأغاني

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية توضيح مختصر حول كتاب الأغاني

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 18.11.08 8:16

    توضيح مختصر حول كتاب (( الأغاني )) ..
    الحمد لله ..

    كتاب (( الأغاني )) هو كغيره من كتب مجاميع الأدب ومختاراته , يورد مختارات من الشعر والنثر وأخبار الشعراء والأدباء ومن إليهم , لتكون زاداً للأديب , وأنيساً للسامر . وتميز بأنه من الكتب المسندة .

    ومعلوم أن الأخبار عموما فيها الثابت والمنحول , يشمل هذا غالب الكتب المسندة على اختلاف تخصصاتها , لا يكاد يشذ من ذلك شيء إلا الصحيحان .

    لكن الوضع ( الكذب ) في خبر أدبي – تقدمت الإشارة إلى ثمرته - ليس خطره كما لو كان في خبر يبنى عليه عقيدة أو شريعة . هذا لا جدال فيه .

    وليُعلَم بأن عامة كتاب (( الأغاني )) أخبار وقصص , وكلام أبي الفرج فيه قليل لا يعدو النقد الأدبي بحال . وليس في كلامه نحر للعقيدة من قريب أو من بعيد . ومن وجد شيئا من ذلك فليبرزه .

    نعم , فيه أخبار وقصص في أسانيدها متهمون , وقد يكون في متونها ما يستنكر أو يستحيى منه ..


    وهذا لا يسوِّغ نسف الكتاب وإهداره ( وهو أربعة وعشرون مجلدا ) .
    ولا يفعل ذلك إلا من لم يعرف طرائق الأئمة في التعامل مع الكتب .

    ولئن اتُّهم أبو الفرج الأصبهاني بالكذب فقد اتُّهم الدينوري والواقدي والمرزباني وغيرهم به وبغيره ..


    وما زال العلماء يستفيدون من كتبهم فيما لا يتأثر بمسألة الصدق والكذب , والعقيدة , والسنة والبدعة .

    وللحافظ ابن حجر موقف مشهور في الرد على ناسخٍ لكتاب (( الأغاني )) بيّض لموضع منه لأنه بزعمه مما لا يستحل نقله , فكتب الحافظ بيده الجملة المتروكة وملأ ذلك الفراغ , وردّ على الناسخ .

    والأمر أوضح من هذا .. وللطاهر بن عاشور ومحيي الدين عبد الحميد والرافعي والطناحي وغيرهم كلام كثير في هذا المعنى .


    عموما .. فحباً مني الخير لإخواني الحُمُس في هذا الباب , فهناك مختصرات للكتاب أحسب أنها خالية مما عسى أن لا يعجبهم , فليقرؤوها ولينتفعوا بها .
    طبع منها :


    - لابن منظور .
    - لابن واصل الحموي .
    - للخضري .

    وأخيرا .. فالمسألة سهلة إن شاء الله , ومن خالفنا فلا تثريب عليه , بشرط أن لا يتهم إخوانه بالتساهل في أمر العقيدة والبدعة , فنحن بإذن الله ممن يغار على عقيدته الغيرة الشرعية المنضبطة .

    تنبيه بسيط :


    المقال الذي كتبه الأخ خالد الردادي وفقه الله في التحذير من كتاب (( الأغاني )) منقول بنصه وفصه وشكل حروفه وعزوه من مقدمة كتاب الشيخ وليد الأعظمي , فلو عزاه إليه وبين ذلك لكان أولى من التشبع بما لم يعط .


    ==========


    أحسنتم يا أخي الفاضل .. ظافر

    وقريب من هذا ما ذكره الشيخ محمد محي الدين عبدالحميد رحمه الله في مقدمة تحقيقه لكتاب يتيمة الدهر للثعالبي ؛ إذ قال رحمه الله :

    " وفي الكتاب مجون كثير ؛ كما تجده في المختار من شعر أبي الرقعمق وأبي القاسم الواساني وابن لنكك وأبي الحسن السلامي وابن سكرة الهاشمي وابن الحجَّاج وغيرهم .

    وقد تردَّدنا كثيراً في أن نجاري بعض أدباء هذا العصر ؛ فنحذف هذا المجون ، ولو من بعض نسخ الكتاب .


    ولكنا لم نشأ أن نحذف شيئاً مما في ها الكتاب من المجون - كما يفعل بعض الناشرين - ؛ تحرُّجاً منهم وتأثماً - زعموا ! - وحرصاً على مكارم الأخلاق - ظنُّوا ! - ؛ لأنا لا نؤلِّف كتاباً نختار فيه ما نشاء وندع ما نشاء .


    وإنما نحقق نصاً قيَّده صاحبه ، في زمن كان الناس فيه أكثر تحرُّجاً من هذا الزمن الذي نعيش فيه .


    ولأنا لا نرى من حقنا أن نتصرَّف في كتب الناس ، ثم نبقيها منسوبةً إليهم ؛ فيجيئوا يوم المعدلة ، يتعلَّقون بمن ظلمهم ، يجادلونه عن أنفسهم .


    والله يعلم أننا لا نقل عن هؤلاء المتأدبين ، الذين يفسدون كتب الناس ؛ تحرُّجاً من المجون ، ولا حرصاً على مكارم الخلاق .


    ولأنَّ الغرض من نشر هذا الكتاب ، واحتمال الجهد الجاهد في تحقيقه ، والصبر على الكثير مما يغري بعضه بالانصراف = إنما هو أن ندلَّ قرَّاء الأدب العربي على الحياة الأدبية والحياة الاجتماعية والسياسية في هذه الحقبة التي كان هؤلاء الشعراء يعيشون فيها


    وأن نضع بين أيديهم النصوص التي تدلُّهم على ما يتوجَّهون إليه من مناحي البحث .

    فلو أننا سمحنا لأنفسنا بحذف شيء مما اشتمل علي الكتاب ؛ لكنا قد أضعنا هذه الغاية ، ولكنا كمن يجهز جندياً للقتال ، فيضع في يده سيفاً من الخشب ، ويقعده على صهوة جواد من قصب .


    هذا ومؤلِّف الكتاب نفسه يشعر بما عسى أن يقوله عنه بعض الناس ، ويُصرُّ مع ذلك على أن يذكر المجون ، ويعتذر عنه .


    فأي معذرة لمن يقدم على نشر كتابه ، وقد حذف منه هذا النوع من الكلام .


    اسمع إليه يقول في مطلع حديثه عن أبي عبدالله الحسن بن أحمد بن الحجَّاج : (( وهو وإن كان في أكثر شعره لا يستتر من العقل بسجف ، ولا يبني لَّ قوله إلاَّ على سخف = فأنه من سحرة الشعر ، وعجائب العصر .


    وقد اتَّفق من رأيته وسمعت به من أهل البصيرة في الأدب وحسن المعرفة في الشعر على أنه فرد زمانه في فنه الذي شهر به ، وأنه لم يسبق إلى طريقته ، ولم يلحق شأوه في نمطه ، ولم يرَ كاقتداره على ما يورده من المعاني التي تقع في طرزه ، مع سلاسة في اللفاظ وعذوبتها ، وانتظامها في سلك الملاحة والبلاغة ، وإن كانت مفصحة عن السخافة ! ، ومشوبةً بعر الخلديين والمكديين وأهل الشطارة !!


    ولولا أنَّ جدَّ الأدب جدٌّ ، وهزله هزلٌ - كما قال إبراهيم بن المهدي - لصنتُ كتابي هذا عن كثير من كلام من يمدُّ يد المجون فيعرك بها أذن الحرم ، ويفتح جواب السخف ؛ فيصفع بها قفا العقل ؛ ولكنه على علاَّته تتفكَّه الفضلاء بثمار شعره ، وتستلمح الكبراء ببنات طبعه ، وتستخفُّ الأدباء أرواح نظمه ، ويحتمل المحتشمون فرط رفثه وقذَعه .
    ومنهم من يغلو في الميل إلى ما يضحك ويمتع من نوادره .


    ولقد مدح الملوك والأمراء والوزراء والرؤساء ؛ فلم يخل قصيدة فيهم من سفاتج هزله ونتائج فحشه ، وهو عندهم مقبول الجملة ، غلي مهر الكلام ، موفور الحظِّ من الإكرام والإنعام ، مجاب إلى مقترحه من الصلاى الجسام )) .


    [ قال الشيخ محي الدين عبدالحميد : ] ولسنا نريد إلاَّ أن تقرأ هذه العبارة ، ثم تقرأها ، ثم تقرأها ، ثم احكم وكن من المنصفين " .


    انتهى كلامه رحمه الله .

    وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .



    .. يتبع ..


    عدل سابقا من قبل الشيخ إبراهيم حسونة في 18.11.08 9:51 عدل 1 مرات
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: توضيح مختصر حول كتاب الأغاني

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 18.11.08 8:26

    الأخ : الكريم أن كتاب ( الأغاني ) لأبي الفرج ساهم في تشويه وتزييف الحقائق عن بعض الصالحين والصالحات كأمير المؤمنين هارون الرشيد وكالتابعية الثقة عائشة بنت طلحة ،

    ونقل منه جماعة من المغرضين ونهل ، ونشروا هذه المثالب عن هؤلاء الصالحين وغيرهم

    بل أنني رأيتُ بعض من يشتغل بالحديث من أهل البدع جاء إلى أسانيد الأغاني واعتمدها في ثلب بعض السلف !

    أما مسألة نشر المجون التي في هذه الكتب ، فندفع في صدر قول الشيخ محي الدين رحمه الله بحديث ( من رأى منكم منكراً ) والأية التي تنهى عن إشاعة الفاحشة ،

    فعندما يكتب بعض الناس في التحذير من هذا الكتاب يُقابل كأنه حذر من تفسير من تفاسير القرآن!


    وكتاب الأغاني مشهور جدا بين العامة شهرته وسائل الأعلام

    بل بلغني أنهم قاموا بعمل مسلسلات منه

    وما كتاب ياقوت الحموي عنك ببعيد عندما حكى عن الخطيب البغدادي تهمة فاجرة

    حتى قال المعلمي عنه أنه مولع بذكر الحكايات الفاجرة ،

    وما قاله أيضا في سيرة الأمام إبراهيم الحربي الزاهد الكبير


    وأمر آخر

    لا يقيس الواحد منا بقية طلبة بنفسه ! فإذا رأى أن يعلم مفاسد الكتاب فكل طلبة العلم مثله لا والله يا إخوان أن كثيرا من طلبة


    العلم يجهلون مبادىء العلم والله المستعان


    =======


    أولاً : فرَّقوا بين كلامنا على المؤلف ، وأنه كذاب ووضَّاع ووسخ و ... الخ .

    وبين كتابه ؛ إذ يستفاد من كتابه ولو كان كل ما قيل فيه مقطوعاً به .

    وإلاَّ فانظروا إلى بعض أشعار إمريء القيس ، والأعشى ، وبشار ، وأبي نواس ...
    ومغامراتهم في الزنا والوثنية والخمر و ...

    بل بعض كتب الأدب والشعر كيتميمة الدهر والعقد الفريد لابن عبدربه فيه قصص الخلاعة والكذب و ...
    وهكذا ..

    بل حتى بعض كتب التأريخ ؛ كالبداية والنهاية والكامل لابن الأثير وغيرهما الكثير ، فيها نقولات مما يقال إن فيها إشاعة للفاحشة .

    والمشكلة أنَّ ههنا من لا يعرف معنى ( فن الأدب ) ؛ فيظنُّ أنَّ الأدب الاصطلاحي المقصود به في هذا المجال هو أدب الإسلام ( من جهة الأخلاق وتهذيبها ) و ...

    إنما الأمر كله نقل الحكايات والقصص والروايات والشعر ، مع صرف النظر عن كونها مهذبة أوموافقة لنصوص الشرع .

    ثم التحذير مما فيها لا بأس به لمن كان يجهل وليست لديه القدرة على التمييز ويخشى عليه الوقوع مما في هذي الكتب من المنكرات .


    ======


    الذي أعلمه أن ملاحدة العرب في هذا الزمان وغيره ما دخلوا إلا من باب الأدب

    فهذا يسب الرب ويراناه قوم لا نفقه الأدب

    وذاك يشتم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول هذه رموز لا يعرفها إلا أهل الصنعة

    وذاك المعتزلي يؤلف رسالة في ( خلق القرآن) فتنشر على أنها من أدبه !

    فالشرع ينبغي أن تقف أحكامه على بوابة الأدب ولا تجاوزه لأنه ليس إلا أدب محض !

    ورحم الله الأديب الكبير الرافعي حين تصدى لملاحدة الأدب في هذا العصر الذين طعنوا في الإسلام باسم الأدب !

    نُشرت كتبهم وطارت في الآفاق فلما اُعترض عليه ورد أنها ( أدب)

    وأما الشروط هذه الشروط : ( لمن كان يجهل وليست لديه القدرة على التمييز ويخشى عليه الوقوع مما في هذي الكتب من المنكرات .)

    فمن أردنا أن نحذره وجهنا قلنا

    1- هل تجهل حال كتاب الأغاني؟ فإن قال نعم انتقلنا للسؤال الثاني

    2-هل لديك القدرة على التمييز ؟ فإن قال لا انتلقنا للسؤال الذي يليه

    3-هل تخشى الوقوع في هذه المنكرات ؟ فإن قال نعم قلنا : لا تقرأ !!!

    حسبنا الله ونعم الوكيل

    أما قرن أبي الفرج بالواقدى وأحمد بن مروان المالكي فوالله لأنه من أكبر الظلم أن يقرن أهل العلم والفضل به وويقارنون به ولا حول ولا قوة إلا بالله
    =========
    سبق أن ذكرت في موضع آخر أن ما انتُقِد به كتاب (( الأغاني )) ينسحب على عامة كتب مجاميع الأدب .. وأزيد الآن : وكتب التراجم والتواريخ .

    فهل أنتم تاركوها ؟!

    ولئن كان في كتاب أبي الفرج بعض إحماض بمجون , فإن فيه من وراء ذلك أدبا كثيرا ..
    والعبرة بالغالب , وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث .

    وقد استنكر شيخ العربية محمود شاكر ( الرادّ على سيد قطب ! فهو سلفي ! ) على من يطعن في كتب الأدب بهذه الطريقة
    ومما قال – في سياق طويل عن كتاب (( ألف ليلة وليلة )) وهو أحفل من الأغاني بالمجون - : إنك لو جمعت الألفاظ المستنكرة منه لما زادت عن صفحتين , في كتاب من مجلدات أربعة .

    وقال : إن هذا الذي يثار حول هذه الكتب مثل من أمثلة فساد حياتنا الثقافية بوجه عام .

    ثم إن ما يستَنكر في الكتاب ليس هو من كلام أبي الفرج , وإنما هو من كلام غيره يحكيه في كتابه عنه مسندا , وقد قدمت ذكر موقف ابن حجر من نقل وكتابة أمثال هذا .

    أما الاستشهاد بالرافعي ..

    فإن الرافعي سئل عن تهذيب الشيخ الخضري لكتاب الأغاني فقال للسائل : (( دعك من هذا العبث . والحمد لله على وجود الأصل )) !! .

    وقد كنت ألطّف العبارة وأبتعد عن مثل عبارة الرافعي في وصف هذه الفكرة حتى حملني استشهاد البعض بالرافعي على نقل كلامه هذا .
    ===========
    كنت قد قلت – تنزّلاً - :
    ((ولئن اتُّهم أبو الفرج الأصبهاني بالكذب فقد اتُّهم الدينوري والواقدي والمرزباني وغيرهم به وبغيره ..
    وما زال العلماء يستفيدون من كتبهم فيما لا يتأثر بمسألة الصدق والكذب , والعقيدة , والسنة والبدعة )) .

    فقال الأخ أبو عبد العزيز السني :
    ((أما قرن أبي الفرج بالواقدى وأحمد بن مروان المالكي فوالله لأنه من أكبر الظلم أن يقرن أهل العلم والفضل به وويقارنون به ولا حول ولا قوة إلا بالله )) .

    فليعلم الأخ الفاضل :
    أنني إنما ذكرت اتهام أبي الفرج بالكذب تنزّلاً , وإلا فالصواب أنه صدوق لا بأس به , كما قال الذهبي في (( الميزان )) و (( السير )) , ولم يطعن فيه أحد من المتقدمين من أهل هذه الصناعة إلا ابن أبي الفوارس بقوله :خلّط قبل موته .

    وقد روى عنه الدارقطني في كتبه , ولم يجرحه بشيء .

    وما زال الحفاظ المتأخرون ينقلون من كتابه ويعتمدون عليه في الجملة .

    وقد كان شاعرا أديبا كاتبا عالما بأخبار الناس وأيامهم ..

    والثناء عليه كثير , وانظر ترجمته في (( إرشاد الأريب )) لياقوت .

    بينما ثبت اتهام بعض الأئمة للدينوري والواقدي والمرزباني بالكذب .

    فانظر أين تقع يمين الأخ أبو عبد العزيز ؟!!

    وقد اتهمه الشيخ الفاضل وليد الأعظمي بالشعوبية , بل اتهمه بالزندقة والمجوسية .

    والشيخ وليد على فضله وكونه من طلائع الإخوان المسلمين في العراق وممن صقلتهم التجارب إلا أنه لم ينج من التأثر بالعاطفة والبيئة والأحداث المعاصرة في حكمه هذا .. وهذه إشارة يفهمها من يفهمها .

    أما اتهامه لأبي الفرج بالشعوبية فأقرب ما أرده به قولُ أبي الفرج وصريح نطقه ..

    فتأمل معي قوله ( 20 /21 - 22) : ((... وليس هذا من الأقوال المعول عليها ؛ لأن أصل المثالب زياد لعنه الله , فإنه لما ادعي إلى أبي سفيان وعلم أن العرب لا تقر له بذلك مع علمها بنسبه ومع سوء آثاره فيهم عمل كتاب المثالب فألصق بالعرب كلها كل عيب وعار وحق وباطل
    ثم بنى على ذلك الهيثم بن عدي وكان دعيا فأراد أن يعر أهل البيوتات تشفيا منهم
    وفعل ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى وكان أصله يهوديا أسلم جده على يدي بعض آل أبي بكر الصديق رضي الله عنه فانتمى إلى ولاء بني تيم فجدد كتاب زياد وزاد فيه
    ثم نشأ غيلان الشعوبي لعنه الله وكان زنديقا ثنويا لا يشك فيه عرف في حياته بعض مذهبه وكان يورى عنه في عوراته للإسلام بالتشعب والعصبية ثم انكشف أمره بعد وفاته
    فأبدع كتابا عمله لطاهر بن الحسين وكان شديد التشعب والعصبية خارجا عن الإسلام بأفاعيله فبدأ فيه بمثالب بني هاشم وذكر مناكحهم وأمهاتهم وصنائعهم وبدأ منهم بالطيب الطاهر رسول الله توضيح مختصر حول كتاب الأغاني Sallah وذكره ثم والى بين أهل بيته الأذكياء النجباء عليهم السلام ثم ببطون قريش على الولاء ثم بسائر العرب فألصق بهم كل كذب وزور ووضع عليهم كل خبر باطل وأعطاه طاهر على ذلك مائتي ألف درهم فيما بلغني .

    وإنما جر هذا القول ذكر المهلب وما قيل فيه وأني ذكرته فلم أجد بدا من ذكر ما روي فيه وفيما مر على أهل النسب , ثم قلت ما عندي )) .

    فهل من يقول هذا شعوبي ؟!!

    وأما التشيع فقد وصِف بأن له ميلا إليه , لكني لم أر في كتابه له أثرا سيئا .

    فمن وجد فليبينه لنا .
    يتبع ..
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: توضيح مختصر حول كتاب الأغاني

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 18.11.08 8:40

    قال ابن الجوزي - رحمه الله - :

    ( ومثله لا يُوثق به ، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق ، ويهون شرب الخمر ، وربما حكى ذلك عن نفسه !

    ومن تأمل كتاب (الأغاني ) رأى كل قبيح ومنكر )

    ( بواسطة البداية النهاية_ 15/308/ طبعة التركي)

    وقال أبو محمد الحسن بن الحسين النوبختي


    ( كان أبو الفرج الأصباني
    ( أكذب الناس )

    ( لسان الميزان / 5/527/ طبعة أبي غدة)


    =======

    الحمد لله ..

    الأخ الفاضل أبو عبد العزيز وفقه الله ..


    ذكرت آنفا أنه لم يطعن في أبي الفرج أحد من المتقدمين من أهل هذه الصناعة إلا ابن أبي الفوارس بقوله : خلّط قبل موته .
    وهذه تقريبا عبارة الذهبي .

    مع أن الذهبي اطلع على عبارة ابن الجوزي والنوبختي .
    فعدم التفاته رحمه الله هو وابن حجر إليها يدل على عدم اعتدادهما بها , وأنهما لم يريا فيها ما يقتضي جرح أبي الفرج .

    هذا جواب مجمل .

    وتفصيل ذلك :


    أن كلام ابن الجوزي طعنٌ من جهة الفسق , بشرب الخمر ونحوه .

    فينبغي أن تلاحظ أن هذا ليس مبنيا على المعاصرة والمشاهدة , وإنما استنبط من كتاب أبي الفرج .

    وكتاب أبي الفرج بين متناول أيدي العلماء من وقته إلى يومنا هذا , والذهبي وابن حجر كثيرا النقل منه والإحالة عليه .

    فهل غاب عنهما ما رآه ابن الجوزي ؟!

    فإذا علمت أن الشرب يطلق على النبيذ بكثرة في ذلك العهد , وقد أباحه أهل العراق , علمت وجه العذر .

    ورواية الدارقطني وغيره من أهل الحديث عن أبي الفرج , وعدم جرحهم له مما ينبغي أن يلاحظه الناظر هنا .

    مع ما عرف من تسرع ابن الجوزي وتعجله .

    أما مقولة النوبختي .. فلقد أسرف هذا الشيعي الإمامي المتفلسف وجازف مجازفة قبيحة ..

    ومتى كان الشيعة المتفلسفة أهلا للتجريح والتعديل ؟!

    ولو أردت التكثّر بكل من هب ودب لنقلت لك قول أبي الحسن البتي : لم يكن أحد أوثق من أبي الفرج الأصبهاني ! .

    ...................

    ما رأيك في يمينك السابقة .. هل ما زلت عندها ؟!



    ==========


    الأخ الفاضل ( ظافر ال سعد ) حفظه الله . في كلامك مغالطات بارك الله فيك

    فقولك : (مع أن الذهبي اطلع على عبارة ابن الجوزي والنوبختي . فعدم التفاته رحمه الله هو وابن حجر إليها يدل على عدم اعتدادهما بها )

    أقول من أين علمتَ الذهبي وابن حجر اطلع على كلام ابن الجوزي؟
    وقد نقل ابن حجر جرح النبوختي وهو من هو ولم ينقل جرح ابن الجوزي ، فكيف اطلعا عليه؟ هذا لابد له من دليل خاص

    قولك : (أن كلام ابن الجوزي طعنٌ من جهة الفسق , بشرب الخمر ونحوه .


    فينبغي أن تلاحظ أن هذا ليس مبنيا على المعاصرة والمشاهدة , وإنما استنبط من كتاب أبي الفرج )

    أقول هل المشاهدة والمعاصرة شرط في الجرح ؟ بل نص المعلمي أن غالب كلام أهل الحديث إنما في الجرح والتعديل إنما هو مبني على سبر
    الرويات حتى في من عاصروه؟

    ثم أبو الفرج الأصبهاني يحكي عن نفسه شرب الخمر - كما نص ابن الجوزي

    فأما : أن نقول أن أبا الفرج الأصبهاني كذاب فيما يحكي عن نفسه شرب الخمر! ونحن أعلم بحاله منه ؟ أو نقول أنه صادق وكلا الأمرين مر

    قولك : (فإذا علمت أن الشرب يطلق على النبيذ بكثرة في ذلك العهد , وقد أباحه أهل العراق , علمت وجه العذر )

    أقول سبحان الله هذا تعطيل لكلام أبي الفرج الأصبهاني فهو يقول شربتُ الخمر ويحكي عن الخمر ونحن نقول مراده النبيذ وغاب هذا أيضا على ابن الجوزي الفقيه الحنبلي العراقي الوضاع كتاباً في الخلاف بين الحنابلة والحنفية!

    قولك : (ورواية الدارقطني وغيره من أهل الحديث عن أبي الفرج , وعدم جرحهم له مما ينبغي أن يلاحظه الناظر هنا )

    قد كتب ابن معين عن الكذابين وسجر بها التنور وأخرج بها خبزاً نضيجا

    قولك : (مع ما عرف من تسرع ابن الجوزي وتعجله )

    اقول الأصل عدم التسرع والتعجل ثم هل شيخ الإسلام ابن تيمية مثله كذلك

    وقال ابن شاكر الكتبي نقلاً عن الحافظ الذهبي:
    ((رأيت شيخنا تقي الدين ابن تيمية يضعّفه ويتهمه في نقله ويستهول مايأتي به،وماعلمت فيه جرحاً إلا قول ابن أبي الفوارس :خلّط قبل موته )) [ تصدير الأغاني 1/19].


    والله أعلم



    =========


    الأخ الفاضل أبو عبد العزيز .. وفقه الله ..

    ليس في كلامي مغالطات إن شاء الله ..

    ولو تأملت سياقه لم تقل ذلك .. وسأبين لك ..

    لم يبق في يدك – أخي – مما يقدح في أبي الفرج إلا عبارة ابن الجوزي , وما نقله الذهبي عن ابن تيمية .

    فلننظر فيهما ..

    أما عبارة ابن الجوزي , فقد ذكرت لك أن جرحه هذا لم يأت عن مشاهدة ومعاصرة , حتى يمكن أن يقال لعله شيء اطلع عليه ولم يطلع عليه غيره , أو أن لديه معطيات نفتقدها الآن .

    وإنما أخذ ابن الجوزي جرحه من كتاب أبي الفرج ..

    وكتاب أبي الفرج ما زال أهل العلم – ومنهم الذهبي وابن حجر , وهما من هما في هذا الفن - ينظرون فيه وينقلون منه , فأين هم وغيرهم عما ادعاه ابن الجوزي ؟!

    فإذا تأملنا أن ابن الجوزي إنما بناه على ذكر الشراب في الكتاب من أبي الفرج عن نفسه , وعلمنا أنه يطلق في ذاك العهد على النبيذ كثيراً , حملناه عليه ..

    وهذا احتمال وارد , لا يكفي لرده مجرد مصادرته !

    وبهذا تعلم أنني لم أشترط أن يكون جارح الراوي من أهل عصره , حتى تنقل لي كلام المعلمي .

    أما ردك على قولي : (( ورواية الدارقطني وغيره من أهل الحديث عن أبي الفرج , وعدم جرحهم له مما ينبغي أن يلاحظه الناظر هنا )) بقولك : (( قد كتب ابن معين عن الكذابين وسجر بها التنور وأخرج بها خبزاً نضيجا )) ..

    فهذه هفوة منك , ما أوقعك فيها إلا العجلة ..

    فهل سكت ابن معين عن أولئك الرواة الوضاعين ؟!
    وهل رواية الحفاظ عن رجل دون جرح مما لا ينفعه ؟! خاصة ولم يجرحه معاصروه ؟!
    وقد ذكر ابن حجر في (( اللسان )) رواية الدارقطني وسكوته , في إشارة إلى أن هذا مما يقوي حكم الذهبي بأنه صدوق .

    بقي كلام ابن تيمية ..
    فمن ناقل كلامه ؟
    أليس الذهبي ؟!
    فلم لم يعتدّ به , ولِمَ حكم عليه مع ذلك بأنه صدوق لا بأس به , وبأنه لم يعلم فيه جرحاً ؟!
    لأنه جرح مجمل , لم يستند إلى دليل محقق , وإنما بني على استهوال شيخ الإسلام لما يأتي به أبو الفرج .


    وفي مصنفات ابن أبي الدنيا عجائب .. فهل يتهم لذلك ؟!



    ============



    الأخ الفاضل .. أبو عبد العزيز .. وفقه الله

    المقصود من طرح هذا الموضوع وأمثاله هنا هو تنقيحُ مسائل العلم وتحريرها , والبعدُ بها عن التأثر بالعاطفة المجردة التي تذهب بالحقيقة إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم , وليس الانتصار لطائفة معينة , أو إرضاء رغبة طائفة أخرى ..

    وإنا لنربأ بنفوس عرفت لذة العلم وذاقت حلاوة التحقيق أن تقيّد عقولها بوثاق التعصب .

    ولذا فإني أطلب إليك وإلى باقي الإخوة أن يتأملوا في الموضوع وما كتبته فيه وفي ذيوله , فإن رأوا فيه تكلفاً أو تمحّلاً , أو إشكالاً , فليطرحوه على بساط البحث ..

    وقد قلتُ في أول مشاركة : (( وأخيرا .. فالمسألة سهلة إن شاء الله , ومن خالفنا فلا تثريب عليه , بشرط أن لا يتهم إخوانه بالتساهل في أمر العقيدة والبدعة , فنحن بإذن الله ممن يغار على عقيدته الغيرة الشرعية المنضبطة )) .



    يتبع ..
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: توضيح مختصر حول كتاب الأغاني

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 18.11.08 8:47

    المشكلة لا تكمن في كتاب الأغني فهو كحاله من كتب السمر والأدب...

    ولكن المشكلة تكمن في أن 70%100 ممن يكتب في الطعن في والصحابة والسلف يجد هذا الكتاب سلماً للطعن فيهم ومرتعاً خصبا ، وتجد في حواشي تلك الكتب العزو إلي الأغاني ،فأخذ الطعن على أنه مسلم به.
    ...

    =======

    كان طه حسين شديد التعلق بهذا الكتاب !

    ولقد قام الأستاذ / وليد الأعظمي بدراسة هذا الكتاب سنتين كاملتين فرغ نفسه لقراءة الكتاب قراءة متأنية ، حتى قال :


    (( اصطبرت عليه اصطبار المجاهدين المرابطين في الثغور فرأيت نيران الشعوبية والحقد وهي تغلي في الصدور كغلي القدور ))

    واسم كتابه :
    (( السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الاغاني))

    وقد قسم كتابه إلى أربعة أقسام :

    الأول
    ترجمة الأصفهاني واقوال العلماء فيه .


    الثاني
    أخبار وحكايات أوردها عن آل البيت وهي أخبار تسيء إليهم وتجرح سيرتهم وتشوه سلوكهم وتوهن أمرهم بما يوافق آل بويه الذين يزعمون كذبا انهم يوالون آل البيت


    الثالث
    فيه حكايات شنيعة واخبار فظيعة نفس فيها عن حقده الدفين وضغينته على العرب

    الرابع
    أخبار وحكايات فيها طعن في العقيدة وتفضل الجاهلية على الإسلام مع الكفر البواح والاستخفاف بالصلاة والحج ويوم عرفه.
    انتهى

    وهناك مختصر لهذا الكتاب ...لابن منظور تميز:
    بحذف المكرر، وحذف المجون ، وحذف السند.

    وهناك اختصار لابن واصل الحموي ، اسمه : تجريد الأغاني في ستة مجلدات.

    * استفدته من كتاب الشيخ عبد العزيز السدحان كتب..أخبار..رجال..أحاديث تحت المجهر ص 13



    ========


    ليت الأستاذ وليد الأعظمي لم يؤلف كتابه هذا !

    أو ليته على الأقل اكتفى بمناقشة الأفكار التي احتوت عليها تلك الأخبار التي ينتقدها , دون أن يوردها !
    أو على الأقل .. هذبها أو اختصرها !


    ذلك أنه غفر الله له ورحمه جمع مساوئ الكتاب التي تفرقت في ثلاثة وعشرين مجلدا = في كتاب واحد !
    جمع تلك الأخبار الماجنة ونقلها كاملة غير منقوصة .. ودون أن يحذف منها حرفًا !


    رام نفعا فضر من غير قصد .. ومن البر ما يكون عقوقا

    فكيف سيقرأ كتابه هذا الشباب ؟!

    وأيهما أشد أثرا عليه : هذا الكتاب ذو المائتين والستين صفحة أم كتاب (( الأغاني )) الذي تفرقت فيه تلك القصص والأخبار في قرابة عشرة آلاف صفحة ؟!

    ...



    ==========


    جزى الله الأستاذ وليد الأعظمي خير الجزاء

    والبعض مع ذلك لم يستفد من هذا الجهد الكبير الذي بذله، لأنه لا يريد أن يستفيد، وحسبنا الله ونعم الوكيل




    ========


    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    لا أريد أن يتطور النقاش مرة أخرى إلى ما لا طائل تحته، مع أن في النقاش الأصلي بين الإخوة الثلاثة ظافر وعبد العزيز والسمرقندي ما يغني إن شاء الله تعالى.

    وتلخيصا لما يمكن الاتفاق عليه في هذا الموضوع أقول:

    - كتاب الأغاني من كتب الأدب فينبغي أن يتعامل معه بطريقة مغايرة لما يتعامل به مع كتب السنة مثلا.

    - كتاب الأغاني فيه كثير من الأدب والشعر واللغة وهذه أمور نافعة لطالب العلم بلا ريب، وفيه أيضا شيء من الفجور والفسق والسخف. وأشده كلامه عن بعض الصالحات بما يستحيى من ذكره.

    - ليس الأمر المذكور آنفا خاصا بكتاب الأغاني بل أغلب كتب الأدب كذلك، ومع ذلك ما زال العلماء الأجلة يطالعونها ويرجعون إليها في مجال الشعر والأدب.

    - خصوصية كتاب الأغاني أمران: أولهما أنه ينقل الروايات بالإسناد (وهذا قد يشترك معه فيه كتب أدبية أخرى) وهذا يعطيه هيبة خاصة عند غير المتمرسين بعلوم الحديث، وثانيهما أن الطاعنين والمتشككيك والعلمانيين في هذا العصر يرجعون إليه ما لا يرجعون إلى غيره، ويناطحون برواياته روايات كتب السنة المعتبرة.

    وقد قرأت لطه حسين من ذلك شيئا عجيبا، لا أستحضر الآن موضعه.

    - أما طلبة العلم الأقوياء فلا ضير عليهم من قراءة مثل هذا الكتاب، فإنهم قادرون على التمحيص، وأما غيرهم فالفرار منه أولى وأسلم بلا ريب.

    - الأصبهاني - فيما أرى - صدوق في الرواية، لا يتعمد الكذب.

    وهذ الحكم كونتُه من قراءتي الكاملة لكتاب الأغاني، ولكتاب مقاتل الطالبيين.

    والأدلة على ذلك كثيرة. نعم، هو حاطب ليل، لا يميز الصحيح من السقيم

    لكن الله قد جعل لكل شيء قدرا، والرجل لا يعدو أن يكون أديبا، فليس محدثا ولا حافظا.

    قد يقال أيضا إن عنده تشيعا، لكن العبرة بنقد رواياته وتمحيصها.

    والله أعلم.


    يتبع ..

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: توضيح مختصر حول كتاب الأغاني

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 18.11.08 8:59

    للفائدة :

    نشر الشيخ محمد المجذوب رحمه الله مقالا عن الكتابين : ( الأغاني ) و ( السيف ) في مجلة الجامعة الإسلامية

    أنقله بطوله :

    جولة في كتابي

    (الأغاني) و (السيف اليماني)

    بقلم
    الشيخ محمد المجذوب



    حقائق وأباطيل:

    في مطلع الثلاثينات من هذا القرن – الميلادي – ظهرت طلائع الطبعة الجديدة من كتاب (الأغاني) من مؤلفات الإِخباري الكبير أبي الفرج الأصفهاني
    وقد واكبتها دعاية إعلامية مدوّية أثارت الرغبة في اقتنائها لدى كل ذي هواية أدبية
    وكان ذلك طبيعيا لأن المؤسسة التي أشرفتْ على إصدارها في القاهرة أخيرا تضم أسماء أحرزت الثقة في علم التحقيق والنشر، فلها في نفوس القراء سحرٌ يقودها إلى التسليم بدقة عملها.
    وجاء المجلد الأول من تلك الطبعة مسوّغاً لذلك التقدير إذ كان غاية في حسن الإخراج ونفاسة الورق وجمال الحرف.

    ولا ننسى مع ذلك أثر التيار الأدبي الذي كان في قمة انطلاقه من القاهرة أثناء صدور هذا المجلد، وقد فرض نفسه على الحركة الأدبية ليس فقط في القطر المصري بل على امتداد الوطن العربي كله
    حيث كانت القاهرة تمثل مركز الإشعاع لكل الناطقين بالضاد والمتأثرين باليقظة الفكرية التي فجَّرتها مدرسة الإصلاح الإِسلامية بقيادة الأفغاني وتلاميذه
    وتبعتها في الأدب واللغة مدرسة البارودي وطلائعها التي عمت آثارها كل الربوع العربية، حتى كان قراء ذلك الإنتاج الضخم من المؤلفات والمجلات المصرية يفوق عدد أمثاله من القراء في القطر المصري كله..

    وتتابعت أجزاء الكتاب تلبيةً لحاجة مشتريه، وانسياقاً مع الدعاية المركزة له، التي تجاوزت قدرة القراء على تقييمه..
    وكان للدكتور طه حسين وتلميذه الدمشقي شفيق جبري وآخرين من المروّجين للكتاب ايحآتهم النافذة في مشاعر الجيل المأخوذ بكتاباتهم عنه.

    وإذ كان من سنن اللّه في النفوس أن تنتهي الضجة المفتعلة إلى مستقرها الطبيعي، فقد فَقَدَت تلك الدفعة الدعائية زخمها أخيرا، أتيح لكل ذي وعي من القراء أن يعيد النظر في ما يطالعه من مضامين الأغاني
    فإذا هو تلقاء أكداس من المعلومات التي تبعث الحيرة في نفسه فلا يكاد يهتدي إلى الحكم الصحيح بشأنها، إذ يرى فيها من الحقائق الموضوعية الموثقة ما يطمئن إليه القلب والعقل، ثم لا يلبث أن يفاجأ بأضدادها من الأخبار التي تتنافى مع العقول السليمة والمشاعر النبيلة.

    ولقد بدأت الشكوك تساورني في صلاحية الكتاب، وكان باعثها في نفسي تناقضها العميق ينم جلاَل ما نعرفه من تراثنا السلفي، الذي وقفنا عليه عن طريق الثقات من أئمة العلم والفقه والتاريخ قُدامى ومحدثين
    ومصادمةِ الكثير من مروياته للثابت نقلا وعقلا من صفحات ذلك التراث، وجعلتْ هذه الشكوك تتسع في نفسي كلما أوغلتُ في مطالعة تلك المَرْويات..

    ولقد فاتحت بهذه الشكوك بعض الاخوة من كبار الأساتذة والمتخصصين في التاريخ وفي الأدب والعربية، فكانوا يقابلون انطباعاتي بالدفاع عن الكتاب وعن مؤلفه بالاتكاء على طه حسين وأشياعه
    وبخاصة كتاب الأستاذ شفيق جبري في التوكيد على مصداقية الأصفهاني اغتراراً بمسلكه في عنعنة الأسانيد، واعتماده غير قليل من أسماء كبار المحدثين والموثَّقين خلالها.

    ومن هنا تولدت في نفسي شهوة النظر بتلك الأسانيد والتدقيق في قيمة رواتها
    بيد أن ظروف المعيشة والانشغال في العمل الوطني صرفتني طويلا عن الموضوع، ثم جاءت الانقلابات السياسية وما رافقها من إرهاب شيوعي وبعثي واشتراكي دَفَعَنا للهجرة إلى المدينة الحبيبة قبل ما يقارب الثلاثين من الأعوام، وتلا ذلك أعباؤنا في الجامعة الإسلامية من تدريس وإشراف اجتماعي، وعمل طويل في تنظيم المناهج، ومشاركة في تحرير مجلة الجامعة، وما إلى ذلك مما اضطرنا إلى تأخير ما تطلعنا إليه من ذلك الواجب.
    حتى شاء اللّه أن يقع في يدي كتاب الشاعر الإسلامي العراقي الأستاذ وليد الأعظمي في الموضوع بعنوان
    (السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني)
    فلم أطق مفارقته حتى أتيت عليه.
    وكنت كلما فرغت من مطالعة قسم منه أرفع كفي بالضراعة إلى اللّه أن يثيبه على مجهوده الكبير بالمغفرة الواسعة، والرحمة السابغة يوم لا ينفع امرءاً إلا ما أسلف من خدمة للحقيقة ونفع للمسلمين..

    لقد شعرت أن هذا الكتاب قد أراحني من عبء ثقيل إذْ حقق ما طالما تمنيته من إمكان التفرغ لعمل الأصفهاني في كتابه المريب
    فأوليه ما يستحق من نقد عادل يكشف المستور من فساد الطوية الذي أملى عليه تلك الموبقات، التي لم يرد بها سوى تشويه الإسلام دينا وعقيدة وعبادة، والطعن على دعاته وحَمَلة راياته من منائر الهدى وناشري أنواره في العالمين.



    ا لمنهج الشيطاني:

    لقد وفق اللّه الشاعر الإسلامي الكبير وليداً إلى كشف معظم الستور التي تَلَفَّع بها الأصفهاني ليقذف من خلفها سهامه المسمومة في كبد الحقيقة
    ومن أبرز توفيقاته في تلك الصفحات المقاربة ثلاث المئات تعريفه لذلك الخبث الشعوبي الذي أقام عليه الأصفهاني بنيان (أغانيه) لتشويه مقومات التاريخ الإسلامي.
    ويتمثل خبثه ذاك في عرضه الحقيقة ملفوفة بالكثير من الأباطيل
    كالذي يشاهده أحدنا في بعض الصحف والمجلات التي تفسح بعض صفحاتها لمقال رفيع بقلم كاتب إسلامي موثوق رغبة في الاستحواذ على ثقة القارئ المؤمن، ثم لا تلبث أن تتبعه بنتاج قلم رقيع يهدمه ويشكك في قيمته الفكرية حتى ليثير الريب في كل ما انطوى عليه ذلك المقال أو البحث الصالح!
    ... وُيقْدم هذا الشعوبي على التمكين لسمومه تحت غطاء من التظاهر بالإسلام، إذ يعرض لاسم واحد من أفاضل الأمة مشفوعا بما يليق به من صيغ التكريم
    حتى إذا استوثق من ثقة القارئ المغفَّل رماه بباقعة تجعله موضع الهزء والسخرية!.
    وقلما سلم من بوائقه هذه فرد أو جماعة أو حزب ممن لهم حميد الذكر بين العرب والمسلمين منذ العهد الراشدي مروراً بالأموي فالعباسي حتى أيام الأصفهاني..
    وتحس من خلال ذلك حقده اللاهب على الإسلام وكبار رموزه من الجنس العربي، في حين لا ترى له أي مغمز في أعجمي مهما يبلغ من الإغراق في مجوسيته
    فيذكرنا بشعوبية نظيره السابق بشار بن برد في تفضيله إبليس على آدم أبي البشر نكاية بالمفهوم القرآني، وتمجيداً للفكر المجوسي الذي يقدس النار التي منها خُلِق الشيطان!.

    وهو يواجهك بهذه النزاعات في كل مناسبة، وبخاصة في مُجونياته التي لا يتورع أن يزفها إلى قرائه محشوة بأقذر الألفاظ
    وبذلك يطوّع نفوسهم لألفة مثل هذه السفاهات حتى تغدو من أساسيات أسمارهم في مجالسهم الخاصة يقرعون بها الأسماع ويستكثرون عن طريقها الأشياع، ويجرِّئون بها الرعاع على أفاضل هذه الأمة غير مستثن منهم أحدا دون تمييز بين فريق وآخر
    إلا ما يتعلق بآل بُوَيه الذين ألف كتابه لهم، فلا أذكر أنه يشير إلى أي منهم بقذعة واحدة، ومع تبجحه بالانتساب إلى الأمويين، وبالنحلة إلى التشيع
    فلا يضن على هؤلاء وأولئك بفيض من راجماته الجارحة كلما وجد ثغرة لإرسالها
    ولعل نصيب آل البيت المطهر من إقذاعه هو الأكبر والأكثر، إذ ينالهم في أعز ما يستحقون به التوقير والتقدير.
    وتظل الميزة البارزة في أفكاره أنه عدو الجميع، وقد أوتي موهبةً بلاغية مؤثرة يستخدمها في تنفيذ رغباته الحَقود في تحقير الإسلام والعرب صراحة أومن وراء حجاب.



    المصيدة الرهيبة:


    وأشد ما يبدو خبث هذا الشعوبي في عرضه – أحيانا – فواقرَه المقذعةَ بمنتهى الإتقان، حتى إذا مارضي عن موقع سهامه ختمها بمثل هذا التعقيب التافه : (وهذا الخبر موضع ريب عند الثقات)

    بعد أن يكون قد أحكم طعنته الفاجعة، وحق فيه قول الشاعر:

    قد قيل ما قيل إن صدقا وان كذبا *** فما احتيالك في قول وقد قيلا!


    وقد ساعده على تسديد طعناته استتاره وراء طرائق المحدثين عند إيراده أخباره، فهو يمهد للخبر بإسناده إلى سلسلة من الرواة، بينهم ثقات من أولى العلم والفضل

    إلى جانبِ آخرين أكثرهم من الكذابين الوضاعين أو المجهولين أو الساقطين من مشهوري الشعوبيين

    وهي مصيدة خطرة لقصار النظر وقليلي العلم بموضوع الأسانيد

    فما إن يبصرون هذه القائمة من أسماء الرواة حتى يسلموا إليها قيادهم، ويتلقوا مضمونها بالقبول القاطع كأنها وحي يوحي..

    وتزداد المحنة شدة بما تطرحه في أذهان البسطاء من كون هذه العينات من الهبوط الأخلاقي نماذجَ واقعيةً لما كان عليه السلف من ازدواجية في السلوك تجمع بين الوقار المؤَتمن والفجور الهدام

    ثم لا تلبث أن تتسلل إلى سلوكهم ثم إلى مَن حولهم من طبقات المجتمع، حتى تزول الحواجز الفاصلة بين الحسن والقبيح والصالح والفاسد من الأقوال والأعمال..

    فكيف إذا كان هؤلاء المتلقون من طبقة الفارغين ذوي اليسار الذين استهوتهم مُتَع الدنيا فلا شاغل لهم سوى الاجتماع على ذكرها وتتبع مروياتها

    فعليها يتكئون في إذاعة مذاهبهم الماجنة، وحجتُهم المسوّغةُ هي هذه الأخبار الملغومة التي يرويها كبار الكتاب، وتصور الواقع المحجوب لكبار الفضلاء!..


    ثم هناك عامل آخر كان له أثره الفعال في تثبيت هذه المرويات الكاذبة أيام الأصفهاني، يتمثل لا ندرة النسخ المخطوطة من مراجعها الأصلية، بحيث لا يصل إلى احتيازها سوى المتحكمين في مصاير المجتمعات من الأمراء وحواشيهم من المترفين ومدمني اللهو

    الذين لا يهمهم من مثل كتاب الأصفهاني ما ينطوي عليه من الحقائق الموضوعية

    بل كل ما يتطلعون إليه هو الحصول على ما يعوز أسمارهم من الطرائف التي تخفف عنهم أعباء العمل الجاد وتطلق ضحكاتهم المدوّية. فهؤلاء وحدهم القادرون على شرائها بمئات الدنانير..

    فهم محتكروها فلا يكاد يصل خبرها إلى أوساط العلماء، الذين على جهودهم تتوقف سلامة المجتمعات الإسلامية من التلوث..


    ولولا أن يَسَّر اللّه لبعض الهداة مِن حَفَظَة التاريخ الإِسلامي وممحصي الروايات سبيل الاطلاع على بعض الأجزاء من ذلك الكتاب المسمَّم ففضحوا مؤامراته وكشفوا الستور عن مفترياته، كالخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد في الأولين، ووليد الأعظمي في المتأخرين، لظل محجوبا مقصورا على حلقات العابثين والماجنين..

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: توضيح مختصر حول كتاب الأغاني

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 18.11.08 9:07

    من هنا تسلل قرن الشيطان:


    وقد بدأت الطامة الكبرى بإقبال المستشرقين على "الأغاني" إذ راحوا يروّجون له ويشيدون بقيمته ويبثون حبَّه في قلوب تلاميذهم من أبناء المسلمين ومن العرب الحاقدين على الإسلام.

    وحسبك أن تَعلم أن بين هؤلاء مثل/ عميد الأدب العربي/ طه حسين الذي استطاع أن يحشد حوله ذلك الكتاب الكثيرين من المعجبين والمصفقين، والناشرين لأفكاره الشعوبية، في أوساط المثقفين والدارسين على أيديهم من الغافلين في كل قطر عربي..

    ولعل دمشق أوفرها حظاً في سلوك هذا المنزلق على يد الأستاذ شفيق جبري، الذي كان لكتابه الذي يدعم به أسانيد الأصفهاني، اليد الطولي بإشاعة سمومه بين هُواة الأدب ممن لا يملكون القدرة على البحث الجاد

    فإذا هم فرائس سهلة لتضليل الأصفهاني لا يردون له خبرا، بل يصدقون كل ما يعزوه إلى خيار الناس من سلف هذه الأمة، وبذلك أصبحوا مهيئين للاستخفاف بتراثها العريق، وعلى أتم الاستعداد لخوض مثل تلك التجارب التي يزينها لهم ذلك الكتاب المسموم.

    ولقد مد اللّه في عمري حتى رأيت بعض العاملين لا الحركة الثقافية بدمشق يعلنون ثقتهم بأسانيد الأصفهاني، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر في تراجم رجالها وموضعهم من القبول! والرفض لدى علماء الجرح والتعديل..

    وطبيعي أن يصير الأمر بهؤلاء إلى الاستخفاف بالقِيَم التي حفظت للمجتمعات الإسلامية تماسكها أمام زحف الدعوات المشبوهة على امتداد القرون

    وطبيعي أن يكون لذلك أثره في إعداد الجو المساعد لانتشار الفكر العلماني، الذي كان من ثمراته السامة تلك النباتات المتنامية!ا الوطن العربي من القومية ثم الماركسية والناصرية والبعثية، وما إليها من تيارات لا غرض لها في النهاية سوى تمزيق الوشائج الرحمانية التي جمعت العرب وغير العرب على أخوّة الإسلام، لِتُقَدِّمَ الأمة كلها لقمة سائغة إلى أعدائها المتربصين بها الدوائر.

    وكرامة الأمة أمانة أيضا:


    والباحث في هذا الجانب من الأغاني لابد له أن يتساءل:

    لقد أشرف على طبعات الكتاب منذ العام 1868 حتى 1927 م عدد من كبريات الهيئات العلمية كان آخرها/ المؤسسة المصرية العامة للتأليف والطباعة والنشر/ وعدد من عِلْية المثقفين، ويكفي أن يكون على رأس آخرهم عمالقة مثل الشاعر حافظ إبراهيم وأحمد نسيم والعلامة أحمد تيمور باشا والأستاذ محمد الخضري وأحمد أمين.

    منهم المصحح ومنهم المدقق والمُراجع..

    وقد ظهر أثر هؤلاء الكبار بارزاً!ا ضبط الأعلام والغريب والشعر والأماكن والمصطلحات، فجاءت هذه الطبعة على غاية من الدقة خالية من كل الأخطاء التي شوهت الطبعتين السابقتين.

    وهو جهد يستحق الثناء ونتمنى أن يكون نصيبَ كل مطبوع هام من تراثنا الأثير..

    على أن المطلع على هذا المجهود المتكامل لا يسعه إلا أن يتساءل أيضا :

    ألم يكن من حق هذا التراث على تلك اللجان الممتازة من كبار العلماء المسلمين وأدبائهم أن يوجهوا بعض هذا الجهد لتطهير الكتاب من هاتيك الشوائب التي دُست على تاريخ الإسلام فشوهت الكثير من معالمه وسِيَرِ أعلامِه!!.

    لاجرم أن ضبط الألفاظ ذات الدلالات العلمية والاصطلاحية عمل مشكور تقتضيه الأمانة، ولكن حق الأمة مورِثةِ هذا التراث أمانة في عنق أولي العلم

    وهي تقتضيهم كذلك أن يُعنَوا بالحفاظ على موجباتها فيتعقبوا كل نبأ يغمط هذا الحق بالنظر في إسناده وإتباعه بالرأي الذي يكشف ما وراءه من نية مدخولة أو واقع صحيح

    ولوهم فعلوا، وفي طوقهم أن يفعلوا، لأنصفوا الحقيقة، ولصححوا نظرة القراء إلى ماضي هذه الأمة بدلا من التطويح بهم في مجاهل الضياع..

    ولم لا.. وهم أحق الناس بتدقيق الأسانيد ومعرفة رجالها والتمييز بين مجروحِهم ومعدَّلِهم، وإنه لمن المتعذر الظن بأن هؤلاء السادة كانوا يواجهون كل هاتيك المفتريات الصارخة على تاريخنا وهم عاجزون عن تقييمها، حتى يختلط الحق بالباطل، ويخرج قارئها السليم القلب وهو أقرب إلى تصديقها، أخذاً بشهادة هذه الثلة الكريمة المشرفة على إخراج الكتاب جملة وتفصيلا!.

    ولا جرم أن لإغضاء الهيئة الفاضلة على هاتيك البوائق أثراً لا ينكر في إعطائها صفة الوقائع الحاسمة، ومن ثَم تعميمها، ثم الإسهام مع مؤلفها!ا تشويه تاريخنا العريق!.

    على أن المتبادر إلى الذهن بإزاء هذا الوضع أن التبعة إنما تقع على منهج الهيئة في مثل هذا الموقف، إذ ترى أن مسئوليتها تتحدد في إتقان الإخراج والضبط دون التعرض لقيمة المضمون!.

    وهذا قد يكون مقبولا في المَرويات الخفيفة لا في كتاب الأغاني الذي تُقَدمه/ المؤسسة المصرية العامة- في التصدير الأول المؤرخ عام 1963 م- بأنه (الموسوعة الأدبية الجامعة) ومن قبلُ يصفه رئيس المجلس الأعلى لدار الكتب المصرية/ على ماهر باشا- في التصدير الثاني ص 7 والمؤرخ في مايو 1225- بأنه (الكتاب الجليل القدر الذي يُعَد مصدراً للأدب العربي وينبوعاً يغترف منه كل متأدب ولا يستغني عنه أديب..) وهو تعريف لا ينافي الواقع عندما يُنظر إليه من حيث الكثافة الثقافية التي يستوعبها الكتاب، وتؤيدها الأسانيدُ الصحيحةُ

    ولكنه لا ينبغي أن يشمل التفاهات التي لا يُقرها عقل ولادين وتُسقط رواية مؤلفِها عند العلماء الثقات كالإمام ابن الجوزي الذي يقول عنه إنه (يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق.. ومن تأمل كتاب الأغاني رأى كل منكر وقبيح)- التصدير ص 10- ومعلوم عند أهل المروءة والدين أن الفاسق ساقط الشهادة.

    ومن يدري.. فلعل الهيئة الفاضلة قد تأثرت بتوجيهات المستشرقين في اعتبارهم هذا الكتاب ذروة التراث العربي، دون اهتمام بما وراء تلك الدعاية المدخولة من أهداف خبيثة، ودون أي رعاية لمعايير الفكر الإسلامي السليم، الذي هو الوحيد بين مواريث الأمم الذي يستمد مقوماته من منابع الوحي الذي لا يأتيه الباطل..

    وهذا الضرب من التغرير هو ديدن الكفرة من المستشرقين.

    الذين يحدوهم العداء الموروث للإِسلام إلى إذاعة كل ما ينالا حقيقتَه من كتب الفِرَق الضالة والتصوف الغالي، فيُشيدون بها على أنها الممثلة لجوهر الإسلام، ولا غرض لهم سوى إفساد الضمير الإسلامي..

    عتاب وإعجاب:


    ولقد كان من حسنات هذه الهيئة الكريمة إلى جانب عملها في الضبط والتحقيق إشارتُها – في ص 35 من التصدير – إلى المختصرات التي استخلصها من كتاب الأغاني جماعةٌ من أولي العلم منذ أوائل القرن الخامس الهجري حتى أيامها

    وقد عَدَّت من هذه المختصرات سبعاً، بينها واحد طُبع في ثمانية أجزاء من عمل أحد كبار أعضائها الشيخ العلامة محمد الخضري، بعد أن (حذف منه الأسانيد ومالم يُستحسن ذكره من الفحش والمخل بالأدب) كما تقول الهيئة نفسها – في ص 36 من التصدير- وليت الهيئة الفاضلة قد أتمت إحسانها على الطريقة نفسها التي سلكها الأستاذ الخضري في مختصره النظيف، فقدمته للقراء باسم (تهذيب الأغاني) بدلا من ذلك الركام الذي جمع بين اللاَليءِ والقمامة، وما كان أقدرها على هذا الخير وأحقها به!.

    ولقد كان المتوقع أن يأخذ هذا المقال سبيله إلى النشر قبل أشهر، ولكن بعض الاخوة من أولي النهى رأى أنه لا يزال في الموضوع متسع لإضافات أخرى لا ينبغي أن تحجب عن قرائه الذين يهمهم الوقوف على المزيد من مؤامرات الحاقدين على الإسلام، لتكون الصورة في أذهانهم شاملة للسابقين منهم، الذين يستشرفونهم من خلال دسائس هذا الشعوبي، واللاحقين الذين يواجهون ملامحهم في ثنايا وسائل الإعلام المعاصرة في مختلف الألوان والشيات واللغات.

    وعلى الرغم من مرهقات العمل ومثبطات الشيخوخة وجدتني مدفوعا للانسياق مع ذلك الرأي، فأخرت نشر ما كتبت ترقبا للفرصة التي تمكنني من تحقيقه

    هذا ولقد هممت بأن أنتزع هذه الإضافات من مجموع أجزاء الأغاني الأربعة والعشرين بدءاً من أخبار خير القرون من سلف هذه الأمة ثم ما تتابع بعدها من الأجيال حتى أيام المؤلف.

    بيد أني لم ألبث أن عدلت عن ذلك الهمِّ بما تذكرت من أعبائه التي قد ينفد الأجل المقدور قبل استكمالها، فآثرت الوقوف على القليل من تلك الأخبار، ولكنه القليل الذي يغني عن سائرها بما يحمله من الدلائل على ما وراءه..

    وطبيعي أن نبدأ هذه المضافات بتعريف مركَّز لشخصية الأصفهاني يساعد القارئ على استكشاف البعيد من أهدافه ومراميه من خلال (أغانيه) التي احتفظت بالخطوط الكبرى لثقافته الموسوعية.

    يتبع ..
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: توضيح مختصر حول كتاب الأغاني

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 18.11.08 9:19

    مؤلف الأغاني بمنظار الثقات:


    هو علي بن الحسين. ينتهي نسبه إلى مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وذلك ما أجمع عليه معرِّفوه، وهو شيعي المذهب بشهادتهم

    وبذلك يجمع بين النقيضين التشيع للبيت العلوي والنسب إلى البيت الأموي.

    ولد في أصبهان سنة 284 ونشأ في بغداد واتخذها مستقرا، ولكلا الموطنين أثره في نشأته وثقافته، فمن أصفهان وهي من أعرق مدن فارس، وفيها يتفاعل الفكر الشيعي ممتزجا بالعصبية الفارسية

    يقبس اللونَ الشيعي فيعرف به، وفي بغداد يتصل بروافد الثقافة العربية الإسلامية فيأخذ عن أكابر علمائها ورواتها الذين يفيضون من عقولهم على أنحاء الربوع الإسلامية ما بعد منها وما قرب

    فتتكون لديه الملكة العلمية التي لاتعرف الركود، فلا يفتأ يتزود من ذلك المعين الثرِّ حتى بات واحداً من الذين يشار إليهم بالبنان في سعة الثقافة وكثرة الحفظ والإلمام بفنون عصره

    وحتى بات واحدا من المسهمين في نشر هذه الثقافة

    فكان من تلاميذه الدار قطني الحافظ الفقيه أحد أئمة الحديث وصاحب كتاب السنن ومن المشهورين في علم القرآن!.


    وقد تباينت آراء العلماء في
    شخصية الأصفهاني، فمع اتفاقهم على توكيد مكانته الثقافية يختلفون في قيمته الذاتية

    ففي رأي الثعالبي أبي منصور أنه من أعيان أدباء بغداد وأفراد مصنفيها وشعرائها..

    وكذلك قال فيه ابن خلكان في (وفيات الأعيان) ويزيد أنه (روى عن علماء يطول تعدادهم فكان عالما بأيام الناس والأنساب والسِيَر، ويروى عن التنوخي قوله فيه أنه (كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب مالم أر قط من يحفظ مثله).

    ومقابل ذلك يقول الإمام ابن الجوزي (إن مثله لا يوثق بروايته التي تحتوي ما يوجب تفسيقه، وهو يشرب الخمر وفي أغانيه كل قبيح ومنكر..).


    ويروي الإِمام الذهبي عن شيخ الإِسلام ابن تيمية أنه يضعِّفه ويتهمه في نقله ويستهول ما يأتي به...)

    وعن أخلاقه وسلوكه الاجتماعي يقول مؤلف (أخبار الوزير المهلبي):

    كان أبو الفرج وسخا قذرا لم يغسل ثوبه منذ فصله إلى أن قطعه.

    ويؤيد ذلك قول القاضي التنوخي في كتابه (نشر المحاضرة)
    (كان وسخا في نفسه ثم في ثوبه وفعله. وكان أكولا نهما حتى التخمة فيعالج كظته بجرعات من الفلفل..


    ويبدو من شعره أنه تولى القضاء وعُزل منه، وذلك في قوله من قصيدة له معاتبا ابن العميد:
    وقد ولينا وعُزلنا كما أنت فلم نصغر ولم تَعظم


    وهذا أيضا ما يفهم من تلقيب ابن خلدون إياه بالقاضي 1/ 34.


    ومع ذلك كله لا نجد في حياته ما يدل على احتفاظه بعزة النفس، بل نجد ما يدل على الدناءة وذلك في مثل قوله لممدوحه الوزير المهلبي من قصيدة يصور بها أثر البرد في بناته أو نسائه:

    فهذي تحنُّ وهذي تئنُّ وادمع هاتيك تجري دررْ
    إذا ما تململن تحت الظلام تعللن منك بحسن النظر
    فأنعم بإنجاز ماقد وعدت فما غيرك اليوم من يُنتظر


    ولعل من وساخة نفسه ذلك الحسد الذي يثور به عندما يشاهد نعمةً على أحد فيقول:

    فإذا رأيت فتى بأعلى رتبةٍ في شامخ من عزه المترفعِ
    قالت لي النفس العزوف بفضلها ما كان أولاني بذاك الموضع


    وفي هذه الترجمة المكثفة ما يكشف للحصيف الكثير من مكوِّنات هذا الإنسان. فلنقف على بعض نقاطها محاولين استخلاص بعض خلفياتها.

    شعوبية أم شيعية:


    إنه أموي دون خلاف، وهي نسبةُ تضادُّ التشيع، فكيف حدث هذا؟.


    وقبل الجواب لا بد أن نعود بالذاكرة إلى أيام انهيار الحكم الأموي، تحت مطارق الثورة العباسية التي طوت صفحة عريضة من التاريخ، وكان من حصادها سقوط عشرات الألوف من الأسرة الحاكمة وأعوانها من مختلف القبائل

    فذلك حَدَث لا يتصور زواله من أعماق كل أموي، ومن شأنه أن يعمق في قلبه نوازع الحقد على كل ما هو عباسي

    ومن هنا كان نظر كل من الفريقين إلى الآخر يتميز بالحذر ومراقبة الفرص للانقضاض والردّ أبدا..


    وقديما قيل "عدو عدوك صديقك" لما وعن هذا الطريق يكون التقارب بين الشيعية والأموية مع الحذر الدقيق أمراً طبيعيا

    وعلى هذا الأساس يكون تشيع الأصفهاني سطحيا لا يعدو حدود القشور، وهو أجدى عليه من حيث حاجته إلى الاتصال المصلحي بسلطات ذلك العهد مما يمكن أن يحقق له غير قليل من المكاسب

    وهذا ما حدث إذ أتاح له – عن طريق شهرته الأدبية- أن يعقد الصلات الوثيقة مع وزراء وكبراء من ذلك العهد، وأن يتولى منصب الكتابة – وهي أشبه بالوزارة – في ظل البويهي ركن الدولة، وكذلك تسنمه منصة القضاء..

    وقد نجح في هذا الجانب كل النجاح إذ كان موضع تقدير الكثير من رجال القمة يؤاكلهم ويشاربهم ويذاكرهم ويقارضهم الشعر ويجرع معهم الخمرة كشأنه مع الوزير المهلبي، الذي يبلغ به التعالي إلى مثل عمل الوزير ابن الزيات، حيث كان يقف على جانبي كل منهما عند طعامه غلام يقدم إليه ملعقة وآخر يتناولها منه في كل لقمة..

    ومع ذلك لا يمنعه تعاليه من مجالسة الأصفهاني على مائدته الخاصة، وذات مرة يغلب السعال على أبي الفرج فيقذف بقيئه وسط تلك المائدة فينهض الوزير ليرفعها بنفسه ثم يدعو بغيرها ويواصلان الأكل معا دون عتاب ولاعقاب!!.

    وطبيعي أن أحد الأسباب التي ساعدت الأصفهاني على احتلال هذه المكانة إنما يعي إلى إخفائه أمويته تحت ستار التشيع الذي كان بالنسبة إلى سياسة ذلك العهد العباسي أخف الشرين..

    وقد سبق أن حدثنا القارئ عن المنهج الشيطاني الذي سلكه الأصفهاني في الهجر المغلف على كل الجماعات العربية من علوية وعباسية وشيعية دون استثناء ولا مهادنة، حتى تصير به المناسبة إلى ذكر الأعاجم وبخاصة البويهيين والبرامكة، فإذا هو خافض الجناح لا يشير إليهم إلا بغاية الاحترام والتقديس!.

    مفتاح هذه الشخصية:


    ومعلوم أن لكل جهاز مفتاحه الذي به يُتَوصل إلى تشغيله..

    وأمامنا مَثَل التلفاز الذي تقف منه تلقاء كيان بالغ التعقيد لا تعرف كيف تتعامل معه حتى يهديك خبير إلى الزر الذي لا تكاد تمسه حتى يكشف لك أسراره.

    والإنسان ذلك الجهاز العجيب المؤلف من مئات بل آلاف الأجزاء أكثر تعقيدا وأسرار فلا سبيل لك إلى حقيقته حتى تهتدي إلى مفتاح شخصيته فيسهل لك الوصول إلى أعمق أغواره..

    وفي ظني أني وضعت يد القارئ على مفتاح تلك الشخصية الأصفهانية من خلال العرض الآنف لمقوماتها المتميزة.


    إنها العقدة المنطلقة من الحقد اللاهب على كل ما هو عربي أو إسلامي فجَّرها في عقلَيْهِ الظاهرِ والباطن انهيارُ السلطان الأموي، الذي حرمه فرص التمتع بعزة الملك، الذي كان من الطبيعَي أن يكون أحد ورثائه الأقربين لو قُيض لأبيه- آخر خلفاء بني أمية – الانتصار على خصومه.

    فعن طريق هذا المفتاح ستعرف الكثير من البواعث التي سوف تسوق صاحب الأغاني في ذلك الاتجاه التخريبي الذي لم يسلم من شره عربي أو مسلم أيا كانت هويته..

    ومن هذا المنطلق كان تركيزه- في أغانيه- على الكثير من الرموز التي اشتهرت بفضائلها خلال القرون، فراح يلطخ صورها بالكثير من المشوهات..، وكانت مطيته في هذا الطريق هي الأدب والشعر والغناء دون تفريق بين الصالح والفاسد والمثوق والمجروح من الأخبار..

    وقد اختار لسمومه المستويات العليا من الطبقات التي هي قدوة الجماهير..

    ومعيار توجهاتها الأساسية لتكون العدوى أسرع حركة وأشد فتكا..

    والمفكر الرصين حين ينظر إلى عمل الأصفهاني من خلال هذا المنظار لن يفوته العلم بأن وراء هاتيك الأصباغ التي يسبغها على مجالس الرشيد رغبة مصممة على اختراق جدار المناعة التي تشد المجتمعات الإسلامية إلى تراثها الروحي، ليسهل انفصالها عن منابع القيم التي ترسخ ارتباطها بالماضي العريق لكي تصبح مهيأة لقبول كل التغييرات، إثْرَ فقدانها مشاعر الاعتزاز بأصولها التي أمست في تصورها الجديد موضع الارتياب، وبعد أن انحسرت عنها تلك النفحات القدسية التي كانت تتلقاها من خطاب ربها:
    {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت/33)


    إنها عملية غسل للأدمغة والقلوب تستهدف تدمير المقومات الإِسلامية التي بها كان المسلمون خير أمة أخرجت للناس..


    ومن يستطيع أن يدفع عن هذه الأمة ذلك الوباء الوبيل وهي تطالع سِير أبرز رموزها الوارثين لذلك التراث المجيد غارقين إلى آذانهم في تلك الغمرات الآسنة!!.


    هارون الرشيد بين الحقيقة والخيال:


    انه ابن الخليفة المَهدي، خامسُ الخلفاء المنحدرين من صلب العباس بن عبد المطلب عم رسول اللّه عقبيه، وأكثرُهم حضورا في أذهان الخاصة والعامة من أجيال العرب والمسلمين، وبخاصة لدى المؤرخين والإخباريين الذين أحاطوا سيرته بجواءٍ أسطورية أمدت المسرحيين والسينمائيين ولا تزال بمعينٍ لا يكاد يتوقف عن عَصره وأحداثه ومتارفه، التي يقل فيها الواقع وتكثر فيها التكاذيب..


    ولكن لهذه السيرة مكانها كذلك عند الثقات من مؤرخي السلف وعلمائهم، ومن هؤلاء الإمام الذهبي الذي يقول في المجلد التاسع من كتابه النفيس (سير أعلام النبلاء):

    "أبو جعفر هارون.. الهاشمي العباسي.. روى عن أبيه المهدي وجده.. وروى عنه ابنه المأمون، وكان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي..

    وفصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة، ونظر جيد في الأدب والفقه..

    أغزاه أبوه بلادَ الروم وهو حَدَث..

    وقيل إنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات..

    وكان يحب العلماء وبعظم حرمات الدين.. ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه.. ".


    ويذكر الذهبي من مآثره تأثره بمواعظ الصالحين فيقول:

    وعظه ابن السماك فأبكاه، ووعظه الفضيل بن عياض حتى شهق في بكائه.

    وروى له أبو معاوية الضرير حديثا عن رسول اللّه في فضائل الجهاد فبكى حتى انتحب..

    ثم يقول: "إنه حج غير مرة وله فتوحات ومواقف مشهودة، ومنها فتحه مدينة هرقلة، ومات غازيا بخرسان عام 193 هـ"

    وفي مكان آخر من (السيِر) يحصر الذهبي حجات الرشيد بخمس، ويقول إنه أدى إحداها ماشيا من بطن مكة.

    ويؤكد ما اشتهر عنه من سخاء ويستشهد لذلك ببعض الوقائع منها هبته للأصمعي خمسة آلاف دينار، ولأبي بكر بن عياش ستة آلاف دينار ولابن عيينة مائة ألف درهم، وهذان من كبار المحدثين.


    ولا يغفل الذهبي موضوع اللهو الذي ينسب إلى الرشيد فيشير إليه بقوله

    ( وله أخبار شائعة في اللهو واللذة والغناء)

    وعن علاقته بالشرب ينقل عن الإمام ابن حزم قوله ( أراه كان يشرب النبيذ المختلف فيه لا الخمر المتفق على تحريمها ) ولنتأمل قليلا في كل من العبارتين.


    ففي الأولى ترى الذهبي يورد خبره مرسلا لا يفيد اليقين بل لا يتجاوز حدود الشائعات، ولعله إنما نقله مما كتبه بعض القُصاص ولم يبذل أي جهد في تحقيقه.


    وأما خبر ابن حزم عن الشرب فقد كفانا تعقيبه عليه بما يرجح أنه من النوع غير المحرم..

    ومعلوم أن بعض فقهاء العراق أيامئذ كان يقول بإباحة النبيذ، ولعل مرادهم بالمباح منه منقوع التمر والزبيب ونحوهما قبل حصول التخمر

    ومن هذا النوع ما كان يُحضَّر لرسول الله صلي اللّه عليه و سلّم فيشرب منه ما لم يتغير طعمه، فإذا بدأ بالتغير عافه..

    أما المتخمر فلا خلاف بين العلماء على تحريمه، كثيره وقليله.

    وفق الحكم النبوي "كل مسكر حرام" .


    وعلى هذا فمجاهرة الرشيد بشربه تكون من قبيل الإعلان بأنه مع المبيحين لتعاطيه، وإلا فإن توقيره لمقام النبوة أشهر من أن يذكر

    وحسبنا من شواهده ذلك الموقف الذي يسجله الأصفهاني نفسه للرشيد حين سمع أحد جلسائه من الأشراف يعقب على حديث نبوي بكلمة غير مناسبة، فإذا هو يتفجر غضبا ويدعو بالنطع والسيف، ولولا شفاعة بعض الحضور بتخريجه كلمةَ الشريف على وجه مقبول لذهب دمه مع الريح..

    ويبقى أن نلقي نظرة تحليلية على كلا الخبرين تذكِّر القارئ بواقع لا ينبغي أن نغفله عندما نطالع بعض الكتب المؤلفة عن مجون ذلك العصر، وما أكثر تلك المراجع التي صنفها القُصاص فشحنوها بما صح وجُرح دون أن يأبهوا بقرب ذلك أو بعده من الحقيقة، إذ كانت همتهم في الغالب منصرفة إلى التنافس في إيراد الغرائب ليستكثروا من قرائها ورواتها، وليحققوا لأنفسهم المكاسب التي يلتمسونها بالوصول إلى مجالس الكبار

    ومن أمثلة ذلك ما يرويه الأصفهاني نفسه عن أحد هذه الكتب الموسوم بـ (الأغاني الكبير) منسوبا إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي وفيه يقول حماد بن إسحاق:

    (ما ألف أبي هذا الكتاب قطّ ولا رآه، ويؤكد ذلك أن أكثر أشعاره المنسوبة إنما جُمعت لما ذكر معها من الأخبار وما يجيء فيها إلى وقتنا هذا)

    ومعنى ذلك أن كاتب الخبر يسمعه فيَروقه فيخلطه بالإضافات المناسبة فلا يلبث أن يشتهر بذهن الناس وفي كتب الرواة على أنه نسيج واحد

    كما يفعل القاص يقع على كلمة مؤثرة فيحوك بها وحولها قصة فنية نستمتع بقراءتها دون أن نبحث عن حقيقتها..


    وما أكثر الأسباب التي تساعد على هذا الاتجاه في ظل الترف وغضارة الحياة.

    يتبع ..
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: توضيح مختصر حول كتاب الأغاني

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 18.11.08 9:30

    شهادات حق :

    وحسب القارئ في ما أوردناه حتى الآن من هذه الملابسات ما يقنعه بوجوب الحذر من كل ما يرويه المشبوهون عن شخصية الرشيد
    فكيف إذا مضينا في استعراض ما تبقى من شهادة الإمام الذهبي عن مواهبه الكثيرة من (الشجاعة والبصر بأعباء الحلافة – مما نسميه اليوم بالحذق السياسي والدبلوماسي – وإذن فلن تتردد في تزييف الكثير مما يطالعك به ذلك الشعوبي المريب.
    وكيف تتوقف في ذلك وأنت أنىّ نظرت من حياته الحافلة ألفيت الشواهد الناطقة بهذه الحقيقة، من خلال ملاحمه مع الروم وملاحقته المتمردين في كل جانب من دولته المنتشرة في أرجاء الأرض، وفي تتبعه لمسالك عماله ومعالجة أوضاعهم ومجتمعاتهم، مما يجعله في مقدمة رجال الدول..
    ولعمر الله قلما أجد مدحا يوجه إلى عظيم أكثر انطباقا على شخصية ممدوحه من قول أشجع السلمي في تصوير شخصية الرشيد:

    وعلى عدوك يابن عم محمد رصدان ضوء الصبح والإظلامُ
    فإذا تنبه رعته، وإذا غفا سلت عليه سيوفك الأحلامُ

    والعجيب بعد ذلك كله أن نرى مفكرا بعيد الرؤية يقبل جماع ما نسبه صاحب الأغاني إلى تلك الشخصية التي مهما اختلف عليها الرواة والكاتبون ستظل على علاتها إحدى مفاخر التاريخ الإسلامي في زمن تضافرت فيه العوامل المشوهة لذلك التاريخ
    وستظل في تقدير المنصفين أكبر من الكيان الزائف الذي يرسمه الفارغون والمفسدون لذلك الخليفة، لأن مسئولياته أعظم من أوقاته، فلا متسع عنده للعبث واللهو إلا أن تكون نزواتٍ عجلي يتخفف بمثلها العظماء من أعبائهم المرهقة.. دون أن تمس كرامتهم..



    دسائس ومؤامرات:


    الآن فلننتقل إلى الوجه الآخر من الصورة لنرى كيف يعرض أبو الفرج الأصفهاني من خلالها شخصية الرشيد، ومن أي الزوايا كان يستشرفها..

    لقد صبَّ هذا المؤلف جل اهتمامه على الجانب اللاهي من بيئة الرشيد وغواة عصره، حتى ليخيل لقصار البصيرة أن المجون هو اللون الوحيد الذي تميزت به تلك الحقبة
    على حين أن ما خلص إلينا من مؤلفات الثقات تشهد بأن المجون لا يعدو النسبة الضئيلة من النشاط الجاد الذي يميزها فيجعلها أزهى عصور الحضارة الإسلامية الحافلة بأيمة المذاهب وأقطاب الزهد، وأساطين العربية، وعمالقة الفكر العالمي، الذين أمدوا العالم كله بالأشعة التي بددت الظلمات وفجرت ينابيع المعرفة، وكانت وراء كل التطورات العلمية الحديثة..

    على مقربة من أيام الأصفهاني تدفقت سيول القرامطة على منطقة الكوفة وأعملت فيها الدمار والموت، وكانت قمة الكارثة اختطافهم أطفال المسلمين إلى حيث يتحكمون في تنشئتهم
    وما هو سوى يسير من الزمن حتى عاد هؤلاء يواجهون أهليهم تحت رايات الشيطان..
    وهو نفسه المخطط الذي نفذته الشيوعية في أفغانستان مؤخرا بنقل الآلاف من أبنائها إلى محاضن الإلحاد العالمي، حتى إذا أيد الله بنصره أوليائه المجاهدين في سبيله ودخلوا كابول لإقامة الكيان المسلم الذي استشهد في سبيله ما يزيد على المليونين بين قتيل ومعوَّق، فوجئوا بتلك الآلاف المتخرجة في محاضن الإلحاد تخلف الكفرة المنهزمين في مقاومة المد الإسلامي، ليحولوا بين المجاهدين وبين الأهداف العليا التي حاربوا من أجلها أربع عشرة سنة..

    وهكذا تتلاقى سوابق الكفرو لواحقه، وتتطور مناهجه حتى يكون منها ما لا سبيل إليه إلا بالقتل والتدمير، ويكون منها هذا التخريب الروحي الذي مهد له صاحب الأغاني وأضرابه من الذين وقفوا جهودهم على إشاعة الفساد في الكيان الإسلامي..
    وبعد هذا يبقى لنا وللقارىء سؤال كبير لا ينبغي أن نغفله:

    لقد كان أبو الفرج من أوسع الناس علما بأحوال عصره، ولا بد أن يكون قد علم يقينا ما أجمع عليه مؤرخو تلك الأيام من أن مجالس الرشيد كانت تضم الصفوة من أساطين العلماء وعمالقة اللغة والأدب.
    فماله يضرب صفحا عن ذكر هذه القمم، ويقصر نظره على ذلك الجانب اللاهي الذي يقتصر على أمثال الموصليَّيْن وابن جامع والزف ومخارق وبر صوما وزلزل وبقية الشلة من صعاليك المغنين والزمارين والطبالين!!.

    لماذا اختار لنفسه مسلك الذبابة التي لا يستهويها سوى القمامة فلا تعير الطيبات أي اهتمام!!.

    ألم يكن من حق الأدب والعلم والتاريخ على مؤلف الأغاني أن يفسح ولو فرجة صغيرة من كتابه لاعطاء القارئ فرصة الإطلال على الجميل النظيف من بيئة الرشيد؟!.

    وغفر اللّه للمتنبي الذي يصور لنا نفور بعض النفوس المريضة من روائع الشعر وإيثارها حثالته في هذه الصورة الماتعة:

    بذي الغباوة من إنشادها ضرر كما تضر رياحُ الورد بالجُعَلِ



    مع كتاب للأ غانيِ.. وقفات ومناقشات:



    يعتبر هذا الكتاب من أوعية المراجع التي عُنِيَت بالجانب اللاهي من بيئة الرشيد

    وتستغرق أخباره مائة وأربع صفحات من خامس أجزائه الأربعة والعشرين

    وكلها تحت عنوان واحد هو (نسب إبراهيم الموصلي وأخباره)

    ثم يلي ذلك (أخبار اسحق بن إبراهيم) وتستغرق بقية الخامس في مائة وثمان وستين صفحة لم تخل من ذكر الرشيد

    وذلك غير الإلمامات الأخرى التي نثرها المؤلف عن الرشيد في مختلف المناسبات والأجزاء.

    وقد تناول الحديث في هذا القسم الأخير أشهر أبنائه وبخاصة المعتصم والمقتدر والواثق والمتوكل.


    وتلك الصفحات المقاربة ثلاث المئات توشك أن تكون سجلا مكثفا لأخبار هذه الثلة من رموز
    بني العباس وصلتهم بكبار مغني عصرهم وتلاميذهم من الجواري وهواة الغناء، وولع الجميع بذلك الفن حتى الخلاعة والذوبان..


    ويبدأ أول القسمين بذكر المهدي والد هارون الرشيد، إذ كان معجبا بفن هذا الفارسي- 5/ 154-

    ويصف المهديَّ بأنه لا يشرب، وأنه نهى إبراهيم عن الشرب، وحذره من الدخول على ولديه موسى الهادي وهارون الرشيد

    ولكن إبراهيم لم يعبأ بذلك التحذير فاتصل بهما وشرب معهما.. ولما علم الهادي بمخالفته أودعه السجن مكبلا طوال عشر سنوات وصب عليه ثلاثمائة سوط- 5/ 160-.


    ويستوقفنا من هذا الخبر اصرار إبراهيم على محاولة إفساد ولدي الخليفة مع علمه بأن ذلك يعرضه لأشد الأخطار، وهاهي ذي طلائعها من السياط والسجن ولبثه في القيود كل تلك السنين..

    فلِمَ يُقدم على هذا الضرب الدامي من المغامرات؟!.


    ويأتينا جواب الموصلي في ذلك الحوار المكشوف بينه وبن ولده إسحق، وكان ذلك يوم جاءه ذلك الزائر الأرستقراطي من هواة الغناء يريد أن يُسمعه ويستنصحه، فما إن باشر بعرض بضاعته حتى بادره الابن برأيه في صوته وغنائه، ونصح له بترك هذه الصنعة التي لم يؤهَّل لا..

    ولم يرض الأب عن تصرف ولده فصاح به وأنبه والتفت إلى الفتى يطمئنه بأهليته للتقدم..

    ولما خلا بابنه بعد انصراف الزائر كاشفه بما في نفسه وهو أن عليهم دفع هؤلاء الحمقى في طريق الفساد ليتخذوا منهم دريئة يواجهون بها كراهية الطبقة المحافظة التي تحتقر أمثالهم من أهل الفن، فلا تنفك تعيرهم بصناعتهم، فمن مصلحتهم إذن أن يطوِّحوا بأبنائهم إلى منحدراتهم- 5/ 195-.


    ولبث إبراهيم في سجن المهدي حتى خلافة الهادي، وهناك صدر الأمر بإطلاقه وقربه فأمده بالمال والخوَل، وبلغ ما ناله من هباته مائة وخمسين ألف دينار في يوم واحد..

    حتى ليقول هذا المغني: "لوعاش الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة".

    وعن عهد الرشيد يقول حماد بن إبراهيم: "أحصيت ما صار لوالدي من المال وثمن ما باع من الجواري فبلغ أربعة وعشرين ألفَ ألفِ درهم، وذلك غير راتبه وغلات ضياعه"-5/163-.


    ويقول الأصفهاني: "ن الرشيد إثر توليته الخلافة وفراغه من إحكام الأمور جلس للشرب، ودخل عليه المغنون فكان إبراهيم أولهم، وكانت جائزته في ذلك اليوم عشرين ألف درهم" 5/ 204-.


    وفي الرقة وفي مجلس الشرب تذكر الرشيد أن لذته غير تامة بسبب غياب مغنيه المفضَّل إبراهيم الذي كان قد قذف به غضبه إلى غيابات السجن فما عتم أن أمر به أخرج وفكت قيوده

    وهنا دفع إليه بعود وأمره فغناه وشرب وطرب، وكانت المكافأة ضيعتين نادرتي المثال هما/ الهنيء والمريء/ ويقعان بإزاء الرقة ويسقيهما نهران

    وكان ذلك في غمرة النشوة طبعاً، حتى إذا ثاب الوعي استرد الرشيد هبته وعوضه عنهما مأتى ألف درهم- 5/ 166-.


    وفي خرجة أخرى إلى الرقه افتقد الرشيد مغنيه فلم يجد له أثرا وبعد أيام أتاه بعذر أرضاه، ذلك أنه سمع بخبر خَمَّار استهواه فقصد إليه فأقام عنده ثلاثة أيام يكرع من خمره المعتقة

    ويصنع إبراهيم في تلك القصة شعرا ويصوغ ذلك صوتا يغني به الرشيد بمصاحبة الزمار الخاص بر صوما

    فأنعم عليه بمئة ألف درهم، وبعث بطلب الخَمار السرياني فجاءه بهدية من ذلك الشراب فوصله، ووهب له إبراهيم عشرة آلاف –5/176.


    ويسرق إبراهيم بن المهدي- أخو الرشيد- صوتا من إبراهيم الموصلي فيتقنه.

    وفي مجلس الشرب أمر الرشيد أخاه بأن يغنيه فغناه بذلك الصوت وهو يشرب فنفحه ثلاثمئة ألف درهم

    وهنا اعترض الموصلي حالفا بالطلاق إن الصوت له...

    فاعترف السارق، فنال الموصلي مكافأة أخرى مئة ألف، فكان محصول تلك الجلسة الإبليسية أربعمئة ألف درهم أي اثنين وعشرين ألف دينار – 5/216


    وذات ليلة هب الرشيد من نومه فركب حماره القزم وارتدى زينته ومضى على رأس أربعمئة خادم أبيض سوى الفراشين إلى منزل الموصلي فتلقاه هذا بالتكريم اللازم وقبَّل حافر حماره، فنزل وأكل ثم دعا بشراب حُمل معه.

    وبدأ (كورس) من جواري الموصلي فجعلن يضربن اثنتين اثنتين وتغني واحدة، حتى غنت صبية من حاشيته بيتين فطرب الخليفة واستعاد الصوت مرارا وشرب أرطالا.

    ثم جاءت المفاجأة إذ سأل الرشيد الصبية عن صانع ذلك اللحن فأمسكت... وبعد لأْيٍ أسرت إليه بأن الصوت لأخته عُلَية 218/5.

    وهنا يُقحم الأصفهاني ذكر الخليفة المقتدر ليرينا إياه خلف ستارة مع جواريه، وبين يدي كل من المغنين قنينة فيها خمسة أرطال نبيذ وقدح ومغسل وكوز ماء.


    وتغنيهم جارية من تلاميذ زرياب المغني الذي أفسد الأندلس، حتى إذا انفض المجلس أخذ كل من الحضور عطية تُثرى عشرين محروما!-...5/222.


    ولا يلبث الأصفهاني أن يفاجئنا هنا بواحدة من مآسي ذلك العهد حيث يرينا بمكة امرأة تبكي وهي تدعو باسم زوجها الذي فارقها لطلب الرزق في جدة

    فيدنو منها إسحق بن إبراهيم ويستو صفها ذلك الزوج ثم يمضي بنا معه إلى جدة حيث لقي ذلك الكادح، وهو يشدو بلحن أعجبه

    فاستوقفه وسأله لم لا يعود إلى زوجته، فاعتذر بالحاجة لتأمين معاشهما، وعلم اسحق أن هذه الحاجة لا تعدو ثلاثمئة درهم في العام فنقده مئونة عشر سنوات وأخذ منه العهد أن يعي إلى أهله فلا يفارقها طوال هذه المدة!...5/223.


    ويلاحَظ أن القصة مقحمة في غير موضعها وكأنى بالأصفهاني إنما أوردها في هذا السياق الغريب ليبعث قراءه على التفكير بالبون الشاسع بين أوضاع أولئك الخلفاء، وبين هؤلاء البؤساء.


    ثم لا يلبث المؤلف أن يعود بقارئه إلى الخط الذي انحرف عنه قليلا ليضعنا في خلو أسطورية مع الرشيد الذي أسرَّ له مسرور الكبير بخبر تقبض له وجهه، والتفت إلى مغنيه الموصلي يستحلفه بحياته أن يُطربه بما قدر..

    وأدرك هذا حاجة الخليفة إلى المسليات فانطلق يغني:

    نِعمَ عوناً على الهموم ثلاثُ مترعات من بعدهن ثلاثُ
    بعدها أربع تتمة عشر لإبطاء لكنهن حِثاث
    فإذا ناولتكهن جوارٍ عطَراتُ بيض الوجه خِناث
    تَمَّ فيها لك السرور، وما طيـ ـب عيشاً إلا الخِناث الإِناث


    فقال الرشيد : ويك اسقني..


    فشرب ثلاثا ثم ثلاثا ثم أربعا، ويقول اسحق: فواللّه ما استوفى أخرهن حتى سكر!..

    ونهض ليدخل ثم قال: قم يا موصلي، فانصرفْ يا مسرور..

    أقسمت بحياتي، بحقي إلا سبقته إلى منزله بمئة ألف.5/224 و225.


    وكان الرشيد من المعجبين بشعر ذي الرمة ولذلك عُنىَ به إبراهيم حتى التمس من الخليفة ألا يسمع شعره من غيره، ليحتكر جوائزه فيه

    ولقد غناه مرة بأبيات منه فنقده ثلاثين ألف درهم ووهب له فراش البيت الذي غنى فيه

    وبلغ الطرب به ذات يوم أن وثب قائما وهو يصرخ..

    ثم ينتبه لنفسه فيستغفر اللّه!.

    ويعترف الموصلي أنه حصل من جوائز الرشيد على غنائه بشعر ذي الرمة وحده على ألفي ألف من الدراهم5/239-241.


    ويتحفنا الأصفهاني بهذه الكبيرة الكبيرة:

    أمر الرشيدُ الموصليَّ بالحضور إليه بعد العِشاء الآخرة منذرا إياه بالموت إذا تخلف، وفي الطريق إلى
    الرشيد لمح إبراهيم زبيلا يدلى من القصر الملكي وقد أعد للركوب فما نشب أن جلس فيه ثم رُفع به..

    وهناك واجه جواري جلوسا فلما فوجئن به تبادرن إلى الحجاب..

    وقضى معهن وقتا ملأه بالضحك والطعام والشراب، وغنت ثلاث منهن، ثم كشف لهن عن نفسه فرفعن الحجاب، فأقام عندهن أسبوعا على هذا النحو ثم أدلينه بالزبيل وأخذ طريقه إلى الرشيد، فلم ينج من عقوبته إلا بسرد قصته مع الجواري، فألزمه الرشيد أن يُحضرَه مجلسهن.


    وفي الموعد المضروب أقبل إبراهيم فركب الزبيل إليهن، وعند الانصراف عرض عليهن أن يأتيهن بأخ له على أن يستترن منه ولا يتكلمن بحضرته فوفين بذلك تماما، حتى إذا جاء الموعد التالي جاء الرشيد معه متخفيا..

    يقول الموصلي:

    وشربنا كثيرا فلما أخذ منه النبيذ قال ساهيا : يا أمير المؤمنين...

    فتواثبن من وراء الستار حتى غابت عنا حركاتهن..

    وانطلت الخدعة على الرشيد فوهب له مئة ألف درهم، ومن ثَم جعلت الجواري يُهدين إلى الموصلي الألطاف/ 245.


    وهنا لا بد من التساؤل : ذلك الزبيل .. لمن كان معدا قبل مغامرة الموصلي بركوبه؟!!.


    والقصة مطبوعة باللون المألوف في حكايات ألف ليلة وليلة، وفي تضاعيفها ما يدل على افتعالها
    لمجرد التسلية أو لغرض التشويه..

    وعلى أساس أمثالها رَفَع قَصاصو الغرب بناء مسرحياتهم وتمثيلياتهم السينمائية عن أخبار عصر الرشيد وعن قصور الحريم التي تفننوا في تصويرها وعرضوها و لا يزالون .

    وإلا فأين غيرة الرشيد وجبروته وهو الحاكم المطلق الذي كان يقذف بالعشرات من الرجال إلى السيف والنطع لمجرد معارضتهم حكمه؟! فكيف به يتخلى عن هذه الغيرة في هذه المواقف التي لا يصبر عليها ذو مروعة!!.


    ثم لماذا يؤثر التسلل إلى قصره عن طريق الزبيل وكان في وسعه أن يأمر الموصلي بأداء دوره في زيارة الجواري ثم يفاجئهن بشخصه ومن حيث لا يتوقعن!!.


    والقارئ ذو اللب لابد أن يجد نفسه مشدودا إلى مثل هذه التساؤلات أمام الكثير مما يواجهه في مجلدات الأغاني..


    وقد يسترسل الأصفهاني مع الخيال فيخترع من الأحداث ما لا ينطلي إلا على الأطفال المفطورين على الولع بالغرائب

    فمن اختراعاته المضحكة خبر القِطَّين الذي يورده عن لسان إبراهيم الموصلي إذ كان في سرداب له ذات ليلة فإذا هوبسنورتين تهبطان قريبا منه ثم يغنيان ويعيدان بأحسن صوت حتى لَقِنَه، ومات فرحا- كما يقول الأصفهاني- فطرحه من غدٍ على جارية له فجُنت 00)194.

    يتبع ..

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: توضيح مختصر حول كتاب الأغاني

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 18.11.08 9:41

    المدرسة الإبليسية :


    وفي أضلولة أخرى يرينا إبراهيم هذا وقد دخل عليه شيخ في ظواهر من اليسار والأناقة، فأخذ يحدثه في مختلف فنون الأدب والتاريخ، إلى أن استثاره فغناه وشرب معه وما زال الشيخ يستزيده ويستحسن ما يسمع حتى التهبت مشاعره واستأذن إبراهيمَ بأن يكافئه على ذلك بغناء منه. وانطلق يحرك العود حتى يخيل للسامع أنه (ينطق بلسان عربي):

    ولي كبد مقروحة من يبيعني بها كبدا ليست بذات قروح!..

    فتراءى لإبراهيم أن الحيطان والأبواب وكل مافي البيت يجيبه ويغني معه..

    وفجأة انفلت من بين يديه فلم يقع منه على أثر حتى سمع هاتفا من بعض جوانب البيت يقول : (

    لابأس عليك يا أبا اسحق.. أنا إبليس.. كنت جليسك ونديمك فلا تُرع..)!.

    وركب إلى الرشيد فأطرفه بالقصة، فاستنشده الرشيد ألحان إبليس فأعادها عليه، (فطرب وجلس يشرب.. وأمر له بصلة وحملان وقال: ليته- إبليس- أمتعنا بنفسه يوما واحدا كما أمتعك) 230-23.

    ولقد يغلب على الظن أن خبر القطين لم يكن غير رؤيا عرضت لإبراهيم بدافع من انشغاله النفسي بأصداء الغناء

    ولكن خبر إبليس يتجاوز هذه الدائرة إذ سمع صوتَه سكانُ البيت فلم يقتصر عليه وحده!..

    فلم يبق أمامنا إلا الحكم بأنه من مخترعات الأصفهاني، أو من نقل عنه..

    ولكن مجرد روايته لهذا الضرب من التكاذيب كاف لرد شهادته في كل أو معظم ما ينفرد به من الروايات..


    على أن الأصفهاني قد أدرك أن مثل هذه الأعاضيه من شأنه أن يهز الثقة به عند من يحسنون به الظن، فتدارك ذلك بالتبرؤ تبعتها بأن علقها على ذمة محدثه- ابن الأزهر- وأتبع ذلك بقوله: هكذا حدثنا بهذا الخبر وما أدري ما أقول فيه.

    ولعل إبراهيم صنع هذه الحكاية لينفق بها أو صيغت أو حُكيت عنه.

    "ويختم تعليله بإمكان رد الخبر كله إلى الرؤيا.. ولكن هذا الرد يظل مجروحاً بعد الذي ادعاه إبراهيم من سماع أهل بيته لألحان ذلك الإبليس..

    ونحن لا يعنينا من القصة الابليسية!

    إلا ما تحمله من اعتراف الموصلي بعمله وزمرته في خدمة الشيطان، وهو ما يؤكده في العديد من مواقفه، وأقربها إلى الذاكرة ذلك الخبر الذي يرويه حفيده، حماد بن إسحاق عن جده إبراهيم حيث يقول:

    إنه دخل عليه وهو يلقي على تلميذه مخارق صوتا، فلما أتقنه مخارق جعل إبراهيم يبكي- فرحا-

    ثم قال: يامخارق نعم وسيلةُ ابليسَ أنت في الأرض.. أنت بعدي واللّه صاحب اللواء في هذا الشأن 198/5.

    أجل واللّه إنها للمدرسة التي تحت رايتها يحقق عدو اللّه ما يعجز عنه المئون من المخربين..

    إنها لَلْمدرسة التي أعد بها إبراهيم جيلا من الساحرين والساحرات يضمن بهم استمرار المسيرة الابليسية...

    وحسبه شرفا، بشهادة الأصفهاني عن ولده اسحق أنه (أول من علم الجواري المُثمَّنات فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ ورفع من أقدارهن)- 170.

    وخرج رسول الرشيد ذات ليلة إلى المغنين يأمرهم بأن يغنوا بهذين البيتين:

    يا خليلي قد مللت ثوائي بالمصلَّى وقد سئمت البقيعا
    بلغاني ديارهندوسعدي وارجعاني فقد هويت الرجوعا


    وليس في ظاهر هذا الخبر ما يستدعي الوقوف عليه

    بيد أن في خلفياته ما يوجب التأمل الطويل في مراد الأصفهاني من ورائه، فهو يريد أن يوقع في خلدنا أن أمير المؤمنين وابن عم رسول اللّه قد وصل من التهتك إلى أن أصبح يضيق ذرعا بكل ما يتصل بمأرز الإيمان

    بل حتى ليضيق بذكر المعالم التي يتشوق إليها المؤمنون من مهبط الوحي، وفي مقدمتها المسجد الذي يضاعف اللّه به الصلاة ألفا، والبقيع الذي يتمنى كل منهم أن يحتضنه مع أفضل خلق الله بعد النبيين..

    لأن الرشيد بات شديد اللهف للعودة إلى الأيام التي رسخت في قلبه أطياف البطالين والماجنين..

    ويختم هذه التفاهات بطلب الرجوع الذي أصبح يتحكم في عواطفه..


    ولكن.. أي رجوع ؟

    .. انه رجوع السئوم الذي مل حياة الرشد والفضيلة فهو يتطلع إلى الانسلاخ منها لينقطع إلى أهوائه!..

    وهكذا يصور لنا هذا المغني أثره في مشاعر الخليفة الذي أصبح صراعا لا يكاد يحتمل بلا!ن نشأته الإيمانية على أيدي الصفوة من كبار علماء عصره، والمفسدات التي أحاطت به في ذلك الجو الخليع الذي يصوره صاحب الأغاني!.

    وشد ما كان أبؤ المهدي بعيد النظر عندما أراد تحصينه وأخاه موسى من وباء هذا الموصلي ومغريا ته، إذ حظر عليه الاتصال بهما تحت طائلة العقوبة الرادعة

    وشدَّ ماكان ذلك الساحر محكم التصميم على الاستحواذ عليهما لاستعمالهما في إفساد الوسط الخلافي كله عن طريقهما..

    وفي سبيل هذا الهدف تحمل مختلف العقوبات، ولم ينقطع عنهما حتى كانا بزعمه من المستهترين، وذلك هو الطريق الأقصر إلى تحقيق كل ما يريده الشياطين.

    أجل.. إن أبرز الملامح في شخصية الرشيد- كما تصوره روايات الأصفهاني- هو ذلك الصراع النفسي الذي يوزع كيانه بين الرصانة والخلاعة..

    وقد رأيت مَثَل الأولى في غضبته البركانية حين رأى من أحد جلسائه ما يوهم الاستخفاف بالخبر النبوي، على حين تراه في موقف آخر متهالكا مسلوب الإرادة قد أخذه الشراب والطرب حتى ليتعرى من ثيابه فيخلعها على مغنيه، كما سبق لأخيه موسى الهادي ذات يوم وقد استخفه الطرِب فلم يتمالك أن تملص من در اعته، وحكَّم المغني في جائزته، فطلب أن يُقطعه عين مروانَ بالمدينة، ثم لم يتخل عن ذلك الطلب إلا بعد أن أطلق الهادي يده في بيت مال الخاصة فكانت الفدية خمسين ألف دينار! 84/5 أ-185.

    ومثل هذا السفه هو المرتكز الأساسي في مرويات الأصفهاني، وحسبك من ذلك الخبرُ الذي يريك الخليفة وقد طاش وعيه من السكر والانتشاء إذ سمع لحنا غناه به إبراهيم فلم يجد ما يكافئه عليه بأقل من (الهنيء والمريء) وهما ضيعتان مشهورتان من أعمال الرقة وتُسقيان من الفرات.

    يقول المغني إبراهيم: (فلما أصبحت عُوّضتُ عنهما مئتي ألف درهم- أي اثنين وعشرين ألف دينار- مقابل غنائه ليلة واحدة، ولعله لم يزد عن بيت واحد 00/ 166.

    وسواء صحت هذه الأخبار المحيرة أم ضعفت فمما لا يتسع للخلاف أنها تعكس واقعا له جذوره، التي نمت وتفرعت حتى تركت طابعها على الكثير من جوانب ذلك المجتمع المتناقض..

    ولعل القارئ لم ينس بعد خبر ذلك العائل الفقير الذي هجر مكة وفيها زوجه تنتحب لفراقه، ليكدح في جدة طلبا للرزق

    وقد سرت عدوى الغناء إلى قلبه فلا يتمالك أن يتسلى بترجيعه ابتغاء التخفيف من أعبائه..

    ولهذا القارئ أن يضيف الآن إلى ذلك المشهد خبر ذلك النبطي الفلاح الذي ارتضاه إبراهيم وابنه إسحاق حكما بينهما في أيهما أفضل غناء من الآخر، فأصغى الفلاح إلى كل من المغنيين على حدة ثم أصدر حكمه للوالد على ابنه، فلم يستطع هذا اعتراضا ورضى من الغنيمة بلطمة من أبيه يقول انه لم يمربه مثلها 199- 255.

    ولا غرو فالناس دائما على دين ملوكهم، وفي القانون الإلهي الذي نقرؤه في قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} الإسراء/ 16 نجد مصداق ذلك.

    لأن من معاني (امرنا مترفيها) أكثرناهم حتى غلبت طرائقهم على مجتمعهم ففسد تركيبه ففقد صلاحية الحياة فصار إلى الدمار.. وهو القانون الذي مضى حكمه في الأندلس ثم في الدول الإسلامية كلها فكانت ولا تزال عبرة المعتبرين!!.

    ومن هنا كان ذكر المترفين في كتاب اللّه مقروناً أبداً بالذم والتسفيه..

    وكان انتصار العقلِ على أهواء النفس هو سبيل المؤمنين إلى جنة المأوى، لأن في التشبث بضوابط الإيمان العصمةَ الواقية من الزلل فالخلل

    ولا جرم أن المجتمع الإسلامي في ظل تلك الانحرافات الفوقية قد فقد الكثير من عواصمه، حتى لاستغرب أن نقرأ في كتاب يعتبره (الكبار) أحد مراجع الأدب الكبرى مثل تلك المقطعات القذرةَ من شعر دنيء يسميه المؤلف (يوسف بن الصيقل)

    وفيها دعوة صريحة للفارغين تزين لهم ممارسة اللواط وإيثاره
    ولا يكتفي الأصفهاني بذلك حتى يعقد بين هذا الصيقل وبين الرشيد علاقة مودة تدفعه إلى الترحيب ومرافقته ومنادمته ثم إجازته! 23/0219


    حتى ناصر السنة لم ينج من إفكه


    ويمتد تضليل الأصفهاني حتى يطل بنا على مجلس المتوكل الذي عُرف بنصره السنة فإذا هو- بزعم هذا المضلل- من الطراز نفسه الذي استحوذ عليه المجون والمنافقون..

    ومن صور التبذير التي يرسمها للمتوكل ما ينسبه إلى الشاعر مروان بن أبي حفصة الأصغر إذ يقوله إنه مدح المتوكل بأبيات فأجازه عليها بمئة ألف درهم وخمسين ثوبا من خاص ثيابه!.

    ويستقبل المتوكل خالدا لكاتب فيعاتبه على انقطاعه، ثم يأمر له بثلاثة أقداح مُلزِمة، فلا يعفيه منها إلا شفاعة الفتح بن خاقان..

    وفي المجلس نفسه يحرِّش المتوكل بين خالد وبن ابن أبي حفصة ليتهاجيا فأمسك مروان، واندفع خالد يقذفه بقذارات يترفع حتى السوقة عن سماعها بَلْهَ نطقَها..

    والخليفة يضحك حتى يصفق الأرض برجله!!.

    وهذا اللغو الذي يسم به الأصفهاني شخصية المتوكل يتنافى مع مميزاته التي عرفناها من خلال صورته الرائعة التي نطالعها في رائية شاعره البحتري حيث يصف خروجه لصلاة العيد في ذلك الموكب الباعث على الاعتزاز:

    وبرزتَ في برد النبي فإصبعٌ يومي إليك بها وعين تنظر

    ومن خلال تقديره العظيم البالغ للإمام العظيم أحمد بن حنبل، وقضائه المحمي على فتنة المعتزلة.

    ونحن لا ننكر أن لكل إنسان، وبخاصة أولئك المثقلون بأعباء الحكم، بَدَواتٍ ينفس بها عن صدره في الخلوات الخاصة..

    ولكن أي مصلحة في كشفها للعامة، إلا أن تكون مصلحةَ المتآمرين مع بقايا المجوسية على تحطيم المقومات الإسلامية!.

    ألغام في أساس الدولة العباسية:



    وفي هذه الجواء المائجة بالعبث، والطافحة بسيول الذهب والفضة تتدفق على صانعي الملاهي،َ لابد أن تتفجر المطامع وتثور الشهوات حتى لا يبالي هُواتُها بالحدود الفاصلة بين الحلال والحرام، والفضيلة والرذيلة، فتصبح الرشوة من أنجع الوسائل في تحقيق الرغبات.

    وهذا ما نلاحظه في العلاقة بين إبراهيم الموصلي وبعض أساطين البرامكة، الذين ينيخون بكلاكلهم على صدر الدولة فيتصرفون بأموالها تصرف المطلق الذي لا يسأل عما يفعل..

    ومن هذا القبيل تلك الباقعة التي يرويها الموصلي إذ يخبرنا بأنه أتى الفضل بن يحي- بن جعفر البرمكي- ذات يوم فقال له إن الخليفة قد حبس يده فهب لي أنت..

    ويأسف الفضل لأنه لم يكن عنده مال يرضاه له - وبلغة أيامنا ليس عنده سيولة نقدية - ثم تذكر فقال إلا أن هاهنا خصلة – فرجة - أتانا صاحب اليمن فقضينا حوائجه ووجه إلينا بخمسين ألف دينار يشتري لنا بها محبتنا - شيئا يحبه - فما فعلتْ ضياء جاريتُك؟ سأقول لهم يشترونها منك فلا تنقصها عن خمسين ألف دينار.

    فقبلت رأسه ثم انصرفت، فبكر عليَّ رسول صاحب اليمن..

    فسألني عن الجارية فأخرجتها له قائلا إن الفضل بن يحي أعطاني بها أمس خمسين ألف دينار..

    فقال وأنا أريدها له، فهل لك في ثلاثين ألف دينار مسلمة لك؟ وكنت قد اشتريتها بأربعمئة دينار.

    فلما وقع في أذني ذكر الثلاثين ألفا ارتج علي..

    وخفت والله أن يحدث بالجارية حدث أو بي أو بالفضل فسلمتها وأخذت المال..

    ثم بكرت على الفضل فلما نظر إلي ضحك ثم قال: يا ضيق الحوصلة حرمت نفسك عشرين ألف دينار.

    ثم نادى: يا غلام.. جيء بالجارية.. وقال خذها مباركة فإنما أردنا منفعتك.

    وقبل أن يعود أدراجه استوقفه الفضل ليقول: إن صاحب أرمينية قد جاءنا فقضينا حوائجه..

    وذكر أنه قد جاءنا بثلاثين ألف دينار يشتري بها لنا ما نحب فاعرضْ عليه جاريتك هذه ولانتقصها عن ثلاثين ألف دينار..

    وعلى غرار الصفقة الآنفة جرى أمر الصفقة الثانية على الجارية نفسها، وانتهى الأمر بعشرين ألف دينار فسلمها وأخذ المال، فلما رآه ضحك وضرب الأرض برجله وهو يقول: ويحك حرمت نفسك عشرة آلاف دينار.. ودعا بالغلام فأخرج له الجارية فقال خذها ما أردنا سوى منفعتك 195-196.

    ولقد آثرنا نقل هذين الخبرين بحوارهما دون تعديل إلا ما اقتضاه الإيجاز، لنتيح للقارئ أن يضع يده على بعض أهم المفاسد التي رشحت الدولة العباسية للانهيار..

    فليس بالأمر الهين أن تشيع فاحشة الرشوة حتى تكون أساس التعامل بين الولاة وكبار رؤسائهم

    أضف إلى ذلك تلك الحيل الخسيسة التي تمكن النصابين من الحصول على أموال الدولة بأحقر الوسائل، حتى ترى عامل الدولة يشري رضا رئيسه وسكوته عن جرائره بعشرات الآلاف من الدنانير

    وترى في الوقت نفسه رئيسه الأعلى يشتري متعته مع المغني بتحويل الرشوة كلها إليه عن طريق المؤامرة، وبينهما ذلك الوسيط- الرسول- الذي يداور المغني حتى ينال نصيبه من المال الحرام ثلاثين ألف دينار.

    ولا مندوحة هنا عن التساؤل: إذا كان هذا شأن الوالي في رشوة رئيسه، فما حصيلة ذلك على العلاقة بين الوالي الراشي والشعب الذي يتولى أمره؟!.

    ولعل أقرب جواب على هذا التساؤل هو ما يشاهده القارئ المعاصر من أمانة كبار المسئولين في أيامه على الأموال العامة، وأكداس الديون التي تتحملها الشعوب لتأمين رغبات هؤلاء السادة الأعلَين!.

    أما كبرى المؤشرات التي ينطوي عليها عمل الفضل البرمكي بل البرامكة كلهم في نسيج هذه الأحداث وأمثالها فلا مفهوم لها سوى أنها صورة من التآمر الشعوبي على الإِسلام وعلى كيان دولته بإشاعة التهتك وتدمير الاقتصاد، وإخماد روح الجهاد في سبيل الدعوة إلى الله، حتى ينتهي المطاف بالأمة الإسلامية إلى فقدانها قدرةَ الدفاع عن نفسها بمقوماتها الذاتية لتُنقل أزمتها إلى أيدي الآخرين ممن لا يهمهم سوى شهوة الحكم..

    وهو ما صارت إليه الدولة العباسية أخيرا على أيدي عملاء المجوسية، الذين عجزوا عن استرداد السلطان الكسروي عن طريق الحرب فلجئوا إلى الدسائس و(إذاعة المفاسد ومحاولة تشويه الفكر الإسلامي بنشر الأفكار الدخيلة التي زلزلت قواعد المجتمع كله!.

    وقد كثر الكلام عن الدوافع التي أدت إلى نكبة البرامكة، ولعل أقربها إلى الواقع بعد أن تكون نتيجة انتفاضةٍ في ضمير الرشيد كشفت له أعماق تلك المؤامرة فلجأ إلى حسمها بالسيف بعد أن وصل خطرها إلى عرشه ولكن..

    هل وقفت الانتفاضةُ زحف ذلك الخطر عن الدولة والأمة؟..

    هيهات.

    وأنى لها ذلك بعد أن وصل الداء إلى القلب، فأصبح كل شيء مهيئا للدمار الذي نسف الكيان العام من أساسا وذهب بمليون وثمانمئة ألف مسلم على أيدي هولاكو والعلقمي وبقية المتآمرين من أعداء الإِسلام!.


    وماهي سوى لحظات من عمر الزمن حتى تتابعت الكوارث الماحقة فذهبت بإشبيلية وغرناطة وقرطبة وأخواتها، وعبدت الطريق للزحف الصليبي القديم والحديث على بقية العالم الإسلامي الغارق في غفلاته وشهواته وخلافاته.. وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون..

    يتبع ..



    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: توضيح مختصر حول كتاب الأغاني

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 18.11.08 9:50


    التناقضات المهلكات:

    وبعد فإن المشكلات التي يثيرها كتاب الأصفهاني أكبر من أن يستوعبها فكر أو يرصدها قلم
    وقد اجتزأنا منها بالقدر الذي يتسع له عرض في مجلة فصلية، واضطررنا للإِعراض عن الكثرة الكاثرة من محتوياته، التي لا يغني منها القليل عن الكثير
    وفي النفس منها أشياء تغرى بالمتابعة فنمسك عنها معتذرين بضيق الوقت والوهن الذي نعانيه في أواخر الثمانينات..
    على أن مشكلة واحدة لم نستطع دفعها عن الذهن، ففسحنا لها السبيل إلى البروز والمناقشة.


    من التساؤلات الطفولية المثيرة أن تسمع صغيرا يهمس في أذن أمه: هذه القروش التي ينفحنا بها البابا كل يوم.. من أين يأتي بها؟ أليس لها من نهاية؟!.


    ولعلك توقفت أمام هذه التساؤلات ذات يوم كما توقفت أنا ومضيت كما وجدتني أمضي معها طويلا محاولا الوصول إلى أجوبة شافية..

    وها أنا ذا اليوم أراني مشدودا إلى ذلك الهاجس الطفولي أسأل نفسي: هذه القناطير المقنطرة من الدراهم والدنانير التي تتطاير أمام أتُنحَت لهم من الجبال أم تسيل بها الأودية؟!

    أم تقذف بها المصانع من بواتق المعادن الخسيسة، التي أعيننا بين أيدي الخلفاء والوزراء والندماء فلا تكاد تهتدي إلى مستقر لها..

    من أين يأتي بها هؤلاء؟!

    يحاولن كيميائيو ذلك العصر تحويلها إلى المعادن النفيسة؟.. أسئلة محيرة لا نملك لها جوابا..

    ولكنها تشق لنا الطريق إلى البحث عن مصادر هاتيك الأموال!،

    وعن المجاري التي تسلكها، والنتائج التي تصير إليها! ذلك التبذير الرهيب..


    مرقب واحد فقط يقف بنا عنده ذلك البحث لنكتشف من خلاله أهم أسرار ذلك اللغز، فإذا هي كلها متشابكة حول العُرف العام الذي يطلق يد المسئول الأعلى في حياة الناس ودمائهم وأموالهم..

    فبكلمة من شفتيه يسوق من يشاء إلى السجن المنسيِّ أو الموت المقضيِّ، وبأخرى مثلها يصادر حصائل أعمار الناس فيمسخ يسرهم فقرا ورياضهم قفرا..

    وبكلمةٍ تُحَول أموال الدولة إلى أيدي العابثين يموهون بها جدرانهم بالذهب، وينصبون التماثيل في قصورهم الأسطورية، ويحشون بها أفواه السكارى لتحيل أصواتهم أغاريد تتموج فيها أنغام الطيور الشادية بمختلف الألحان!!.

    أما الجماهير البائسة فعليها وحدها الصبر على الفاقة والحرمان، حتى يصير بها الأمر إلى مستقره من اليأس الذي يدمر الحدود ويحطم السدود، ويدفعها بقوة لا مرد لها إلى الهدم بعد البناء والاضطراب العام بعد السلام الذي طالما نعمت به في ظلالا الإيمان، حتى لَيجتاحُ الغوغاءُ البلدَ الذي كان حتى الأمس قبة الإسلام فإذا هو بين ليلة وضحاها مضرب المثل في الخراب، وإذا بالمئات الثلاث من ألوف أهلها الغافلين طعام سائغ للموت يتقاسمهم دجلة والحرائق الكاسحة فلا نرى لهم أثرا إلا من خلال رثاء ابن الرومي في مثل قوله:

    لهف نفسي عليك أيتها البصر ة لهفا يطول فيه هيامي
    لهف نفسي عليك يا قبة الأس لام لهفا يزيد منه ضرامي


    ثم تتتابع حبات العقد حتى يتوقف قليلا عند اجتياح هولاكو بغداد فتزول بذلك جنة الدنيا.
    وحتى حفيدة رسول اللّه لم تسلّم من أذاه:


    وأقف هنا قليلا لألقي نظرة عجلى على ما سطرتُ من الإضافات فإذا هي تتجاوز المتوقع، مع أنها لم تكد تعدو حدود الكلام عن بيئة الرشيد..


    أفأرفع القلم أم أواصل إعماله في الكشف عن بعض المخزيات التي تفوق كل ما كشفناه حتى الآن من مؤامرات الأصفهاني على حرمات الإسلام!!.

    وأي حرمة أحق بالاهتمام من كرامة البيت النبوي الذي يحتل مكان القداسة من قلوب المسلمين جميعا!!.

    فكيف كان موقف ذلك الشعوبي من ذلك البيت المطهر وهو يزعم أنه من أشياعه ومن أجل ذلك لا يشير إلى أحد من أهله إلا بصيغة التكريم والتسليم؟!.


    وسنجتزئ من أحاديث الأصفهاني عن أهل البيت بنتف يسيرة تتصل بالسيدة الفاضلة سكينة بنت الإمام الحسين وابنةِ فاطمة البتول حفيدة رسول اللّه وأثيرته..


    وقبل التعرض لمفتريات ذلك الشعوبي على هذه الطاهرة يحسن أن نذكِّر القارئ بالجو الذي صارت إليه بعد مقتل أبيها ونكبة أسرتها في كر بلاء، وفي كل من هذه الزلازل ما يذهل العقول ويدمي القلوب فكيف بقلب سكينة العظيمة!!.


    ومع ذلك لا يستحي ذلك الخَرَّاص أن يطمس على ذلك الجانب المأساوي كله ليريك بدلا عنه جانبا آخر مملوءا باللغو واللهو والعربدة!.


    ويقف الأصفهاني بقرائه هنا على صفحات من حياة المغني عبيد بن سريج 17/42 ويبدؤها بالحديث عن تنسكه إذ كان قد أقلع عن احتراف الغناء ولزم المسجد الحرام ثم المسجد النبوي، كما يفعل في أيامنا أولئك التائبون المتطهرون من سفاهات الماضي..


    يقول الأصفهاني: "إن سكينة قد اغتمّت غما شديدا لتوبة ابن سريج واقلاعه عن الغناء، وتوسطت خادمها أشعب لاستخراجه من عزلته واستقدامه ليُسمعها ولو صوتا واحدا..

    وبذل أشعب العجائب من حيله إلى أن أكره التائب على زيارة سيدته فجاء به، ودخلا عليها..

    وجعلت تعاتبه على جفائه..

    وتحدثا ساعة ثم استأذنها ابن سريج بالانصراف، فأبت عليه ذلك وراحت تطوقه بالموانع التي لا قِبَل له باختراقها":


    تقول السيدة - بزعم الأصفهاني – "برئتُ من جدي إن أنت برحت داري ثلاثا، وبرئت من جدي إن لم تغنِّ إن خرجت من داري شهرا، وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهرا إن لم أضرِبك لكل يوم تقيم فيه عشرا، وبرئت من جدي إن حنثت في يميني أو شفَّعت فيك أحداَ..


    " ولا داعي للتوقف على هذه البراآت، بل هذا اللغو الذي يعزوه إلى حفيدة رسول اللّه دون حياء ليجعل منه مواثيق تُلزم المغني بالنكوص عن توبته وبالعودة إلى ماضيه الشيطاني نزولا على رغبتها.

    بإزاء هذه العزائم الغريبة لم يستطع ابن "سريج فكاكا من الأسر إلا بإرسال صوته ببعض الألحان تحلة للقسم فاندفع يغني:


    أستعين الذي بكفيه نفعي ورجائي على التي قتلتني

    ورقت الطاهرة لهذا المغني فجعلت تذكره بفضائل الصبر، وفي غمار النشوة أخرجت دملجاً من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالا وأقسمت عليه إلا أدخله في يده، ومن ثم بعثت بأشعب إلى عزة الميلاء تدعوها للمشاركة في هذه المناسبة.


    ولما جاء دور هذه القينة غنت بأبيات من شعر عننزة، فأعجب ابن سريج بما سمع وأبدى استحسانه غناءها، وترجمت السيدة مشاعرها بأن ألقت إلى القينة بالدملج الآخر!.


    واستمرت المناسبة ثلاثة أيام أغرقت الدار بما فيها ومن فيها من الجواري والمطربين في جو من البهجة المذهلة.

    ولم يستطع عبيد التملص من مأزقه حتى عاد فغنى بأمر السيدة، واختار لذلك أبياتا تلوِّح بمشكلته، فدعت لكل من عزة وابن سريج بحلة ثم أذني لهما بالانصراف، وهي تقول للمغني:

    قد علمت ما أردت بهذا وقد شفعناك.. وإنما كانت يميني على ثلاثة أيام.. فاذهب في حفظ اللّه وكلاءته..



    الشهادة الفاضحة:


    ويأبى الأصفهاني إلا أن يعاود الحديث عن الطاهرة سكينة بأسوأ مما بدأ، وذلك عندما عرض لأخبار الفاسق الأكبر عمر بن أبي ربيعة فروى من شعره 17/ 159.

    قالت (سُعيدةُ) والدموع ذو ارف منها على الخدين والجلباب
    ليت المغيريَّ الذي لم أجزه في ما أطال تصيدي وطلابي
    كانت ترد لنا المنى أيامُها إذلا نلام على هوى وتصابي
    أسُعيدُ.. ما ماء الفرات وطيبُه مني على ظمأ وحب شراب
    بألذ منك، وان نأيت وقلما يرعى النساء أمانة الغياب


    ويعقب على النص بأنه تُغُنِّي فيه باسم (سكينة) مكان سُعَيدة وإنما غَّيره المغنون،
    ثم يروي عن لسان اسحق الموصلي قوله: غنيتُ الرشيد يوما بقوله: قالت سكينة والدموع ذوارف...


    فوضع القدح من يده وغضب غضبا شديدا ثم قال: لعن اللّه الفاسق ولعنك معه.. ويحك أتغنيني بأحاديث الفاسق ابن أبي ربيعة في بنت عمي وبنت رسول اللّه صلي الّله عليه و سلّم؟!!.


    وفي هذا وذاك ما يؤكد أن اسم (سكينة) كان صريحا في ذلك أو أن كونها هي المقصودة بهذه الأبيات أمرٌ مشهور يدركه السامع ولو أبدل باسمها غيرُه.


    وليس ثمة أي غموض في أن الفاسق إنما يتغزل بالطاهرة وبأسلوب الماجنين، وهي وقاحة لا يحتملها سمع مسلم..


    ورب قائل إن المرجَّح كونُ الأصل هو اسم سعيدة لا سكينة، وإنما اختلط على الرواة لاتفاق وزن الاسمين.. وسواء كان الأصل ذلك أو هذا فسيظل الأمر في نطاق الكبائر، لأن المقصود بسعدي حسب تعريف الأصفهاني نفسه هي بنت الصحابي الجليل عبدا لرحمن بن عوف- 17/157 - أحد العشرة المبشرين بالجنة والسابقين إلى ا لإسلام.


    فكيف إذا علمت أن مضمون هذا الغزل أبعد ما يكون عن الواقع

    وبهذا يصرح المؤلف في الصفحة نفسها حين يروي ذلك الحوار بين الشاعر الفاسق وسُعدى بنت الصحابي الجليل، إذ رأت الشاعر يطوف بالبيت فأرسلت إليه: إذا فرغت فأتِنا فأتاها فقالت وقال:


    - ألا أراك إلا سادرا في حرم اللّه!.
    أما تخاف اللّه!.
    ويحك إلى متى هذا السفَه؟!.


    - أيْ هذه.. دعي عنك هذا.
    أما سمعت ما قلت فيك؟.
    وتلا بعض تلك الأبيات.

    - أخزاك اللّه يا فاسق..
    ما علم اللّه أني قلت مما قلتَ حرفا، ولكنك إنسان بَهوت..


    وإنها لشهادة فاضحة من شأنها أن تهدم كل الأقاصيص الخرقاء التي تبناها صاحب (حديث الأربعاء) عن فضليات ذلك العهد

    ليوهم قارئه أن إقبالهن المزعوم على مخالطة ذلك الفاجر في الخلوات ليس إلا انطلاقا مع الحرية التي منحها الإِسلام للمرأة!

    وما تلك لعمر اللّه إلا حرية السفهاء الذين لا ينظرون إلى الحياة إلا من خلال الشهوات

    ولو نظر إلى أعاضيه ابن أبي ربيعة في مقاييس الإِيمان وعلى ضوء الضوابط الإسلامية لما جاوز في تفسيرها قولَ الحكيم الحليم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}


    وها هو ذا ابن أبي ربيعة يقول ما لم يفعل ويفتري الكذب على المحصنات الغافلات لِيُسهِم في إشاعة الفجور مع أعداء الإنسان والإِسلام، ثم يستيقظ ضميره النائم ذات يوم فيستغفر اللّه ويَشهد على نفسه بأنه لم يفعل شيئا من كل ما نسجه من هاتيك المحاورات المفتريات!!.

    ومن غير المعقول أن يمر أديب كبير مثل صاحب (حديث الأربعاء) بتلك الموبقات دون أن يلاحظ عليها طابع الافتعال، الذي يصور أوضاع فارغين حيل بينهم وبن السلوك الرفيع، وتدفقت عليهم هبات الحكم الذي قصد إلى شل فاعليتهم البناءة، فلم يجدوا سبيلا لإثبات ذواتهم سوى ميادين الغواية، فراحوا يتسابقون لا صناعة ذلك الشعر الذي يترجمون به أحلامهم الكمينة في صور محسوسة يُخيَّل لقارئها أنها منتزعة من صميم الواقع!..


    ولكن صاحب (حديث الأربعاء) ما كان ليهمه من تلك المرويات سوى الامتاع والاستمتاع، كما فعل في كتابه الآخر (على هامش السيرة) فأحسن العرض الفني بمقدار ما أساء إلى الحقيقة الواقعية

    وهو المنهج نفسه الذي سلكه في كتابه عن الأدب الجاهلي الذي جرَّأ به الغُواة على التشكيك في بعض حقائق الوحي تحقيقا لرغبة أساتيذه من المنصِّرين والمستشرقين..

    وما مثله ومثل سلفه صاحب (الأغاني) في ذلك إلا كمثل أولئك الذين يقول الشاعر القديم فيهم:

    أن يسمعوا ريبة طار ا بها فرحا عنى وما علموا من صالح دفنوا


    وأخيرا.. إن مثل هؤلاء لا يسعد قلب المؤمن بصحبتهم فكيف إذا امتدِّز منها إلى المدى الذي اضطررنا إليه في هذا العرض

    فلْنُنْهِ هذه الرحلةَ بالخاتمة التي اختارها صاحب الأغاني لأثيره كبير المفسدين إبراهيم بن ماهان الملقب بالموصلي.

    ويأبى الأصفهاني إلا أن يطبع هذه الخاتمة بسواة جديدة يلصقها بذكر الرشيد، إذْ جاءه الخبر بموت هذا الخليط العجيب - في يوم واحد - إبراهيم الموصلي والكسائي النحوي، والشاعر النظيف ابن الأحنف، وهُشَيمةَ الخمارة - بل القوادة على رأى اسحق في رثائه إياها - فما كان من الرشيد إلا أن ندب ابنَه المأمون للصلاة عليهم صفا - 5/165


    وبذلك استوى هؤلاء الأربعة باستحقاق التكريم في دولة الخليفة العظيم- على رأي ذلك المفتري الأثيم-!.

    بيد أن ابن سبابة أو أبا الأسد، وهما من غواة إبراهيم، كان أعلم به وبمكانته الحقيقية إذ يقول أحدهما في رثائه:

    ستبكيه المزاهروالملاهي وتُسعدُهنَّ عاتقةُ الدِنان
    وتبكيه الغَوِّيةُ إذ تولّى ولا تبكيه تاليةُ القُران
    (5/ 256)


    وحقا إن موت نظراء الموصلي وهشيمة لأحق بدموع الخلعاء السفهاء من أدوات الشيطان، ولن يجعل اللّه لأشباههم حظاً في عيون حَمَلَةِ القرآن..

    والحمد للّه..

    ولا حول ولا قوة إلا باللّه...

    والنقل
    لطفــــــاً .. من هنـــــــــــــا

      الوقت/التاريخ الآن هو 14.11.24 8:34