أثر السياق ـ القرائن ـ في توجيه دلالات الالفاظ : الامر والنهي انموذجا
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
أثر السياق ـ القرائن ـ في توجيه دلالات الألفاظ :
الأمر والنهي أنموذجا
إعداد:
الدكتورة ريحانة اليندوزي
1 - مقدمة:
لقد عني علماء الشريعة باللفظ العربي من حيث معانيه ودلالاته عناية بالغة، لكونه العمدة في عملهم ومناط الحكم الشرعي ودليله، فتتبعوه مفردا ومركبا، حقيقة ومجازا، مطلقا ومقيدا، خاصا وعاما، محكما ومتشابها، أمرا ونهيا، وفصلوا القول في مراتب دلالته على المعنى من حيث الوضوح والخفاء، وذلك وصولا إلى وضع القواعد التي تعين على فهم النص الشرعي فهما صحيحا، وتضبط سبل استنباط الأحكام منه.
وكان الأصوليون أبرز من أفاض القول في قضايا اللفظ والمعنى، وجعلوا الأخير مقدما في الاعتبار على اللفظ، فالألفاظ كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين " لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم"[1]،"فإرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ، فإنه المقصود واللفظ وسيلة، هذا قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام"[2] وقال في كتابه الصواعق :"..مما جرت به العادة في كل من خاطب قوما بخطبة أو دارسهم علما أو بلغهم رسالة، فإن حرصه وحرصهم على معرفة مراده أعظم من حرصهم على مجرد حفظ ألفاظه، ولهذا يضبط الناس من معاني المتكلم أكثر مما يضبطونه من لفظه، فان المقتضي لضبط المعنى أقوى من المقتضي لحفظ اللفظ، لأنه هو المقصود، واللفظ وسيلة إليه، وإن كانا مقصودين فالمعنى أعظم المقصودين والقدرة عليه أقوى، فاجتمع عليه قوة الداعي، وقوة القدرة، وشدة الحاجة"[3] وللشاطبي كلام قريب من هذا في كتابه الموافقات[4].
ولما كان المعنى هو الغاية والهدف، واللفظ لا يعدو أن يكون خادما له، كانت العناية به أعظم، قال ابن جني:" إن العرب كما تعنى بألفاظها فتصلحها وتهذبها وتراعيها ..فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأفخم قدرا في نفوسها"[5] فكان من عرفهم الاعتناء بفهم المعاني المبثوثة في الخطاب باعتباره المقصود الأعظم من الكلام، وأن الكلام إنما يصحح ويعتنى به ليدل على المعنى وليفهم عنه القصد، وربما كانت عنايتهم بالمعنى التركيبي أكثر من عنايتهم بالمعنى الإفرادي ؛ إذ دلالة السياق والتركيب وما فيها من كنايات ومجازات وغير ذلك تؤدي من المعاني ما قد يختلف لو نظر للمعنى الإفرادي فقط.
من أجل ذلك اتجه علماء الأصول إلى تقعيد القواعد التي يصح بها اعتبار معاني الألفاظ ودلالاتها، ومن الضوابط التي أكدوا على اعتبارها في فهم النص الشرعي وتقرير المعاني: مراعاة السياق.
2 ـ تعريف السياق:
ورد تعريف السياق عند العلماء بإزاء معنيين: معنى محدود ومعنى واسع .
فالسياق بالمعنى المحدود: هو سابق الكلام الذي يراد تفسيره ولاحقه، فالأول يسمى قرينة السباق والثاني قرينة اللحاق والكل هو دليل أو دلالة السياق[6] ، وقد يسمى عند بعض العلماء بسياق النظم[7].
وقد نص الشاطبي على أن مراعاة دليل السياق من أسس التفسير السليم للنصوص الشرعية حيث قال :"فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه، فلا يتوصل به إلى مراده، ولا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض"[8].
ومثال اعتبار السياق بهذا المعنى في قوله تعالى :" فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر"[9] فالمراد الزجـر والتوبيخ، وليس حقيقة الأمر والتخيير[10]، يدل عليـه بقية كلامه جل و علا:"إنا أعتدنا للظالمين نارا"[11].
وسئل طاووس بن كيسان{ت 106} عن المراد بالنفس في قوله تعالى: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد"[12]، فقال:إنما يراد بهذا الكافر، اقرأ ما بعدها يدلك على ذلك[13].
فهذا السياق بالمعنى المحدود، هو السياق الداخلي الذي يعنى بالنظم اللفظي للكلمة، وموقعها من ذلك النظم، آخذا بعين الاعتبار ما قبلها وما بعدها في الجملة، وقد تتسع دائرته إذا دعت الحاجة، فيشمل الجمل السابقة واللاحقة، بل والنص كله والكتاب كله.
ويمثل للتوسع في الاستدلال بالسياق الداخلي من أجل تحديد معنى اللفظ، صنيع الشاطبي في تفسيره لمعنى الظلم الوارد في قوله تعالى"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون"[14]، فقد شق ذلك على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ ـ حيث فهموا من لفظ الظلم المعاصي ـ فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن المراد بالظلم في الآية الشرك، فتلا قوله تعالى "إن الشرك لظلم عظيم"[
FONT='Times New Roman','serif'][15]، قال الشاطبي:"فأما قوله تعالى "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"..الآية، فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص، فإن السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد، وهادمة لقواعد الشرك وما يليه، والذي تقدم قبل الآية قصة إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس، وكان قد تقدم قبل ذلك قوله" ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته" [16] فبين أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخلتين، وظهر أنهما المعنى بهما في سورة الأنعام"[17] . [/font]
وتتجلى أهمية السياق الداخلي في الفصل بين دلالتين مختلفتين لكلمة واحدة واستبعاد معنى دون آخر، إذ إن للفظ دلالته المعجمية خارج السياق، وعند توظيفه داخل نظم من الكلام يكون له دلالة أخرى، فكلمة "السائل" في عبارة " الدواء السائل أسلم للأطفال " هي غيرها في قوله تعالى" والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم"[18] والذي يضبط هذه الدلالات للكلمة الواحدة السياق الذي وردت فيه .
فدلالة اللفظ في كل موضع هي بحسب سياقه، بل إنه يتفاوت في دلالته وأدائه الجمالي تبعا لتغاير السياقات التي استخدم فيها، فالكلمة الواحدة كما قال القاضي عبد الجبار " إذا استعملت في معنى تكون أفصح منها إذا استعملت في غيره"[19].
ولقد كان لعلماء تفسير القرآن الكريم فضل السبق في الكشف عن أثر السياق وأهميته في تحديد معاني الآيات، خاصة عند الافتقار إلى قرائن أخرى معتبرة في فهم المراد من حديث صحيح أو إجماعا صريح، أو غير ذلك من قرائن السياق الخارجي للنص الشرعي، وكتب التفسير خير مجال استحضر فيه السياق دليلا على تحديد معاني كلمات القرآن وآياته، بل كان له دور حاسم في الفصل بين الكثير من الأقوال المحتملة في التفسير، من ذلك على سبيل التمثيل : إنه قد تأتي في بعض الآيات ضمائر متعددة في سياق واحد، وتحتمل في مرجعها أقوالا متباينة كما في قوله تعالى:" وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين" [20]، فعود الضميرين في الكلمتين "فأنساه" و "ربه" مما اختلف فيه:
فمن المفسرين[21] من قال: إنهما يعودان إلى يوسف عليه السلام، ويصبح المعنى: أنسى الشيطان يوسف ذكر الله تعالى ، فلبث في السجن بضع سنين عقابا له على سؤاله غير الله سبحانه.
وقال آخرون[22]: بل يعودان إلى ساقي الملك، ويكون المعنى: أنسى الشيطان الساقي أن يذكر قصة يوسف للملك، ولهذا لبث يوسف في السجن بضع سنين.
إن سياق الآية يشهد للمعنى الثاني، فالاتفاق قائم على أن الضمير في قوله"عند ربك" يرجع إلى الساقي ، فكان المناسب بدلالة السياق أن يكون ما بعده "فأنساه الشيطان ذكر ربه" عائدا على الساقي، حتى لا تتفرق الضمائر،إذ الأصل عند المحققين عدم تشتيت مرجع الضمائر، و إلا أدى ذلك كما قال الزمخشري إلى تنافر النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي[23].