الشيخ/ عبد الكريم الخضير
أما بعد:
فلا يخفى على أحد أهمية العلم الشرعي، وأن مداره على الكتاب والسنة.
وأما السنة: وهي المصدر الثاني من مصادر التشريع لهذه الأمة، ولم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد بقوله، ويعول على كلامه من أهل العلم، خالف في ذلك بعض طوائف البدع الذين لا يرون الاحتجاج بالسنة، وإنما يكتفون بالقرآن، والمراد بالسنة: ما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، جميع ما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام-، المسلم ملزم بإتباعه، والعمل به، وليست له مندوحة في أن يختار غير هدي النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكل عمل شرعي يشترط لقبوله بعد الإخلاص لله -جل وعلا- متابعة النبي -عليه الصلاة والسلام-، ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، فإذا كان الأمر كذلك فلا بد من العناية بالسنة النبوية، لكن العناية بما ثبت منها عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكيف نعرف الثابت من غيره؟ لا بد أن نعرف القواعد والضوابط التي استنبطها أهل العلم ليتوصل بها إلى معرفة المقبول من المردود، وذلك في علم مصطلح الحديث.
فهو علمٌ بأصول وقواعد يعرف بها الصحيح من الضعيف، المقبول من المردود، مما ينسب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولسنا بصدد الكلام والإفاضة فيما ألف في هذا العلم، فالتأليف فيه قديم، يوجد أو توجد قواعد أهل العلم في كتب المتقدمين، وإن لم تدون في مصنف مستقل، توجد في سؤالات الأمة، بل وجد أصل بعض فنون هذا العلم من عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالجرح والتعديل، والكلام في الرجال حصل من النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((بئس أخو العشيرة))، وهذا أصل في الجرح، لكن على ما سيأتي في بابه، لا ينبغي أن يكون هذا الأصل مدخلاً لبعض من يتفكه بأعراض الناس، بل على الإنسان أن يحتاط لنفسه، وأن يحافظ على ما اكتسبه من حسنات، ولا يأتي يوم القيامة مفلساً، كما جاء في الحديث الصحيح، فالجرح والتعديل واجب، لكن بقدر الحاجة، فإن احتيج إلى ذلك تعين، حفظاً للدين، وصيانة للشريعة المكرمة أوجب أهل العلم الكلام في الرواة، وليعلم طالب أن أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، كما يقول ابن دقيق العيد، وجاء في النصوص القطعية ما يقتضي تحريم الكذب في أعراض الناس، مع الأسف الشديد أن يوجد بعض من يتكلم حتى في أعراض خيار الأمة، من المتقدمين والمتأخرين، لم يسلم منه أحد، فهذا المسكين لا يدري أنه قد يتعب على تحصيل الحسنات، ثم يفرقها، شعر أولم يشعر، كما جاء في الحديث الصحيح: ((أتدرون من المفلس؟)) قلنا: المفلس من لا درهم له ولا متاع، قال: ((المفلس من يأتي بأعمال)) وفي بعض الروايات: ((كأمثال الجبال، يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، ثم يأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيآتهم فألقيت عليه، فطرح في النار)) يأتي يفني عمره، ويقضي وقته في طلب العلم، ثم بعد ذلك يأتي مفلساً يوم القيامة، هذه هي الخسارة، هذا الذي خسر نفسه يوم القيامة، وهذه هي الخسارة الحقيقية، وهذا هو الفلس الحقيقي، وإن كان الفلس أيضاً يطلق في أمور الدنيا: على من لا درهم له ولا متاع، وحقيقته أيضاً شرعية في باب الحجر والتفليس المفلس: من لا درهم له ولا متاع، أو عنده درهم ومتاع، لكن لا يفي بديونه، هذه حقيقة شرعية، لكن الحقيقة التي ينبغي أن نتنبه لها ما أشار إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ((أتدرون من المفلس؟)) وكلها حقائق شرعية، لكن تلك أهم، كما أن الغبن في أمور الدنيا أن يشتري الإنسان سلعة يُزاد في ثمنها عليه، أو يبع سلعة يُنقص من ثمنها بالنسبة لما تستحقه، هذا غبن عند أهل العلم، لا سيما إذا كان كثيراً، لكن الغبن الذي ينبغي أن يتفطن له طالب العلم ما جاء في سورة التغابن: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [(9) سورة التغابن]، وتعريف الجزأين معروف أنه يدل على الحصر عند أهل العلم، ذلك يوم التغابن الحقيقي، أما الدنيا كلها لا شيء بالنسبة لغبن الآخرة، فلنتنبه لهذا.
وجدت قواعد هذا العلم منثورة في كتب الأئمة، ففي كتب الشافعي، وفي سؤالات الإمام أحمد، وفي جامع الترمذي، وفيما يسأل عنه الإمام البخاري، وفي تواريخه، وفي صحيحه قواعد منثورة لهذا العلم، وفي أيضاً العلل الكبير، وعلل الجامع للإمام الترمذي قواعد كثيرة من قواعد هذا العلم، لكن من أول من صنف في هذا العلم على سبيل الاستقلال: القاضي الرامهرمزي في كتابه (المحدث الفاصل)، المحدث الفاصل هذا من أول ما صُنف، توفي مؤلفه سنة ستين وثلاثمائة، يعني على سبيل الاستقلال، ثم جاء بعده الحاكم أبو عبد الله فألف (المعرفة)، ثم جاء بعده أبو نعيم فألف على المعرفة مستخرجاً، ثم القاضي عياض، ثم ابن الصلاح الذي جمع شتات هذا العلم في كتابه (علوم الحديث)، وعكف الناس على هذا الكتاب، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومنتصر، دار الناس في فلكه، فاختصروه، ونظموه، وشرحوه، فاكتفوا به عما تقدم؛ لأنه جمع شتات هذا العلم، ثم بعد ذلك تتابع التأليف، فألف الحافظ ابن حجر نخبته الشهيرة، وسبق أن شرحناها هنا، وهذه النخبة أيضاً حصل لها من القبول ما حصل، وما زالت تقرأ وتُدْرَس وتُدَرّس، وتشرح وتنظم، وتختصر على اختصارها إلى يومنا هذا.
قد يقول طالب العلم: كتب علوم الحديث كثيرة جداً، لا يمكن الاحاطة بها، والأمر كذلك صحيح، لكن ما الذي ينبغي أن يعتني به، ويدرسه من كتب المصطلح، هذا الكتاب الذي معنا كتاب مختصر جداً، وهي منظومة سهلة، لكن نصيحة لطلاب العلم الذي لا تسعفه الحافظة يحفظ هذه المنظومة، أربعة وثلاثين بيت سهل، لكن الذي تسعفه الحافظة، حافظته متوسطة مثلاً يحفظ نظم النخبة، في مائتي بيت وبيت، أو ستة أبيات على خلاف بين النسخ، أو منظومة الشيخ حافظ الحكمي: (اللؤلؤ المكنون) وقد أنهينا شرحها قبل ثلاثة أيام أو أربعة، وهي منظومة رائعة، ثلاثمائة وأربعين بيت، فإن كانت الحافظة أقوى فليقصر حفظه على ألفيت العراقي، على كل حال يبدأ طالب العلم بالكتب الصغيرة، المتون الميسرة في مثل هذا الكتاب، ثم النخبة، ثم اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير، ثم يتوفر جهده كله على ألفيت العراقي -رحمه الله تعالى- وشروحه، بعد ذلك يكون هذا العلم على ما قرره المتأخرون، وأما قواعد المتقدمين التي ينادي بها بعض الغيورين ممن عرف بالحرص والحرقة على السنة النبوية، وهي دعوة -إن شاء الله- إنها نابعة من قلب طيب، ومن إخلاص صادق، لكن مثل هذا الكلام لا يوجه إلى المبتدئين؛ لأنه إذا وجه مثل هذا الكلام للمبتدئين صار تضييعاً لهم؛ لأن المبتدئ لا يستطيع أن يتعامل مع أحكام المتقدمين، حتى يتأهل لذلك، كما يطالب الطالب المبتدئ بالاجتهاد في الأحكام الشرع، مثل هذا يضيعه، فعلى طالب العلم أن يتربى على قواعد المتأخرين، ثم بعد أن يتأهل لذلك، ويكثر النظر في أحكام الأئمة، ويخرج الأحاديث، ويدرس أسانيدها، ويكثر من ذلك، إذا صارت لديه الأهلية لمحاكات المتقدمين في أحكامهم هذا فرضه؛ لأن المتأخرين عالة على المتقدمين، ولا يضن بمن ينادي بنبذ قواعد المتأخرين، والاهتمام بكلام الأئمة، لا يضن بهم سوء لا أبداً، إنما باعثهم على ذلك الحرص على هذا العلم، ولا شك أن المتأخرين عالة على المتقدمين، لكن يبقى أنه كيف يتربى طالب العلم على كلام الأئمة المتقدمين؟ ومن يقلد من الأئمة المتقدمين؟ إذا عرف القواعد، وضبط وأتقن، وأكثر من دراسة تخريج الأحاديث، ودراسة الأسانيد، وتأهل للنظر في القرائن التي يرجح بها؛ لأن أحكام المتقدمين مبنية على القرائن، والقرائن ما كل يدركها، قد يفنى عمر الإنسان ما استطاع أن يحكم بالقرائن؛ لأن هذا العلم كما يقولون: إلهام، لكن إلهام مبني على صدق وإخلاص وحرص وجد واجتهاد، فالأئمة المتقدمون الذين يحفظون مئات الألوف من الأحاديث، أصبح لديهم ملكة، بالشم يعرفون الصحيح من الضعيف، لكن شخص لا يحفظ الأربعين كيف يحكم بالقرائن هذا؟ أو يخفى عليه حديث في بدهيات المتون المحفوظة عند صغار طلاب العلم هذا يحاكي المتقدمين؟ لا يمكن، فالدعوة التي تقال، وتطرق بين حين وأخر دعوة جيدة وصحيحة، ومقصد......، لكن لا يخاطب بها أحاد المتعلمين، إذا عرفنا أن من يقال: إنه مجدد لهذا العلم في هذا العصر قلنا: مثلاً إنه بالنسبة للرواية الشيخ الألباني -رحمه الله-، وبالنسبة للدراية والاستنباط الشيخ ابن باز، ولا نظير لهما فيما نعلم، يعني في العصر المتأخر، واهتمامهم بالسنة، ما قالوا بمحاكاة المتقدمين، ولا حاكوهم هم أيضاً، إنما حكموا من خلال القواعد المعروفة الآن، لكن إذا تعارض حكمهم مع أحكام الأئمة أعادوا النظر في أحكامها، وبهذا يتأهل الإنسان، والإنسان عليه أن يعرف قدر نفسه، فالإنسان إذا سلك الجادة وصل -بإذن الله تعالى-، لكن إذا كان يطوح يوماً في أقصى اليمين، ويوم في أقصى الشمال، ويجرب هذا القول ويجرب..، هذا يضيع، ويضيع عمره ما حصل شيء، هذا التصنيف لأهل العلم على الطرق المعروفة، وتقسيم الطلاب إلى مبتدئين ومتوسطين ومنتهيين وكذا، ويؤلفون على قدر عقول هؤلاء وعقول هؤلاء وعقول..، يعني هذا ما هو بعبث، هذا جرب من مئات السنين، ووجد من أنفع الأمور، إلى طبقة شيوخنا الآن المبرزين في العلم والعمل ولله الحمد وهم على هذه الجادة، وهم على هذه الجادة، وهي جادة مثمرة، وأنتجت فحول، قد يقول قائل: إن هذه الطرق، وهذه التقسيمات لا توجد عند سلف الأمة, سلف الأمة عندهم من الأذهان الصافية غير المشوشة، نعم وسلامة الفطرة، ومعرفة اللغة، ومعاصرة النصوص على وجهها ما يؤهلهم للاستنباط مباشرة، لكن شخص لا يعرف العام من الخاص، ولا المطلق من المقيد، ولا الناسخ من المنسوخ، كيف يتعامل مع النصوص مثل هذا؟ لا يستطيع أن يتعامل حتى إذا تأهل؛ لأن العلم ينمو في ذهن الإنسان مثل ما ينمو جسمه، مثل نمو النبات، ما تقول: والله هذا -ما شاء الله- شاب كامل القريحة، تجاوز بهذه المراحل، أعطوه كتب المتقدمين، ما يمكن، ولو كان كامل القريحة، ولو كان من أذكى الناس وأنبلهم، لا بد أن يتدرج؛ لأن العلم سلم يصعد إليه، حتى تصل إلى السقف، وليس معنى هذا السقف الاحاطة بالعلوم كلها، لن يحلم أحد بهذا؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [(85) سورة الإسراء] الأئمة الكبار الذين وصفوا بأنهم بحور العلم لن يخرجوا عن قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [(85) سورة الإسراء] قصة موسى والخضر أكبر شاهد على هذا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أخذ حديث الجساسة من تميم الداري، واكتسب الشرعية هذا الحديث من إقرار النبي -عليه الصلاة والسلام-، لا يقال كما يقول بعضهم: إن العلم الشرعي مزيج من حضارات وثقافات وما أدري إيش؟ هذا الكلام تضليل هذا، يستدلون بمثل هذه القضايا، حديث الجساسة لو لم يكتسب الإقرار من النبي -عليه الصلاة والسلام- ما التفتنا إليه قلنا: خرافة، لكن لما أقره النبي -عليه الصلاة والسلام- قلنا: على العين والرأس، اكتسب القطعية.
عدل سابقا من قبل الشيخ إبراهيم حسونة في 14.10.08 7:30 عدل 1 مرات