التوكل على الله .. حقيقته وفضله ، وهل ينافي العمل ؟
منيرة بنت حمود البدراني
منيرة بنت حمود البدراني
إن خير ما تعبَّد العبد به ربه التوحيد، ولا شك أن أول مطلوب من العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله؛ لقوله تعالى: ]فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[ ([1]).
"فلا إله إلا الله" تجمع أصولاً عظيمة، ومقامات عالية، وعبادات لا تصرف إلا له سبحانه سواء كانت من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح.
ومن أعمال القلوب التي لا يجوز صرفها لغير الله (التوكل) وهو مصاحب للعبد الصادق من أول قدم يضعها في الطريق إلى ربه إلى نهايتها فكلما ازداد قربه من ربه وقوي سيره ازداد توكله ولا بد.
فالتوكل هو موضوع هذا البحث، وقد اخترته بمحض إرادتي، وإلحاح حاجتي، فهو عبادة عظيمة تسيطر على العبد الصادق في جميع أعماله حتى ولو كانت من أمور الدنيا.
ولأني رأيت بعض الناس قد ساءت أحوالهم وتخبطت أفهامهم، فمنهم من ركن إلى الأسباب وادعى التوكل، ومنهم من جانبها وادعى التوكل وقليل من دق فهمه، وسلم حاله، واقتفى أثر النبيين والصديقين في هذه العبادة العظيمة.
ولا شك أني في ذلك عالة على غيري من السابقين، وفضل السلف على الخلف معروف، وما بين أيدينا من أسفارهم العظيمة خير شاهد جعلنا الله خير خلف لخير سلف. آمين.
وقد حاولت الاستقصاء والإجادة ما استطعت، وعلى ذلك فالقصور يبدو جلياً، وهذه جبلة بني آدم، إلى النقص أقرب منهم إلى التمام.
وإني بعون الله وتوفيقه قسمت بحثي إلى المواضيع التالية:
o حقيقة التوكل وأصوله وأقسامه
§ معنى التوكل
§ أصول التوكل
§ أقسام التوكل
o علل التوكل ودرجاته وفضله
§ علل التوكل
§ درجات التوكل
§ فضل التوكل
o العلاقة بين التوكل والأخذ بالأسباب عامة
§ التوكل والعمل بالأسباب عامة
§ حكم التداوي وعلاقته بالتوكل
o وقفة عند حديث: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب"
o الكي والاكتواء
o الرقية والاسترقاء
o الطيرة، وعلاجها
أولاً: التوكل لغة:
يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان: أي ألجأته واعتمدت عليه فيه.
ووكل فلان فلاناً إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته، أو عجز عن القيام بأمر نفسه([2]) وأصله الوكول ([3]).
ويقال: فلان وكلة تُكلَة، أي عاجز يكل أمره إلى غيره ويتكل عليه وواكلت الدابة إذا أساءت السير.
والوكيل في لغة العرب: هو المسند إليه القيام بأمر من أسند إليه القيام بأمره([4]).
وفرس واكل يتكل على صاحبه في العدو ويحتاج إلى الضرب ([5]).
قال الأزهري: الوكيل في صفة الله جل وعز: الذي توكل بالقيام بجميع ما خلق([6]).
ثانياً: حقيقة التوكل:
القيام بالأسباب والاعتماد بالقلب على المسبب واعتقاد أنها بيده إن شاء منعها([7]) اقتضاءها، وإن شاء جعلها مقتضية لضد أحكامها ([8])، وإن شاء أقام لها موانع وصوارف تعارض اقتضاءها وتدفعه ([9]).
ذكر ابن القيم - رحمه الله -: أن التوكل يجمع أصلين علم القلب وعمله فقال: "التوكل يجمع أصلين:
علم القلب وعمله:
أما علمه:
فيقينه بكفاية وكيله، وكمال قيامه بما وكله إيه، وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك.
وأما عمله:
فسكونه إلى وكيله وطمأنينته إيه، وتفويضه وتسليمه أمره إليه، ورضاه بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه.
فبهذين الأصلين يتحقق التوكل، وهما جماعه، وإن كان التوكل دخل في عمل القلب من علمه، كما قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب ولكن لابد فيه من العلم، وهو إما شرط فيه، وإما جزء من ماهيته.
والمقصود: أن القلب متى كان على الحق كان أعظم لطمأنينته ووثوقه بأن الله وليه وناصره وسكونه إليه" ([10]).
"التوكل على الله نوعان:
أحدهما:
توكل عليه في تحصيل حظ العبد من الرزق والعافية وغيرهما.
الثاني:
توكل عليه في تحصيل مرضاته.
فأما النوع الأول فغايته المطلوبة وإن لم تكن عبادة لأنها محض حظ العبد، فالتوكل على الله في حصوله عبادة، فهو منشأ لمصلحة دينه ودنياه.
وأما النوع الثاني: فغايته عبادة، وهو في نفسه عبادة، فلا علة فيه بوجه، فإنه استعانة بالله على ما يرضيه، فصاحبه متحقق بإياك نعبد وإياك نستعين" ([11]).
هذه أقسام التوكل على الله
أما التوكل على غير الله فهو قسمان أيضاً:
"أحدهما:
التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ، والرزق، والشفاعة، فهذا شرك أكبر.
الثاني:
التوكل في الأسباب الظاهرة العادية، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى، ونحو ذلك، فهذا نوع شرك خفي.
والوكالة الجائزة هي: توكل الإنسان في فعل مقدور عليه، ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكَّله، بل يتوكل على الله ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه" ([12]).
ثم إن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يُخذل من تلك الجهة، فما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل، قال الله تعالى: ]وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً[ ([13]).
"للتوكل ثلاث علل:
أحدها: أن يترك ما أمر به من الأسباب استغناءً بالتوكل عنها، فهذا توكل عجز وتفريط وإضاعة لا توكل عبودية وتوحيد، كمن يترك الأعمال التي هي سبب النجاة ويتوكل في حصولها.
قال بعض السلف: "لا تكن ممن يجعل توكله عجزاً ([14])، وعجزه توكلاً ([15]).
العلة الثانية: أن يتوكل في حظوظه وشهواته دون حقوق ربه، كمن يتوكل في حصول مال أو زوجة أو رياسة.
أما التوكل في نصرة دين الله وإعلاء كلمته وإظهار سنة رسوله، وجهاد أعدائه فليس فيه علة بل هو مزيلٌ للعلل.
العلة الثالثة: أن يرى توكله منّة ويغيب بذلك عن مطالعة المنة، وشهود الفضل وإقامة الله له في مقام التوكل.
وليس مجرد رؤية التوكل علة كما يظنه كثير من الناس، بل رؤية التوكل وأنه من عين الجود ومحض المنة ومجرد التوفيق عبودية وهي أكمل من كونه يغيب عنه ولا يراه.
فالأكمل أن لا يغيب بفضل ربه عنه، ولا به عن شهود فضله" ([16]).
ذكر ابن القيم - رحمه الله – للتوكل ثماني درجات:
"الدرجة الأولى:
معرفة الرب وصفاته ([17])، من قدرته وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته.
وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.
قال شيخنا ([18]) - رحمه الله -: ولذلك لا يصح التوكل ولا يُتصور من فيلسوف ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم أيضاً من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات.
فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم: سفلية وعلوية، ولا هو فاعل باختياره، ولا له إرادة ومشيئة ولا يقوم به صفة؟! فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى. والله سبحانه وتعالى أعلم" ([19]).
"الدرجة الثانية:
إثبات في الأسباب والمسببات، فإن من نفاها فتوكله مدخول، وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي أن إثبات الأسباب يقدح في التوكل، وأن نفيها تمام التوكل.
فليُعلم:
أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل البتة؛ لأن التوكل أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به.
فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سبباً ولا جعل دعاءه سبباً لنيل شيء، فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله، إن كان قد قُدّر حصل، توكل أو لم يتوكل، دعا أو لم يدع، وإن لم يقدر لم يحصل توكل أيضاً أو ترك التوكل.
فالله سبحانه قضى بحصول الشيء عند حصول سببه من التوكل والدعاء، فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب، وقضى الله بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يأت السبب امتنع المسبب، وهذا كما قضى بحصول الشبع إذا أكل والري إذا شرب، فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يرو.
وقضى بحصول الحج والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطرق، فإذا جلس في بيته لم يصل إلى مكة.
وقضى بدخول الجنة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصالحة، فإذا ترك الإسلام ولم يعمل الصالحات لم يدخلها أبداً.
فوِزان ما قاله منكرو الأسباب: أن يترك كل من هؤلاء السبب الموصل ويقول: إن كان قضي لي وسبق في الأزل حصول الولد والشبع والري والحج ونحوها، فلابد أن يصل إليّ، تحركت أو سكنت، تزوجت أو تركت، سافرت أو قعدت، وإن لم يكن قد قضي لي لم يحصل لي أيضاً فعلت أو تركت.
فهل يعد أحد هذا من جملة العقلاء؟ وهل البهائم إلا أفقه منه؟ فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة ([20]). هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها حتى تحصل رزقها([21]).