إتحاف الخلان والجماعة بفوائد شرح عقيدة أهل السنة والجماعة . العلامة ابن عثيمين.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل المرسلين
أما بعد :
فهذه فوائد جليلة ، اقتنصتها من " شرح عقيدة أهل السنة والجماعة " للعلامة محمد بن صالح بن عثيمين ، جعل الله تعالى شآبيب الرحمة والرضوان عليه ، وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداءوالصالحين ، وحسن أولئك رفيقا
انتخبتها من هذا الشرح العظيم ، خلال تدريسها و توضيحها لبعض الإخوة ، بعد صلاة الفجر من كل يوم ، فأردت أن أتحف بها إخواني ، راجيا الله تعالى أن يكتب لي بها الأجر ، وأن يدخرها لي سبحانه وتعالى ، في يوم لا ينفع فيه مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
وقد كتبتها على هيأة فوائد متسلسلة ، أعنون لكل فائدة بما يدل عليها ، ويلخصها .
وإلى المقصود والله المستعان :
الفائدة 1 :
إذا دل الكتاب والسنة على شيء ، ولم يأت عن الصحابة ما يخالفه ، فيعني ذلك أنهم مجمعون عليه .
قال - رحمه الله تعالى - :
[ الدليل على علو الله تعالى بذاته بالإجماع :
أن الصحابة – رضي الله عنهم – والتابعين كلهم مقرون بأن الله تعالى فوق كل شيء بذاته ، والدليل على إجماعهم من وجه خفي
، وينبغي لطالب العلم أن يعلمه لما فيه من الفائدة
يقال مثلا : نصوص الكتاب والسنة دالة على العلو بالذات ، ولم يرد عن الصحابة الكرام قول واحد فسر هذه الأدلة بخلاف ظاهرها ، إذاً هم مجمعون على مدلولها ، ولهذا إذا دل الكتاب والسنة على شيء ، ولم يأت عن الصحابة ما يخالفه ، فيعني ذلك أنهم مجمعون عليه .
وهذا المسلك لإثبات الإجماع قد يخفى على كثير من الناس .].
الفائدة 2 :
مناظرة الشيخ لطائفة من الحلولية :
قال – رحمه الله تعالى - :
[ اجتمعت في أناس من الذين يقولون – والعياذ بالله - : إن الله بذاته في كل مكان ، وكان ذلك يوم النحر بمنى ، فقلت لهم : أمس كنتم في عرفة ؟ قالوا : نعم .
فقلت : كيف كنتم تدعون الله ؟ تقولون : يا رب وأيديكم إلى الأرض ، أم إلى اليمين ، أم إلى اليسار ؟!!
فقالوا : إنما نرفع أيدينا إلى السماء ، لأن السماء قبلة الداعي !! ، - انظر الشيطان كم لبس- .
سبحان الله ، أنت عندما تستقبل القبلة ، وأنت تدعو تكون قبلتك القبلة ، وليست السماء ، ولكنك ترفع يديك للمدعو لا شك].
الفائدة 3 :
أقسام سمع الله – جل جلاله وتقدست أسماؤه-:
قال – رحمه الله تعالى - :
[ قوله تعالى : { وهو السميع البصير } ، السميع من أسماء الله تعالى ، وقسّمه العلماء إلى قسمين :
1- سمع إجابة . 2
- سمع إدراك .
سمع الإجابة قال تعالى : { إن ربي لسميع الدعاء } ، فمعنى لسميع هنا أي : لمجيب ، لأن مجرد السمع ليس فيه ذاك الثناء ، وهذا توسل إلى الله عز وجل أن يجيب الله الدعوى ، والتوسل إلى الله عز وجل بمجرد إدراكه للصوت ليس وسيلة في الواقع ، ولكن التوسل إلى الله بكونه مجيبا للدعاء فيجيب دعاء هذا السائل ، ومنه أيضا قول المصلي : سمع الله لمن حمده ، يعني : استجاب الله لمن حمده .
2- أما سمع الإدراك فينقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- تارة يكون للتأييد . 2- تارة يكون للتهديد .
3- تارة يكون لبيان شمول إدراكه عز وجل .
1- أما الإدراك الذي يكون للتأييد : كقوله تعالى لموسى وهارون : { لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } ، هذا ليس مجرد إخبار موسى وهارون أن الله يسمعهما ، ويراهما ، بل المراد التأييد والنصر وما أشبه ذلك .
2- الإدراك الذي يكون للتهديد : كقول الله عز وجل : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } . ، فهذا للتهديد ، بدليل قوله تعالى : { سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق } .
ومثل قوله تعالى : { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم } ، هذا أيضا للتهديد ، لقوله : { بلى ورسلنا لديهم يكتبون } .
3- الإدراك الذي يراد به بيان شمول سمع الله لكل شيء كقوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى والله يسمع تحاوركما } . ، ولهذا قالت السيدة عائشة – رضي الله عنها – " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد كنت في طرف الحجرة ، وإنه ليخفى علي بعض حديثها " ، هذا المراد به بيان شمول سمع الله تعالى لكل شيء ، فإنك إن تكلمت في بيتك فالله يسمع ، وإن تكلمت في ملأ ، فالله تعالى يسمع ، بل إن حدثت نفسك فالله يعلم ، فإن حركت بلسانك حتى صار قولا فالله يسمع وإن خفي ، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " ].
الفائدة 4 :
أقسام بصر الله عز وجل :
قال – رحمه الله تعالى - :
[ { البصير } معناه ذو البصر ، ويطلق على : العليم ؛ ويطلق على : الرائي ، فهو بصير رؤية ، وبصير علم ، فهو سبحانه وتعالى يرى كل شيء ، وإن خفي ، وإن بعُد ، فإنه تعالى يراه ، لا يغيب عنه شيء .
كذلك البصير بمعنى عليم به ، مثل قوله تعالى : { والله بصير بما تعملون } ، وقوله تعالى : { والله بصير بالعباد } ، وما أشبه ذلك ، فالمعنى عليم بهم ، ولهذا جاءت معداة بالباء ، فيقال بصير بكذا ، ولو كان البصير هنا بمعنى الرؤية ، لقال يبصرهم ، فقوله تعالى : { أبصر به وأسمع } الظاهر أنه يشمل الأمرين جميعا ، وإن كان قد يقول قائل : إن " أسمع " لما ذكر السمع هنا أوّله على أنه بصر الرؤية ، فنقول : إن كونه شاملا أحسن ].
الفائدة 5:
لا بأس أن يحذف ذكر المشيئة إذا قصد الإخبار عما في نفسه في المستقبل لا عن الفعل .
قال – رحمه الله تعالى - :
[ وقوله تعالى : { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا }.... يستفاد من هذا الجزء من الآية أن الإنسان لا يعلم ماذا يكسب غدا ، وإن قدّر أنه سيفعل كذا فإنه لا يعلم هل سيحصل أو لا ، ولهذا قال الله تعالى لنبيه : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } .
فإذا قال قائل : إني سأزور فلانا غدا ، وهو لا يقصد الفعل ، وإنما يقصد الإخبار عمّا في نفسه ، فإنه لا بأس أن يحذف ذكر المشيئة ، فهذا جائز ، ولهذا جاءت الآية الكريمة : { إني فاعل ذلك غدا } ، أما لو جزم وقال : إني سأزور فلانا غدا يقصد الفعل ، فلا يقول ذلك إلا مقرونا بالمشيئة لقوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } .
الفائدة 6 :
يصح قول : خبرة الله ، والتي اشتُق منها اسم الخبير .
قال – رحمه الله تعالى - :
[ قوله : { إن الله عليم خبير } نستفيد من هذا الجزء من الآية علم الله عز وجل ، وخبرته ....]
الفائدة 7 :
قصة عجيبة يذكرها الشيخ .
قال – رحمه الله تعالى - :
[ قوله تعالى : { وما تدري نفس بأي أرض تموت } .....وذكر لي أحد الثقات من أصحابنا أنهم كانوا في حج على الإبل ، قبل أن تأتي السيارات ، وخرجوا من مكة ومعهم رجل أمه مريضة ، فارتحل الناس في آخر الليل، وجلس هذا الرجل عند أمه يمرضها ، فلما أصبح ، وإذا القوم قد ساروا ، فذهب في أثرهم فتاه ! ، وكان ذلك في الجبال الحجازية ، وسار يمشي حتى ارتفع النهار ، فإذا خباء قوم صغير بدو ، فذهب إليه فسلم ، وسأل أين طريق نجد ، فقالوا : طريق نجد وراءك بكثير ، لكن انتظر وأنخ البعير ، واسترح ، وسندلك ، يقول : فلما أناخ بعيره ، وأنزل أمه من البعير ، فما أن وصلت إلى الأرض حتى فاضت روحها !! مع أن هذا المكان لا يدري عنه إطلاقا ! ، ولا يفكر أن يصل إليه ! ، لأنه من أهل عنيزة ، ولكن الله تعالى قد قضى أن تموت هذه الأم في ذلك المكان ، فتاهَ الرجل ليصل إلى المكان الذي علم الله تعالى أن المرأة ستموت فيه ، وأمثال هذا كثير] .
قصة أخرى يسوقها الشيخ :
[ ونؤمن بأنه : { ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستودعها ، كل في كتاب مبين } . ........ وحدثني رجل أنه كان عند بئر مطمورة – أي ليس بها ماء – فكان يرى حية تخرج كل يوم في الصباح ، وتنصب نفسها كأنها عود ، فيقع عليها طائر فتأكله ، وهذه الحية كانت عمياء لا تستطيع أن تسعى في الأرض تطلب الرزق ، فانظر كيف ساق الله الرزق إليها وهي في جحرها عمياء ولا تستطيع الخروج ، إذن ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ].
وقصة أخرى يسوقها الشيخ :
[ ... وجاء في الحديث : " كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة " .
وحدثني من أثق به أن رجلا كان يمنع زوجته أن تتصدق على أي مسكين يطرق الباب ! ، فطرق الباب مسكين ذات يوم ، وقال : إنه عارٍ ليس عليه ثياب ، تقيه من البرد ، فرقت الزوجة لحاله ، - كما رق أبو هريرة - ، وأعطته كساء وثلاث تمرات ، وكان زوجها نائما في المسجد ، فرأى أن القيامة قد قامت ، وأن الناس في موج عظيم ، وحر شديد ، وشمس محرقة ، وإذا بكساء يعلو رأسه ، وفيه ثلاثة خروق ، فرأى ثلاث تمرات جاءت وسدت هذه الخروق ، فتعجب وانتبه من نومه مذعورا ! ، وقص على زوجته هذه الرؤيا ، ففهمت الزوجة أن هذه الرؤيا سبب الكساء الذي تصدقت به والتمرات ، فقالت له : حدث كذا وكذا ، فقال لها : لا تردي مسكينا بعد اليوم ، فهذا الرجل نبهه الله عز وجل ، وهذا مصداق لحديث : " كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة " ] .
الفائدة 8 :
الفرق بين قول الأشاعرة والمعتزلة في صفة الكلام :
قال – رحمه الله تعالى - :
[ ... وقالت الأشعرية الذين تذبذبوا بين أهل السنة والمعتزلة قالوا : إن كلام الله تعالى هو المعنى القائم في نفسه ، وما يُسمع فإنه مخلوق خلقه الله تعالى ليعبر عما في نفسه .
فما الفرق إذن بين المعتزلة والأشعرية ؟
الفرق : أن المعتزلة يقولون : لا ننسب الكلام إليه وصفا ، بل فعلا وخلقا .
والأشاعرة يقولون : ننسب الكلام إليه وصفا لا باعتبار أنه شيء مسموع ، وأنه بحروف ، بل باعتبار أنه شيء قائم بنفسه ، وما يسمع أو يكتب فهو مخلوق؛ فعلى هذا يتفق الأشاعرة والمعتزلة في أن ما يُسمع أو يكتب مخلوق ، فالأشاعرة يقولون : القرآن مخلوق ، والمعتزلة يقولون : القرآن مخلوق ، لكن المعتزلة يقولون : إنه كلامه حقيقة ، كما أن السموات خلقه حقيقة ، وقالت الأشاعرة : ليس هو كلام الله تعالى حقيقة ، بل هو عبارة عن كلام الله !!
، فصار الأشاعرة من هذا الوجه أبعد عن الحق من المعتزلة ، وكلتا الطائفتين ظالم ، لأن الكلام ليس شيئا يقوم بنفسه ، والكلام صفة المتكلم ، فإذا كان الكلام صفة المتكلم ، كان كلام الله صفة ، وصفات الله تعالى غير مخلوقة ، إذ إن الصفات تابعة للذات ، فكما أن ذات الرب عز وجل غير مخلوقة ، فكذلك صفاته غير مخلوقة ، وهذا دليل عقلي واضح ...].
الفائدة 9 :
الكلام عن المعية .
قال – رحمه الله تعالى - :
[ .... بل الذي لا يليق بالله تعالى أن نفهم من المعية الاختلاط ، والحلول في المكان ، كما قالت الجهمية ، ولهذا لما ظهر هذا القول المبتدع الضال ، صار السلف يقولون : هو معنا بعلمه ، ففسروا المعية بلازمها ، وهو العلم ، على أن لازم المعية ليس العلم فقط ، كما صرح بذلك ابن كثير في " التفسير "
وصرح به ابن رجب في " جامع العلوم والحكم " ، بل هو معنا بعلمه وسمعه وبصره وسلطانه وقدرته وربوبيته ، وغير ذلك من معاني الربوبية ، لكن فسرها من فسرها من السلف بالعلم ردا على الجهمية الذين قالوا : وهو معنا بذاته في مكاننا ، ولهذا في عبارة السلف – أظنه عبد الله بن المبارك – قال : " ولا نقول كما تقول الجهمية : إنه معنا ها هنا وأشار إلى الأرض " ، فيجب أن نعرف أن السلف قد يفسرون الشيء بالمعنى ، أي بلازمه حذرا من معنى باطل اتخذه الناس في ذلك الوقت ..].
الفائدة 10 :
كلام جميل ومتين في نزول الرب – سبحانه وتعالى - .
قال – رحمه الله تعالى - :
[ (ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ) ... (ينزل) الفعل مضاف إلى الله تعالى ، فيكون ينزل هو بنفسه ، ولا حاجة إلى نقول : بذاته ، - كما ذكرت قبل قليل - ، لأن كل فعل أضافه الله إلى نفسه ، فهو منسوب إليه نفسه .
(السماء الدنيا ) (الدنيا) : يعني القربى من الناس ، وهي أسفل السموات ، ينزل جل وعلا نزولا يليق به سبحانه وتعالى ، ولا يمكن أن نتصور كيفيته ، ولو حاول الإنسان أن يتصور كيفيته لأنكره ، ولهذا فإن الذين حاولوا أن يتصوروا الكيفية أنكروها ، وقالوا : كيف نؤمن بأنه عال ثم ينزل إلى السماء الدنيا ، هذا مستحيل!! ، فنقول :
لا تحاول أن تتصور الكيفية ، لأنه نزول يليق به ولا ينافي كماله ، والصحابة – رضوان الله عليهم – لما حدثهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا ، ما قالوا : كيف ينزل يا رسول الله ؟ هل هم لا يعرفون ؟! إنهم يعرفون ، لكن عندهم من الأدب مع الله تعالى ورسوله – صلى الله عليه وسلم – ما منعهم من أن يسألوا كيف ينزل ].