العقوبة… و … الابتلاء
للشيخ
مشهور بن حسن آل سلمان
حفظه الرحمن
للشيخ
مشهور بن حسن آل سلمان
حفظه الرحمن
-------------------------------------------------------
العاملون للإسلام على الساحة كثيرون، وكثرتهم لا تقل عن أُطرهم وطروحاتهم ومناهجهم من حيث العدد، وبعضهم يردِّد - بافتخار- أنهم متمايزون عن غيرهم بكثرة عطائهم وتضحياتهم، ويأخذ هؤلاء في الاستدلال على ذلك بما لاقى أصحابه وإخوانه على الدرب من ألوان التعذيب.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل هذه المعاناة من باب العقوبة أم الابتلاء؟ وللجواب على هذا السؤال، نقول:
إنَّ خلطنا يقع في تصوّر الكثيرين حول الابتلاء والأسباب التي تؤدي إليه، والنتائج المترتبة عليه من جهة، وحول العقوبة وأسبابها ونتائجها من جهة أخرى، وللتفرقة بينهما نضع هذه المعالم:
أولاً: ليس كل ابتلاء مرجعه وسببه الذنوب والمعاصي، فلا ينبغي أن نسيء الظن بمن حلَّت بهم المصائب وقد يسيء هؤلاء -الذين حلَّت بهم المصائب- بربهم الظن.
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ((وأنت تشاهد كثير من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول: يا ربي ما كان ذنبي حتى فعلت بي هذا؟
وقال لي غير واحد: إذا تبت إليه، وأنبت، وعملتُ صالحاً؛ ضيَّق عليَّ رزقي، ونكَّد عليَّ معيشتي، وإذا رجعت إلى معصيته، وأعطيت نفسي مُرادها جاءني الرزق والعون… ونحو هذا.
فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه؛ ليرى صدقك وصبرك، هل أنت صادق في مجيئك إليه، وإقبالك عليه، فتصبر على بلائه، فتكون لك العاقبة؟ أم أنت كاذب، فترجع على عقبك.
وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنيَّة على مقدمتين:
إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدنه، واعتقاده أنمه قائم بما يجب عليه، وتارك ما نُهي عنه، واعتقاده وتارك ما نهي عنه، واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأن نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه.
والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله -سبحانه وتعالى- قد لا يؤد صاحب الحق الدين وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره مظلوماً مقهوراً مستضاماً، مع قيامه بما أُمر به ظاهراً وباطناً، وانتهائه عما نُهي عنه باطناً وظاهراً، فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، وهو تحت قهر أهل الظلم والفجور والعدوان، فلا إله إلا الله؛ كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل، ومتديِّن لا بصيرة له، ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين.
فسبحان الله ! فكم صدرت هذه الفتنة الكثير من الخلق -بل أكثرهم- عن القيام بحقيقة الدين(1).
وبعكس هؤلاء العاملين القول، فتراهم كثرة المصائب التي حلَّت بهم إلى كونهم مؤمنين، فيشدِّد الله عليهم البلاء، لحبِّه إياهم لا إلى كوهم خرجوا عن منهج الله، وخالقو أمره.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله تعالى-((قد تصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم، لا بما أطاعوا فيه الرسول، كما لحقهم يوم أحد بسبب ذنوبهم، لا بسبب طاعتهم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-))(2).
والذي أودُّ تأكيده هنا: أنه لا بد من النظر إلى مختلف الأسباب ومعرفة الإنسان لنفسه، وما عليه الآخرون من التزام أو غيره، والمعرفة قبل ذلك بالتكاليف والمسؤوليات الواجبة على العباد، وبذلك يستطيع أن يتبصَّر بواقعه وواقع الناس من حوله، وأن يكون منصفاً.
ثانياً: ولعل السبب في عدم التفريق بين الابتلاء والعقوبة يعود إلى أم كلاً منهما قد يكون سببهما الفسوق والمخالفة لأوامر الله والرسول -صلى الله عليه وسلم- فإذا وجد الفسق والخروج على حدود الله، فقد يؤدي ذلك إلى الابتلاء والفتنة، أو إلى الجزاء والعقوبة، وذلك راجع إلى حكمة الله ومشيئته وعدله، وإلى طبيعة الخروج وحجمه، ونوع الفسق ومقداره، وطبيعة نفوس المخالفين ومقدار إصرارهم على المخالفة، والله أعلم.
والتفريق بين الأمرين يحتاج إلى بصيرة في الدين، ومعرفة بالسنن وطبيعتها، ودراسة واعية لأحوال الناس، ومقدار صلاحهم وفسادهم، وقربهم وبعدهم من دينهم.
ثالثاً: إن الأسباب والمسببات هي مجال للابتلاء والامتحان، وتنكَّب هذه الأسباب والانحراف عما وضعت له يوقع في نتائج لا تُحمد عقباها، كنوع من الجزاء الدنيوي المعجَّل نتيجة الانحراف عن هذه الأسباب.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى-: ((إن الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاءً للعباد وامتحاناً لهم، فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة، وهي على ضربين:
أحدهما: ما وضع لابتلاء العقول، وذلك العالم كله من حيث هو منظور فيه، وصنعة يستدل بها على ما وراءها.
والثاني: ما وضع لابتلاء النفوس، وهو العالم كله أيضاً من حيث هو موصول إلى العباد المنافع والمضار، ومن حيث هو مسخَّر لهم، ومنقاد لما يريدون فيه؛ لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر، ولتجري أعمالهم تحت حكم الشرع؛ ليسعد بها من سعد، ويشقى من شقي، وليظهر مقتضى العلم السابق، والقضاء المحتم الذي لا مردَّ له، فإن الله غني عن العالمين، ومنزَّه عن الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط، ولكن وضعها للعباد ليبتليهم فيها))(3).
وهنا يخلط كثير من الناس بين تصوّرهم لحقيقة الابتلاء وبين ما يتكلَّفونه نتيجة اختلال ممارساتهم وانحرافهم عن رؤية الأسباب الصحيحة وتنكبهم إياها.
يقول خالص جلبي: ((وهناك فرق بين المحنة والتحطيم، بين الابتلاء والانسحاق، والابتلاء تمحيص للنفوس، ونوع من اليقظة والصحو، كي يحدث استنفار كامل العضوية وهي تواجه التحدي، فتدفع بقوتها العاملة والاحتياطية، وبالتالي تسير بوعي في منهاج النظر والحركة، والابتلاء حينما يأتي في الممارسة يصبح سحقاً وتحطيماً للعمل، ولذا يجب هنا الانتباه والتفريق بدقة بين أمرين:
الأول: التغلب على الصعوبات في مواجهة العمل.
الثاني: ما يكلّفنا الخطأ في الممارسة من التنحي عن العمل، والفرق كبير بين التنمية والنتيجة.
وخط العمل في الشكل الأول صحيح، ودلالته طبيعية لا تخيف… وأما الشكل الثاني في المحنة، فهو يطحن الأشخاص والدعوة، ويهرس العقيدة وأصحابها))(4).
وبقول في موضع آخر: ((يجب التفريق بحسم بين صنفين من المحنة، صنف يحدث من أنواع الاضطهاد بسبب عقائدي بحق: تكذيب وإيذاء، وتعذيب بدني وما شابه، وصنف يحدث فيه مصائب بواعثها أخطاء العمل، والصنف الأول يعالج الموقف فيها بزيادة سحنة الصبر والمصابرة، والثاني بالصبر مضافاً إليه تعديل خطأ ما حدث كدرس لن يتكرر في المستقبل))(5).
رابعاً: وختاماً؛ أحاول أن أضع بعض العلامات الفارقة بين الابتلاء والجزاء (العقوبة):
1- العقوبة هي الجزاء المعجل الذي يقع على العباد نتيجة الفشل والرسوب في الامتحان والاختبار، بينما الابتلاء هو عملية دخول هذا الامتحان، فالابتلاء مقدمة، والعقوبة نتيجة.
2- الابتلاء من مجالاته الوقوف أمام الأسباب والمسببات، والعقوبة ناتجة عن الانحراف عن هذه الأسباب، وتنكب مسارها.
3- الاختلاف في أسباب كل منهما، فالإيمان والاستقامة على المنهج النبوي سبب الابتلاء، واشتداده في هذا المجال دليل على شدَّة الإيمان، ولذلك كان الأنبياء أشد الناس بلاء، ثم الأمثل فالأمثل.
أما الجزاء والعقوبة؛ فمرجعه وسببه الانحراف عن المنهج، وكلما زاد الفسق،وكبر حجم الانحراف؛ اشتدَّت العقوبة.
4- الابتلاء سبيل الأمانة والتمكين، بينما العقوبة حرمان منها؛ قال –تعالى-: {وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمَّهنَّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}.
فإبراهيم -عليه السلام- جُعل للناس إماماً؛ لأنه نجح في كل ما ابتُلي به وامتحن، بينما الذين يفشلون في ذلك يُحرمون هذه الأمانة، ولا ينالون ذلك العهد؛ {قال لا ينال عهدي الظالمين}.
5- إذا كانت التكاليف قائمة على الواسطيّة والاعتدال؛ فهي ابتلاء، أما إذا مالت عن الاعتدال؛ فهي جزاء وعقوبة للمكلَّف(6).
6- الابتلاء قد يكون علامة على حب الله ورضاه عنه، بينما العقوبة والجزاء إشارة إلى غضب الله وعدم رضاه عن العبد.
7- الابتلاء يهدف إلى تجميع كلمة الأمة، وتمتين الروابط فيما بينها، أما العقوبة؛ فقد تكون سبباً في تشتيتها وضرب قلوب بعضها ببعض، وزيادة العداوة والبغضاء بين أفرادها، وهذا ما كان في مسلمي بعض بلداننا، }فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبّئهم الله بما كانوا يعملون{.
((فإن الأماني والمحاولات العاطفيّة والجهود التي تعتمد المناسبات والمصالح الموسمية أوهى من أن تقيم القاعدة الإسلاميّة الجادة أو تحفظ وحدتها، فما لم نحتكم إلى الكتاب حقيقة لا مظهراً، بعد إسقاط كل القناعات الشخصيّة الموروثة من عصور الصراع الإسلامي – الإسلامي، وما لم تكن كل قناعاتنا مستنبطة من الوحي محكوم به، فلا أمل لنا بوحدة أو عمل أو خلاص)).
8- الفرق بينهما من حيث العلاج؛ فالابتلاء يحتاج إلى الاستعانة بالله، والصبر والتقوى، والرضا… وما إلى ذلك من أمور، أما العقوبة فتحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى التوبة والاستغفار والاستقامة وتصحيح المسار، ومواكبة سنن الكون الحياة.
____________________
(1) ((إغاثة اللهفان)) (2/174-174، وانظر منه 177-185.
(2) ((الحسنة والسيئة)) (ص34).
(3) ((الموافقات)) (1/203)، وانظر منه (ص232-233).
(4) ((ظاهرة المحنة)) (ص28-29).
(5) ((ظاهرة المحنة)) (ص53).
(6) انظر بسط هذه النقطة في ((الموافقات)) (2/163)، ففيه كلام نفيس للغاية.