بســـم الله الرحمن الرحيم
تحرير موقف شيخ الاسلام ابن تيمية في حكم الرافضة
الحمد لله رب العالمين , والصلاة
والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد
فهذا بحث مختصر في تحقيق
موقف ابن تيمية من الرافضة , وهل كان يحكم بكفرهم أم لا ؟ ,
والسبب الذي أوجب هذا البحث هو : أن كثيرا
من المعاصرين قد اختلفوا في تحديد موفق ابن تيمية من الرافضة , فمنهم من فهم من
كلامه أنه يكفر الرافضة بأعيانهم , ومنهم من فهم من كلامه أنه كان لا يكفرهم
بأعيانهم إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع , وزاد الخلاف بين الفريقين وتوسع , خاصة
مع هذه الظروف المعاصرة , هذا كله مع أن كلام ابن تيمية موجود بين أيدينا , في
كتبه ورسائله .
فالبحث العلمي يتطلب الرجوع إلى كلامه
هو نفسه , وجمع متفرقه , ومراعاة أصول فكره وقواعده التي اعتمد عليها , ومنطلقاته
, ومن ثم تحصيل رأيه في المسألة , وهذا ما أرجو أن يكون البحث قد حققه .
فالبحث في تحرير موفق
ابن تيمية فقط , وليس في بحث المسألة ومناقشة تفاصيلها , وذكر أقوال العلماء فيها
, وذكر ما استدلوا به في شأنها , بل في تحرير موفق ابن تيمية فقط .
وقد تكون هذا البحث من مسألتين :
المسألة الأولى : ذكر ما يدل من كلام ابن تيمية على
عدم كفر الرافضة .
المسألة الثانية : الجواب على ما يشكل من كلام ابن
تيمية في هذه المسألة .
المسألة الأولى :
كلام ابن تيمية الذي يدل
على عدم كفر الرافضة
مما لا شك فيه إن فرقة الشيعة الإثني
عشرية ( الرافضة ) من أشهر الفرق التي رد عليها ابن تيمية - رحمه الله - , ونقض
أقوالها , وبين ما عندهم من خطأ في المسائل العلمية , أو في الأصول المنهجية في
الاستدلال , وحرص على تتبع كل هذا في كثير من كتبه .
بل إن ابن تيمية لم يغلظ على فرقة من
الفرق كما أغلظ على الرافضة , فقد وصفهم بقلة العلم والعقل , والتناقض والاضطراب ,
والعداء للمسلمين , والتعاون مع الأعداء ضد المسلمين , وأنهم من أكذب الطوائف ,
وأنهم من أبعد الطوائف عن الدين , ونص على أن معتقدهم من أخبث المعتقدات , وذكر
أنهم من أحقد الفرق على المسلمين , وأشدهم خطرا عليهم
(انظر: مجموع الفتاوى (3/356) ومنهاج السنة البنوية ( 7/220 )و(2/46)و(5/160)و(3/377)) , ومن كلامه في
هذاقوله :"والرافضة أشد بدعة من الخوارج , وهم يكفرون
من لم تكن الخوارج تكفره , كأبي بكر وعمر , ويكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم
, والصحابة كذبا ما كذب أحد مثله , والخوارج لا يكذبون , لكن الخوارج كانوا أصدق
وأشجع منهم , وأوفى بالعهد منهم , فكانوا أكثر قتالا منهم , وهؤلاء أكذب وأجبن وأغدر
وأذل , وهم يستعينون بالكفار على المسلمين , فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا
ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين , كما جرى لجنكزخان ملك التتر
الكفار , فإن الرافضة أعانته على المسلمين .
وأما إعانتهم لهولاكو ابن
ابنه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد ,
فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره ظاهرا وباطنا , وكان وزير الخليفة ببغداد
الذي يقال له ابن العلقمي منهم , فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع
أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم وينهى العامة عن قتالهم ويكيد أنواعا من الكيد حتى
دخلوا فقتلوا من المسلمين , ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان , أو أكثر أو أقل
, ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر , وقتلوا
الهاشميين وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين , فهل يكون مواليا لآل رسول
الله صلى الله عليه وسلم من يسلط الكفار على قتلهم , وسبيهم وعلى سائر المسلمين
"( منهاج السنة (5/154) ) .
ومن أقواله أيضا :" الرافضة , إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بأمة محمد صلى
الله عليه وسلم سلفها وخلفها , فإنهم عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين
والآخرين بعد النبيين والمرسلين , وإلى خيار أمة أخرجت للناس , فجعلوهم شرار الناس
, وافتروا عليهم العظائم , وجعلوا حسناتهم سيئات , وجاءوا إلى شر من انتسب إلى
الإسلام من أهل الأهواء , وهم الرافضة بأصنافها غاليها وإماميها وزيديها , والله
يعلم وكفى بالله عليما ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة
شر منهم , لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان وأبعد
عن حقائق الإيمان منهم "( منهاج السنة (5/160) )
وكلام ابن تيمية في ذم الرافضة , وبيان
ما عندهم كثير جدا , فهو من أشهر العلماء الذين ذموا الرافضة .
ومع هذا كله فإنه رحمه الله لم يحكم
عليهم بالكفر والخروج من الإسلام , بل اعتبرهم من الداخلين في دائرة الإسلام ,
وتعامل معهم بناءا على المقتضى .
ومما ينبغي أن يعلم في هذا المقام : أن
الشيعة ليسوا على مرتبة واحدة في دينهم , ولهذا السبب تعددت الأحكام الصادرة
عليهم من العلماء والأئمة , وحاصل ما ينتهي إليه الحكم على الشيعة هو أن يقال :
إن الشيعة على ثلاثة أقسام :
قسم كافر بالإجماع , ومن هؤلاء : الشيعة الإسماعيلية
والنصيرية والقرامطة , والغلاة في علي رضي الله عنه - المؤلهين له- ,
وقسم غير كافر بالإجماع , ومن هؤلاء : الشيعة المفضلة ,
وقسم وقع فيه خلاف بين
العلماء , ومن هؤلاء :
الرافضة .
وهذا التقسيم هو الذي يدل عليه كلام
ابن تيمية رحمه الله , فإنه لما ذكر الفرق التي أجمع الأئمة على عدم كفرهم ذكر
منهم الشيعة المفضلة( انظر
: مجموع الفتاوى (3/351) ) , وكذلك كرر كثيرا أن الإسماعلية النصيرية والقرامطة ,
وغيرهم من غلاة الشيعة كفار بالإجماع
( انظر: منهاج السنة (3/452)و(5/12,337) وغيرها من المواطن ) , وذكر في مواطن من كتبه أن العلماء لهم
في الرافضة قولان , هما روايتان عن الإمام أحمد( انظر
: مجموع الفتاوى (3/56) والصارم المسلول (567ـ571)) , وهذا التقسيم الثلاثي
استعمله ابن تيمية في بيانه لحكم الفرق المنتسبة للإسلام , فالفرق عنده لا تخرج عن
هذه الأقسام الثلاثة.
وعلى هذا فإنه لا يصح أن
يقال : إن ابن تيمية لا يكفر الشيعة بإطلاق , ولا إنه يكفرهم بإطلاق , بل حكمهم
عنده على التفصيل الذي سبق ذكره .
وهنا تبنيه مهم في تحرير
محل البحث , وهو : أن محل البحث في حكم الرافضة أنفسهم لا في حكم ما عندهم من
معتقدات , فمما لا شك فيه أن عندهم كثير من المعتقدات الكفرية , ولكن هناك فرق بين
الكلام في معتقداتهم , بين الكلام في حكم أعيانهم , والبحث في الأمر الثاني لا في
الأمر الأول .
والمقصود هنا : تحقيق مذهب ابن تيمية
في حكم الرافضة , وأنه لم يكن مكفرا لهم .
فالبحث هنا في حكم الرافضة الإثني
عشرية فقط , وليس في مطلق الشيعة , بل في الرافضة فقط , فابن تيمية لم يكن مكفرا
لهؤلاء الطائفة من الشيعة .
ومما يدل على هذا من كلامه عدة أمور
منها :
الأمر الأول : أنه نص على وصفهم بالإسلام , وفي
هذا يقول :" وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من
الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير , وانتفعوا بذلك
, وصاروا مسلمين مبتدعين , وهو خير من أن يكونوا كفارا "( مجموع الفتاوى (13/96).),
فهذا الكلام من ابن تيمية يدل على أن
وصف الإسلام ثابت لهم , وأن دخول الكافر في الإسلام على مذهب الرافضة خير له من
بقائه على كفره .
وقال أيضا لما ذكر قول الرافضة في
عصمة الأئمة :" فهذه خاصة الرافضة الإمامية التي لم
يشركهم فيها أحد لا الزيدية الشيعة , ولا سائر طوائف المسلمين , إلا من هو شر منهم
كالإسماعيلية الذين يقولون بعصمة بني عبيد , المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن
جعفر , القائلين : بأن الإمامة بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر ,
وأولئك ملاحدة منافقون .
والإمامية الاثنا عشرية
خير منهم بكثير , فإن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون باطنا وظاهرا
, ليسوا زنادقة منافقين , لكنهم جهلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم , وأما أولئك فأئمتهم
الكبار العارفون بحقيقة دعوتهم الباطنية زنادقة منافقون , وأما عوامهم الذين لم
يعرفوا أمرهم فقد يكونون مسلمين "( منهاج السنة (2/452) ) ,
فقد نص ابن تيمية هنا -كما هو ظاهر-
على أن الرافضة فيهم خلق مسلمون ظاهرا وباطنا , فلو كان يكفرهم بأعيانهم لمجرد
كونهم رافضة لما أثبت لحد منهم الإسلام الظاهر والباطن , فدل على أنه لا يكفرهم
إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع , وهذا يوضحه الأمر الثاني .
الأمر الثاني : أنه نص على أنه لا يكفر المعين
منهم إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع , وفي هذا المعنى يقول :" وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران ,
وهما روايتان عن أحمد , والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية , والرافضة
ونحوهم , والصحيح : أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء
به الرسول كفر , وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا
, وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع , لكن تكفير الواحد المعين منهم , والحكم
بتخليده في النار , موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه , فإنا نطلق القول
بنصوص الوعد والتكفير والتفسيق , ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم
فيه المقتضى الذي لا معارض له "( مجموع الفتاوى (28/500).) ,
فهذا نص من ابن تيمية على ما يعتقده
هو في الرافضة , وأنه لا يكفرهم بمجرد كونهم رافضة , بل لا بد من توفر شروط
وانتفاء موانع , ولهذا قرر هنا أن أقوالهم كفر , وأما أعيانهم فليسوا كفارا , فقد
فرق بين أقوالهم وبين حكمهم في أنفسهم .
وهذا من ابن تيمية تطبيق للقاعدة
العظيمة في باب الوعد والوعيد , وهي التفريق بين الكلام في الوصف المطلق , والكلام
في المعين , وهذه القاعدة من أهم القواعد التي طبقها ابن تيمية في حكمه على الفرق
والمخالفين , وسيأتي مزيد كلام على هذه القاعدة إن شاء الله .
الأمر الثالث : أنه لما سئل عمن يفضل اليهود
والنصارى على الرافضة , أنكر هذا وقال : " كل من
كان مؤمنا بما جاء به محمد فهو خير من كل من كفر به , وإن كان في المؤمن بذلك نوع
من البدعة , سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم
" ( مجموع الفتاوى (35/201))
الأمر الرابع : أنه لما سئل عن حكم تزويج الرافضي
, ذكر أن الأصل عدم تزويجه لأنه يخشى منه أن يؤثر على عقيدة زوجته , فلو كان
الرافضي كافرا عنده لمنع من تزويجه لأجل كفره , فدل هذا على أنه لا يرى أن الرافضي
خارج من الإسلام , في هذا يقول :" الرافضة المحضة
هم أهل أهواء وبدع وضلال , ولا ينبغي للمسلم أن يزوج موليته من رافضي , وإن تزوج
هو رافضية صح النكاح , إن كان يرجو أن تتوب , وإلا فترك نكاحها أفضل , لئلا تفسد
عليه ولده"([ مجموع الفتاوى (32/61) ])
فلو كانت الرافضية عنده كافرة لما صح
نكاح غير الرافضي من أهل السنة أو غيرهم منها .
الأمر الخامس : أنه حكم بصحة الصلاة خلف الإمام
الرافضي , فلو كان الرافضي كافرا عنده لقال ببطلان الصلاة خلفه , لأن الصلاة خلف
الإمام الكافر لا تصح كما هو معلوم , وفي هذا يقول :"
والفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة , فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته ,
لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب ,
ومن ذلك أن من أظهر بدعة
أو فجورا لا يرتب إماما للمسلمين , فانه يستحق التعزيز حتى يتوب , فإذا أمكن هجره
حتى يتوب كان حسنا , وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره آثر
ذلك حتى يتوب , أو يعزل , أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه , فمثل هذا إذا ترك الصلاة
خلفه كان فيه مصلحة , ولم يفت المأموم جمعة ولا جماعة , وأما إذا كان ترك الصلاة
يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفهم إلا مبتدع مخالف للصحابة
رضي الله عنهم.
وكذلك إذا كان الأمام قد
رتبه ولاة الأمور , ولم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة , فهنا ليس عليه ترك الصلاة
خلفه , بل الصلاة خلف الإمام الأفضل أفضل , وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق أو
بدعة تظهر مخالفتها للكتاب والسنة ,كبدعة الرافضة والجهمية "( مجموع الفتاوى (23/354)) ,
فقد ذكر أن هذا التفصيل والخلاف إنما
هو في أصحاب البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ونحوها , ومع هذا قرر أن الصلاة تصح
خلفهم .
الأمر السادس : موقفه من شهادة الرافضي وروايته ,
فإنه وإن رد شهادة الرافضي وروايته , فإنما ردها لأجل أنهم عرفوا بالكذب ,
واشتهروا به(انظر: منهاج السنة (1/452)و(5/87)) , فلو كان مناط الرد عنده غير ذلك , كالكفر ونحوه , لذكره , لأن
هذا المناط أشد مدعاة للرد . فهذه بعض الأوجه من كلام ابن تيمية
التي تدل على أنه لم يكن يكفر الرافضة , ولهذا لم يتعامل معهم على أنهم كفار,
وكلام ابن تيمية الذي يدل على معنى هذه الأوجه كثير , وإن كان هناك بعض الأوجه
الأخرى التي تدل على عدم كفر الرافضة مما لم يذكره ابن تيمية , ولكن المقصود هنا
تحقيق مذهب ابن تيمية فقط .
وهذا القول وهو عدم تكفير الرافضة لم
يتفرد به ابن تيمية , بل قال به جماعة من الأئمة قبله , ولا شك أن هذا القول هو
القول الصحيح المنسجم مع قواعد أهل السنة وأصولهم .[يتبع]
تحرير موقف شيخ الاسلام ابن تيمية في حكم الرافضة
الحمد لله رب العالمين , والصلاة
والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد
فهذا بحث مختصر في تحقيق
موقف ابن تيمية من الرافضة , وهل كان يحكم بكفرهم أم لا ؟ ,
والسبب الذي أوجب هذا البحث هو : أن كثيرا
من المعاصرين قد اختلفوا في تحديد موفق ابن تيمية من الرافضة , فمنهم من فهم من
كلامه أنه يكفر الرافضة بأعيانهم , ومنهم من فهم من كلامه أنه كان لا يكفرهم
بأعيانهم إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع , وزاد الخلاف بين الفريقين وتوسع , خاصة
مع هذه الظروف المعاصرة , هذا كله مع أن كلام ابن تيمية موجود بين أيدينا , في
كتبه ورسائله .
فالبحث العلمي يتطلب الرجوع إلى كلامه
هو نفسه , وجمع متفرقه , ومراعاة أصول فكره وقواعده التي اعتمد عليها , ومنطلقاته
, ومن ثم تحصيل رأيه في المسألة , وهذا ما أرجو أن يكون البحث قد حققه .
فالبحث في تحرير موفق
ابن تيمية فقط , وليس في بحث المسألة ومناقشة تفاصيلها , وذكر أقوال العلماء فيها
, وذكر ما استدلوا به في شأنها , بل في تحرير موفق ابن تيمية فقط .
وقد تكون هذا البحث من مسألتين :
المسألة الأولى : ذكر ما يدل من كلام ابن تيمية على
عدم كفر الرافضة .
المسألة الثانية : الجواب على ما يشكل من كلام ابن
تيمية في هذه المسألة .
المسألة الأولى :
كلام ابن تيمية الذي يدل
على عدم كفر الرافضة
مما لا شك فيه إن فرقة الشيعة الإثني
عشرية ( الرافضة ) من أشهر الفرق التي رد عليها ابن تيمية - رحمه الله - , ونقض
أقوالها , وبين ما عندهم من خطأ في المسائل العلمية , أو في الأصول المنهجية في
الاستدلال , وحرص على تتبع كل هذا في كثير من كتبه .
بل إن ابن تيمية لم يغلظ على فرقة من
الفرق كما أغلظ على الرافضة , فقد وصفهم بقلة العلم والعقل , والتناقض والاضطراب ,
والعداء للمسلمين , والتعاون مع الأعداء ضد المسلمين , وأنهم من أكذب الطوائف ,
وأنهم من أبعد الطوائف عن الدين , ونص على أن معتقدهم من أخبث المعتقدات , وذكر
أنهم من أحقد الفرق على المسلمين , وأشدهم خطرا عليهم
(انظر: مجموع الفتاوى (3/356) ومنهاج السنة البنوية ( 7/220 )و(2/46)و(5/160)و(3/377)) , ومن كلامه في
هذاقوله :"والرافضة أشد بدعة من الخوارج , وهم يكفرون
من لم تكن الخوارج تكفره , كأبي بكر وعمر , ويكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم
, والصحابة كذبا ما كذب أحد مثله , والخوارج لا يكذبون , لكن الخوارج كانوا أصدق
وأشجع منهم , وأوفى بالعهد منهم , فكانوا أكثر قتالا منهم , وهؤلاء أكذب وأجبن وأغدر
وأذل , وهم يستعينون بالكفار على المسلمين , فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا
ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين , كما جرى لجنكزخان ملك التتر
الكفار , فإن الرافضة أعانته على المسلمين .
وأما إعانتهم لهولاكو ابن
ابنه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد ,
فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره ظاهرا وباطنا , وكان وزير الخليفة ببغداد
الذي يقال له ابن العلقمي منهم , فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع
أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم وينهى العامة عن قتالهم ويكيد أنواعا من الكيد حتى
دخلوا فقتلوا من المسلمين , ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان , أو أكثر أو أقل
, ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر , وقتلوا
الهاشميين وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين , فهل يكون مواليا لآل رسول
الله صلى الله عليه وسلم من يسلط الكفار على قتلهم , وسبيهم وعلى سائر المسلمين
"( منهاج السنة (5/154) ) .
ومن أقواله أيضا :" الرافضة , إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بأمة محمد صلى
الله عليه وسلم سلفها وخلفها , فإنهم عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين
والآخرين بعد النبيين والمرسلين , وإلى خيار أمة أخرجت للناس , فجعلوهم شرار الناس
, وافتروا عليهم العظائم , وجعلوا حسناتهم سيئات , وجاءوا إلى شر من انتسب إلى
الإسلام من أهل الأهواء , وهم الرافضة بأصنافها غاليها وإماميها وزيديها , والله
يعلم وكفى بالله عليما ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة
شر منهم , لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان وأبعد
عن حقائق الإيمان منهم "( منهاج السنة (5/160) )
وكلام ابن تيمية في ذم الرافضة , وبيان
ما عندهم كثير جدا , فهو من أشهر العلماء الذين ذموا الرافضة .
ومع هذا كله فإنه رحمه الله لم يحكم
عليهم بالكفر والخروج من الإسلام , بل اعتبرهم من الداخلين في دائرة الإسلام ,
وتعامل معهم بناءا على المقتضى .
ومما ينبغي أن يعلم في هذا المقام : أن
الشيعة ليسوا على مرتبة واحدة في دينهم , ولهذا السبب تعددت الأحكام الصادرة
عليهم من العلماء والأئمة , وحاصل ما ينتهي إليه الحكم على الشيعة هو أن يقال :
إن الشيعة على ثلاثة أقسام :
قسم كافر بالإجماع , ومن هؤلاء : الشيعة الإسماعيلية
والنصيرية والقرامطة , والغلاة في علي رضي الله عنه - المؤلهين له- ,
وقسم غير كافر بالإجماع , ومن هؤلاء : الشيعة المفضلة ,
وقسم وقع فيه خلاف بين
العلماء , ومن هؤلاء :
الرافضة .
وهذا التقسيم هو الذي يدل عليه كلام
ابن تيمية رحمه الله , فإنه لما ذكر الفرق التي أجمع الأئمة على عدم كفرهم ذكر
منهم الشيعة المفضلة( انظر
: مجموع الفتاوى (3/351) ) , وكذلك كرر كثيرا أن الإسماعلية النصيرية والقرامطة ,
وغيرهم من غلاة الشيعة كفار بالإجماع
( انظر: منهاج السنة (3/452)و(5/12,337) وغيرها من المواطن ) , وذكر في مواطن من كتبه أن العلماء لهم
في الرافضة قولان , هما روايتان عن الإمام أحمد( انظر
: مجموع الفتاوى (3/56) والصارم المسلول (567ـ571)) , وهذا التقسيم الثلاثي
استعمله ابن تيمية في بيانه لحكم الفرق المنتسبة للإسلام , فالفرق عنده لا تخرج عن
هذه الأقسام الثلاثة.
وعلى هذا فإنه لا يصح أن
يقال : إن ابن تيمية لا يكفر الشيعة بإطلاق , ولا إنه يكفرهم بإطلاق , بل حكمهم
عنده على التفصيل الذي سبق ذكره .
وهنا تبنيه مهم في تحرير
محل البحث , وهو : أن محل البحث في حكم الرافضة أنفسهم لا في حكم ما عندهم من
معتقدات , فمما لا شك فيه أن عندهم كثير من المعتقدات الكفرية , ولكن هناك فرق بين
الكلام في معتقداتهم , بين الكلام في حكم أعيانهم , والبحث في الأمر الثاني لا في
الأمر الأول .
والمقصود هنا : تحقيق مذهب ابن تيمية
في حكم الرافضة , وأنه لم يكن مكفرا لهم .
فالبحث هنا في حكم الرافضة الإثني
عشرية فقط , وليس في مطلق الشيعة , بل في الرافضة فقط , فابن تيمية لم يكن مكفرا
لهؤلاء الطائفة من الشيعة .
ومما يدل على هذا من كلامه عدة أمور
منها :
الأمر الأول : أنه نص على وصفهم بالإسلام , وفي
هذا يقول :" وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من
الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير , وانتفعوا بذلك
, وصاروا مسلمين مبتدعين , وهو خير من أن يكونوا كفارا "( مجموع الفتاوى (13/96).),
فهذا الكلام من ابن تيمية يدل على أن
وصف الإسلام ثابت لهم , وأن دخول الكافر في الإسلام على مذهب الرافضة خير له من
بقائه على كفره .
وقال أيضا لما ذكر قول الرافضة في
عصمة الأئمة :" فهذه خاصة الرافضة الإمامية التي لم
يشركهم فيها أحد لا الزيدية الشيعة , ولا سائر طوائف المسلمين , إلا من هو شر منهم
كالإسماعيلية الذين يقولون بعصمة بني عبيد , المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن
جعفر , القائلين : بأن الإمامة بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر ,
وأولئك ملاحدة منافقون .
والإمامية الاثنا عشرية
خير منهم بكثير , فإن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون باطنا وظاهرا
, ليسوا زنادقة منافقين , لكنهم جهلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم , وأما أولئك فأئمتهم
الكبار العارفون بحقيقة دعوتهم الباطنية زنادقة منافقون , وأما عوامهم الذين لم
يعرفوا أمرهم فقد يكونون مسلمين "( منهاج السنة (2/452) ) ,
فقد نص ابن تيمية هنا -كما هو ظاهر-
على أن الرافضة فيهم خلق مسلمون ظاهرا وباطنا , فلو كان يكفرهم بأعيانهم لمجرد
كونهم رافضة لما أثبت لحد منهم الإسلام الظاهر والباطن , فدل على أنه لا يكفرهم
إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع , وهذا يوضحه الأمر الثاني .
الأمر الثاني : أنه نص على أنه لا يكفر المعين
منهم إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع , وفي هذا المعنى يقول :" وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران ,
وهما روايتان عن أحمد , والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية , والرافضة
ونحوهم , والصحيح : أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء
به الرسول كفر , وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا
, وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع , لكن تكفير الواحد المعين منهم , والحكم
بتخليده في النار , موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه , فإنا نطلق القول
بنصوص الوعد والتكفير والتفسيق , ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم
فيه المقتضى الذي لا معارض له "( مجموع الفتاوى (28/500).) ,
فهذا نص من ابن تيمية على ما يعتقده
هو في الرافضة , وأنه لا يكفرهم بمجرد كونهم رافضة , بل لا بد من توفر شروط
وانتفاء موانع , ولهذا قرر هنا أن أقوالهم كفر , وأما أعيانهم فليسوا كفارا , فقد
فرق بين أقوالهم وبين حكمهم في أنفسهم .
وهذا من ابن تيمية تطبيق للقاعدة
العظيمة في باب الوعد والوعيد , وهي التفريق بين الكلام في الوصف المطلق , والكلام
في المعين , وهذه القاعدة من أهم القواعد التي طبقها ابن تيمية في حكمه على الفرق
والمخالفين , وسيأتي مزيد كلام على هذه القاعدة إن شاء الله .
الأمر الثالث : أنه لما سئل عمن يفضل اليهود
والنصارى على الرافضة , أنكر هذا وقال : " كل من
كان مؤمنا بما جاء به محمد فهو خير من كل من كفر به , وإن كان في المؤمن بذلك نوع
من البدعة , سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم
" ( مجموع الفتاوى (35/201))
الأمر الرابع : أنه لما سئل عن حكم تزويج الرافضي
, ذكر أن الأصل عدم تزويجه لأنه يخشى منه أن يؤثر على عقيدة زوجته , فلو كان
الرافضي كافرا عنده لمنع من تزويجه لأجل كفره , فدل هذا على أنه لا يرى أن الرافضي
خارج من الإسلام , في هذا يقول :" الرافضة المحضة
هم أهل أهواء وبدع وضلال , ولا ينبغي للمسلم أن يزوج موليته من رافضي , وإن تزوج
هو رافضية صح النكاح , إن كان يرجو أن تتوب , وإلا فترك نكاحها أفضل , لئلا تفسد
عليه ولده"([ مجموع الفتاوى (32/61) ])
فلو كانت الرافضية عنده كافرة لما صح
نكاح غير الرافضي من أهل السنة أو غيرهم منها .
الأمر الخامس : أنه حكم بصحة الصلاة خلف الإمام
الرافضي , فلو كان الرافضي كافرا عنده لقال ببطلان الصلاة خلفه , لأن الصلاة خلف
الإمام الكافر لا تصح كما هو معلوم , وفي هذا يقول :"
والفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة , فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته ,
لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب ,
ومن ذلك أن من أظهر بدعة
أو فجورا لا يرتب إماما للمسلمين , فانه يستحق التعزيز حتى يتوب , فإذا أمكن هجره
حتى يتوب كان حسنا , وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره آثر
ذلك حتى يتوب , أو يعزل , أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه , فمثل هذا إذا ترك الصلاة
خلفه كان فيه مصلحة , ولم يفت المأموم جمعة ولا جماعة , وأما إذا كان ترك الصلاة
يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفهم إلا مبتدع مخالف للصحابة
رضي الله عنهم.
وكذلك إذا كان الأمام قد
رتبه ولاة الأمور , ولم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة , فهنا ليس عليه ترك الصلاة
خلفه , بل الصلاة خلف الإمام الأفضل أفضل , وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق أو
بدعة تظهر مخالفتها للكتاب والسنة ,كبدعة الرافضة والجهمية "( مجموع الفتاوى (23/354)) ,
فقد ذكر أن هذا التفصيل والخلاف إنما
هو في أصحاب البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ونحوها , ومع هذا قرر أن الصلاة تصح
خلفهم .
الأمر السادس : موقفه من شهادة الرافضي وروايته ,
فإنه وإن رد شهادة الرافضي وروايته , فإنما ردها لأجل أنهم عرفوا بالكذب ,
واشتهروا به(انظر: منهاج السنة (1/452)و(5/87)) , فلو كان مناط الرد عنده غير ذلك , كالكفر ونحوه , لذكره , لأن
هذا المناط أشد مدعاة للرد . فهذه بعض الأوجه من كلام ابن تيمية
التي تدل على أنه لم يكن يكفر الرافضة , ولهذا لم يتعامل معهم على أنهم كفار,
وكلام ابن تيمية الذي يدل على معنى هذه الأوجه كثير , وإن كان هناك بعض الأوجه
الأخرى التي تدل على عدم كفر الرافضة مما لم يذكره ابن تيمية , ولكن المقصود هنا
تحقيق مذهب ابن تيمية فقط .
وهذا القول وهو عدم تكفير الرافضة لم
يتفرد به ابن تيمية , بل قال به جماعة من الأئمة قبله , ولا شك أن هذا القول هو
القول الصحيح المنسجم مع قواعد أهل السنة وأصولهم .[يتبع]
عدل سابقا من قبل أبو عبد الله أحمد بن نبيل في 15.09.08 17:17 عدل 1 مرات