القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد
الحلقة: الأولى
بقلم:
أ.د. عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين المعتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن الرد على أهل البدع والدعاة إلى الأهواء، والتحذير من باطلهم، ونقض شبهاتهم وأضاليلهم، وإشهار عيوبهم ونقائصهم، وبيان أنهم على غير الحق والصواب أمر متحتم على أهل العلم وطلابه، ليُتقى شرُّ هؤلاء، وليعلم القاصي والداني ضلالهم وانحرافهم وبعدهم عن الحق والرشاد، وهذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المأمور به شرعاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [والداعي إلى البدعة مستحق العقوبة باتفاق المسلمين، وعقوبته تكون تارة بالقتل وتارة بما دونه، كما قتل السلف جهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهم، ولو قدر أنَّه لا يستحق العقوبة أو لا يمكن عقوبته فلا بد من بيان بدعته والتحذير منها، فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر الله به ورسوله].
وقال رحمه الله: [ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل، فبيَّن أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير في سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً].
ورغم وضوح هذا المنهج وظهوره وكثرة عوائده وفوائده إلا أنه قد ظهرت في زماننا هذا بعض من الأفراد والجماعات مواقف مخذولة وآراء مرذولة تدعو بلا حياء إلا السكوت عن أهل البدع والأهواء وعدم التحذير منهم، وزعموا أن هذا هو المنهج الأقوم والطريق الأحكم، وقالوا: هذا رأبٌ للصدع ولمٌّ للشمل وتوحيدٌ للصف وجمع للكلمة.
وما من ريب أن هذا المنهج باطل، أضراره كثيرة وأخطاره جسيمة على الإسلام والسنة، وفيه أعظم تمكين لأهل البدع والأهواء في نشر ضلالهم وباطلهم، وهو منهج منحرف عن الكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد ذكر جماعةً من أهل البدع يعتقدون اعتقاداً هو ضلال يرونه هو الحقّ، ويرون كفر من خالفهم في ذلك، قال: [وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يبيِّنونه للناس بل يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذماً مطلقاً، لا يفرقون فيه بين ما دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع وما يقوله أهل البدع والفرقة، أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة، كما يقرّ العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها التنازع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة وبعض المتفقهة والمتصوفة والمتفلسفة، كما تغلب الأولى على الكثير من أهل الأهواء والكلام، وكلتا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة، وإنما الواجب بيان ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وتبليغ ما جاءت به الرسل عن الله والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على العلماء فيجب أن يَعْلَم ما جاءت به الرسل ويؤمن به ويبلغه ويدعو إليه ويجاهد عليه، ويزن جميع ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في الأصول والفروع الباطنة والظاهرة بكتاب الله وسنة رسوله غير متبعين لهوى من عادة أو مذهب أو طريقة أو رئاسة أو سلف ولا متبعين لظنٍّ من حديث ضعيف أو قياس فاسد –سواء كان قياس شمول أو قياس تمثيل- أو تقليد لمن لا يجب اتباع قوله وعمله، فإن الله ذمَّ في كتابه الذين يتبعون الظنَّ وما تهوى الأنفس ويتركون ما جاءهم من ربهم من الهدى] ا.هـ.
وما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه أولئك الذين يتحدث عنهم شيخ الإسلام آنفاً عن طريقتهم بهؤلاء المعاصرين الداعين للسكوت عن أهل البدع والأهواء والمقربين بين الطوائف على اختلاف مذاهبهم وتباين طرائقهم مع أهل السنة والجماعة.
شتـان بـين الحـالتين فإن تُـرِد :: جمعاً فما الضدان يجتمعان
شتان بين العسكرين فمن يكن :: متحـيراً فلينظر الفئـتان
وإنما الحق والواجب في ذلك لزوم الكتاب والسنة والتمسك بما جاء فيهما ونبذ ما سوى ذلك من باطل وضلال وانحراف كما سبق إيضاح ذلك وتقريره في كلام شيخ الإسلام المتقدم.
وعليه
فإن مؤلفات أهل السنة الكثيرة في الرد على أهل البدع والأهواء المقصود منها النصيحة لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وفيها دعوة للمردود عليه إلى محاسبة نفسه ووزن أقواله لعله يعود إلى رشده ويترك غيَّه وباطله، وفيها حماية للمجتمع المسلم من الباطل المبثوث في كتاب المبتدع المبطل الناشر للضلال.
ولم يبعد أحد من شيوخنا المعاصرين إذ قال: [وكما أنه يوضع في زماننا أماكن للحجر الصحيّ لمن بهم أمراض معدية، فإن أهل البدع والأهواء الداعين إلى باطلهم أولى بالحجر من أولئك؛ لأن هؤلاء يمرضون القلوب ويفسدون الأديان، وأولئك يفسدون الأجسام ويمرضون الأبدان].
ولكن من لنا بمن يكمِّم أفواههم ويقطع ألسنتهم ويكسر أقلامهم كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ وكما فعل خالد القسري بالجعد؟ فإلى الله المشتكى.
هذا وإن من حاملي ألوية البدعة وأَزِمَّة الفتنة في زماننا شاباً جهمياً معاصراً أخذ على عاتقه نشر الضلال والباطل والهجوم على أهل الحق والسنة وتمجيد أهل الضلال والبدعة، وهو المدعو حسن بن علي السقاف، ولم أقف على شيء من كتبه ولله الحمد، إلا كتاباً واحداً بُليت بقراءته وهو كتاب ((التنديد بمن عدَّد التوحيد. إبطال محاولة التثليث في التوحيد والعقيدة الإسلامية)) فهالني ما فيه إذ قد حكم على عامة المسلمين الموحدين لله في ربوبيته وأسمائه وصفاته بأنهم ثلثوا في عقيدتهم.
ومن المعلوم أن التثليث عقيدة نصرانية فاسدة حكم الله في القرآن على أهلها بالكفر، ولم أحسب أنَّ أحداً تبلغ به الجرأة أن يحكم بهذا الحكم أو يقرر هذا التقرير الباطل الجائر حتى وقفت على كلام هذا المسكين الهالك. أقول ما قيل:
الله أخّرَ موتتـي فتأخرتْ :: حتى رأيت من الزمان عجائبا
هذا من عنوان الكتاب فحسب، أما مضمونه فقد اشتمل على عجائب وغرائب وطوامٍ كثيرةٍ كل واحدة منها كافية لإخراج الرجل من دائرة العلماء بل ومن دائرة العقلاء فحسيبه الله على ما قدم، وعند الله تجتمع الخصوم، ومن قرائتي لكتابه كاملاً ظهر لي من حال الرجل ما يلي:
أولاً:
كونه جهمياً جلداً يرى أن ربه لا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله وينسب ذلك زوراً وبهتاناً إلى أهل السنة والجماعة.
ثانياً: وجدته محرفاً من الدرجة الأولى لأقوال أهل العلم ونصوصهم.
ثالثاً: وجدته كثير الكذب والتدليس والتلبيس.
رابعاً: ثم هو سليط اللسان، بذيء القول، يرمي أهل السنة بالعظائم، ومن أمثلة ذلك قوله عنهم: ص6 ((المتمسلفين)) وص1 ((أصحاب العقول ذات التفكير السطحي الضحل)) وص17 ((فخذ بحدك في التجسيم يا ابن القيم)) وص19 ((وهو دليل قاطع عند أي قارئ لبيب على الوثنية التي يدعو إليها هؤلاء باسم توحيد الأسماء والصفات)) وص23 ((المبتدعة الخراصون)) وص37 ((المجسمة)) وص40 ((المجسمة المشبهة)) وص60 ((وأن المراد منه عند هؤلاء المتمسلفين ما رأينا من التجسيم وإقامة الوثنية التي حاربها الإسلام وجاء بهدمها)).
هكذا يقول، ولا ريب أن من أكبر علامات أهل البدع الوقيعة في أهل السنة والأثر، قال إسحاق بن راهويه: علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة، وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة.
فما حال إذاً من يجعلهم أهل عقائد وثنية !؟
خامساً:
يمجد أهل البدع ويعظمهم ويكثر من الثناء عليهم ولا سيما إمامه وشيخه قائد التجهم في عصرنا محمد زاهد الكوثري بل هو من رائشي نبله والحطبين في حبله والساعين في نصرته؛ ولهذا يكثر من النقل عنه فأحياناً يصرح باسمه كما في (ص:38-39)، وأحياناً لا يصرح باسمه، كما في (ص11) فهو منقول من هامش السيف الصقيل للكوثري (ص27)، وكما في (ص14) فهو منقول من هامش السيف الصقيل للكوثري (ص115) ويصفه بالإمام المحدث.
سادساً: استخفافه ببعض الأحاديث كما في ص55 حيث قال: ((كما جاء في حديث الجارية الذي يتشدقون به)) !!
فلهذا ولغيره رأيت من الواجب التنبيه على باطل هذا الكتاب وضلاله، والتحذير منه وكشف بعض تلبيساته وتدليساته، وفضح كذبه وتزويره، ونقض شبهه وأباطيله في كتابه المذكور، نصراً للحق وذباً عن السنّة ودفاعاً عن علماء الأمة ورداً للباطل وإزهاقاً له.
هذا دون تَقَصٍّ لكل ما فيه، ولو ناقشته على جميع ما اشتمل عليه كتابه من الظلم والتعدي والجور والكذب والخلط والتلبيس والتدليس والتشنيع لطال الكلام، ولكن التنبيه على قليل من ظلاله وباطله مرشدٌ مرشدٌ إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم وأقلّ علم، واللبيب تكفيه الإشارة، ولو أن هذا الكاتب سكت ولم يكتب ما كتب واشتغل بتحصيل العلم الشرعي من مظانه من الكتاب والسنة لكان خيراً له وأقوم، ولأراح غيره، لكنه صار كمن يبحث عن حتفه بظلفه.
فكان كعنز السوء قامت بظلفها :: إلى مدية تحت التراب تثيرها
فنسأل الله أن يهدي ويهدي ضال المسلمين، وأن يردهم إلى الحق رداً جميلاً، وأن يعيذنا من الأهواء المطغية والفتن المردية بمنه وكرمه.
وهذا أوان الشروع في المقصود.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.