وقفاتٌ مع مقالٍ للشيخ ماهر القحطاني وعتابٌ ولَوم
===================
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ وبعد:
فمن العراق المحتل – فكَّ اللهُ من أيدي الصليبين أسرَه ونجَّى من كيدِ الروافضِ أهلَه ـ ومن بلدة يستيقظ أهلُها ويبيتون على أحزان وآلام، ويعيشون حياةً في خوف وقلق لما يخفيه لهم مستقبَلُ الأيام؛ أكتب لكم وأصحبُ أنفاسي للمشاركة معكم مودَّةً وأُلفَةً بكم فأقــول:
نحن في مسجدٍ يسعى أهلُه لإقامة السُّنَّةِ فيه؛ ولذا فقد أحيوا سُّنَّةَ قولِ المؤذن في وقت الفجر: (الصلاة خير من النوم) في رمضان الماضي وإلى يومنا هذا، والحمد لله.
وقد اختار أهلُ المسجد أن يكون هذا اللفظ في أذان الفجر الأول قبل دخول الوقت وبعد الحيعلتين؛ بعد بحثٍ في بطون الكتب والمصنَّفات يؤكِّد لهم اختيارهم ذلك، وهكذا كانت المساجد التي في بلدتنا ومن حولنا.
لكنَّ الأمر لم يَدُم في أحدِ تلك المساجد، فقد تأثر إمامُه – وهو من خيرةِ إخواننا السلفيين ومن طلبةِ العلم المعروفين – بما دوَّنه الشيخ الفاضل وأخونا العزيز أبو عبد الله ماهر القحطاني ـ حفظه الله وأعزَّه وتولاه – في مقالٍ له في موقعه بعنوان: (قول المؤذن في أذان الليل الصلاة خير من النوم بدعة)، ويظهر أنَّ تأثره في هذا الموضوع كان قديماً بعد لقاءه بالشيخ ماهر في موسم الحجِّ ومباحثته فيه
ولذا فقد غيَّرَ في مسجده ما تعاهد عليه أهلُه قديماً فجعل قول المؤذن (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر الثاني بعد دخول الوقت، فأستغرب البعض لهذا التغيير وارتاح الآخر بهذا الصنيع، ثم أُخبِرتُ بهذا الأمر وأُعلِمتُ أنَّ أساسَه هو مقالٌ للشيخ ماهر الآنف الذكر.
لذلك فقد عكفتُ على ذلك المقال قراءةً وتحقيقاً لأرى ما هي تلك الأدلة التي استدل بها الشيخ ماهر لإثبات ذلك القول، والذي أقنعَ به أصحابنا هنا.
وبعد أن انتهيتُ من قراءته ودققتُ النظر فيه وجدتُ فيه أمرين، ووقفتُ معه وقفات؛ ولولا أني قد كُلِّفتُ في الجواب عن مقال الشيخ ماهر لما تجرأتُ للوقوف معه وقفةً فضلاً عن وقفات، لكن مما سهَّلَ عليَّ الأمر ذلك ما رأيتُه من جُرأة الشيخ ماهر في مقالاته وردوده وكيف يقف مع الكبار رداً وتعليقاً بكلِّ تقدير واحترام ولا يَهاب لمكانتهم في العلم ولا إلى منزلتهم في قلوب الناس من أن يصدع بالحق وينصر الصواب، فقوّيتُ محبةَ الحقِ والنصحَ في الجنان وشددتُ القوةَ في البنان وعزمتُ على الردِّ والبيان متوكِّلاً على مَنْ به نصول وبه نجول وهو المستعان.
أما الأمران اللذان وجدتُهما في مقال الشيخ:
فالأول: تعجُّل الشيخ في الحكم ببدعية القول الذي اختاره مخالفوه، ولو أنَّه ضعَّف قولهم وغلَّط مذهبهم لكان أقرب للتحقيق العلمي وأهون في قلوب مخالفيه، وبخاصَّة وأنَّ قول مخالفيه لهم سلف كما سيأتي بيانه، كما أنَّ بُعد الأدلة التي احتجَّ بها عن موطن الخلاف وعدم صراحتها في موضوعنا كان الأجدر أن يجعله يتأنَّى في حكمه بذلك، وهو بهذا يكون قد خالف الأصل الذي أصَّله في الوجه الثاني عشر فقال: ((لا يُتسرع بالحكم بالبدعة حتى يتثبت الباحثُ من عدم وجود أصلٍ لِما أحدث)).
الثاني:
حشد الوجوه البعيدة عن موطن البحث والاحتجاج - التي يُمكن أن تكون كمقدِّمات أو تقريرات في ثنايا الكلام – ضمن وجوه الرد والاحتجاج؛ مما يجعل القارئ لمقاله يهاب منه لكثرة وجوه الرد؛ ففي مقالنا هذا: ذكر الشيخ لإثبات مذهبه الذي تبناه خمسة عشر وجهاً؛ مع أنَّها عند التحقيق لا تخرج عن أربعة إلى خمسة وجوه بل – وفي نظري أقل من ذلك – كما هو ظاهر ولا يحتاج إلى بيان.
والغريب أنَّ الشيخ ماهر حفظه الله تعالى رأيتُه في مقالاته وردوده قد اعتاد على هذه الطريقة، وفي نظري لا يحسن بمن هو في مكانته العلمية أن يصنع مثل ذلك، بل عليه أن يجعل هذه الوجوه التي هي خارج نطاق البحث مقدِّمات لمقالاته وردوده أو ينثرها في ثنايا الكلام وبما يناسب المقام دفعاً للتغرير ورفعاً للإيهام.
أما الوقفات؛ فإليك يا مَنْ تجرَّدت للحقِّ بياناها:
الوقفة الأولى:
عند قول الشيخ في أوَّل مقاله: ((فقد انتشرت بدعة في الأذان الذي هو قبل أذان الفجر الصادق عند بعض أهل هذا الزمان لم تكن معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام ذلكم أن بعضهم إذا أذن الأذان المعروف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأذان بلال وهو الذي كان بليل ثوب فيه فقال الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم وهذا العمل بدعة لا أصل له)).
قلتُ: لا أدري ما الذي دفع الشيخ الفاضل لهذا القول وبهذا الحزم والجزم؛ مع أنَّه صحَّ ما يثبت بطلانه بالتمام!!؛ فقد أخرج الإمام ابن ماجه في سننه: حدثنا عمر بن رافع ثنا عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن بلال: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يُؤذِنه بصلاة الفجر، فقيل: هو نائم، فقال: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فأُقِرَّت في تأذين الفجر، فثبت الأمر على ذلك. قال الشيخ الألباني: صحيح.
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (16524) من طريق آخر: ثنا يعقوب قال أنا أبي عن بن إسحاق قال: وذكر محمد بن مسلم الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال:
لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب بالناقوس يجمع للصلاة الناس وهو له كاره لموافقته النصارى؛ طاف بي من الليل طائف وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس يحمله قال: فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس، قال: وما تصنع به، قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك، قال: فقلت: بلى، قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله أشهد أنَّ محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخرت غير بعيد، قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ هذه لرؤيا حق إن شاء الله)) ثم أمر بالتأذين، فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك، ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة. قال: فجاءه فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل له: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، قال: فصرخ بلال بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر.
قال ابن حجر [تلخيص الحبير 1/201] حول هذا الحديث: ((وفيه انقطاع مع ثقةِ رجاله، وذكره بن السكن من طريق أخرى عن بلال؛ وهو في الطبراني من طريق الزهري عن حفص بن عمر عن بلال وهو منقطع أيضاً، ورواه البيهقي في المعرفة من هذا الوجه فقال عن الزهري عن حفص بن عمر بن سعد المؤذن أنَّ سعداً كان يؤذن قال حفص فحدثني أهلي أنَّ بلالاً فذكره، وروى ابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سالم عن أبيه فذكره قصة اهتمامهم بما يجمعون به الناس قبل أن يشرع الأذان وفي آخره وزاد بلال في نداء صلاة الغداة: الصلاة خير من النوم، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده ضعيف جداً، ولكن للتثويب طريق أخرى عن بن عمر رواها السراج والطبراني والبيهقي من حديث بن عجلان عن نافع عن بن عمر قال: كان الأذان الأول بعد حي على الصلاة حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين. وسنده حسن، وسيأتي بقية الأحاديث في ذلك)).
وذكر الحديث الزيلعي في [نصب الراية 1/217] وسكت عنه.
أقول: علة الحديث عند الحافظ وغيره هو الانقطاع بين محمد بن إسحاق – وهو مدلِّس ولم يُصرِّح بالتحديث – وبين الزهري؛ ولكن هذه العلة قد ارتفعت بمتابعة معمر بن راشد وشعيب بن أبي حمزة والنعمان بن المنذر لمحمد بن إسحاق في روايته عن الزهري عن سعيد بن المسيب هذه؛ وإليك هذه المتابعات:
1- أخرجه عبد الرزاق في [مصنفه 1820]: عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ بلالاً يؤذن بليل؛ فمن أراد الصوم فلا يمنعه أذان بلال حتى يؤذن بن أم مكتوم)) قال: وكان أعمى فكان لا يؤذن حتى يقال له أصبحت، فلما كان ذات ليلة أذَّن بلال، ثم جاء يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: إنه نائم، فنادى بلال: الصلاة خير من النوم، فأقرت في الصبح.
2- وأخرجه البيهقي [السنن الكبرى 1834]: وأخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو أنبأ أبو محمد المزني أنبأ علي بن محمد بن عيسى ثنا أبو اليمان أخبرني شعيب عن الزهري قال: حدثني سعيد بن المسيب فذكر قصة عبد الله بن زيد ورؤياه إلى أن قال: ثم زاد بلال في التأذين الصلاة خير من النوم، وذلك أنَّ بلالاً أتى بعد ما أذَّن التأذينة الأولى من صلاة الفجر ليؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فقيل له: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نائم، فأذن بلال بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، فأقرت في التأذين لصلاة الفجر.