{الترخُّص بمسائل الخلاف ضوابطه وأقوال العلماء فيه}
ملخص البحث
مسألة الترخّص بمسائل الخلاف، من المسائل التي بحثها الأصوليون والفقهاء على حدٍّ سواء وقد جعلت هذا البحث من مقدمة وثمانية مباحث هي :
1 - الخلاف: أسبابه، وبيان أنه من السنن الكونية.
2 - الاختلاف هل هو رحمة ؟
والحمد لله رب العالمين.
مقدِّمة
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، وجعلنا خير أمّة أخرجت للناس، حثَّنا على التآلف والاجتماع، ونهانا عن التفرق والاختلاف. والصلاة والسلام على من أرسله ربه رحمة للعالمين، سيّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد :
ولا تحسبنَّ أن هذه الآفة التي ابتلي بها زماننا، هي أمر مستجد، بل هي قديمة ظلّت تتحدَّر من زمان إلى زمان، ومن قرن إلى قرن، تنصُّ برأسها بين حين وآخر، يعينها على هذا النصوص، قلَّة العلماء العاملين، وكثرة الجهّال الذين يفتون بغير علم. وخير من يصف هذا الحال هو الشاطبي
([2])، وإنك لواجدٌ في كلامه كلَّ غَناء، وكأنه يرى زماننا رأي العين
ويقول: "ويقول - أي المخالف -: إن الاختلاف رحمة وربما صرّح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور، أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر، والذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجَّرت واسعاً، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك"([4]).
وقال: "صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه، أو صديقه بما لا يفتى به غيره من الأقوال اتباعاً لغرضه وشهوته..... ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعاً لشهوته"([6]).
إذن هو تناقض وقع فيه بعض أتباع الأئمة، ومقلدة المذاهب، فعلمت يومئذ أن العمل بمسائل الخلاف ليس على إطلاقه
وفي هذا البحث حاولت - مستعيناً بالله - جمع أقوال العلماء في مسألة الترخص بمسائل الخلاف
هذا والله تعالى أسأله أن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب.
المبحث الأول
الخلاف: أسبابه، وبيان أنه من السنن الكونية
من أعظم آيات الله عزَّ وجلَّ أن خلق الناس مختلفين في ألوانهم وألسنتهم، وعقولهم وأفهامهم، فقرنها الله تعالى مع عجيبة أخرى وهي خلق السموات والأرض فقال U: [وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ] [ الروم: 22 ] [/size]
فكان من مقتضى هذه الحكمة أن يقع الخلاف بين الناس، فهي سمة البشرية، وسنة كونية لا تتغيرولا تتبدّل وقد صحّ عن ابن عباس([12]) رضي الله عنهما قوله: " كان بين آدم ونوح عشرة آخرون كلهم على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك "([13]) ذكر هذا في معرض تفسيره لقوله تعالى U: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] [ البقرة 213 ]، [/size]
فالخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح عليه السلام، لم تسلم منه أمّة من الأمم ويقول النبي e: "افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة"([14]).[/size]
وهذه الأمة ليست ببدع من الأمم، فقد بقى رسولها ش ثلاثاً وعشرين سنة بين ظهرانيهم، يعلمهم الكتاب والحكمة، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم، ومع هذا تنازع الصحابة واختلفوا، في مراد النبي ش كما ثبت في الصحيحين أن النبي e قال: "لا يصلّينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في الطريق. فقال بعضهم: نصلي ولا نترك الصلاة. وقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا بعد غروب الشمس فلم يعنف أحداً منهم"([15]).[/size]
وكذلك حديث: "خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة ولــيس معهما ماءٌ فتيمَّما صعيداً طيباً فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتــيا رسول الله e فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يُعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين"([16]).[/size]
[
فلما قُبض النبي e تركهم "على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك"([17]) وما أبلغ كلمة عمه العباس بن عبد المطلب([18]) رضي الله عنه حين شك الناس في موته فقال : "والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً، وأحلّ الحلال، وحرّم الحرام، ونكح، وطلَّق، وحارب، وسالم، وما كان راعي غنم يتبع رؤوس الجبال، يخبط عليها العضاة بمخبطه، ويمرر حوضها بيده، بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم"([19]).
وميراث النبوة الذي ورَّثه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته منه ما هو بيِّنٌ لا اشتباه فيه مثل الحلال المحض كأكل الطيبات من الزروع والثمار وكالنكاح، والتسري.[/size]
وآخر هو الحرام المحض، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا، ونكاح المحارم وغيرها.
ومنه ما هو مشتبه فيه، كأكل ما اختلف في تحريمه وحلِّه، كالخيل والبغال، والحمير، والضبِّ، وشرب الانبذة التي يسكر كثيرها، وغيرها.[/size]
وهذا القسم هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهاتٌ، لا يعلمها كثير من الناس" ([20])، فسّره على هذا المعنى الإمام أحمد وإسحاق([21]) وغيرهما من الأئمة([22])[/size]
والعلماء هم الوارثون لعلم النبوة، وأنواع الشبه تختلف بقوة قربها من الحرام، وبعدها عنه، لذلك يقع الخلاف في تحليله وتحريمه لأسباب كثيرة، عني الفقهاء على استقصاءها وذكرها مطوّلة[/size]
لكن أعجبني ما لخَّصه ابن رجب رحمه الله فقال: [/size]
"ومنه - أي الحلال والحرام - ما لم يشتهر بين حملة الشريعة فاختلفوا في تحليله وتحريمه [/size]
وذلك لأسباب:[/size]
· منها: أنه قد يكون النص عليه خفياً، لم ينقله إلا قليل من الناس فلم يبلغ جميع حملة العلم.[/size]
· ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان، أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفة أحد النصين دون الآخر، فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معاً من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ.[/size]
· ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيراً.
· ومنها: ما يكون فيه أمر أو نهي، فيختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه.
وأسباب الخلاف أكثر مما ذكرنا "([23]).
[/size]
]للدكتور [
خالد العروسي
[size=21]الأستاذ المساعد بقسم الشريعة بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية [/size]
– جامعة أم القرى
خالد العروسي
[size=21]الأستاذ المساعد بقسم الشريعة بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية [/size]
– جامعة أم القرى
ملخص البحث
مسألة الترخّص بمسائل الخلاف، من المسائل التي بحثها الأصوليون والفقهاء على حدٍّ سواء
وهي مسألة أحسب أنّا أحوج ما نكون إلى ضبطها الآن، فالواقعون فيها بين مشدِّدٍ منكرٍ لجواز الترخص بها مطلقاً، وبين متساهلٍ مستهينٍ بها
فأجاز العمل بمسائل الخلاف مطلقاً
إلا أن أثر وخطر الفريق الثاني أعظم، لولع الناس والعوام بكل سهل ولو كان منكراً مستغرباً.
وكلا الفريقين على خطأ، وكلاهما قد خالف مذهب الأئمة والسلف القائل : بالجواز ولكن بضوابط وقيود
وفي هذا البحث الذي أقدمه بين يديك، حاولت تتبع مذاهب الأئمة في هذه المسألة، فجمعت أقوالهم وأقوال أصحابهم في هذه المسألة، مستدلاً على هذا ببعض تفريعاتهم وفتاواهم
1 - الخلاف: أسبابه، وبيان أنه من السنن الكونية.
2 - الاختلاف هل هو رحمة ؟
3 - فضل معرفة علم ما يختلف فيه.
4 - بيان زلاّت العلماء.
4 - بيان زلاّت العلماء.
5 - تأصيل المسألة.
6 - أقوال العلماء في المسألة.
6 - أقوال العلماء في المسألة.
7 - قاعدة مراعاة الخلاف.
8 - ضوابط العمل بمسائل الخلاف.
8 - ضوابط العمل بمسائل الخلاف.
والحمد لله رب العالمين.
مقدِّمة
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، وجعلنا خير أمّة أخرجت للناس، حثَّنا على التآلف والاجتماع، ونهانا عن التفرق والاختلاف. والصلاة والسلام على من أرسله ربه رحمة للعالمين، سيّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد :
فمنذ غرّة سنيِّ الطلب، تلقينا عن مشايخنا وأساتذتنا، حبَّ أسلافنا من العلماء، وتوقيرهم، ومعرفة حقوقهم وأفضالهم، فهم بحور العلم الزاخرة، وجباله الشوامخ، فاستقرَّ ذلك في نفوسنا، وجعلناه ديناً ندين الله تعالى به.
وجعلوا آية هذه المحبة والتوقير ترك التعصب لمذهب على آخر، وعدم الإنكار على مقلدة المذاهب في اختياراتهم واجتهاداتهم، ففي هذا الاختلاف رحمة للأمة كما صحّ عن كثير من السلف.
وأئمة المذاهب مجتهدون، والمجتهد مأجور في كل الأحوال، حتى أسلمنا ذلك إلى جواز الأخذ بقول أيِّ إمام من الأئمة، من غير نظرٍ إلى دليل، فكون المسألة تُعدُّ من مسائل الخلاف، هي دليل الإباحة.
ومما زاد من غلواء هذا، ما كنّا نسمعه من بعض أهل العلم من جعلهم الخلاف حجّةً يحتجون بها في معرض الجدال والنقاش، وسبباً للبحث عن الرخص للعوام من الناس من غير ضابط ولا قيد، ويستدلون بما سطّره بعض أسلافنا من العلماء - رحمهم الله - في كتبهم من أنه لا إنكار في المجتهدات
فبلغ السيل زباه، حتى صار العوام من الناس يلوكون هذه الكلمة من غير معرفة لمعناها فيرددون: المسألة فيها خلاف.
ولا تحسبنَّ أن هذه الآفة التي ابتلي بها زماننا، هي أمر مستجد، بل هي قديمة ظلّت تتحدَّر من زمان إلى زمان، ومن قرن إلى قرن، تنصُّ برأسها بين حين وآخر، يعينها على هذا النصوص، قلَّة العلماء العاملين، وكثرة الجهّال الذين يفتون بغير علم. وخير من يصف هذا الحال هو الشاطبي
([2])، وإنك لواجدٌ في كلامه كلَّ غَناء، وكأنه يرى زماننا رأي العين
يقول: "وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية، حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً في حجج الإباحة... فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لِمَ تمنع ؟ والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها"([3]).
ويقول: "ويقول - أي المخالف -: إن الاختلاف رحمة وربما صرّح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور، أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر، والذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجَّرت واسعاً، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك"([4]).
[ويقول: "الورع قلَّ، بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم، ويتجاسر على الفتوى فيه"([5]).[/size]
وقال: "صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه، أو صديقه بما لا يفتى به غيره من الأقوال اتباعاً لغرضه وشهوته..... ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعاً لشهوته"([6]).
ورحم الله الشاطبي فما زاد على ما نشاهده في أيامنا هذه قلامة ظفر.[/size]
[
والإشكال الذي كنت أقف أمامه حائراً متعجباً، أن ما نقلوه عن بعض الأئمة من أنه لا إنكار في مسائل المجتهدات، وأن الخلاف خير ورحمة، هو صحيح وثابت، ثم أجد ما يناقضه مسطوراً في كتبهم، فيفتون بجلد شارب النبيذ متأولاً أو مقلداً، ويزجرون من لا يتم ركوعه وسجوده، وينكرون على من يلعب الشطرنج وغيرها من مسائل الخلاف التي تتفاوت درجات الإنكار فيها بين الوعظ والتعزير. ولكن سرعان ما أعزو هذا العجب إلى قلَّة فهمي ومعرفتي بكلام الأئمة. [/size]
والإشكال الذي كنت أقف أمامه حائراً متعجباً، أن ما نقلوه عن بعض الأئمة من أنه لا إنكار في مسائل المجتهدات، وأن الخلاف خير ورحمة، هو صحيح وثابت، ثم أجد ما يناقضه مسطوراً في كتبهم، فيفتون بجلد شارب النبيذ متأولاً أو مقلداً، ويزجرون من لا يتم ركوعه وسجوده، وينكرون على من يلعب الشطرنج وغيرها من مسائل الخلاف التي تتفاوت درجات الإنكار فيها بين الوعظ والتعزير. ولكن سرعان ما أعزو هذا العجب إلى قلَّة فهمي ومعرفتي بكلام الأئمة. [/size]
ومضى على ذلك دهر، حتى وقفت على نصٍ لإمام من أئمة الحنابلة هو [/size]
ابن مفلح([7]) - رحمه الله - يعجب مما عجبت منه فقال:
"ولا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه، أو قلَّد مجتهداً فيه، كذا ذكره القاضي([8]) والأصحاب، وصرّحوا بأنه لا يجوز. [/size]
ومثلّوه بشرب يسير النبيذ، والتزوج بغير ولي، ومثلّه بعضهم بأكل متروك التسمية، وهذا الكلام منهم مع قولهم يحدّ شارب النبيذ متأولاً ومقلداً أعجب، لأن الإنكار يكون وعظاً وأمراً ونهياً وتعزيراً وتأديباً، وغايته الحدُّ، فكيف يحدُّ ولا ينكر عليه ؟ أم كيف يفسق على رواية، ولا ينكر على فاسق"([9]).[/size]"ولا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه، أو قلَّد مجتهداً فيه، كذا ذكره القاضي([8]) والأصحاب، وصرّحوا بأنه لا يجوز. [/size]
إذن هو تناقض وقع فيه بعض أتباع الأئمة، ومقلدة المذاهب، فعلمت يومئذ أن العمل بمسائل الخلاف ليس على إطلاقه
وما يردده كثير من أهل العلم من أنه لا إنكار في المجتهدات ليس بصحيح
فالمسألة لها ضوابط وآداب، يجب أن تراعى عند الترخص بها
لذلك تجد المحققين من أهل العلم كابن تيمية([10]) وابن رجب([11]) وغيرهما يفرقون بين الاجتهاد والتقليد، المقبول منه والمردود بكونه: " سائغاً "
وهي كلمة مجملة، يعنون بها الاجتهاد أو التقليد الملجوم بضوابط الشرع وآدابه.
وفي هذا البحث حاولت - مستعيناً بالله - جمع أقوال العلماء في مسألة الترخص بمسائل الخلاف
توسطت فيه بين أقوال المنكرين على جواز الترخص مطلقا
وبين أقوال المفرِّطين المتساهلين الذين يأخذون المسألة على إطلاقها
فجمعت هذه الضوابط من كلام العلماء - لاسيما المحققين منهم - على اختلاف مذاهبهم
وذكرت بعض الآداب التي يجب على المفتي مراعاتها، خاصة في هذا الزمن، الذي أصبح فيه العالــم قرية صغيرة
فالفتوى التي تصدر في مكة مثلاً أو في القاهرة، لا تلبث ساعات، بل دقائق، حتى يعلم بها، كل مَن في أرجاء هذه المعمورة، وما تهيجه من شرٍّ وفتنة إذا لم تكن مضبوطة بضوابط الشرع.[/size]
وسطّرت في هذه الصحف بعض المباحث التي لها صلة بهذه المسألة،[/size]
[ فبيّنت أسباب اختلاف العلماء، والخلاف هل هو رحمة أم لا ؟ [/size]
[ثم دفعت ما ظُنَّ أنه تناقض في كلام أسلافنا من الأئمة، وذكرت الأصل الذي تفرعت منه هذه المسألة مبيناً صحة هذا الأصل أو سقمه.[/size]
هذا والله تعالى أسأله أن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب.
المبحث الأول
الخلاف: أسبابه، وبيان أنه من السنن الكونية
من أعظم آيات الله عزَّ وجلَّ أن خلق الناس مختلفين في ألوانهم وألسنتهم، وعقولهم وأفهامهم، فقرنها الله تعالى مع عجيبة أخرى وهي خلق السموات والأرض فقال U: [وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ] [ الروم: 22 ] [/size]
فكان من مقتضى هذه الحكمة أن يقع الخلاف بين الناس، فهي سمة البشرية، وسنة كونية لا تتغيرولا تتبدّل وقد صحّ عن ابن عباس([12]) رضي الله عنهما قوله: " كان بين آدم ونوح عشرة آخرون كلهم على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك "([13]) ذكر هذا في معرض تفسيره لقوله تعالى U: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] [ البقرة 213 ]، [/size]
فالخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح عليه السلام، لم تسلم منه أمّة من الأمم ويقول النبي e: "افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة"([14]).[/size]
وهذه الأمة ليست ببدع من الأمم، فقد بقى رسولها ش ثلاثاً وعشرين سنة بين ظهرانيهم، يعلمهم الكتاب والحكمة، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم، ومع هذا تنازع الصحابة واختلفوا، في مراد النبي ش كما ثبت في الصحيحين أن النبي e قال: "لا يصلّينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في الطريق. فقال بعضهم: نصلي ولا نترك الصلاة. وقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا بعد غروب الشمس فلم يعنف أحداً منهم"([15]).[/size]
وكذلك حديث: "خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة ولــيس معهما ماءٌ فتيمَّما صعيداً طيباً فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتــيا رسول الله e فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يُعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين"([16]).[/size]
[
فلما قُبض النبي e تركهم "على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك"([17]) وما أبلغ كلمة عمه العباس بن عبد المطلب([18]) رضي الله عنه حين شك الناس في موته فقال : "والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً، وأحلّ الحلال، وحرّم الحرام، ونكح، وطلَّق، وحارب، وسالم، وما كان راعي غنم يتبع رؤوس الجبال، يخبط عليها العضاة بمخبطه، ويمرر حوضها بيده، بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم"([19]).
وميراث النبوة الذي ورَّثه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته منه ما هو بيِّنٌ لا اشتباه فيه مثل الحلال المحض كأكل الطيبات من الزروع والثمار وكالنكاح، والتسري.[/size]
وآخر هو الحرام المحض، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا، ونكاح المحارم وغيرها.
ومنه ما هو مشتبه فيه، كأكل ما اختلف في تحريمه وحلِّه، كالخيل والبغال، والحمير، والضبِّ، وشرب الانبذة التي يسكر كثيرها، وغيرها.[/size]
وهذا القسم هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهاتٌ، لا يعلمها كثير من الناس" ([20])، فسّره على هذا المعنى الإمام أحمد وإسحاق([21]) وغيرهما من الأئمة([22])[/size]
والعلماء هم الوارثون لعلم النبوة، وأنواع الشبه تختلف بقوة قربها من الحرام، وبعدها عنه، لذلك يقع الخلاف في تحليله وتحريمه لأسباب كثيرة، عني الفقهاء على استقصاءها وذكرها مطوّلة[/size]
لكن أعجبني ما لخَّصه ابن رجب رحمه الله فقال: [/size]
"ومنه - أي الحلال والحرام - ما لم يشتهر بين حملة الشريعة فاختلفوا في تحليله وتحريمه [/size]
وذلك لأسباب:[/size]
· منها: أنه قد يكون النص عليه خفياً، لم ينقله إلا قليل من الناس فلم يبلغ جميع حملة العلم.[/size]
· ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان، أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفة أحد النصين دون الآخر، فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معاً من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ.[/size]
· ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيراً.
· ومنها: ما يكون فيه أمر أو نهي، فيختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه.
وأسباب الخلاف أكثر مما ذكرنا "([23]).
[/size]
عدل سابقا من قبل الشيخ إبراهيم حسونة في 07.09.08 9:24 عدل 1 مرات