نصيحة إلى الدعاة إلى الله تعالى
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
نصيحة إلى الدعاة إلى الله تعالى
ليت الدعاة إلى الله في العالم الإسلامي ينتهجون نهج الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه في التعامل مع القضايا المتعلقة بالولاة وبالدول والحكومات التي يسميها بعض الناس (فقه الواقع), إن الاغراق في التصدي لأخطاء الحكام أو اظهار التحدي في إصدار الحكم عليهم, أو الاصطدام بالأنظمة الحاكمة والانشغال بإبراز العيوب والمثالب لهذا الحاكم أو ذاك انه مع كونه مخالفاً للمنهاج الصحيح والحكمة الشرعية والمسلك الذي كان عليه فقهاء الصحابة رضي الله عنهم فهو في الوقت نفسه مصادرة وتهميش للقضية الأساسية التي قامت عليها الدعوة إلى الله وهي بث العلم النافع بين عامة الناس وإرشادهم وتوجيههم لما فيه سعادتهم واستقامتهم في دينهم ودنياهم وإن في هذا لشغلاً عن أمور أخرى ليس فيها إلا جهد البلاء, وشماتة الأعداء ! ولقد فطن الصحابي الجليل الفقيه الحافظ بل هو حافظ الأمة على الاطلاق أبو هريرة رضي الله عنه إلى هذا المعنى الجليل حينما قال فيما أخرجه عنه البخاري بإسناده: ((حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته, وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)). إن الوعاء الذي بثه أبو هريرة هو وعاء العلم النافع والأحكام ومسائل الحلال والحرام التي ينتفع بها عامة المسلمين وخاصتهم وهم أحوج إليها من حاجتهم إلى الطعام والشراب, ومازال هذا الوعاء المبارك ينهل منه المسلمون العقيدة الصحيحة والعبادات والمعاملات والأخلاق الكريمة والآداب الحسنة والأحكام الشرعية والسنن النبوية ما يثقل به ميزان أبي هريرة ويعظم أجره وفضله عند الله تعالى. أما الوعاء الآخر الذي احتفظ به أبو هريرة رضي الله عنه ولم يبثه في الأمة فهو وعاء الأحاديث المتعلقة بأمراء السوء وقادة الفتن وأحوالهم وزمنهم وأسمائهم, حتى كان أبو هريرة رضي الله عنه يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم, كقوله ((أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان)) قال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)): يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة, واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. انتهى. رضي الله عن أبي هريرة لقد فتح باب خير وهدى للناس وأغلق باب الشر والفتن ولم يصطدم بولاة ذلك العصر وسلم أبو هريرة وسلم العلم والعلماء وطلاب العلم وسلمت الدعوة من المحن والفتن وسلم الدعاة من البلاء في ملاحقة الأجهزة الأمنية ومتابعة المخابرات والاستدعاءات والاستجوابات, وأعظم من ذلك كله أن الدعوة سلمت من تجفيف المنابع وحرمان الناس من وعاء العلم النافع الذي بثه أبو هريرة رضي الله عنه في الأمة إلى قيام الساعة, فيا معاشر الدعاة ! أرأيتم لو أن أبا هريرة رضي الله عنه بث ذلكم الوعاء الخطير المتعلق بولاة السوء, فكيف يكون الحال ؟ يمكنكم إن نظرتم إلى بعض البلاد التي اصطدم فيها الدعاة أو الجماعات بالأنظمة الحاكمة حيث دخل الجميع في دوامة من العنف والعسف والتعدي على الأنفس والأعراض والحرمات حتى أصبح المسلم المحافظ على دينه لايأمن على نفسه وأهله فضلاً عن الدعاة والمنتمين إلى تلك الجماعات, إنكم يامعاشر الدعاة إذا نظرتم في هذا الواقع المرير الذي رأيناه وعاصرناه لتصورتم حجم الكارثة التي ستقع لو أن أبا هريرة رضي الله عنه بث ذلكم الوعاء. علماً بأن هذا الوعاء الذي كتمه أبو هريرة رضي الله عنه ليس أخباراً جمعها من الصحف والمجلات أو شائعات التقطها من الاذاعات والقنوات أو قصاصات أرسلت إليه في الدروس والمحاضرات, بل هو وعاء حفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومع ذلك كتمه لأن المصلحة تقتضي كتمه, أفليست الأخبار والشائعات والقصاصات أولى بالكتمان إن كانت المصلحة في كتمها وطرحها وترك التعرض لها؟ إن أهل العلم في كل زمان لا يفتحون باب الفتن على الناس بل هم أحرص الناس على إغلاقها ولو بكتم بعض العلم والسكوت عن بعض الأحكام وهذا الذي عناه الإمام البخاري رحمه الله حينما ترجم في كتاب العلم من ((صحيحه)) بقوله ((باب: من ترك بعض الاختيار, مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه)) وتفسير الترجمة: أن الشخص يترك بعض الأمور التي له اختيار ومندوحة في تركها مع كونها مطلوبة ومستحبة خشية ألا يفهمها الناس الفهم الصحيح فيقعوا بسبب ذلك في أمر أشد من تركهم ذلك الأمر الواجب أو المستحب, وكذلك الدعاة إلى الله لهم اختيار ومندوحة أن يتركوا كثيراً من الأحكام على الحاكم, والمواجهات مع الأنظمة القائمة لئلا يقع الناس في أمر أشد من فساد تلك الأنظمة وانحرافها عن شريعة الله تعالى, ولا يعني ذلك الدعوة إلى كتمان العلم, فإن العلم يبلغ فإن كان في تبليغه للعامة مفسدة بلغ حينئذ للخاصة لأنهم أفهم له وأوعب وأبعد عن تفسيره على غير وجهه ولذلك ترجم الإمام البخاري - رحمه الله - بعد الترجمة السابقة بقوله: ((باب: من خص بالعلم قوماً دون قوم, كراهية أن لا يفهموا)) وهذا من دقيق فقهه رحمه الله. فأين معظم الدعاة اليوم من هذا الفقه السلفي حيث يخاطبون عامة الناس بما لا يجوز أن تخاطب به إلا الخاصة, ثم يعمدون إلى مسائل لهم اختيار في تركها فيبثنوها في عامة الناس فلا تسأل عما تسببه من فتن وشرور. خصوصاً في هذا الوقت حيث صار الوصول إلى العامة سهلا من خلال ((القنوات)) وشبكة ((الانترنت)) والأشرطة المسجلة وغير ذلك من الوسائل. لقد بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في منى في موسم الحج وذلك في آخر حجة حجها أن أناساً يتكلمون في مسألة الخلافة والبيعة فأراد رضي الله عنه أن يقوم خطيباً في الموسم ليتكلم في هذا الأمر ويحذر الأمة من كلام هؤلاء فنصحه الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه بقوله ((يا أمير المؤمنين لا تفعل , فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس, وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيِّرها عنك كل مطيِّر, وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها, فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة, فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها)) وقد أخذ عمر رضي الله عنه بهذه النصيحة كما جاء في الحديث وهو حديث طويل ملئ بالفوائد والعبر أخرجه بتمامه الإمام البخاري (6830) في كتاب الحدود. فتأملوا في فقه الصحابة ودقة نظرهم وعظيم فهمهم ومراعاتهم لقاعدة المصالح والمفاسد وأن عامة الناس لهم حد محدود لا يجوز أن يُتجاوز في التخاطب إليهم. أخرج الإمام البخاري (4108) في حديث ذكره بإسناده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن معاوية رضي الله عنه خطب فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر (يعني: الخلافة) فليطلع لنا قرنه, فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال عبد الله بن عمر: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام, فخشيت أن أقول كلمة تفرِّق الجمع وتسفك الدم, ويحمل عني غير ذلك فذكرت ما أعد الله في الجنان. وفي رواية ذكرها الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) أنه قال: فذكرت الجنة فأعرضت عنه. رضي الله عنه ذكر الجنة ونعيمها فهانت عنده هذه الدنيا وما فيها من الرياسة والملك. والشاهد في كلامه رضي الله عنه أنه سكت عن معاوية ولم يرد عليه مع أن رده حق خشية أن يفتح باب الشر والفتنة على الناس. فأين هذا الفقه من بعض طلاب العلم اليوم حيث لا يصرحون بالرد على الحاكم فحسب بل يصرحون بتكفيره ومروقه عن الإسلام وأنه هو - أي الحاكم - وحكومته خارجون عن ملة الإسلام وأنهم مرتدون كفرة عملاء للغرب أو الشرق. أرأيتم لو كان هذا الكلام حقا أكان من المصلحة إعلانه وإذاعته أمام الغوغاء من حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام ومعظمهم لا يرجعون إلى عقل ودين بل يفزعون إلى السلاح والمتفجرات والسيارات المفخخة ثم نهايتهم بعد دوامة من الصراع إلى القتل أو الاعتقال وقد ملؤا الدنيا بالدماء والأشلاء وقتل الأبرياء. رحم الله الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبدالوهاب لقد رأيته يقول في إحدى رسائله ((والله الذي لا إله إلا هو لو يعرف الناس الأمر على وجهه لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله ووجوب قتلهم كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم لا أجد في نفسي حرجاً من ذلك)) (مؤلفات الشيخ 6/315) وابن سحيم هذا كان من دعاة الشرك المحاربين عمداً وقصداً لدعوة التوحيد ومثله يقتل بإجماع أهل العلم. غير أن الشيخ أمسك عن الإفتاء بحل دمه وعلل ذلك بقوله: لو يعرف الناس الأمر على وجهه. فقارن هذا المسلك الرشيد والمنهج السديد بما عليه بعض رويبضات التكفير في أوروبا وغيرها حيث يفتون بقتل النساء والصبيان في بلاد الإسلام ويستدل بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم ((هم منهم)) لما سئل عليه الصلاة والسلام عن أهل الدار (أي المنزل) يُبيَّتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريِّهم. متفق عليه من حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه فتأملوا في صنيع هذا الجاهل - وهو أقل ما يقال فيه - حيث عمد إلى حديث وارد في المشركين فأنزله على المسلمين وهذه هي طريقة الخوارج المعروفة عند من عقل طريقتهم. وأخيراً, يامعاشر الدعاة ! إليكم هذا الحديث: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا صفوان, حدثني شُريح بن عبيد الحضرمي وغيره, قال: جلد عياضُ بن غنم صاحب دارا حين فتحت, فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم, فاعتذر إليه ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أشد الناس عذاباً أشدهم عذاباً في الدنيا للناس)) فقال عياض بن غنم: يا هشام بن حكيم, قد سمعنا ما سمعت, ورأينا ما رأيت, أولم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أراد أن ينصح لسلطان بأمر, فلا يُبد له علانية, ولكن ليأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه, فذاك, وإلا كان قد أدى الذي عليه له)) وإنك يا هشام لأنت الجرئ إذ تجترئ على سلطان الله, فهلا خشيت أن يقتلك السلطان, فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى. ولقد عمل الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنهما بهذه الوصية النبوية فقد أخرج الشيخان في ((صحيحهما))* أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه (يعني في المخالفات التي حصلت من بعض الولاة) فقال: ((أترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه)) قال النووي في شرحه على صحيح مسلم قوله: افتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه يعني المجاهرة بالانكار على الأمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان رضي الله عنه. فيا أيها الدعاة ! إن كنتم تعتمدون الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة فهو منهاج واضح بيِّن لا خفاء فيه ولا لبس , فيه الحكمة والعقل وتحقيق المصالح ودرء المفاسد على نور وهدى من الله تعالى. وإن كنتم تتبعون الظن وما تهوى الأنفس من غير التفات إلى المصالح المرعية ولا تحكيم للقواعد الشرعية وتظنون أن غاية الداعية أن يكون (عنترة) زمانه فلتنتظر الدعوة بسببكم مزيداً من القمع والابتلاءات ولينتظر الدعاة بحماقتكم مزيداً من التضييق والملاحقات أما العامة فيبقون على ماهم عليه من العماية والجهالة والخرافات فلاهم انتفعوا بوعاء العلوم النافعات ولاهم سلموا من وعاء الفتن العاصفات.
والله المسئول أن يصلح شأن الدعاة والولاة , والحمد لله رب العالمين0
وكتبه / أبو مالك عبد الحميد الجهني
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
نصيحة إلى الدعاة إلى الله تعالى
ليت الدعاة إلى الله في العالم الإسلامي ينتهجون نهج الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه في التعامل مع القضايا المتعلقة بالولاة وبالدول والحكومات التي يسميها بعض الناس (فقه الواقع), إن الاغراق في التصدي لأخطاء الحكام أو اظهار التحدي في إصدار الحكم عليهم, أو الاصطدام بالأنظمة الحاكمة والانشغال بإبراز العيوب والمثالب لهذا الحاكم أو ذاك انه مع كونه مخالفاً للمنهاج الصحيح والحكمة الشرعية والمسلك الذي كان عليه فقهاء الصحابة رضي الله عنهم فهو في الوقت نفسه مصادرة وتهميش للقضية الأساسية التي قامت عليها الدعوة إلى الله وهي بث العلم النافع بين عامة الناس وإرشادهم وتوجيههم لما فيه سعادتهم واستقامتهم في دينهم ودنياهم وإن في هذا لشغلاً عن أمور أخرى ليس فيها إلا جهد البلاء, وشماتة الأعداء ! ولقد فطن الصحابي الجليل الفقيه الحافظ بل هو حافظ الأمة على الاطلاق أبو هريرة رضي الله عنه إلى هذا المعنى الجليل حينما قال فيما أخرجه عنه البخاري بإسناده: ((حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته, وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)). إن الوعاء الذي بثه أبو هريرة هو وعاء العلم النافع والأحكام ومسائل الحلال والحرام التي ينتفع بها عامة المسلمين وخاصتهم وهم أحوج إليها من حاجتهم إلى الطعام والشراب, ومازال هذا الوعاء المبارك ينهل منه المسلمون العقيدة الصحيحة والعبادات والمعاملات والأخلاق الكريمة والآداب الحسنة والأحكام الشرعية والسنن النبوية ما يثقل به ميزان أبي هريرة ويعظم أجره وفضله عند الله تعالى. أما الوعاء الآخر الذي احتفظ به أبو هريرة رضي الله عنه ولم يبثه في الأمة فهو وعاء الأحاديث المتعلقة بأمراء السوء وقادة الفتن وأحوالهم وزمنهم وأسمائهم, حتى كان أبو هريرة رضي الله عنه يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم, كقوله ((أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان)) قال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)): يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة, واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. انتهى. رضي الله عن أبي هريرة لقد فتح باب خير وهدى للناس وأغلق باب الشر والفتن ولم يصطدم بولاة ذلك العصر وسلم أبو هريرة وسلم العلم والعلماء وطلاب العلم وسلمت الدعوة من المحن والفتن وسلم الدعاة من البلاء في ملاحقة الأجهزة الأمنية ومتابعة المخابرات والاستدعاءات والاستجوابات, وأعظم من ذلك كله أن الدعوة سلمت من تجفيف المنابع وحرمان الناس من وعاء العلم النافع الذي بثه أبو هريرة رضي الله عنه في الأمة إلى قيام الساعة, فيا معاشر الدعاة ! أرأيتم لو أن أبا هريرة رضي الله عنه بث ذلكم الوعاء الخطير المتعلق بولاة السوء, فكيف يكون الحال ؟ يمكنكم إن نظرتم إلى بعض البلاد التي اصطدم فيها الدعاة أو الجماعات بالأنظمة الحاكمة حيث دخل الجميع في دوامة من العنف والعسف والتعدي على الأنفس والأعراض والحرمات حتى أصبح المسلم المحافظ على دينه لايأمن على نفسه وأهله فضلاً عن الدعاة والمنتمين إلى تلك الجماعات, إنكم يامعاشر الدعاة إذا نظرتم في هذا الواقع المرير الذي رأيناه وعاصرناه لتصورتم حجم الكارثة التي ستقع لو أن أبا هريرة رضي الله عنه بث ذلكم الوعاء. علماً بأن هذا الوعاء الذي كتمه أبو هريرة رضي الله عنه ليس أخباراً جمعها من الصحف والمجلات أو شائعات التقطها من الاذاعات والقنوات أو قصاصات أرسلت إليه في الدروس والمحاضرات, بل هو وعاء حفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومع ذلك كتمه لأن المصلحة تقتضي كتمه, أفليست الأخبار والشائعات والقصاصات أولى بالكتمان إن كانت المصلحة في كتمها وطرحها وترك التعرض لها؟ إن أهل العلم في كل زمان لا يفتحون باب الفتن على الناس بل هم أحرص الناس على إغلاقها ولو بكتم بعض العلم والسكوت عن بعض الأحكام وهذا الذي عناه الإمام البخاري رحمه الله حينما ترجم في كتاب العلم من ((صحيحه)) بقوله ((باب: من ترك بعض الاختيار, مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه)) وتفسير الترجمة: أن الشخص يترك بعض الأمور التي له اختيار ومندوحة في تركها مع كونها مطلوبة ومستحبة خشية ألا يفهمها الناس الفهم الصحيح فيقعوا بسبب ذلك في أمر أشد من تركهم ذلك الأمر الواجب أو المستحب, وكذلك الدعاة إلى الله لهم اختيار ومندوحة أن يتركوا كثيراً من الأحكام على الحاكم, والمواجهات مع الأنظمة القائمة لئلا يقع الناس في أمر أشد من فساد تلك الأنظمة وانحرافها عن شريعة الله تعالى, ولا يعني ذلك الدعوة إلى كتمان العلم, فإن العلم يبلغ فإن كان في تبليغه للعامة مفسدة بلغ حينئذ للخاصة لأنهم أفهم له وأوعب وأبعد عن تفسيره على غير وجهه ولذلك ترجم الإمام البخاري - رحمه الله - بعد الترجمة السابقة بقوله: ((باب: من خص بالعلم قوماً دون قوم, كراهية أن لا يفهموا)) وهذا من دقيق فقهه رحمه الله. فأين معظم الدعاة اليوم من هذا الفقه السلفي حيث يخاطبون عامة الناس بما لا يجوز أن تخاطب به إلا الخاصة, ثم يعمدون إلى مسائل لهم اختيار في تركها فيبثنوها في عامة الناس فلا تسأل عما تسببه من فتن وشرور. خصوصاً في هذا الوقت حيث صار الوصول إلى العامة سهلا من خلال ((القنوات)) وشبكة ((الانترنت)) والأشرطة المسجلة وغير ذلك من الوسائل. لقد بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في منى في موسم الحج وذلك في آخر حجة حجها أن أناساً يتكلمون في مسألة الخلافة والبيعة فأراد رضي الله عنه أن يقوم خطيباً في الموسم ليتكلم في هذا الأمر ويحذر الأمة من كلام هؤلاء فنصحه الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه بقوله ((يا أمير المؤمنين لا تفعل , فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس, وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيِّرها عنك كل مطيِّر, وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها, فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة, فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها)) وقد أخذ عمر رضي الله عنه بهذه النصيحة كما جاء في الحديث وهو حديث طويل ملئ بالفوائد والعبر أخرجه بتمامه الإمام البخاري (6830) في كتاب الحدود. فتأملوا في فقه الصحابة ودقة نظرهم وعظيم فهمهم ومراعاتهم لقاعدة المصالح والمفاسد وأن عامة الناس لهم حد محدود لا يجوز أن يُتجاوز في التخاطب إليهم. أخرج الإمام البخاري (4108) في حديث ذكره بإسناده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن معاوية رضي الله عنه خطب فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر (يعني: الخلافة) فليطلع لنا قرنه, فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال عبد الله بن عمر: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام, فخشيت أن أقول كلمة تفرِّق الجمع وتسفك الدم, ويحمل عني غير ذلك فذكرت ما أعد الله في الجنان. وفي رواية ذكرها الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) أنه قال: فذكرت الجنة فأعرضت عنه. رضي الله عنه ذكر الجنة ونعيمها فهانت عنده هذه الدنيا وما فيها من الرياسة والملك. والشاهد في كلامه رضي الله عنه أنه سكت عن معاوية ولم يرد عليه مع أن رده حق خشية أن يفتح باب الشر والفتنة على الناس. فأين هذا الفقه من بعض طلاب العلم اليوم حيث لا يصرحون بالرد على الحاكم فحسب بل يصرحون بتكفيره ومروقه عن الإسلام وأنه هو - أي الحاكم - وحكومته خارجون عن ملة الإسلام وأنهم مرتدون كفرة عملاء للغرب أو الشرق. أرأيتم لو كان هذا الكلام حقا أكان من المصلحة إعلانه وإذاعته أمام الغوغاء من حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام ومعظمهم لا يرجعون إلى عقل ودين بل يفزعون إلى السلاح والمتفجرات والسيارات المفخخة ثم نهايتهم بعد دوامة من الصراع إلى القتل أو الاعتقال وقد ملؤا الدنيا بالدماء والأشلاء وقتل الأبرياء. رحم الله الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبدالوهاب لقد رأيته يقول في إحدى رسائله ((والله الذي لا إله إلا هو لو يعرف الناس الأمر على وجهه لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله ووجوب قتلهم كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم لا أجد في نفسي حرجاً من ذلك)) (مؤلفات الشيخ 6/315) وابن سحيم هذا كان من دعاة الشرك المحاربين عمداً وقصداً لدعوة التوحيد ومثله يقتل بإجماع أهل العلم. غير أن الشيخ أمسك عن الإفتاء بحل دمه وعلل ذلك بقوله: لو يعرف الناس الأمر على وجهه. فقارن هذا المسلك الرشيد والمنهج السديد بما عليه بعض رويبضات التكفير في أوروبا وغيرها حيث يفتون بقتل النساء والصبيان في بلاد الإسلام ويستدل بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم ((هم منهم)) لما سئل عليه الصلاة والسلام عن أهل الدار (أي المنزل) يُبيَّتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريِّهم. متفق عليه من حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه فتأملوا في صنيع هذا الجاهل - وهو أقل ما يقال فيه - حيث عمد إلى حديث وارد في المشركين فأنزله على المسلمين وهذه هي طريقة الخوارج المعروفة عند من عقل طريقتهم. وأخيراً, يامعاشر الدعاة ! إليكم هذا الحديث: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا صفوان, حدثني شُريح بن عبيد الحضرمي وغيره, قال: جلد عياضُ بن غنم صاحب دارا حين فتحت, فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم, فاعتذر إليه ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أشد الناس عذاباً أشدهم عذاباً في الدنيا للناس)) فقال عياض بن غنم: يا هشام بن حكيم, قد سمعنا ما سمعت, ورأينا ما رأيت, أولم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أراد أن ينصح لسلطان بأمر, فلا يُبد له علانية, ولكن ليأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه, فذاك, وإلا كان قد أدى الذي عليه له)) وإنك يا هشام لأنت الجرئ إذ تجترئ على سلطان الله, فهلا خشيت أن يقتلك السلطان, فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى. ولقد عمل الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنهما بهذه الوصية النبوية فقد أخرج الشيخان في ((صحيحهما))* أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه (يعني في المخالفات التي حصلت من بعض الولاة) فقال: ((أترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه)) قال النووي في شرحه على صحيح مسلم قوله: افتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه يعني المجاهرة بالانكار على الأمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان رضي الله عنه. فيا أيها الدعاة ! إن كنتم تعتمدون الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة فهو منهاج واضح بيِّن لا خفاء فيه ولا لبس , فيه الحكمة والعقل وتحقيق المصالح ودرء المفاسد على نور وهدى من الله تعالى. وإن كنتم تتبعون الظن وما تهوى الأنفس من غير التفات إلى المصالح المرعية ولا تحكيم للقواعد الشرعية وتظنون أن غاية الداعية أن يكون (عنترة) زمانه فلتنتظر الدعوة بسببكم مزيداً من القمع والابتلاءات ولينتظر الدعاة بحماقتكم مزيداً من التضييق والملاحقات أما العامة فيبقون على ماهم عليه من العماية والجهالة والخرافات فلاهم انتفعوا بوعاء العلوم النافعات ولاهم سلموا من وعاء الفتن العاصفات.
والله المسئول أن يصلح شأن الدعاة والولاة , والحمد لله رب العالمين0
وكتبه / أبو مالك عبد الحميد الجهني