كشف الستور عن حكم زيارة النساء للقبور
[size=28]الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد :
فلما كان حكم زيارة النساء للقبور من المسائل المختلف فيها بين العلماء ما بين مبيح ومانع ومفصل ، والحاجة إلى معرفة حكم الله فيها تهم الجميع ، رأيت من الواجب علي أداءً للنصيحة للخاصة والعامة بيان الحق الذي يجب أن يدين به كل مسلم غيور . بذكر النصوص الصحيحة المانعة من زيارة النساء للقبور على الإطلاق ، مبينًا أن الاستدلال على الجواز برواية : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور ) غير مسلم به ، كما أن تضعيف رواية : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ) ليس صحيحًا ؛ لما سأذكره عن أئمة الشأن الذين يجب الرجوع إليهم في مثل هذا الميدان .
هذا وقد سميت هذه العجالة " كشف الستور عن حكم زيارة النساء للقبور " مرتبًا لها على العناوين التالية :
- اختلاف العلماء في هذه المسألة .
- المخرجون لأحاديث اللعن إجمالاً .
- تفصيل روايات المخرجين .
- سند حديث ( زائرات ) بطريقيه .
- الكلام على سندي هذا الحديث .
- ضبط زاي ( زوارات ) .
- تفصيل أدلة المنع .
- أدلة المجيزين والجواب عنها .
- نقل جملة من كلام أئمة التحقيق في هذه المسألة .
- خاتمة : في أن هدي السلف في الاتباع ومجانبة الابتداع .
والآن الشروع في المقصود ومن اللّه المدد المزيد .
- اختلاف العلماء في هذه المسألة :
اختلف العلماء في زيارة النساء للقبور على ثلاثة أقوال : وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد رحمه الله : أولاً : الكراهة من غير تحريم كما هو منصوص الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايات عنه ، واستدل له بحديث أم عطية المتفق عليه : ( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ) ، وإليه ذهب أكثر الشافعية وبعض الحنفية .
ثانيًا : أنها مباحة لهن غير مكروهة ، وبه قال أكثر الحنفية والمالكية وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى . واستدل له بحديث مسلم عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) .
وبحديث عائشة في زيارة أخيها عبد الرحمن ؛ وبحديثها أيضًا عند مسلم ( ما أقول لهم ؟ قال قولي ) . الحديث .
وبحديث أنس رضي الله عنه : ( مر النبي صلى اللّه عليه وسلم بامرأة تبكى عند قبر ) . الحديث .
ثالثًا : التحريم لأحاديث اللعن وغيرها مما يعضدها وهو مذهب بعض المالكية والشافعية والحنفية ، وإليه ذهب أكثر أهل الحديث وهو الرواية الثالثة عن الإمام أحمد رحمه الله . كما حكاها العلامة علي بن سليمان المرداوي في كتابه " الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل " قال ما نصه : ( وعنه - أي عن الإمام أحمد - رواية ثالثة : يحرم كما لو علمت بأنه يقع منها محرم ، ذكره المجد واختار هذه الرواية بعض الأصحاب ، وحكاها ابن تميم وجها ) .
قلت : وهو اختيار شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية ، وتلميذه العلامة ابن القيم ، والنووي في " مجموعه " ، والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب وكثير من أئمة التحقيق الآتي ذكر أقوالهم بعد إن شاء الله تعالى .
وأعلم أن القائل بالإباحة مقيد لها بما إذا لم تشتمل زيارة النساء للقبور على ما يفعله كثير من نساء زماننا من المنكر قولاً وفعلاً ، بل ما يفعله كثير من جهلة الرجال أيضًا ، فلا خلاف إذًا في الحرمة كما لا يخفى على المطلع الخبير إذا حصل ما ذكر .
وهذه مذاهب العلماء في هذه المسألة . وقد ذهب بعض أَهل زماننا إلى جواز زيارة النساء للقبور ما لم تتكرر محتجا برواية : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور ) على أنها للمبالغة مضعفًا رواية : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ) تقليدًا لمن فهم ذلك قبله من غير تحقيق ، وهو خلاف لا يعتد به إذ ليس له حظ من نظرٍ وقد قيل :
وليس كل خلاف جاء معتبرًا . إلا خلاف له حظ من النظر . أي من نظر صحيح .
وسيأتي الجواب عن أدلة الجميع إن شاء الله تعالى غير منكرين ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كما قال العلامة شمس الدين بن القيم رحمه الله تعالى : ( ندين الله بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نجعل بعضه لنا وبعضه علينا ، فنقر ما لنا على ظاهره ونتأول ما علينا على خلاف ظاهره ، بل الكل لنا لا نفرق بين شيء من سننه ، بل نتلقاها كلها بالقبول ونقابلها بالسمع والطاعة ، ونتبعها أين توجهت ركائبها وننزل معها أين نزلت مضاربها ، فليس الشأن في الأخذ ببعض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بعضها ، بل الشأن في الأخذ بجملتها وتنزيل كل شيء منها منزلته ووضعه بموضعه ، والله المستعان وعليه التكلان ) .
- المخرجون لأحاديث اللعن إجمالاً :
أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه حديث النهي عن زيارة النساء للقبور من ثلاثة طرق :
أولاً : من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه .
ثانيًا : من طريق أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما .
ثالثًا : من طريق عبد الرحمن بن حسان عن أبيه رضي الله عنهما .
وخرجه أبو داود . والنسائي . وأبو داود الطيالسي عن ابن عباس فقط . وكذلك خرجه ابن حبان في " صحيحه " عن أبي هريرة وابن عباس . والحاكم عن حسان بن ثابت رضي الله عنه .
- تفصيل روايات المخرجين :
أما الإمام أحمد فقد رواه بلفظين :
أولاً : رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور ) .
وأيضًا : عن حسان مثله .
ثانيًا : عن ابن عباس بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) .
وأما أبو داود ، والنسائي ، وأبو داود الطيالسي فقد أخرجوه كلهم عن ابن عباس مثل لفظ الإمام أحمد المتقدم عنه . وكذلك ابن حبان فقد رواه عن ابن عباس ، وأبي هريرة مثله .
وأما الترمذي فقد رواه من طرق الإمام أحمد الثلاثة المتقدمة ولفظه عن ابن عباس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور ) .
وعن أبي هريرة وحسان بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور ) .
بعد أن ترجم لها بقوله : ( باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء ) ، ثم قال : ( هذا حديث حسن صحيح ، وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء ، وقال بعضهم : إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن ) .
ورواه أيضًا ابن ماجه في " سننه " من الطرق الثلاثة المتقدمة عند الإمامين أحمد والترمذي كلها بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زُوَّارات القبور ) ، بعد أن بوب لها بقوله : ( باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور ) ، وقال في " الزوائد " : ( إسناد حديث حسان بن ثابت صحيح ورجاله ثقات ) .
فتبين من هذا أن لفظ : ( لعن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم زوارات القبور ) جاء من الطرق الثلاثة المتقدمة أعني : عن ابن عباس ، وثانيًا : عن أبي هريرة ، وثالثًا : عن حسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين .
وأن لفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ) جاء من طريقين .
أولاً : عن ابن عباس عند الإمام أحمد ، وأبى داود ، والنسائي ، والترمذي ، وابن حبان ، وأبي داود الطيالسي .
ثانيًا : عن أبي هريرة عند ابن حبان والله أعلم .
- سند حديث ( زائرات ) بطريقيه :
وسند الجميع عن ابن عباس ما يلي : قال الإمام أحمد في " مسنده " : ( حدثنا يحيى عن شعبة ، حدثنا محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس ) فذكره . ومثله بإسناده عند من تقدمت الإشارة إليهم ، إلا أن ابن حبان رواه أيضًا بسند آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه فقال : ( أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) .
فهذا الحديث روي عن كل من أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور) ، وبلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ) . كما صرح به الترمذي في " جامعه " ، وابن ماجه في " سننه " ، فلهذا قال الترمذي : ( هذا حديث حسن صحيح لكثرة طرقه ) .
وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى : ( هذا مع أنه ليس في الإسنادين من يتهم بالكذب ومثل هذا حجة بلا ريب ، وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي ، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن شاذًا ، وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات ، هذا لو كان عن صاحب واحد فكيف إذا كان هذا رواه عن صاحب وذاك عن آخر فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف ) .
- الكلام على سند هذا الحديث :
وأما أبو صالح الراوي عن ابن عباس ، فقد اختلف في اسمه على قولين :
القول الأول : أنه ميزان البصري أبو صالح ، وبهذا جزم ابن حبان في الصحيح في النوع السادس من الثاني ، وفى التاسع والمائة من الثاني أيضًا بعد أن أورد هذا الحديث من رواية عبد الوارث عن محمد بن جحادة ، وأقره ابن القيم في " تهذيب سنن أبي داود " وقوّى هذا القول بأنه ( ميزان ) ولكن صحف في طبعة " مختصر سنن أبي داود " بلفظ : ( مهران ) والصحيح أنه ( ميزان ) كما في " تهذيب التهذيب " لابن حجر .
وميزان هذا قال فيه يحيى بن معين - وهو من أشد الناس مقالة في الرجال - : ( إنه ثقة مأمون ) .
وذكره ابن حبان في " الثقات " .
وقال الحاكم في " الصحيح " : ( هو ثقة ) .
ولم يذكره المزي ولا الخلاصة ولا الميزان ولا لسانه .
وقال الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " : ( إن أبا صالح ميزان روى الترمذي عن طريقه في كتاب " الجنائز " من طريق عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحادة عن أيى صالح عن ابن عباس ) يشير إلى هذا الحديث .
القول الثاني : أن أبا صالح هذا هو ( باذام مولى أم هانئ ) ويقال بالنون : ( باذان ) وجزم بهذا الحاكم ، وعبد الحق الإشبيلي في " الأحكام " وابن القطان ، وابن عساكر ، والمنذري ، وابن دحية ، وغيرهم قاله في " التهذيب " .
فعلى كلا القولين فإن الحديث برواية : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ) حديث صحيح سواء كان من رواية ( ميزان ) أو من رواية ( باذام مولى أُم هانئ ) ، فقد قال أبو حاتم في " الجرح والتعديل " : ( لم أر أحدًا من أَصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ وما سمعت أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا ، ولم يتركه سعيد ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان ) .
وقال يحيى بن معين : ( أبو صالح مولى أم هانئ ليس به بَأس فإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء ، وإذا روى عنه غير الكلبي فليس به بأس ، لأن الكلبي يحدث به مرة من رأيه ومرة عن أبي صالح ) .
وهذا والله أعلم هو أعدل الأقوال في أمر أبي صالح مولى أُم هانئ كما أشار إلى ذلك العلامة المحقق الشيخ أحمد شاكر ، قال في " حاشيته على مسند الإمام أحمد " : ( والحق أن أبا صالح مولى أم هانئ ثقة ليس لمن ضعفه حجة وإنما تكلموا فيه من أجل التفسير الكثير المروي عنه والحمل في ذلك على تلميذه محمد بن السائب الكلبي ودعوى ابن حبان أنه لم يسمع من ابن عباس غلط عجيب ، فإن أبا صالح تابعي قديم روى عمن هو أقدم من ابن عباس كأبي هريرة ، وعلى بن أبي طالب ، وأم هانئ ، والله أعلم ) .
فلما كان حكم زيارة النساء للقبور من المسائل المختلف فيها بين العلماء ما بين مبيح ومانع ومفصل ، والحاجة إلى معرفة حكم الله فيها تهم الجميع ، رأيت من الواجب علي أداءً للنصيحة للخاصة والعامة بيان الحق الذي يجب أن يدين به كل مسلم غيور . بذكر النصوص الصحيحة المانعة من زيارة النساء للقبور على الإطلاق ، مبينًا أن الاستدلال على الجواز برواية : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور ) غير مسلم به ، كما أن تضعيف رواية : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ) ليس صحيحًا ؛ لما سأذكره عن أئمة الشأن الذين يجب الرجوع إليهم في مثل هذا الميدان .
هذا وقد سميت هذه العجالة " كشف الستور عن حكم زيارة النساء للقبور " مرتبًا لها على العناوين التالية :
- اختلاف العلماء في هذه المسألة .
- المخرجون لأحاديث اللعن إجمالاً .
- تفصيل روايات المخرجين .
- سند حديث ( زائرات ) بطريقيه .
- الكلام على سندي هذا الحديث .
- ضبط زاي ( زوارات ) .
- تفصيل أدلة المنع .
- أدلة المجيزين والجواب عنها .
- نقل جملة من كلام أئمة التحقيق في هذه المسألة .
- خاتمة : في أن هدي السلف في الاتباع ومجانبة الابتداع .
والآن الشروع في المقصود ومن اللّه المدد المزيد .
- اختلاف العلماء في هذه المسألة :
اختلف العلماء في زيارة النساء للقبور على ثلاثة أقوال : وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد رحمه الله : أولاً : الكراهة من غير تحريم كما هو منصوص الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايات عنه ، واستدل له بحديث أم عطية المتفق عليه : ( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ) ، وإليه ذهب أكثر الشافعية وبعض الحنفية .
ثانيًا : أنها مباحة لهن غير مكروهة ، وبه قال أكثر الحنفية والمالكية وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى . واستدل له بحديث مسلم عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) .
وبحديث عائشة في زيارة أخيها عبد الرحمن ؛ وبحديثها أيضًا عند مسلم ( ما أقول لهم ؟ قال قولي ) . الحديث .
وبحديث أنس رضي الله عنه : ( مر النبي صلى اللّه عليه وسلم بامرأة تبكى عند قبر ) . الحديث .
ثالثًا : التحريم لأحاديث اللعن وغيرها مما يعضدها وهو مذهب بعض المالكية والشافعية والحنفية ، وإليه ذهب أكثر أهل الحديث وهو الرواية الثالثة عن الإمام أحمد رحمه الله . كما حكاها العلامة علي بن سليمان المرداوي في كتابه " الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل " قال ما نصه : ( وعنه - أي عن الإمام أحمد - رواية ثالثة : يحرم كما لو علمت بأنه يقع منها محرم ، ذكره المجد واختار هذه الرواية بعض الأصحاب ، وحكاها ابن تميم وجها ) .
قلت : وهو اختيار شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية ، وتلميذه العلامة ابن القيم ، والنووي في " مجموعه " ، والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب وكثير من أئمة التحقيق الآتي ذكر أقوالهم بعد إن شاء الله تعالى .
وأعلم أن القائل بالإباحة مقيد لها بما إذا لم تشتمل زيارة النساء للقبور على ما يفعله كثير من نساء زماننا من المنكر قولاً وفعلاً ، بل ما يفعله كثير من جهلة الرجال أيضًا ، فلا خلاف إذًا في الحرمة كما لا يخفى على المطلع الخبير إذا حصل ما ذكر .
وهذه مذاهب العلماء في هذه المسألة . وقد ذهب بعض أَهل زماننا إلى جواز زيارة النساء للقبور ما لم تتكرر محتجا برواية : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور ) على أنها للمبالغة مضعفًا رواية : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ) تقليدًا لمن فهم ذلك قبله من غير تحقيق ، وهو خلاف لا يعتد به إذ ليس له حظ من نظرٍ وقد قيل :
وليس كل خلاف جاء معتبرًا . إلا خلاف له حظ من النظر . أي من نظر صحيح .
وسيأتي الجواب عن أدلة الجميع إن شاء الله تعالى غير منكرين ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كما قال العلامة شمس الدين بن القيم رحمه الله تعالى : ( ندين الله بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نجعل بعضه لنا وبعضه علينا ، فنقر ما لنا على ظاهره ونتأول ما علينا على خلاف ظاهره ، بل الكل لنا لا نفرق بين شيء من سننه ، بل نتلقاها كلها بالقبول ونقابلها بالسمع والطاعة ، ونتبعها أين توجهت ركائبها وننزل معها أين نزلت مضاربها ، فليس الشأن في الأخذ ببعض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بعضها ، بل الشأن في الأخذ بجملتها وتنزيل كل شيء منها منزلته ووضعه بموضعه ، والله المستعان وعليه التكلان ) .
- المخرجون لأحاديث اللعن إجمالاً :
أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه حديث النهي عن زيارة النساء للقبور من ثلاثة طرق :
أولاً : من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه .
ثانيًا : من طريق أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما .
ثالثًا : من طريق عبد الرحمن بن حسان عن أبيه رضي الله عنهما .
وخرجه أبو داود . والنسائي . وأبو داود الطيالسي عن ابن عباس فقط . وكذلك خرجه ابن حبان في " صحيحه " عن أبي هريرة وابن عباس . والحاكم عن حسان بن ثابت رضي الله عنه .
- تفصيل روايات المخرجين :
أما الإمام أحمد فقد رواه بلفظين :
أولاً : رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور ) .
وأيضًا : عن حسان مثله .
ثانيًا : عن ابن عباس بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) .
وأما أبو داود ، والنسائي ، وأبو داود الطيالسي فقد أخرجوه كلهم عن ابن عباس مثل لفظ الإمام أحمد المتقدم عنه . وكذلك ابن حبان فقد رواه عن ابن عباس ، وأبي هريرة مثله .
وأما الترمذي فقد رواه من طرق الإمام أحمد الثلاثة المتقدمة ولفظه عن ابن عباس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور ) .
وعن أبي هريرة وحسان بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور ) .
بعد أن ترجم لها بقوله : ( باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء ) ، ثم قال : ( هذا حديث حسن صحيح ، وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء ، وقال بعضهم : إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن ) .
ورواه أيضًا ابن ماجه في " سننه " من الطرق الثلاثة المتقدمة عند الإمامين أحمد والترمذي كلها بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زُوَّارات القبور ) ، بعد أن بوب لها بقوله : ( باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور ) ، وقال في " الزوائد " : ( إسناد حديث حسان بن ثابت صحيح ورجاله ثقات ) .
فتبين من هذا أن لفظ : ( لعن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم زوارات القبور ) جاء من الطرق الثلاثة المتقدمة أعني : عن ابن عباس ، وثانيًا : عن أبي هريرة ، وثالثًا : عن حسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين .
وأن لفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ) جاء من طريقين .
أولاً : عن ابن عباس عند الإمام أحمد ، وأبى داود ، والنسائي ، والترمذي ، وابن حبان ، وأبي داود الطيالسي .
ثانيًا : عن أبي هريرة عند ابن حبان والله أعلم .
- سند حديث ( زائرات ) بطريقيه :
وسند الجميع عن ابن عباس ما يلي : قال الإمام أحمد في " مسنده " : ( حدثنا يحيى عن شعبة ، حدثنا محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس ) فذكره . ومثله بإسناده عند من تقدمت الإشارة إليهم ، إلا أن ابن حبان رواه أيضًا بسند آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه فقال : ( أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) .
فهذا الحديث روي عن كل من أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور) ، وبلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ) . كما صرح به الترمذي في " جامعه " ، وابن ماجه في " سننه " ، فلهذا قال الترمذي : ( هذا حديث حسن صحيح لكثرة طرقه ) .
وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى : ( هذا مع أنه ليس في الإسنادين من يتهم بالكذب ومثل هذا حجة بلا ريب ، وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي ، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن شاذًا ، وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات ، هذا لو كان عن صاحب واحد فكيف إذا كان هذا رواه عن صاحب وذاك عن آخر فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف ) .
- الكلام على سند هذا الحديث :
وأما أبو صالح الراوي عن ابن عباس ، فقد اختلف في اسمه على قولين :
القول الأول : أنه ميزان البصري أبو صالح ، وبهذا جزم ابن حبان في الصحيح في النوع السادس من الثاني ، وفى التاسع والمائة من الثاني أيضًا بعد أن أورد هذا الحديث من رواية عبد الوارث عن محمد بن جحادة ، وأقره ابن القيم في " تهذيب سنن أبي داود " وقوّى هذا القول بأنه ( ميزان ) ولكن صحف في طبعة " مختصر سنن أبي داود " بلفظ : ( مهران ) والصحيح أنه ( ميزان ) كما في " تهذيب التهذيب " لابن حجر .
وميزان هذا قال فيه يحيى بن معين - وهو من أشد الناس مقالة في الرجال - : ( إنه ثقة مأمون ) .
وذكره ابن حبان في " الثقات " .
وقال الحاكم في " الصحيح " : ( هو ثقة ) .
ولم يذكره المزي ولا الخلاصة ولا الميزان ولا لسانه .
وقال الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " : ( إن أبا صالح ميزان روى الترمذي عن طريقه في كتاب " الجنائز " من طريق عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحادة عن أيى صالح عن ابن عباس ) يشير إلى هذا الحديث .
القول الثاني : أن أبا صالح هذا هو ( باذام مولى أم هانئ ) ويقال بالنون : ( باذان ) وجزم بهذا الحاكم ، وعبد الحق الإشبيلي في " الأحكام " وابن القطان ، وابن عساكر ، والمنذري ، وابن دحية ، وغيرهم قاله في " التهذيب " .
فعلى كلا القولين فإن الحديث برواية : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ) حديث صحيح سواء كان من رواية ( ميزان ) أو من رواية ( باذام مولى أُم هانئ ) ، فقد قال أبو حاتم في " الجرح والتعديل " : ( لم أر أحدًا من أَصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ وما سمعت أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا ، ولم يتركه سعيد ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان ) .
وقال يحيى بن معين : ( أبو صالح مولى أم هانئ ليس به بَأس فإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء ، وإذا روى عنه غير الكلبي فليس به بأس ، لأن الكلبي يحدث به مرة من رأيه ومرة عن أبي صالح ) .
وهذا والله أعلم هو أعدل الأقوال في أمر أبي صالح مولى أُم هانئ كما أشار إلى ذلك العلامة المحقق الشيخ أحمد شاكر ، قال في " حاشيته على مسند الإمام أحمد " : ( والحق أن أبا صالح مولى أم هانئ ثقة ليس لمن ضعفه حجة وإنما تكلموا فيه من أجل التفسير الكثير المروي عنه والحمل في ذلك على تلميذه محمد بن السائب الكلبي ودعوى ابن حبان أنه لم يسمع من ابن عباس غلط عجيب ، فإن أبا صالح تابعي قديم روى عمن هو أقدم من ابن عباس كأبي هريرة ، وعلى بن أبي طالب ، وأم هانئ ، والله أعلم ) .