كيف نقضي على الابتداع في زيارة جبلي حراء وثور
العدد 2135 | 12 ربيع الأول 1429 هـ
د· محمد بن إبراهيم السعيدي*
يرتبط اسم غار حراء في ذهن كل مسلم بإرهاصات الرسالة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، والتي تعد بحق الخيوط الأولى لفجر نور الإسلام الذي عم العالم بأسرة وأخرج الله به أمماً لا تحصى من الظلمات إلى النور·
د· محمد بن إبراهيم السعيدي*
يرتبط اسم غار حراء في ذهن كل مسلم بإرهاصات الرسالة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، والتي تعد بحق الخيوط الأولى لفجر نور الإسلام الذي عم العالم بأسرة وأخرج الله به أمماً لا تحصى من الظلمات إلى النور·
كما أن غار ثور يرتبط بالخطوات الأولى للهجرة العظيمة التي هي في نظر كل مسلم البداية العملية لتأسيس دولة الإسلام التي أخذت على عاتقها منذ إنشائها مهمة تبليغ رسالة الله إلى كل الأرض وإنقاذ كل من آمن بهذه الرسالة من ربقة الاستعباد للعباد إلى الاستعباد لرب العباد·
بهذه العبارات اليسيرة يمكن أن نجمل مشاعر المسلمين تجاه هذين الأثرين، وهي المشاعر التي تدفع بهم إلى زيارة جبلي حراء وثور عند قدومهم إلى مكة حاجين أو معتمرين، وتهون لأجلها عندهم كثرة الصعاب التي تحول بينهم وبين هذه الغاية القلبية من وعورة الجل وضعف البنية وشدة الحر، وكان مما لابد منه أن يحرر القول في حكم ما يفعلونه فإن كان محظورا حيل بينهم وبينه، إعانة لهم على الخير وتحقيقا لمقاصد الشريعة من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان مباحاً خلي بينهم وبين مقصدهم، بل وكان لزاماً علينا السعي لاستثمار شعورهم هذا بما يعود بالمنفعة على الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر·
فلم أجد فيما رجعت إليه من فتاوى في هذه المسألة خلافاً في أنه لا يجوز اتخاذ زيارة هذين الأثرين عبادة، لأن ذلك لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أو ضعيف بل لم يرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدا من أصحابه زارهما·
كما لم أجد خلافا في أنه لا يجوز التبرك بهما لأن البركة إنما تطلب بطريق الشرع ولم يرد الشرع بشيء من ذلك·
ولم أجد خلافاً أيضاً في أنه إذا تحقق كون زيارتهما ذريعة للابتداع والشرك فيمنع من زيارتهما إجراء للقاعدة سد الذريعة، والشرك والبدعة والقول على الله تعالى بغير علم من أعظم الأمور التي ينبغي سد الذرائع الموصلة إليها·
ووجدت أن الخلاف في الحقيقة منحصر في أمر هو: هل زيارة الغارين ذريعة للبدعة أم ليست ذريعة لها؟
فمن يرى الجواز لم يلحظ في صعود المسلمين لرؤية الغار ذريعة إلى البدع، بل رأى فيها تذكر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والاعتبار به وربما حصل من وراء ذلك رقة للقلب تنبعث عن تتبع آثار المحبوب كما قال الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي *** ولكن حب من سكن الديارا
ومن رأى المنع من زيارتها لحظ أنها ذريعة للابتداع واعتقاد سنيتها، أو أنها جزء من المناسك، وقد نص ابن تيمية رحمه الله على بدعية زيارة هذين الغارين في فتواه التالية:
"وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام كالمسجد الذي تحت الصفا وما في سفح أبي قبيس ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فليس قصد شيء من ذلك من السنة ولا استحبه أحد من الأئمة، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، والمشاعر: عرفة ومزدلفة والصفا والمروة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال إنه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك فإنه ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة" انتهى من "مجموع فتاوى ابن تيمية" (26/144)·
وهذا القول هو ما يذهب إليه غالب المفتين في المملكة العربية السعودية وعليه جاءت فتوى اللجنة الدائمة في السؤال التالي والجواب عنه:
يقع حوادث سقوط بعض الحجاج أثناء صعودهم لجبل النور ونزولهم من الغار، ويقترح بعض الناس القيام بعمل درج يؤدي إلى موقع الغار مع قفل جميع الجهات بشبك حديدي يمنع دخول أي أحد إلا من الطريق المخصص للصعود والنزول·
فأجابوا:
"الصعود إلى الغار المذكور ليس من شعائر الحج، ولا من سنن الإسلام، بل إنه بدعة، وذريعة من ذرائع الشرك بالله وعليه ينبغي أن يمنع الناس من الصعود له، ولا يوضع له درج ولا يسهل الصعود له؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه· وقد مضى على بدء نزول الوحي وظهور الإسلام أكثر من أربعة عشر قرناً، ولم نعلم أن أحداً من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته، ولا أئمة المسلمين الذين ولوا أمر المشاعر خلال حقب التاريخ الماضية أنه فعل ذلك، والخير كل الخير في اتباعهم والسير على نهجهم؛ حسبة لله تعالى، ووفق منهاج رسوله صلى الله عليه وسلم، وسدا لذرائع الشرك" انتهى· "فتاوى اللجنة الدائمة" (11/359)·
والملاحظ على فتوى شيخ الإسلام أنه علق الحكم بقصد العبادة، ولذلك حكم ببدعيته، أما اللجنة الدائمة، فعلقت الحكم على سد ذريعة البدعة·
فتوى ابن عثيمين
أما الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله فكان في فتواه في لقائه الشهري أكثر تحريراً حين قال رحمه الله: "وبعض الناس يتعمد أن يذهب إلى غار حراء يظن أن هذا من السنة، وليس كذلك، غار حراء غار كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينبأ، ونزل عليه الوحي وهو في هذا الغار، ولكن لم يعد النبي صلى الله عليه وسلم إليه بعد ذلك ولا كان الصحابة يقصدونه، وهناك غار آخر يقصده بعض والناس يظن أنه قربة، وهو غار ثور الذي اختفى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة وإتيانه ليس بسنة ولا قربة إلى الله عزَّ وجلَّ، لكن لو أن الإنسان صعد على جبل حراء أو على جبل ثور من أجل أن يطلع فقط دون أن يتقرب إلى الله بهذا الصعود، فهل ينكر عليه؟
الجواب: لا ينكر عليه، ينكر على الإنسان الذي يذهب يتعبد لله ويتقرب إلى الله بذلك" انتهى من "اللقاء الشهري3/65"
والملاحظ على فتوى الشيخ رحمه الله مراعاة قصد الصاعد إلى الجبل وأن من صعد للعبادة أو التبرك ينكر عليه ومن صعد لأجل الاطلاع لا ينكر عليه·
ولا شك أن تمييز مقاصد الناس على كثرتهم أمر متعذر، فهل نغلب جانب الإنكار لكون الغالب هو قصد القربة والبركة والتعبد، أم نغلب جانب ترك الناس وما هم عليه اقتداء بمن سلف من العصور الماضية وعدم محاسبة الناس على نياتهم؟
كلتا الوجهتين في تقديري لها ما يبررها·
حجج المانعين من الزيارة
فتغليب جانب الإنكار سدا للذريعة لنا فيه أسوة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في حادثتين شهيرتين:
أولاهما: أنه صلى الله عليه وسلم حج واعتمر وبقي في مكة زمناً بعد البعثة وأياماً بعد الفتح وحجة الوداع ولم ينقل عنه في رواية صحيحة أو ضعيفة أنه زار هذين الجبلين·
وقد يجاب عن ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يزرهما خشية منه أن تبقى سنة بعده، وقد عرف هذا من أفعاله صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك بعض ما يحبه خشية أن يفرض أو أن يبقى سنة بعده فيشق على أمته·
الآخر: أن أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله قد توافقت على إثبات سد ذرائع الشرك ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه ج2/ص: (666) عن أبي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قال قال لي عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ ألا أَبْعَثُكَ على ما بَعَثَنِي عليه رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالاً إلا طَمَسْتَهُ ولا قَبْرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّيْتَهُ
وفي صحيح ابن حبان ج15/ص94 عن أبي وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَّةَ خَرَجَ بِنَا مَعَهُ قِبَلَ هَوَازِنَ حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى سِدْرَةِ الْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكِفُونَ حَوْلَهَا وَيَدْعُونَهَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّهُ أَكْبَرُ إِِنَّهَا السُّنَنُ هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِِنَّكُمْ لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ·
وقد يجاب عنه بأن الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبو العهد بحقيقة الشرك فكان من إكمال الدين وإتمام الدعوة القضاء على كل ما يدعو إلى الشرك أو يذكر به ولا شك أن قياس عصرنا على عصر الرسالة قياس فيه نظر، كما أن الذرائع يمكن أن تسد بطريق آخر غير المنع·
كما أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ساروا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سد الذرائع الموصلة للشرك ومن أبرز الأحداث الواردة في ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف ج2/ص150عن نَافِعٍ قال بَلَغَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ أَنَّ أناسا يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ التي بُويِعَ تَحْتَهَا قال فَأَمَرَ بها فَقُطِعَتْ·
وقد يجاب عن ذلك بأن الخبر مرسل وعلى فرض صحته فإن الشجرة التي قطعها عمر ليس الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى البخاري في صحيحه ج3/ص1080عن نَافِعٍ قال قال بن عُمَرَ رضي الله عنهما رَجَعْنَا من الْعَامِ الْمُقْبِلِ فما اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ على الشَّجَرَةِ التي بَايَعْنَا تَحْتَهَا كانت رَحْمَةً من اللَّهِ·
وجاء في صحيح مسلم ج3/ص1485عن سَعِيدِ بن الْمُسَيَّبِ قال كان أبي مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الشَّجَرَةِ قال فَانْطَلَقْنَا في قَابِلٍ حَاجِّينَ فَخَفِيَ عَلَيْنَا مَكَانُهَا ···إلخ·
كما أن عمر رضي الله عنه قطعها لأن الناس اتخذوها مسجدا وليس لمجرد أنهم كانوا يأتون لرؤيتها، فتحققت ذريعة الافتتان بها، ولا نختلف في أنه إذا تحققت ذريعة الافتتان بغار حراء أو ثور أنه يمنع الناس من زيارتهما، لكن نحن ندعي أن الذريعة لم تتحقق وفي حال تحققها فإنه يمكن سدها بغير منع الناس من زيارة هذين الموضعين·
يدلك على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا من عام قابل رؤيتها، واجتازوا إليها وهم قاصدون من المدينة فلم يستطيعوا التحقق منها، مع أنها لم تكن في طريق القادم من مكة إلى المدينة، وإنما جعلها الرسول في طريقه إلى مكة في غزوة الحديبية تضليلا لأعدائه لما عرف عنه أنه إذا أراد أرضاً ورَّى بغيرها·