خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الانتصار للصحابة الآخيار في رد أباطيل حسن المالكي (( للوالد عبد المحسن العباد ))

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية الانتصار للصحابة الآخيار في رد أباطيل حسن المالكي (( للوالد عبد المحسن العباد ))

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 29.08.08 20:12

    [b]الانتصار للصحابة الآخيار في رد أباطيل حسن المالكي (( للوالد عبد المحسن العباد ))
    [size=28]الانتصار للصحابةِ الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي
    تأليف:
    عبد المحسن بن حمد العباد البدر

    - حفظه الله تعالى -

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعدُ:
    فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدْي هديُ محمد r، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.

    وبعد، فإنَّ من فضلِ الله تعالى وعظيمِ منَّتِه عليَّ أن حبَّبَ إليَّ صحابةَ رسول الله r الأخيار، وقرابتَه الأطهار، من غير إفراطٍ أو تفريطٍ، أو غُلوٍّ أوجفاءٍ، كما هي طريقةُ السَّلف الصالح، وقد ألَّفتُ رسالةً مختصرةً بعنوان: (( عقيدةُ أهل السنَّة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم ))، وقد نُشرتْ في مجلَّة الجامعة الإسلامية، في عدَدِها الثاني من السنة الرابعة، الصادر في شهر شوّال سنةَ 1391هـ، ثمَّ طُبعتْ مستقلَّة.

    وألَّفتُ رسالةً بعنوان: (( فضلُ أهل البيت وعُلوُّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة )) طُبعتْ في عام 1422هـ، وسبق أن ألقيتُ محاضرةً في الموضوع في الجامعة الإسلامية في عام 1405هـ تقريباً بعنوان: (( مكانةُ أهل البيت عند الصحابة وتابعيهم بإحسان )).

    وقد ألقيتُ محاضرةً في قاعة المحاضرات في الجامعة الإسلامية في عام 1405هـ تقريباً عن معاويةَ بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان عنوانها
    في أوَّل الأمر (( معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بين المنصفين والمتعسِّفين ))، لكنِّي عند إلقائها اقتصرتُ على كلام أهل الإنصاف دون ذكر شيءٍ من كلام أهل الاعتساف، ثمَّ طُبعت بعنوان: (( من أقوال المنصفين في الصحابيِّ الخليفةِ معاويةَ رضي الله عنه )).

    وفي الآونة الأخيرة وقفتُ على رسالتين لأحد المتعسِّفين الجُدُد، وهو حسن بن فرحان المالكي (نسبة إلى بَنِي مالك في أقصى جنوب المملكة)، إحداهما بعنوان: (( الصحابةُ بين الصُّحبة اللُّغوية والصُّحبة الشَّرعية ))، والثانية بعنوان: (( قراءةٌ في كتب العقائد ))، اشتملتَا على تَخبُّطٍ وتَخليطٍ في مسائل الاعتقاد، ولا سيَما في الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وعلى النَّيل من عددٍ كبيرٍ من علماء أهل السنَّة المتقدِّمين والمتأخِّرين، وإشادة بأهل البدع.

    وسأقتصرُ في هذه الرسالة على دحضِ أباطيله في حقِّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
    ومن هذه الأباطيل: تقسيمُه الصحبةَ إلى صحبةٍ شرعيَّة وصحبةٍ لغويَّةٍ، ويريدُ بالصُّحبة الشرعيَّة صحبة المهاجرين والأنصار من أوَّل الهجرة إلى صُلح الحُديبية، وأنَّ ما ورد من فضائل لأصحاب رسول الله r إنَّما هي لهؤلاء وحدهم، ومَن كان بعد الحُديبية فصحبتُه لغويَّة كصحبة المنافقين والكفّار. فأخرج بذلك الألوفَ الكثيرةَ من أصحاب رسول الله r الذين أسلموا وهاجروا إلى رسول الله r بعد الحُديبية، وكذلك الذين أسلموا عامَ الفتح، والوفودَ الذين وَفَدوا على رسول الله r وغيرَهم، ومِن الذين زعم أنَّهم لَم يظفروا بشرف الصُّحبة لرسول الله r وأنَّ صُحبَتَهم إيَّاه كصُحبة الكفَّار والمنافقين: عمُّه العباس بن عبد المطّلب وابنُه عبد الله وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية رضي الله عنهم، وسيأتي تنصيصُه على عدم صحبتِهم والردُّ عليه.

    ومن هذه الأباطيل تشكيكُه في أفضليَّة أبي بكر على غيره وفي أَوْلَوِيَّته بالخلافة بعد رسول الله r، وغير ذلك مِمَّا سأذكرُه في الرَّدِّ عليه.

    والله يعلم أنَّني كارهٌ لإيراد هذه الأباطيل، لكن حالي كما جاء في المَثَل: (( مُكرَهٌ أخوك لا بطل ))، كما في مجمع الأمثال للميداني (ص:274)، فأجدُني مضطرًّا إلى إيراد هذه التَّعسُّفات والرَّدِّ عليها،
    وأقول فيها كما قال السيوطي في كتابه (( مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة )) (ص:5) في إبطال قول من قال: (إنَّه لا يُحتَجُّ بالسُّنَّة، إنَّما يُحتجُّ بالقرآن وحده!) قال: (( اعلموا ـ يرحمكم الله ـ أنَّ من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تُذكر إلاَّ عند داعية الضرورة )) إلى أن قال في (ص:6): (( وهذه آراء ما كنتُ أستحلُّ حكايتَها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من أعصار )).

    ولشناعة هذه الأباطيل، فإنَّ مجرَّدَ تصوُّرِها يُغني عن الاشتغال في الردِّ عليها، لكنِّي رأيتُ الردَّ عليها في هذه الرسالة؛ لئلاَّ يغتَرَّ بها ذو جهل أو تغفيل، ورجاء أن يهدِيَ الله المردودَ عليه، ويُخرجه من الظلمات إلى النور، فيتوبَ من تلك الأباطيل قبل أن يفجأَه هادِمُ اللَّذَّات، والرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل، كما قال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تفسير القرطبي 5/262).

    وقد سَمَّيتُ هذه الرسالة:
    الانتصار للصحابةِ الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي
    وما أعزوُه إليه مِن كلامٍ باطل للردِّ عليه فهو في كتابه الذي في الصحابة، وما كان في الكتاب الآخر وهو: (( قراءةٌ في كتب العقائد )) فإنِّي أنصُّ عليه، فأقول: قال في (( قراءته )) كذا وكذا، وقد رددتُ عليه من كتابه هذا في موضعين من هذا الردِّ (ص:65)، (ص:115 ...)، وسأُفرِدُ بحول الله الردَّ عليه فيه بكتاب بعنوان: (( الانتصار لأهل السُّنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي )).
    وأسأل الله عزَّ وجلَّ التوفيقَ لِما فيه رضاه والفقهَ في دينه والثباتَ على الحقِّ، إنَّه سميعٌ مجيب.

    * * *


    زعمه قَصْر الهجرة على المهاجرين قبل الحُديبية، وقَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، والرد عليه:
    قال في (ص:25) في بيان مَن هم الصحابة: (( أصحابُ النَّبِيِّ r:

    ـ الصحبة الشرعية ـ ليسوا إلاَّ المهاجرين والأنصار، وقد يدخل فيهم مَن كان في حكمهم مِمَّن أسلم وهاجر إلى النَّبِيِّ r وعاد إلى بلاده قبل فتح الحُديبية.
    فهذا أسلمُ تعريفٍ لأصحاب النَّبِيِّ r، وهذه الصُّحبةُ الشرعيةُ هي التي كان فيها النُّصرةُ والتمكينُ في أيَّام الضَّعفِ والذِّلَّة، وهي الصُّحبةُ الممدوحةُ في القرآن الكريم والسنَّة النبويّة، بمعنى أنَّ كلَّ آيات القرآن الكريم التي أثنت على (الذين مع النَّبِيِّ r) إنَّما كان الثناءُ مُنصَبًّا على المهاجرين والأنصار فقط، وليس هناك مدحٌ عامٌّ لِمَن كان مع النَّبِيِّ r إلاَّ وهو منصرفٌ لهؤلاء لا لغيرهم !! )).
    وقد علَّق عند قوله: (( قبل فتح الحُديبية )) بقوله في الحاشية: (( وقد يدخل في مسمَّى (الأصحاب) مَن أسلم بَعد الحُديبية إلى فتح مكة، مع الجزم بالفرق الكبير بينهم وبين أصحاب النَّبِيِّ r قبل بيعة الرِّضوان؛ لحديث خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف، لكن لا يدخل فيهم طلقاءُ قريشٍ ولا عُتقاءُ ثقيفٍ ولا مَن كان في حُكمهم من الأعراب والوفود بعد فتح مكة !!! )).

    وقال في نهاية الكتاب (ص:84 ـ 85): (( الصُّحبةُ الشرعية: لا تكون إلاَّ في المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع النَّبِيِّ r في المدينة من بداية الهجرة إلى زمن الحُديبية، ويدخل في هؤلاء السابقون بالإسلام، الذين توفوا في مكة قبل الهجرة، أو في الحبشة، أو قدموا بعد الحُديبية من مهاجرة الحبشة فقط.

    الصُّحبة العامة: التي مرجعُها العُرفُ أو اللُّغة، فهذه يدخل فيها كلُّ مَن صحب النَّبِيَّ r من المسلمين أو المنافقين أو الكفَّار، والذي يُدخِل مَن صحب النَّبِيَّ r صحبةً يسيرةً لاحتمال اللُّغة ذلك لا يستطيع إخراجَ صحبة المنافق لا لغةً ولا عُرفاً؛ لأنَّ اللغةَ والعرفَ تحتملان ذلك أيضاً.

    فإن قال المُخرج للمنافق أو الكافر: إنَّما أخرجناهما من الصُّحبةِ بالشرع، قلنا له: ونحنُ إنَّما حدَّدنا الصُّحبة الشرعية بالمهاجرين والأنصار بالشرع أيضاً.
    فإن تَمسَّكتَ بمطلق اللغة فقد أدخلتَ على النَّبِيِّ r صحبةَ المنافقين، وإن قلتَ: أنَّ اللغة ليست حجَّةً على الشرع، قلنا: كذلك في الصحبة الشرعية، والعرفُ حكمُه حكمُ اللغة، وإن كان أقوى دلالةً من اللغة )).

    أقول: إنَّ هذا الكلام يشتمل على أمور:
    الأول: قصرُه المهاجرين هجرةً شرعيةً على مَن هاجر قبل الحُديبية، دون مَن هاجر بعدها.
    الثاني: أنَّ المهاجرين قبل الحُديبية مع الأنصار هم أصحابُ رسول الله r الصُّحبةَ الشرعية دون غيرِهم.
    الثالث: الجزم بأنَّ كلَّ مَن صحب الرسولَ r بعد فتح مكة ـ سواء كان من الطُّلَقاء والعُتقاء وأصحاب الوفود ـ لا يُعَدُّ صحابياًّ، وصحبتُه المضافة إليه لغوية، كصحبة المنافقين والكفّار.
    الرابع: أنَّ أولادَ المهاجرين والأنصار ليس لهم حكم المهاجرين والأنصار.
    الخامس: اعتبر مَن صَحِبَ النَّبِيَّ r بعد الحُديبية وقبل فتح مكة من أصحابه الصُّحبة اللُّغوية التي هي شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكفار، كما جاء في كلامه الأخير الذي هو خلاصةُ رأيه.

    والجوابُ عن الأمر الأوّل أن يُقال:
    إنَّ الهجرةَ إلى الرسول r في المدينة تَمتدُّ مِن بدْءِ الهجرة إلى فتحِ مكة، مع التفاوت الكبير بين مَن تقدَّمتْ هجرتُه ومَن تأخَّرتْ، كما أنَّ التفاوُتَ حاصلٌ بين مَن هاجر في بداية الهجرة وبين مَن هاجر قُبَيل صُلح الحُديبية.
    فإنَّ مَن شَهِد بدراً وأُحُداً والخندقَ وغيرَها أفضلُ مِمَّن هاجر قُبَيل الحُديبية وشَهِد الحُديبية.
    وما ذكره في (ص:85 ـ 86) من تقسيم الهجرة إلى (هجرة شرعية) تنتهي بصلح الحُديبية و(شرعيةِ هجرةٍ) تَمتَدُّ إلى فتح مكة، وقصْره فضلَ الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ على الهجرة قبل الحُديبية دون ما بعدها إلى فتح مكة تحكُّمٌ لا دليل عليه.
    ويدلُّ لاستمرار الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ من بدء الهجرة إلى فتح مكة ما يأتي:

    1 ـ حديث ابن عباس في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (2825)، أنَّ النَّبِيَّ r قال يومَ الفتح: (( لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّةٌ، وإذا استُنفِرْتُم فانفِروا )).
    قال الحافظ في شرحه: (( قال الخطّابيُّ وغيرُه: كانت الهجرةُ فرضاً في أوَّل الإسلام على مَن أسلم لقلَّة المسلمين بالمدينة وحاجتِهم إلى الاجتماع، فلمَّا فتح الله مكةَ دخل النَّاسُ في دين الله أفواجاً، فسقط فرضُ الهجرة إلى المدينة، وبقي فرضُ الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدوٌّ )).
    2 ـ حديث أبي عثمان النهدي عن مجاشع بن مسعود في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (3079)، قال: (( جاء مجاشعٌ بأخيه مجالد بن مسعود إلى النَّبِيِّ r، فقال: هذا مجالد يبايعُك على الهجرة، فقال: لا هجرةَ بعد فتح مكة، ولكن أبايعُه على الإسلام )).
    وفي لفظٍ للبخاري (2963) قال مجاشع: (( أتيتُ النَّبِيَّ r أنا وأخي، فقلتُ: بايعْنا على الهجرة، فقال: مَضتِ الهجرةُ لأهلها، فقلتُ: علامَ تبايعنا؟ قال: على الإسلام والجهاد )).

    وهو يدلُّ على استمرار الهجرة ذات المدح والثناء إلى فتح مكة.
    3 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( انقطعت الهجرةُ منذُ فتح الله على نبِيِّه r مكة )) رواه البخاري (3080).
    وهو واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الفضل إلى فتح مكة.
    4 ـ حديث جرير رضي الله عنه مرفوعاً: (( المهاجرون والأنصارُ بعضُهم أولياءُ بعض في الدنيا والآخرة، والطُّلَقاءُ من قريشٍ والعتقاءُ من ثقيفٍ بعضُهم أولياءُ بعضٍ في الدنيا والآخرة ))، وهوحديثٌ صحيحٌ، انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (1036) والمسند (4/363).
    والمقابلة بين المهاجرين والأنصار وبين الطُّلَقاء والعتقاء دالَّةٌ على استمرار الهجرة إلى فتح مكة.
    وقد أورد المالكي في (ص:46 ـ 47) حديثَ مجاشعٍ، وفيه الدلالة على أنَّ الهجرة تنتهي بفتح مكة، وهو يخالفُ ما زعمَه في (ص: 45 ـ 46) من أنَّ الهجرةَ تنتهي بصُلح الحُديبية فقال: (( الدليلُ الخامس عشر ما رواه البخاري في صحيحه عن مجاشع بن مسعود قال: أتيتُ النَّبِيَّ r بأخي بعد الفتح، فقلتُ: يا رسول الله! جِئتُك بأخي لتبايعَه على الهجرة، قال: ذهب أهلُ الهجرة بما فيها.
    أقول: هذه (كذا) فيه دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ فتحَ مكة قطع الهجرة، ولا يحصل مسلمو الفتح على اسم الهجرة ولا فضلها حتى لو وفدوا إلى النَّبِيِّ r، وعلى هذا فلا يُسمَّوْن مهاجرين، وإنَّما يُسمَّوْن (الناس) كما في حديث (أنا وأصحابي حيِّزٌ والناسُ حيِّزٌ)، أو يُسمَّون الطُّلَقاء، أو نحو ذلك! )).
    ثمَّ علَّق على هذا بقوله:(( وقوله: (ذهب أهلُ الهجرة بِما فيها) أي بِما فيها من فضلٍ وتسميةٍ وغيرِ ذلك مِمَّا هو من خصائص المهاجرين وفضائلهم )).
    وأقول: هذا واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الثناء والمدح إلى فتح مكة، وهو خلافُ ما دندن حولَه من أنَّ الهجرةَ المحمود أهلُها تنتهي بصلح الحُديبية، وهذا الحديثُ قد أوردتُه قريباً من جملة الأدلَّة الدالَّة على استمرار الهجرة المحمود أهلُها إلى فتح مكة، وليس إلى صلح الحُديبية كما زعم، وقد وُفِّق هنا للصواب بتقرير أنَّ الهجرةَ تستمرُّ إلى فتح مكة، وإن كان ذلك بغير قصدٍ منه.

    وأمَّا الأمورُ الأربعةُ الباقيةُ، وهي قصرُه الصُّحبةَ الشرعية التي جاء مدحُها في الكتاب والسنَّة على المهاجرين قبل الحُديبية والأنصار إلى زمن صلح الحُديبية، ونفي هذه الصحبة عن المهاجرين بعد الحُديبية، وعن الطُّلَقاء وعتقاء ثقيف وأصحاب الوفود وأبناء المهاجرين والأنصار، فيجاب عن ذلك بأنَّ هذا التقسيم للصحابة إلى مَن صُحبتُهم صُحبةٌ شرعيةٌ ومَن صُحبتُهم لُغويةٌ شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكافرين تقسيمٌ غيرُ صحيحٍ، وهو من محدثات القرن الخامس عشر، والصحيحُ أنَّ كلَّ مَن لقي النَّبِيَّ r مؤمناً به ومات على الإسلام فهو من أصحابه.

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: الانتصار للصحابة الآخيار في رد أباطيل حسن المالكي (( للوالد عبد المحسن العباد ))

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 29.08.08 20:13

    قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/10): (( وأصحُّ ماوقفتُ عليه من ذلك أنَّ الصحابيَّ مَن لقي النَّبِيَّ r مؤمناً به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه مَن طالت مجالسته له أوقصُرت، ومن روى عنه أو لَم يروِ، ومن غزا معه أو لَم يغزُ، ومن رآه رُؤيةً ولو لَم يجالسْه، ومَن لَم يرَه لعارضٍ كالعمى )) ثمَّ شرح تعريفَه هذا إلى أن قال (1/12): (( وهذا التعريفُ مَبنِيٌّ على الأصحِّ المختارِ عند المحقِّقين كالبخاري وشيخِه أحمدَ بن حنبل ومن تبعهما، ووراء ذلك أقوالٌ أخرى شاذَّةٌ ... )) وأشار إلى جملةٍ منها، وهذا التعريفُ هو الأسلمُ، وهو يشملُ حتى الذين رأوا النَّبِيَّ r مجرَّدَ رؤية ولَم يُجالِسوه، ويدلُّ لذلك أدلَّةٌ:

    الأول: قال الله عزَّ وجلَّ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.

    فإنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ عامَّةٌ في جميع أصحاب الرسول r سواءً مَن كان أسلم عام الفتح وصحبه r، ومَن كان قبل ذلك وبعده إلى وفاة الرسول r.
    وقد تأوَّل المالكيُّ هذه الآيةَ بقصرِ عمومِها على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية وهو تحكُّمٌ وتعسُّفٌ، وسيأتي الرَّدُّ عليه.

    الثاني: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
    فإنَّ الآيةَ عامَّةٌ في الصحابة، والفتحُ فيها فتحُ مكةَ على قول الجمهور، وصلحُ الحُديبية على قول بعض العلماء، وسيأتي ذكر المالكي للآية مستدلاًّ بها على رأيه الباطل والرَّدّ عليه.

    الثالث: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
    ففي الآية دليلٌ على أنَّ مَن آمن وهاجر وجاهد مع المهاجرين والأنصار من الصحابة الذين تأخَّر إسلامُهم أنَّهم منهم في الأجر والثواب، مع التفاوت الكبير بين هؤلاء وهؤلاء، قال الشوكاني في فتح القدير: (( ثمَّ أخبر سبحانه بأنَّ من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المهاجرين الأوَّلين والأنصار فهو مِن جملتِهم أي: من جملة المهاجرين الأوَّلين والأنصار في استحقاق ما استحقُّوه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم )).

    الرابع: قال الله عزَّ وجلَّ: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}.
    فإنَّ الآيةَ في الصحابة جميعاً، فيدخلُ فيها كلُّ مَن كان معه وجاهد قبل الفتح وبعده، في حُنين والطائف وغزوة تبوك، قال ابن كثير في تفسيره: ((لَمَّا ذكر تعالى ذمَّ المنافقين بيَّن ثناءَه على المؤمنين وما لهم في آخرتهم، فقال: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا} إلى آخر الآيتين من بيان حالِهم ومآلهم، وقوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ}، أي: في الدار الآخرة في جنَّات الفردوس والدرجات العُلَى )).
    ويدلُّ لذلك أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}، أي: أنَّ الله كافيك وكافي من اتَّبَعك من المؤمنين.

    الخامس: قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سِيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذين آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
    ففي الآيةِ الكريمة بيانُ حال النَّبِيِّ r والذين آمنوا معه يوم القيامة، ويدخل في ذلك الصحابة رضي الله عنهم دخولاً أوَّليًّا؛ لأنَّهم خيارُ المؤمنين وسادات الأولياء بعد الأنبياء والمرسَلين.

    السادس: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ r قال:
    (( يأتي على الناس زمان، يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى رسولَ الله r؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى مَن صَحب رسولَ الله r؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: هل فيكم مَن رأى مَن صَحِب من صَحب رسولَ الله r؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم )) رواه مسلم (2532).

    فهذا الحديث الصحيحُ دالٌّ على أنَّ الصُّحبةَ للرسول r تحصُل برؤيته r، وإن لَم تطُلْ صحبتُه إيَّاه.
    قال علي بن المديني ـ رحمه الله ـ في اعتقاده الذي رواه عنه اللالكائي بإسناده في كتابه (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة )) (1/188) فساقه، وفيه: (( مَن صَحِبَه سَنةً أو شهراً أو ساعةً، أو رآه، أو وفد إليه فهو من أصحابه، له من الصُّحبة على قدر ما صحبَه، فأدناهم صحبةً هو أفضلُ من الذين لَم يروه، ولو لقوا الله عزَّ وجلَّ بجميع الأعمال، كان الذي صحب النَّبِيَّ r ورآه بعينيه وآمن به ولو ساعة أفضلَ بصُحبته من التابعين كلِّهم، ولو عملوا كلَّ أعمال الخير )).
    وقد ساق اللالكائيُّ في كتابه أيضاً (1/180) اعتقاد الإمام أحمد بإسناده إلى عَبدوس بن مالك العطَّار عنه، وفيه تعريف الصحابي وبيان فضيلة الصُّحبة بنحو كلام علي بن المديني المتقدِّم.

    قال ابن تيمية في منهاج السنَّة (8/382 ـ 388): (( ومِمَّا يبيِّن هذا أنَّ الصُّحبةَ فيها عمومٌ وخصوصٌ، فيُقال: صَحبِه ساعةً ويوماً وجمعةً وشهراً وسنةً، وصَحِبَه عمرَه كلَّه.
    وقد قال تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ}، قيل: هو الرفيق في السَّفر، وقيل: الزوجة، وكلاهما تقلُّ صُحبتُه وتكثر، وقد سَمَّى الله الزوجةَ صاحبةً في قوله: {أَنَّى يُكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَهُ صَاحِبَةٌ}.

    ولهذا قال أحمد بن حنبل في الرسالة التي رواها عَبْدوس بن مالك عنه: (مَن صحب النَّبِيَّ r سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعةً، أو رآه مؤمناً به، فهو من أصحابه، له من الصُّحبة على قدر ما صحبَه).
    وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرِهم: يَعُدُّون في أصحابه مَن قلَّت صحبتُه ومَن كثرت، وفي ذلك خلافٌ ضعيف.

    والدليلُ على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، عن النَّبِيِّ r قال: (يأتي على الناس زمان، يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى رسول الله r؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى مَن صحب النَّبِيَّ r؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى مَن صحب من صحب رسولَ الله r؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم)، وهذا لفظ مسلم، وله في رواية أخرى: (يأتي على الناس زمان يُبعَثُ منهم البعث، فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحداً مِن أصحاب رسول الله r؟ فيوجد الرَّجل، فيُفتَح لهم به، ثمَّ يُبعث البعثُ الثاني، فيقولون: هل فيكم مَن رأى أصحابَ رسول الله r؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم به، ثمَّ يُبعثُ البعثُ الثالث، فيُقال: انظروا هل ترون فيكم مَن رأى مَن رأى أصحابَ رسولِ الله r؟ فيقولون: نعم، ثمَّ يكون البعثُ الرابع، فيُقال: هل ترون فيكم أحداً رأى من رأى أحداً رأى أصحاب رسول الله r؟ فيوجد الرَّجل فيُفتحُ لهم به)، ولفظ البخاري ثلاث مرَّات كالرواية الأولى، لكن لفظه: (يأتي على الناس زمان يغزو فِئامٌ من الناس)، وكذلك قال في الثانية والثالثة، وقال فيها كلِّها: (صَحِب)، واتَّفقت الروايات على ذِكر الصحابةِ والتابعين وتابعيهم، وهم القرون الثلاثة، وأمَّا القرن الرابع فهو في بعضها، وذِكرُ القرن الثالث ثابت في المتفق عليه من غير وجه، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله r: (خيرُ أمَّتِي القرن الذين يَلونَنِي، ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ يجيء قومٌ تسبق شهادةُ أحدِهم يَمينَه ويَمينُه شهادتَه).

    وفي الصحيحين عن عِمران: أنَّ النَّبِيَّ r قال: (إنَّ خيرَكم قرنِي ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ الذين يلُونَهم)، قال عِمران: فلا أدري أقال رسول الله r بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، (ثمَّ يكون بعدهم قومٌ يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمَنون، وينذِرون ولا يوفون)، وفي رواية: (ويحلفون ولا يُستحلفون)، فقد شكَّ عمران في القرن الرابع ... )).
    إلى أن قال: (( ففي الحديث الأول: (هل فيكم مَن رأى رسول الله r؟) ثمَّ قال: (هل فيكم مَن رأى مَن صحب رسول الله r؟)، فدلَّ على أنَّ الرَّائي هو الصَّاحب، وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال: (هل فيكم من رأى مَن صَحبَ مَن صَحِبَ رسولَ الله r؟) ثمَّ يكون المراد بالصَّاحب الرائي.

    وفي الرواية الثانية: (هل تجدون فيكم أحداً من أصحاب رسول الله r؟) ثمَّ يقال في الثالثة: (هل فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله r؟).

    ومعلومٌ إن كان الحكمُ لصاحب الصاحب معلَّقاً بالرؤية، ففي الذي صحب رسولَ الله r بطريق الأوْلَى والأحْرَى.
    ولفظ البخاري قال فيها كلِّها: (صَحِب)، وهذه الألفاظ إن كانت كلُّها من ألفاظ رسول الله r فهي نصٌّ في المسألة، وإن كان قد قال بعضَها، والراوي مثل أبي سعيد يروي اللَّفظ بالمعنى، فقد دلَّ على أنَّ معنى أحد اللَّفظين عندهم هو معنى الآخر، وهم أعلمُ بِمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله r.
    وأيضاً فإنْ كان لفظ النَّبِيِّ r (رأى) فقد حصل المقصود، وإن كان لفظه (صحب) في طبقة أو طبقات، فإن لَم يُرِد به الرؤية لَم يكن قد بيَّن مرادَه، فإنَّ الصُّحبةَ اسمُ جنسٍ ليس لها حدٌّ في الشرع ولا في اللغة، والعُرف فيها مختلف.
    والنَّبِيُّ r لَم يُقيِّد الصُّحبةَ بقيدٍ، ولا قدَّرها بقدر، بل علَّق الحكمَ بمطلقها، ولا مُطلقَ لها إلاَّ الرؤية.

    وأيضاً فإنَّه يُقال: صَحِبَه ساعةً وصَحِبَه سنةً وشهراً، فتقع على القليل والكثير، فإذا أُطلقت من غير قيد لَم يَجُز تقييدُها بغير دليل، بل تُحملُ على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال.

    ولا ريب أنَّ مجرَّدَ رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يُقال: قد صَحِبَه، ولكن إذا رآه على وجه الاتِّباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به، ولهذا لَم يُعتدَّ برؤية مَن رأى النَّبِيَّ r من الكفَّار والمنافقين؛ فإنَّهم لَم يروه رؤيةَ مَن قَصْدُه أن يؤمن به، ويكون من أتباعه وأعوانه المصدِّقين له فيما أخبر، المطيعين له فيما أمر، الموالين له، المُعادين لِمَن عاداه، الذي هو أحبُّ إليهم من أنفسِهم وأموالِهم وكلِّ شيء )).

    السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله r أتى المقبرة، فقال: (( السَّلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أنَّا قد رأينا إخواننا، قالوا: أوَلَسْنا إخوانَك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لَم يأتوا بعد )) الحديث، رواه مسلم (249) وغيرُه.
    فدلَّ الحديثُ على التمييز بين أصحابه وإخوانِه، وأنَّ أصحابَه هم الذين أدركوه ورأوه، وإخوانَه الذين يأتون مِن بعد ولَم يروه، والمرادُ بالأُخوَّة الأخوَّة الإيمانية، والصحابةُ جمعوا بين الصُّحبةِ والأُخوَّة، والذين بعدَهم نصيبُهم الأُخوَّة وحدها.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (8/389): (( ومعلومٌ أنَّ قوله (إخواني) أراد به إخواني الذين ليسوا بأصحابي، وأمَّا أنتم فلكم مزيَّة الصُّحبة ...
    فجعل هذا حدًّا فاصلاً بين إخوانه الذين ودَّ أن يراهم وبين أصحابه، فدلَّ على أنَّ مَن آمن به ورآه فهو من أصحابه، لا مِن هؤلاء الإخوان الذين لَم يَرَهم ولَم يَرَوْه، فإذا عُرف أنَّ الصُّحبةَ اسمُ جنسٍ تَعُمُّ قليلَ الصُّحبة وكثيرَها، وأدناها أن يصحبَه زمناً قليلاً، فمعلومٌ أنَّ الصِّديقَ في ذروةِ سَنَام الصُّحبة وأعلى مراتبها؛ فإنَّه صَحِبَه من حين بعثه الله إلى أن مات )).

    الثامن: روى الإمام أحمد في مسنده (4/152) عن محمد بن عُبيد الطنافسي قال: ثنا محمد ـ يعني ابنَ إسحاق ـ حدَّثني يزيد بن أبي حبيب، عن مَرثد بن عبد الله اليَزَنِي، عن أبي عبد الرحمن الجُهنِيِّ قال: (( بينا نحن عند رسول الله r طلع رَكْبان، فلمَّا رآهما قال: كِنديان ومُذْحجِيان، حتى أتياه، فإذا رجالٌ من مُذحج، قال: فدنا إليه أحدُهما ليُبايِعه، قال: فلمَّا أخذ بيده قال: يا رسول الله! أرأيتَ مَن رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ قال: طوبى له، قال: فمسح على يده، فانصرف، ثمَّ أقبل الآخرُ حتى أخذ بيده ليُبايِعه، قال: يا رسول الله! أرأيتَ مَن آمن بك وصدَّقك واتَّبعك ولَم يرَك؟ قال: طوبى له، ثمَّ طوبى له، ثمَّ طوبى له، فمسح على يده فانصرف )).
    وهذا الإسناد فيه محمد بن عُبيد ويزيد بن أبي حبيب ومرثَد بن
    عبد الله اليزني، وهم ثقات من رجال الجماعة، ومحمد بن إسحاق صدوق يدلِّس، وقد صرَّح بالتحديث.
    وقد رُتِّب الفضلُ في الحديث على رؤيته r والإيمان به وتصديقه واتِّباعه.

    التاسع: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللِّفظ للبخاري (3650) عن عِمران بن حُصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: (( خيرُ أُمَّتِي قرنِي، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم، قال عِمران: فلا أدري أَذَكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة )) الحديث.

    وروَيا أيضاً، واللفظ للبخاري (3651) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ r قال: (( خيرُ الناس قرني، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم )) الحديث.
    والقرنُ الأوَّل مِن هذه القرون هو قرنُ الصحابة رضي الله عنهم، قال النووي في شرح صحيح مسلم (16/84): (( اتَّفق العلماءُ على أنَّ خيرَ القرون قرنُه r، والمرادُ أصحابُه )).
    ونقل عن القاضي عياض أنَّ شهر بن حوشَب قال: (( قرنُه: ما بَقيتْ عينٌ رأتْه، والثاني: ما بقيت عينٌ رأت مَن رآه، ثمَّ كذلك )).
    وقال ابن تيمية في منهاج السنة (8/384): (( واتَّفقت الروايات على ذِكر الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهم القرون الثلاثة )).
    وجاء في السنة الصحيحة وَصْفُ الذين لَم يُدركوا زمنَه r ويَروه
    بـ (التابعين)، ففي صحيح مسلم (2542) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إنِّي سمعتُ رسول الله r يقول: (( إنَّ خيرَ التابعين رجلٌ يُقال له أُوَيس، له والدةٌ وكان به بياض، فمُروه فليستغفر لكم ))، وهو يدلُّ على التمييز بين الصحابة والتابعين.

    العاشر: روى مسلم (2531) عن أبي بُردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (( صلَّينا المغربَ مع رسول الله r، ثمَّ قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاءَ، قال: فجلسنا، فخرج علينا، فقال: ما زلتُم ههنا؟ قلنا: يا رسول الله! صلَّينا معك المغربَ، ثمَّ قلنا: نجلس حتى نصلِّيَ معك العشاءَ، قال: أحسنتم أو أَصبتُم، قال: فرفع رأسَه إلى السماء، وكان كثيراً مِمَّا يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النُّجومُ أَمَنَةٌ للسماءِ، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما تُوعَد، وأنا أَمَنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أَمَنةٌ لأمَّتِي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمَّتي ما يوعَدون )).
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: الانتصار للصحابة الآخيار في رد أباطيل حسن المالكي (( للوالد عبد المحسن العباد ))

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 29.08.08 20:14

    وفي صحيح البخاري (3876) أنَّ أبا موسى رضي الله عنه قدِم إلى النَّبِيِّ r حين فتح خيبر، وكان ذلك بعد الحُديبية، وأبو موسى رضي الله عنه مِمَّن يشمله حديثه هذا، لا كما يقول المالكي مِن أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة هي لِمَن كانت هجرتُه قبل الحُديبية؛ لأنَّ الحُديبية في سنة ست من الهجرة، وفتح خيبر في سنة سبع.

    الحادي عشر: روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس (1739) وأبي بكرة (1741) في خطبة النَّبِيِّ r بِمِنى في حجَّة الوداع، وفي آخرها: (( فليُبلِّغ الشاهدُ الغائبَ ))، وحديث أبي بكرة رواه مسلم أيضاً (29).

    وهؤلاء الذين حجُّوا معه وشهدوا خطبتَه وسَمعوها، وأُمروا بإبلاغها غيرَهم هم من أصحابه، لا كما يقول المالكي من أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة خاصَّةٌ بِمَن كان قبل الحُديبية.

    الثاني عشر: روى أبو داود في سننه (3659) بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله r: (( تَسمعون ويُسمع منكم، ويُسمَع مِمَّن سَمِع منكم )).
    وهو دالٌّ على أنَّ الذين سَمعوا منه r هم من أصحابه، وأنَّ الذين سَمعوا من الصحابة هم التابعون، وأنَّ الذين سَمعوا مِمَّن سَمع من الصحابة هم أتباع التابعين، ولا يُقال: إنَّ مَن سَمع رسولَ الله r وحدَّث عنه ليس بصحابي.

    الثالث عشر: روى أبوداود في سننه (3660) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله r يقول: (( نضَّر الله امرءاً سَمِع منَّا حديثاً فحفظه حتى يبلِّغَه ... )) الحديث.
    وهوحديثٌ متواتر؛ رواه أربعة وعشرون صحابيًّا، وقد جمعتُ طرقَه وتكلَّمتُ على فقهه في بحث بعنوان: (( دراسة حديث (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتِي ...) رواية ودراية))، وهو مطبوع، وهو دالٌّ على كون مَن سَمع حديثَه r منه أنَّه من أصحابه.
    الرابع عشر: روى البخاري في الأدب المفرد (87) قال: حدَّثنا بِشر ابن محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا صفوان بن عمرو قال: حدَّثني عبد الرحمن بن جبير بن نُفير، عن أبيه قال: (( جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمرَّ به رجلٌ، فقال: طوبَى لِهاتَين العينين اللَّتين رأَتا رسولَ الله r، والله! لوَدِدنا أنَّا رأينا ما رأيتَ، وشهدنا ما شهدتَ، فاستُغضِب، فجعلت أَعْجَب: ما قال إلاَّ خيراً! ثمَّ أقْبَلَ عليه فقال: ما يَحمل الرَّجلَ على أن يتمنَّى مَحضراً غيَّبه الله عنه؟ لا يدري لو شَهدَه كيف يكون فيه؟ والله! لقد حضر رسولَ الله r أقوامٌ كبَّهم الله على مناخرِهم في جهنَّم؛ لَم يُجيبوه ولَم يُصدِّقوه، أوَ لا تَحمدون الله عزَّ وجلَّ إذ أخرجكم لا تعرفون إلاَّ ربَّكم فتُصدِّقون بِما جاء به نبيُّكم r، قد كُفيتُم البلاء بغيركم ... )) الحديث.

    وعبد الله الذي في الإسناد هو ابن المبارك، وهو ثقة، أخرج له الجماعة، والثلاثة الذين فوقه ثقات، أخرج لهم البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن، والراوي عن ابن المبارك، قال عنه الحافظ في التقريب:
    (( صدوق ))، وقد رواه عن ابن المبارك جمعٌ، منهم: يَعمر بن بشر في مسند الإمام أحمد (6/3)، وحسين بن حسن في الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (292)، وقد أورد الحديثَ ابنُ كثير في تفسيره في آخر سورة الفرقان من مسند الإمام أحمد، وقال: (( هذا إسنادٌ صحيح ولَم يخرجوه )).
    وهو يدلُّ على أنَّ التابعين يَرون أنَّ شَرَفَ الصُّحبةِ يَحصُل برؤيتِه r مع الإيمان به؛ ولَم يُنكر ذلك المقداد رضي الله عنه، وإنَّما غضب لِتمنِّي أمرٍ لا يدري المُتمنِّي ماذا يكون حالُه عند حصولِه، وهذا الذي غضب منه المقداد نظيرُ ما جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: أنَّ النَّبِيَّ r قال: (( لا تَتمنَّوا لقاءَ العدوِّ، وسلُوا الله العافيةَ، وإذا لقيتُموه فاصبِروا، واعلموا أنَّ الجنَّةَ تحت ظلالِ السيوف ))؛ لأنَّ متمنِّيَ لقاء العدوِّ لا يدري عن حاله حين لقائه: هل تكون حسنة أو سيِّئة؟
    ويدلُّ أيضاً لفرح التابعين برؤية الصحابة ما رواه أبو داود في سننه (948) بإسنادٍ فيه ضعف، عن هلال بن يَسَاف قال: (( قدمتُ الرَّقَّةَ، فقال لي بعضُ أصحابي: هل لك في رجلٍ من أصحاب النَّبِيِّ r؟ قال: قلت: غنيمة! فدفعنا إلى وابِصة، قلت لصاحبِي: نبدأ فننظر إلى دلِّه، فإذا عليه قلنسوة لاطئةٌ ذات أُذنين وبُرنس خَزٍّ أغبر ... )) الحديث.
    ووابِصةُ هو ابن معبد رضي الله عنه، وقد وفد على النَّبِيِّ r سنة تسع من الهجرة، ولَمَّا عُرض على هلال بن يساف لقاؤه فرح، وقال: (( غنيمة! )).

    أقول: وإنَّها والله غنيمة وأيُّ غنيمة؛ ظَفَرُ التابعيِّ برؤية مَن شرَّفه الله بصحبة النَّبِيِّ r مع الإيمان به والاتِّباع له!


    الخامس عشر: قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/20 ـ 21):
    (( وقد كان تعظيمُ الصحابة ـ ولو كان اجتماعُهم به صلَّى الله عليه وآله وسلم قليلاً ـ مقرَّراً عند الخلفاء الراشدين وغيرهم، فمِن ذلك ما قرأت في كتاب أخبار الخوارج تأليف محمد بن قدامة المروزي، بخطِّ بعضِ مَن سمعه منه في سنة سبعٍ وأربعين ومئتين، قال: حدَّثنا علي بن الجعد، قال: حدَّثنا زهير هو الجعفي، عن الأسود بن قيس، عن نُبَيْح العَنَزِي قال: كنت عند أبي سعيد الخدري ))، ثمَّ ذكره الحافظ بإسناده إلى نُبيح قال: (( كنَّا عنده وهو متَّكئ، فذكرنا عليًّا ومعاوية، فتناول رجلٌ معاويةَ، فاستوى أبو سعيد الخدري جالساً، ثمَّ قال: كنَّا ننزلُ رفاقاً مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فكنَّا رفقةً فيها أبو بكر، فنزلنا على أهل أبيات وفيهم امرأة حُبلى، ومعنا رجلٌ من أهل البادية، فقال للمرأة الحامل: أَيَسُرُّك أن تلِدي غلاماً، قالت: نعم! قال: إن أعطيتِنِي شاةً ولَدتِ غلاماً، فأعطَتْه، فسَجَع لها أسجاعاً، ثمَّ عمد إلى الشاةِ فذبحها وطبخها، وجلسنا نأكل منها ومعنا أبو بكر، فلمَّا علم بالقصَّة قام فتقيَّأ كلَّ شيءٍ أكل، قال: ثمَّ رأيتُ ذلك البَدَويَّ أُتِي به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصارَ، فقال لهم عمر: لولا أنَّ له صحبةً من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما أدري ما نال فيها لَكَفَيْتُكموه، ولكن له صحبة مِن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم )).
    ثمَّ قال الحافظ: (( لفظ علي بن الجعد، ورجال هذا الحديث ثقات، وقد توقَّف عمر رضي الله عنه عن معاتبتِه فضلاً عن معاقبتِه لكونه علم أنَّه لقي النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك أبينُ شاهد على أنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ شأنَ الصحبة لا يعدله شيء )).

    ثمَّ ذكر أحاديث في فضل أصحاب رسول الله r، ورجال الإسناد ثقات كما قال الحافظ ابن حجر، فعليُّ بن الجعد خرَّج له البخاري وأبو داود، وزهير بن معاوية والأسود بن قيس خرَّج لهم أصحاب الكتب الستة، ونُبيح العَنَزي خرَّج له أصحاب السنن، قال عنه المزيُّ في تهذيب الكمال: (( روى عنه الأسود بن قيس وأبو خالد الدالاني، قال أبو
    زرعة: ثقة لَم يرو عنه غير الأسود بن قيس، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات ))، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: (( قلت: وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وذكره علي بن المديني في جملة المجهولين الذين يروي عنهم الأسود بن قيس، وصحح الترمذي حديثه وكذلك ابن خزيمة وابن حبان والحاكم )).

    وقول الحافظ: (( رجال هذا الحديث ثقات ))، وفيهم نُبيح هو المعتمَد، وأمَّا قوله في التقريب عنه: (( مقبول ))، أي: حيث يُتابَع، فغير مقبول.
    ولا شكَّ أنَّ هجوَ هذا الأعرابي الصحابي للأنصار لا يرجع إلى نُصرتهم للرسول r؛ لأنَّ ذلك نفاقٌ، وإنَّما يرجع لشيء غير ذلك، وسيأتي نقل ابن حجر عن القرطبي صاحب المفهم ما يوضح ذلك.
    وقد يكون هذا الهجوُ أخفَّ من الذَّمِّ الذي أضافه المالكي للأنصار، وذلك بنسبته إلى أكثرهم كون علي رضي الله عنه أولى بالخلافة من أبي بكر، كما سيأتي عند ذِكر تشكيكه في أحقَّية أبي بكر بالخلافة، ؛ فإنَّ ذلك سوءُ ظنٍّ بهم، وأنَّهم يأبَون إلاَّ غير أبي بكر، وقد قال النَّبِيُّ r:
    (( يأبَى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر )).

    ويدلُّ أيضاً لشمول الصُّحبة لكلِّ من رآه أو سَمع منه حديثاً وصحبه مدَّة وجيزة أو طويلة ما يلي:

    الأول: أنَّ الذين دوَّنوا سنَّة رسول الله r متَّفقون على ثبوت الصُّحبة لكلِّ مَن سَمِع منه r، ولو كان الذي سمعه منه حديثاً واحداً؛ فإنَّهم يسوقون الأسانيد حتى تنتهي إلى الصحابة الذين سمعوا منه ويتَرضَّون عنهم، ومن طريقة أهل السُّنَّة والجماعة الترضِّي عن الصحابة عند ذِكرهم والتَّرحُّم على مَن كان بعدهم.

    الثاني: أنَّ الذين ألَّفوا في الصحابة أثبتوا فيهم مَن حصل له مجرَّد اللُّقيّ للرَّسول r، ومَن لَم يَروِ عنه إلاَّ حديثاً واحداً.

    الثالث: أنَّ الذين ألَّفوا في الصحابة وغيرهم، عندما يأتي ذكر الصحابي ـ سواء قلَّت صُحبتُه أو طالت ـ يقولون عنه: صحابي، لا يحتاجون إلى إضافة شيء على هذا الوصف إلاَّ إذا كان الوصفُ فيه زيادة فضل ومنقبة، ككونه من السابقين إلى الإسلام أو مِن أهل بدر أو مِن أهل بيعة الرضوان، فإنَّهم يُضيفون ذلك إلى وصف الصُّحبة.

    الرابع: أنَّ العلماءَ على مختلف العصور والدُّهور مُطْبقون على عدِّ كلِّ مَن أسلم بعد صُلح الحُديبية وظفر بصحبة النَّبِيِّ r أنَّه من أصحابه، سواء قصرت مدَّة صحبتِه أو طالت، ومِمَّا يوضِّح ذلك أنَّ المالكيَّ الذي ابتلي بالرأي الباطل، وهو قَصْر الصحبة على المهاجرين والأنصار قبل صلح الحُديبية لَم يَجد له سَلَفاً في هذا الرأي الباطل إلاَّ شخصاً واحداً من المعاصرين سَمَّاه، وهو عبد الرحمن محمد الحكمي، وقد ذكر في ملحق قراءته أنَّه طالبٌ يُواصل دراسته العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند ذِكر إعلان المالكي إفلاسه من وجود سلفٍ له في رأيه سوى ذلك الشخص.

    وبناءً على هذا الرأي الباطل، ماذا يقالُ للصَّحابة الكثيرين الذين أسلموا وصحِبوا النَّبِيَّ r بعد بيعة الرِّضوان وسَمعوا حديثَه؟ أيقالُ لهم: تابعون، أم ماذا يقال لهم؟!
    وماذا يقال لأحاديثهم: أهي مرفوعةٌ أم غيرُ مرفوعة؟!
    وعند أهل السنة أنَّ المرفوعَ تصريحاً ما قال فيه الصحابيُّ: سمعتُ رسول الله r يقول كذا، وعندهم أنَّ الإسنادَ المنتهي إلى الصحابيِّ يقال له: موقوفٌ، والمنتهي إلى التَّابعي ومَن دونه يقال له: مقطوعٌ، وما قال فيه التابعي (قال رسول الله r) يقال له مرسل، وعلى هذا الرأيِ الباطل للمالكي يحتاج الأمرُ إلى إعادة النَّظر في مصطلحات علم المصطلح، وذلك واضحٌ في شذوذه وشذوذ قدوته الحكمي، ثمَّ يقال أيضاً إنَّ هذا الرأيَ المحدَث في القرن الخامس عشر لو كان خيراً لسبق إليه سلفُ هذه الأمَّة، وليس من المعقول أن يُحجب حقٌّ في العصور المختلفة عن الناس ويُدَّخَر للمالكي وقدوته!
    بقي بعد ذلك أن أُشير إلى أمورٍ:


    الأمرُ الأوَّلُ: ما ذكره مِن أنَّ صحبةَ مَن رآه بعد الحُديبية ليست شرعية، وأنَّها كصحبة المنافقين والكفار، مردودٌ بأنَّ رؤيةَ الصحابة رؤيةٌ مع الإيمان به والتصديق بما جاء به، بخلاف رؤية المنافقين والكفار، وقد مرَّ في الدليل الثامن أنَّه لما قال للنَّبيِّ r رجلٌ: يا رسول الله! أرأيت من رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ فأجابه r بقوله: (( طوبى له )).
    وهو واضحٌ في الفرق بين رؤية الصَّحابيِّ المصدِّق للنَّبيِّ r المتَّبع له، ورؤية المنافقين والكفار، ومرَّ أيضاً في أثر المقداد ـ وهو الدليلُ الرابع عشر ـ قولُه رضي الله عنه: (( والله! لقد حضر رسولَ الله r أقوامٌ كبَّهم الله على مناخرهم في جهنَّم؛ لَم يُجيبوه ولَم يصدِّقوه، أوَ لاَ تحمدون الله عزَّ وجلَّ إذ أخرجكم لا تعرفون إلاَّ ربَّكم، فتصدِّقون بما جاء به نبيُّكم r، قد كُفيتم البلاء بغيركم )).
    ومرَّ قولُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الدليل السادس:


    (( ولهذا لَم يُعتدَّ برؤية مَن رأى النَّبِيَّ r من الكفار والمنافقين؛ فإنَّهم لَم يروه رُؤيةَ مَن قصدُه أن يؤمن به ويكون من أتباعه وأعوانه )).
    ومِمَّا تقدَّم يتَّضحُ بطلان تسوية المالكي بين صحبة مَن صحب النَّبِيَّ r بعد الحُديبية وصحبةِ المنافقين والكفار، {أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟!


    الثاني: ما ذكره في الحاشية (ص:25) من قوله: (( وقد يدخل في مسمَّى (الأصحاب) مَن أسلم بعد الحُديبية إلى فتح مكة )).

    أقول: هذا الذي ذكره كلامٌ جميلٌ لو سلِمَ مِن ذكر (( قد )) في أوَّله؛ لأنَّ ذكره إيَّاه مصَدَّراً بهذا الحرف واضحٌ في عدم الجزم بصحبة هؤلاء، لكن التعريف الذي قال: إنَّه أسلمُ تعريفٍ ـ وهو في الحقيقة أفسدُ تعريفٍ ـ فيه الجزمُ بعدم صحبة مَن بعد الحُديبية، وكذا كلامه الأخير الذي ختم به الكتاب (ص:84 ـ 85) واضحٌ في قصر الصحبة على المهاجرين والأنصار إلى زمن الحُديبية.

    ومِمَّا يوضِّح فسادَ تعريف الصحبة الشرعية المحمود أهلها ، المثنى عليهم في الكتاب والسنة بقَصرِها على مَن كان قبل الحُديبية، أنَّه يخرُجُ بذلك جمعٌ كبيرٌ من الصحابة مشهورون كأبي هريرة رضي الله عنه الذي هو أكثرُ الصحابة حديثاً عن رسول الله r، وكأبي موسى الأشعري وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، وغيرهم مِمَّن هاجر إلى النَّبِيِّ r قبل فتح مكة وبعد الحُديبية، بل وكالعباس عم النَّبِيِّ r وابن عمِّه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وكلّ من هاجر إلى النَّبِيِّ r قبل فتح مكة فهو من المهاجرين كما تقدَّم إيضاحُ ذلك بأدلَّتِه.

    الثالث: وأمّا أبناءُ المهاجرين والأنصار فقد أخرجهم من الصُّحبة الشرعية التي خصَّ بها المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، فقال في (ص:28): (( ولا يدخل فيهم ـ يعني الأنصار ـ أبناءُ الأنصار (الأطفال)، كما لا يدخل في المهاجرين أبناءُ المهاجرين! ))، وقال أيضاً في (ص:28): (( ومنهم ـ يعني الذين اتَّبعوا المهاجرين والأنصار بإحسان ـ أبناءُ المهاجرين وأبناءُ الأنصار! ))، وأكَّد ذلك في (ص:85 و87).
    أقول: أمَّا كونُ أبناء المهاجرين والأنصار من الذين اتّبعوهم بإحسان ففيه تفصيل، فمَن كان منهم رأى النَّبِيَّ r فهو من أصحابه، ومن لَم يره منهم فإنَّه يكون من التابعين للصحابة بإحسان.


    ومن المعلوم قطعاً أنَّ من القسم الأول: الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، وهم مِن أهل بيته r، ومنهم النعمان بن بَشير رضي الله عنهما الذي كان عمرُه عند وفاة النَّبِيِّ r ثمان سنين، والسائب ابن يزيد رضي الله عنهما الذي قال: (( حُجَّ بي مع النَّبِيِّ r وأنا ابن سبع سنين ))، وكلُّهم رَوَوا الأحاديث عن النَّبِيِّ r.
    ولكلِّ مَن رأى النَّبِيَّ r من هذا القسم شرفُ الصُّحبة التي نوَّه بها r بقوله: (( طوبى له ))، جواباً لِمَن قال له: (( يا رسول الله! أرأيتَ مَن رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ ))، وقد مرَّ ذِكر هذا الحديث قريباً.
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: الانتصار للصحابة الآخيار في رد أباطيل حسن المالكي (( للوالد عبد المحسن العباد ))

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 29.08.08 20:15

    الرابع: وأمَّا من أسلم عام الفتح وما بعده فقد جزم بعدمِ دخولِهم في مسمَّى الأصحاب، فقال في (ص:25 ـ الحاشية): (( لكن لا يدخل فيهم طُلقاء قريش، ولا عُتقاء ثقيف، ولا مَن كان في حكمهم من الأعراب والوفود بعد فتح مكة!! )).
    أقول: إنَّ من المعلوم أنَّ كلَّ مَن رآه r مؤمناً به متَّبعاً له فهو من أصحابه، وقد مرَّ الدليل على ذلك قريباً، ومن هؤلاء مَن أسلم وصحب النَّبِيَّ r عام فتح مكة وما بعده، وكذا الذين شهدوا معه حجَّة الوداع.
    ومن أشهر الذين أسلموا عام الفتح أبو سفيان وابناه يزيد ومعاوية وسُهيل بن عمرو وعتَّاب بن أسيد الذي جعله النَّبِيُّ r أميراً على مكة بعد فتحها، والحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم.
    ولَمَّا ذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، لقيه أبو عُبيدة وأمراء الأجناد، وأخبروه أنَّ الطاعون وقع بالشام، فاستشار عمر أصحابَ رسول الله r: المهاجرين الأوَّلين، ثمَّ الأنصار، ثمَّ مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فقد روى البخاري (5729) ومسلم (2219) ـ واللفظ للبخاري ـ عن ابن عباس: (( أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بِسَرْغ لقيه أُمراءُ الأجناد: أبو عُبيدة وأصحابه، فأخبروه أنَّ الوباءَ قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادْعُ لي المهاجرين الأوَّلين، فدعاهم، فاستشارهم، وأخبرهم أنَّ الوباءَ قد وقع في الشام، فاختلفوا، فقال بعضُهم: قد خرجنا لأمرٍ، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضُهم: معك بقيَّة الناس وأصحابُ رسول الله r، ولا نرى أن تُقدِمَهم على هذا الوباء، فقال: ارتفِعوا عنِّي، ثمَّ قال: ادْع لي الأنصار، فدعوتُهم فاستشارهم، فسلكوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافِهم، فقال: ارتفِعوا عنِّي، ثمَّ قال: ادْعُ لي مَن كان ههنا من مشيخة قريش من مُهاجِرة الفتح، فدعوتُهم فلَم يَختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقدِمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إنِّي مُصبحٌ على ظهر، فأصْبِحوا عليه ... )) الحديث، وفي آخره: (( فجاء
    عبد الرحمن بن عوف ـ وكان متغيِّباً في بعض حاجته ـ فقال: إنَّ عندي في هذا علماً، سَمعتُ رسول الله r يقول: إذا سَمعتُم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، فحمد الله عمرُ ثمَّ انصرف )).
    وهو واضحٌ في أنَّ عمرَ استشار الصحابةَ رضي الله عنهم، ومنهم كبار الذين أسلموا عام الفتح، واستقرَّ رأيُه على الرجوع وعدم الدخول على الطاعون، ثمَّ إنَّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخبر بِما عنده من الحديث في ذلك، فسُرَّ بذلك عمر وحَمِد الله ثمَّ انصرف.


    * * *

    هذا وقد أورد المالكي آياتٍ وأحاديث وآثاراً يستدلُّ بها على قَصْر صُحبة الرسول r على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية، وليس فيما أورده ما يدلُّ على دعواه؛ لأنَّها إمَّا نصوصٌ فيها ذِكر المهاجرين والأنصار والثناء عليهم، وذلك حقٌّ، لكن لا تدلُّ على قصر الصُّحبة عليهم دون غيرهم، وإمَّا آياتٌ وأحاديث فيها الثناء على الصحابة عموماً حَمَلَها تعسُّفاً على المهاجرين والأنصار فقط، وإمَّا أحاديثُ وآثارٌ فيها ذكرُ الصحابي أصحابَ رسول الله r، وهي لا تدلُّ على إخراج المتكلِّم والمخاطَب من الصحابة، كما سيأتي إيضاح ذلك عند ذكر كثيرٍ من أدلَّتِه على وجه التفصيل، ولَم أتعقَّبْه في كلِّ دليلٍ أورده؛ لأنَّ الإجابةَ عن بعض أدلَّته تغني عن الإجابة عن غيرها مِمَّا يشابهها، ولَم أرتِّب الردَّ عليه على وفق ترتيب أدلَّته، بل قد أجيب عن دليل متأخِّرٍ قبل الإجابة على ما كان هو قدَّمه.

    * * *

    استدلالُه بآية {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} والرد عليه:
    قال في (ص:25 ـ 27): (( الدليلُ الأوَّلُ: مع أنَّ غزوةَ تبوك في السنة التاسعة بعد العودة من حصار الطائف، وكان عددُ جيش المسلمين فيها ثلاثين ألفاً، يعتبر المهاجرون والأنصار فيهم قلَّة، ومع ذلك لَم يأت الثناءُ إلاَّ عليهم، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
    والسؤال: لماذا لَم يخبرنا الله عزَّ وجلَّ أنَّه قد تاب على كلِّ جيش
    النَّبِيِّ r يوم تبوك؟! لماذا لَم يقل الله عزَّ وجلَّ: (لقد تاب الله على النبي والذين آمنوا الذين اتّبعوه في ساعة العسرة...)؟! أو (... على النَّبِيِّ والمؤمنين ...)؟!
    الجوابُ واضحٌ بأنَّ تخصيصَ الله عزَّ وجلَّ المهاجرين والأنصار بالتوبة دليلٌ على أنَّ مَن سواهم ليسوا في منزلتهم، ولا يجوز الجزمُ بالتوبة عليهم.
    وإنَّما نسكتُ عنهم كما سكت الله عنهم، وكأنَّ الله ـ والله أعلم ـ أراد بقَصْره الثناءَ على المهاجرين والأنصار أن يُشعر مَن سواهم بأنَّ المهاجرين والأنصار لَم يستحقوا التوبة عليهم من الله إلاَّ بأعمال جليلةٍ قدَّموها في الماضي، وأنَّ على مَن سواهم أن يُكثروا من التَّأسِّي بهم حتى يتوب الله عليهم كما تاب على المهاجرين والأنصار، والغريبُ أنَّ بعضَ الذين يَخلطون الأمورَ يستدلُّون بالآية السابقة على أنَّ الله تاب على جميع الصحابة، مع أنَّ الله عزَّ وجلَّ كان يستطيع أن يقول ذلك ويُعمِّم التوبةَ على كلِّ المؤمنين يومئذ، ولكنَّه لَم يقتصر على المهاجرين والأنصار إلاَّ لحكمة!! )).
    وعلَّق في الحاشية على قوله: (( والغريبُ أنَّ بعضَ الذين يخلطون الأمورَ يستدلُّون بالآية السابقة على أنَّ الله تاب على جميع الصحابة )) بقوله:
    (( ويقصدون بالصحابة كلَّ مَن رأى النَّبِيَّ r أو لَقِيَه من المسلمين، ثمَّ يقولون هذا وقلوبهم على الطُّلَقاء !! )).


    والجوابُ عن ذلك من وجوه:
    الأوّل: أن يقال: إنَّ الآيةَ مشتملةٌ على توبة الله على المهاجرين والأنصار الذين معه في غزوة تبوك، لكن ليس في ذلك دليلٌ على ما زعمه من قصر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية وهو الذي من أجله أورد الآية، وسبق أن أوردتُ الأدلَّةَ الدالَّة على شمول الصحبة لكلِّ مَن صحبه أو رآه بعد الحُديبية إلى حين وفاته r.
    الثاني: أنَّ الآيةَ دالَّةٌ على توبة الله عزَّ وجلَّ على مَن أسلم وهاجر إلى المدينة بعد الحُديبية وقبل فتح مكة، ومنهم أبو موسى الأشعري وأبو هريرة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم، وقد أخرجهم المالكي، وسبق أن ذكرت الأدلَّةَ الدالَّة على استمرار الهجرة المحمود أهلها إلى فتح مكة.
    الثالث: أنَّ الآيةَ وإن لَم تنصَّ على التوبة على غير المهاجرين والأنصار، فليس فيها دليلٌ على حرمان الذين أسلموا بعد الفتح وخرجوا مع النَّبِيِّ r إلى تبوك من فضل الله ورحمته، بل قد ثبت في السُّنَّة الصحيحة حصول الأجر لِمَن لَم يخرج إلى تبوك بسبب العذر، تبعاً للخارجين إليها، فقد روى البخاري في صحيحه (4423) عن أنس رضي الله عنه: (( أنَّ رسول الله r رجع من غزوة تبوك فَدَنَا من المدينة فقال: إنَّ بالمدينة أقواماً ما سِرْتُم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلاَّ كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حَبَسَهم العُذر )).
    وروى مسلم في صحيحه (1911) بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال: (( كنَّا مع النَّبِيِّ r في غزاة، فقال: إنَّ بالمدينة لرجالاً ما سِرتُم مسيراً ولا قطعتُم وادياً إلاَّ كانوا معكم، حبسهم المرض )).
    وبإسنادٍ آخر إليه، وفيه زيادة: (( إلاَّ شَرَكوكم في الأجر ))، فلماذا تحجر الواسع؟! ولماذا البخل على أهل الفضلِ بما تفضَّل الله به عليهم مِمَّن كانوا معه في غزوة تبوك من الطُّلَقاء وغيرهم، وقد فاتتهم الهجرة، لكن لَم يَفُتهم الجهادُ والنيَّة والنَّفيرُ عند الاستنفار؟! فقد قال r: (( لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة، وإذا استُنفرتم فانفروا )) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللفظ للبخاري (2825).
    ثمَّ إنَّ الأنصارَ الذين أثنى الله عليهم في كتابه العزيز إنَّما حصَّلوا اسمَ النُّصرة ووصْفَها لكونِهم نصروا الرسول r، وقد حصَّل المهاجرون وصْفَ النُّصرةِ مع الهجرة، ومَن لَم يكن من المهاجرين والأنصار وقد نصر النَّبِيَّ r وجاهد معه في سبيل الله له نصيبٌ من هذا الوصف في الجملة، وله الثواب الجزيل من الله على ما حصل منه من النُّصرة، وقد نوَّه الله بفضل وثواب مَن آمن وجاهد مع رسول الله r في غزواته ـ ومنها تبوك ـ بقوله: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}، وأخبر أنَّه كافيه وكافي مَن اتَّبعه من المؤمنين في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}.
    * * *
    استدلالُه بآية: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}، والرد عليه:
    قال في (ص:27 ـ 29): (( الدليل الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}.
    فهنا أخبر الله عزَّ وجلَّ بثلاث طوائف كانت كلُّها في عهد النَّبِيِّ r:
    الطائفة الأولى: السابقون من المهاجرين، وهذا قيْدٌ يُخرج المتأخِّرين من المهاجرين كخالد بن الوليد رضي الله عنه، ولا يدخل فيهم أبناء المهاجرين ولا رجال الوفود إن لَم يبقوا في المدينة، حتى ولو أسلموا قبل الحُديبية.
    والطائفةُ الثانية: هم الأنصار، ولا يدخل فيهم أبناء الأنصار (الأطفال) كما لا يدخل في المهاجرين أبناءُ المهاجرين.
    الطائفة الثالثة: الذين اتَّبعوهم بإحسان، كالمهاجرين بعد الحُديبية والمهاجرين من وفود العرب مِمَّن ثبت على الإسلام أيَّام الرِّدَّة، ومنهم أبناءُ المهاجرين وأبناء الأنصار، وقد يدخل في هؤلاء مَن حسن إسلامه من طُلقاء قريش وعُتقاء ثقيف وغير هؤلاء.
    إذن فالمهاجرون والأنصار لَم يشترط الله فيهم (الإحسان)؛ لأنَّ الهجرةَ والنُّصرةَ اللَّتين تقتضيان الإنفاقَ والجهادَ في أيَّام الضَّعف هما من أفضل الأعمال، ولا يحتاج هذا لقيد الإحسان، فلَم يقل: (... من المهاجرين بإحسان والأنصار بإحسان)؛ لأنَّ الرَّجلَ إن قام بالهجرة التي تقتضي ترك الأوطان والأولاد هي غاية الإحسان، كما أنَّ النُّصرة التي أجلبت على الأنصار قبائل العرب، مع تحمُّلِهم مهمَّة حماية الإسلام في أيامه الأولى لا تحتاج لقيد الإحسان؛ لأنَّها في الذِّروة منه.
    أما بعد قوَّة الإسلام والمسلمين فأصبحت الهجرةُ إلى النَّبِيِّ r تعود على نفس المهاجر بالمصلحة بعد أن كانت قبل ذلك تعود على النَّبِيِّ r بالمصلحة وعلى المهاجر أيضاً، أمَّا بعد فتح مكة فأصبح الالتحاق بالمسلمين يعني الغنيمة والسلامة لكثرة المال وأمن القتل.
    ولهذا كلِّه نعرف لماذا قَصَرَ الله عزَّ وجلَّ الثناءَ على المهاجرين والأنصار فقط، ثمَّ قيد المهاجرين بالسابقين منهم، وهم المهاجرون الهجرة الشرعية!! )).
    ويُجاب على ذلك بما يلي:
    الأول: أنَّه ليس في الآيةِ دليلٌ على ما أُورِدَت الآية من أجله، وهو قصر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، ثمَّ إنَّه جاء في سياق الآية عند المالكي زيادة حرف (( من )) قبل {تَحْتَهَا الأَنْهَارُ }، وهو خطأ، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي لَم يأت فيه حرف (( من )) قبل {تَحْتَهَا الأَنْهَارُ}.
    الثاني: جاء في الآية وصْف المهاجرين بالسابقين، وهو يدلُّ على أنَّ المهاجرين فيهم سابقون وفيهم متأخِّرون، وقد ذكر ابنُ كثير في تفسيره عند تفسير هذه الآية قولين في المراد بالسَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، أحدهما: أنَّهم الذين أدركوا بيعة الرِّضوان عام الحُديبية، والثاني: أنَّهم الذين صلَّوا إلى القبلتين مع رسول الله r، وقدكان تحويل القبلةِ إلى الكعبة بعد الهجرة بستة عشر شهراً.
    وعلى القول الأول يكون المهاجرون المتأخِّرون مَن هاجر بعد الحُديبية وقبل فتح مكة، ومِن هؤلاء خالد بن الوليد رضي الله عنه وغيره، وقد أخرجهم المالكي من الصحبة ذات المدح والثناء، وكذلك الهجرة ذات المدح والثناء.
    الثالث: أنَّ الذين اتَّبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: صحابة، وهم الذين صحبوا الرسول r ورأوه.
    والثاني: الذين لَم يَصحبوا النَّبِيَّ r ولَم يرَوه، مِمَّن كان في زمنهم أو بعدهم.
    ويحصلُ للجميع الأجرُ العظيمُ الموعود به في الآية.
    الرابع: أنَّ ما ذكره عن المهاجرين بعد الحُديبية وقبل فتح مكة من أنَّ (( الهجرة تعود على نفس المهاجر بالمصلحة، بعد أن كانت قبل ذلك تعود على النَّبِيِّ r بالمصلحة وعلى المهاجر أيضاً )) غير صحيح؛ فإنَّ المصلحة تعود بجهاد مَن جاهد منهم على النَّبِيِّ r والمسلمين، ومن أوضح الأمثلة لذلك ما حصل لخالد بن الوليد رضي الله عنه من البلاء الحسن في الغزوات التي شهدها، ومنها غزوة مُؤْتة التي أمَّر نفسَه فيها بعد استشهاد الأمراء الثلاثة الذين عَيَّنَهم الرسول r، وما حصل من الفتح للمسلمين في إمارته، فقد روى البخاري في صحيحه (4262) بإسناده عن أنس رضي الله عنه: (( أنَّ النَّبِيَّ r نَعى زيداً وجعفراً وابنَ رواحة للناس قبل أن يأتيَهم خبرُهم، فقال: أخذ الرايةَ زيدٌ فأُصيب، ثمَّ أخذ جعفرٌ فأُصيب، ثمَّ أخذ ابنُ رواحة فأُصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذ الرايةَ سيفٌ من سيوف الله حتى فتح الله عليهم )).
    وهذا السيف من سيوف الله لَم يظفر بشرف الصُّحبة لرسول الله r على رأي المالكي الباطل الذي قَصَر فيه الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية.
    ومن أوضَح الأمثلة أيضاً ثبوت العباس بن عبد المطلب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ـ وهو من الطُّلقاء ـ مع رسول الله r حينما انهزم الناسُ يومَ حُنين، ففي صحيح مسلم (1775) من حديث العباس رضي الله عنه قال: (( شهدتُ مع رسول الله r يوم حنين، فلزمتُ أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسولَ الله r فلَم نفارِقه، ورسول الله r على بغلةٍ له بيضاء، أهداها له فروة بن نُفاثة الجذامي، فلمَّا التقى المسلمون والكفَّار ولَّى المسلمون مُدبرين، فطَفِق رسولُ الله r يُركضُ بغْلَتَه قِبَل الكفَّار، قال عباس: وأنا آخذٌ بلجام بغلةِ رسول الله r أكفُّها إرادةَ أن لا تُسرِع، وأبو سفيان آخذٌ برِكاب رسول الله r ... )) الحديث.
    وهذان الصحابيان الجليلان عمُّه وابنُ عمِّه اللذان ثَبَتَا مع رسول الله r ولَم يفِرَّا يوم حُنين وقد عادت مصلحةُ إسلامهما في هذه الغزوة على الرسول r، لا يعتبرهما المالكي من الصحابة؛ لأنَّ إسلامهما بعد الحُديبية، وهو يقصُر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية.
    الخامس: أنَّ قولَه: (( أمَّا بعد فتح مكة فأصبح الالتحاق بالمسلمين يعني الغنيمة والسلامة؛ لكثرة المال وأمن القتل )) غيرُ صحيح؛ لأنَّ المجاهدَ في سبيل الله ليست سلامتُه من القتل مُحقَّقةً؛ فإنَّه قد يُقتل وقد يسلَم.
    السادس: أمَّا ما ذكره من أنَّ أبناءَ المهاجرين لا يدخلون في المهاجرين، وأنَّ أبناءَ الأنصار لا يدخلون في الأنصار، وقد قصَر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار، فمُقتضاه أنَّ أبناء المهاجرين والأنصار ليسوا من الصحابة، وسبق أن ذكرتُ أنَّ مَن رأى النَّبِيَّ r من أبناء المهاجرين والأنصار فهو من الصحابة، بخلاف مَن لَم يرَه منهم.
    * * *
    استدلالُه بآيات سورة الحشر والرد عليه:
    وقال في (ص:30 ـ 31): (( الدليل الثالث: وهو مفسِّرٌ للدليل السَّابق، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيـمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيـمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
    أقول: أيضاً في هذه الآية قَصَر الله عزَّ وجلَّ الثناءَ على المهاجرين والأنصار، وأخبرنا بعلاماتهم، ثمَّ فصَّل في الإحسان المشتَرَط فيمَن بعدهم بأنَّه ـ إضافة لصالح الأعمال ـ من علاماته الكبرى الدعاء للسابقين من المهاجرين والأنصار، وعدم التعرُّض لهم ببُغض أو سبٍّ.
    {والَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيـمَانِ} ليس المقصود منهم إلاَّ المهاجرين والأنصار فقط، كما تدلُّ عليه الآيات السابقة دلالة واضحة، ويقول البغوي في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} يعني التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة. اهـ.
    أقول: فهذا إقرارٌ من البغوي بأنَّ مَن بعد المهاجرين والأنصار يُسمون (التابعين)، يعنِي أنَّ الناسَ مِن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، مروراً بمعاوية والوليد، وانتهاءً بنا في هذا العصر مأمورون بحبِّ المهاجرين والأنصار، الذين قام عليهم الإسلام حتى استوى، ومأمورون بالدعاء لهم والاستغفار لهم؛ لأنَّهم السببُ بعد الله ورسولِه في قيام هذا الدِّين، بل مَن أسلم بعد الحُديبية إلى فتح مكة مأمورون ابتداءً، ومَن بعدهم من باب الأولى )).
    وعلَّق في الحاشية عند قوله: (( الدعاء للسابقين من المهاجرين والأنصار، وعدم التعرُّض لهم ببُغض أو سبٍّ )) بقوله: (( وهذا الإحسان لَم يفعله بعضُ الطُّلَقاء كمعاوية والوليد بن عُقبة وبُسر بن أبي أرطاة والذين حاربوا السابقين كعليٍّ وعمَّار والبدريِّين والرِّضوانيِّين الذين كانوا مع علي، بالإضافة إلى سبِّهم عليًّا على المنابر، وسَنِّ هذه السنة السيِّئة، إذن فالذين طعنوا في الصحابة هم أولئك الطُّلَقاء، وهم أوَّلُ من خالف الأمر الإلَهي بالاستغفار للذين سبقونا بالإيمان!! )).
    وعلَّق في الحاشية أيضاً على قوله: (( {والَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيـمَانِ} ليس المقصود منهم إلاَّ المهاجرين والأنصار فقط، كما تدلُّ عليه الآيات السابقة دلالة واضحة )) بقوله: (( وعلى هذا فلا حُجَّة للذين يستدلُّون بهذه الآيات على وجوب السكوت عن دراسة التاريخ وذِكر الظالمين بظلمِهم والعادلين بعدلِهم؛ حتى يعرفَ الناسُ موطنَ القُدوة والتأسِّي من السلف!! )).
    ويُجاب عن استدلاله بما يلي
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: الانتصار للصحابة الآخيار في رد أباطيل حسن المالكي (( للوالد عبد المحسن العباد ))

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 29.08.08 20:17

    :
    الأول: أنَّ الآيات الثلاث في بيان مصارف الفيء، وهي مشتملةٌ على الثناء على المهاجرين والأنصار، ولا دليل فيها على ما أراده المالكي من قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية.
    الثاني: أنَّ الآيةَ الثالثة في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصارمن فتح مكة وما بعده، داعين لهم لسبقهم بالإيمان، وسائلين الله عزَّ وجلَّ سلامةَ قلوبهم من الغلِّ للذين آمنوا، وليس فيها خروجُ من أسلم بعد الحُديبية وقبل فتح مكة ، كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ونحوهما من وصْف الصُّحبة والهجرة، كما زعم المالكي.
    الثالث: أنَّ ما جرى من خلاف بين بعض المهاجرين السابقين كعليٍّ رضي الله عنه وبين بعض مَن أسلموا عام الفتح أو قبله أو بعده لا يقتضي نَيل مَن بعدهم مِن أحدٍ منهم، بل الواجب مَحبَّة الجميع والثناء عليهم والدعاء لهم وإنزالهم منازلهم، وقد وُعدوا جميعاً بالحُسنى، وما كان في قلوبهم من غلٍّ إن بقي فإنَّ الله ينزعُه كما أخبر بذلك في كتابه العزيز بقوله في سورتي الأعراف والحِجر: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}، وما أحسن ما قاله شارح الطحاوية: (( والفتنُ التي كانت في أيَّامه ـ يعنِي أميرَ المؤمنين عليًّا رضي الله عنه ـ قد صان الله عنها أيدينا، فنسألُ الله أن يَصون ألسِنَتنا بِمَنِّه وكرمِه )).
    قال الشوكاني عند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيـمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} قال بعد أن فسَّر الذين جاؤوا من بعدهم أي بعد المهاجرين والأنصار بأنَّهم التابعون لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، قال: (( أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغِلَّ للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابةُ دخولاً أوَّليًّا؛ لكونهم أشرفَ المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمَن لَم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآيةِ، فإن وَجَدَ في قلبِه غِلاًّ لهم فقد أصابه نَزْغٌ من الشيطان وحلَّ به نصيبٌ وافرٌ من عصيان الله بعداوة أوليائه وخِيرة أمَّة نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم، وانفتح له بابٌ من الخذلان يَفِدُ به على نار جهنَّم إن لَم يتدارَك نفسَه باللُّجوء إلى الله سبحانه، والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طَرَقَه مِن الغِلِّ لِخَيرِ القرون وأشرفِ هذه الأمَّة، فإن جاوز ما يَجده من الغِلِّ إلى شَتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسَخطِه، وهذا الدَّاءُ العُضال إنَّما يُصاب به مَن ابتُلي بِمُعلِّم من الرافضة أو صاحبٍ من أعداء خير الأمَّة الذين تلاعب بهم الشيطانُ وزيَّن لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرَفَهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه، وعن سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كلِّ عصرٍ من العصور، فاشتروا الضَّلالةَ بالهُدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالرِّبح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلُهم من منزلة إلى منزلة، ومن رُتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداءَ كتاب الله وسُنَّة رسوله وخير أمَّته وصالِحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدِّين، وسَعوا في كيد الإسلام
    وأهله كلَّ السَّعي، ورَموا الدِّينَ وأهلَه بكلِّ حَجَرٍ ومَدَر، والله من ورائهم مُحيط )). اهـ.
    الرابع: أمَّا ما أشار إليه حول دراسة التاريخ، فيُجاب عنه بأنَّ دراسةَ التاريخ لها حالتان:
    الأولى: دراسة مع سلامة القلوب والألسنة في حقِّ جميع أصحاب رسول الله r، تعتمد على تَمييز ما صحَّ من أخبار عنهم مِمَّا لَم يصحَّ، فيُطَّرح ما لَم يصحَّ، وما صحَّ فيُحمَلُ على أحسن المحامل، ويُحسَّن بهم الظنُّ، ويُدعى لهم ويُستغفرُ لهم، فهذه الدراسة محمودة.
    والثانية: دراسةٌ خالية من سلامة القلوب والألسنة في حقِّ جميع الصحابة، تنبنِي على الغلوِّ في بعضٍ والجفاءِ في بعضٍ، وينتُج عنها إفسادُ النفوس وإيغارُ الصدور ومَلءُ القلوب بأمراض الشبُهات، وتعتمدُ على إظهار ما خبث من كلِّ ما جاء في التاريخ مِمَّا لَم يكن له خطام أو زِمام، فهذا النوع من الدراسة للتاريخ مذموم وحرام، ودراسة المالكي من هذا النَّوع المذموم، ويمكن معرفةُ حقيقة ذلك بالاطِّلاع على ما نقلته من كلامه ورددتُ عليه، ولا سيَما تشكيكه في أَحقيَّة أبي بكر بالخلافة، فقد جاء فيه أنَّ عليًّا رضي الله عنه لو كان موجوداً ـ أي في السقيفة ـ لَتَمَّ له الأمرُ، وذلك رجمٌ بالغيب، و(( لو )) تفتح عمل الشيطان، وأيضاً جاء فيه وصْف الطريقة التي تَمَّت بها بيعة أبي بكر رضي الله عنه بأنَّها تُضعف شرعيَّة البيعة، وتَجعلُها أشبَه ما تكون بالقهر والغلبة، وخلافةُ الخلفاء الراشدين الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترتيبهم مِمَّا أراده الله قَدَراً وشرعاً، فوقوع خلافتهم على هذا الترتيب دالٌّ على تقديره ذلك، وأنَّ الله قد شاءَه فوقع، ولَم يشأْ غيرَه فلَم يقع، ما شاء الله كان وما لَم يشأ لَم يكن، ويدلُّ لكونه مراداً شرعاً ما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه من قوله r: (( ... فإنَّه مَن يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي )) الحديث، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: (( حديث حسن صحيح ))، ويدلُّ له أيضاً حديثُ سفينة مولى رسول الله r، قال: قال رسول الله r: (( خلافةُ النبوة ثلاثون سنة، ثمَّ يُؤتي الله المُلْكَ أو مُلْكَه مَن يشاء )) رواه أبو داود (4646) وغيرُه، ونقل تصحيحَه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (460) عن تسعة من العلماء.
    أمَّا الزعم بأنَّ الطريقةَ التي تَمَّت بها بيعة أبي بكر رضي الله عنه تُضعفُ شرعيَّة البيعة، وتجعلها أشبهَ ما تكون بالقهر والغلبة، فهو كلامٌ يُنادي على قائله بأنَّه في وادٍ، والسُّنةَ وأهلَها في وادٍ آخر، وسيأتي الرَّدُّ عليه عند ذِكر تشكيكه في أحقِّية أبي بكر بالخلافة.
    ولكلِّ ساقطةٍ لاقطة، فهذه القراءة المزعومة من المالكي في كتب العقائد قد تلقَّفها ونشرها مركزٌ للدراسات التاريخية في دولة عربية، وقد اطَّلعتُ أخيراً على صورة منه، وهو من التعاون على الإثم والعدوان، فإنَّ نشرَ الباطل لا حدَّ لضرَرِه، كما أنَّ نشرَ الحقِّ لا حدَّ لنفعه؛ لقوله r: (( مَن دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبِعَه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً )) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (2674).
    * * *
    استدلاله بآية سورة الحديد والرد عليه:
    وقال في (ص:31 ـ 32): (( الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحُسْنَى وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
    أقول: الغريب أنَّ بعضَ الناس يستدلُّ بهذه الآية على أنَّ كلَّ الصحابة في الجنَّة؛ لأنَّ الله قد وعد المتقدِّمين منهم والمتأخرين بالجنة، ووعدُه حقٌّ لن يُخلفه!
    أقول: إمَّا أن تكون هذه الآية تشمل المهاجرين والأنصار {مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ}، وتفضلهم على من جاء بعدهم إلى فتح مكة فقط، ولا تشمل الطُّلَقاءَ ولا العُتقاء ولا غيرَهم مِمَّن لَم يُقاتِل ولَم ينفق في هذه الفترة؛ لأنَّ سورةَ الحديد نزلت قبل فتح مكة، وعلى هذا فلا يشملهم الثناء، ثمَّ هي مقيَّدةٌ بالإنفاق والقتال.
    مثلما الثناء على المهاجرين والأنصار لا يشملنا، فكذلك الثناء على المسلمين من بعد الحُديبية إلى فتح مكة لا يشمل مَن أسلم في الفتح أو بعد ذلك، وإمَّا أن تكون الآيةُ شاملةً لهؤلاء ولنا من باب الأولى، لكن هناك شرط الإحسان الذي سبق في الآية السابقة، بمعنى أنَّ الله وعد بالجنَّة المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، أمَّا المتَّبعون بغير الإحسان فلا يُقال فيهم هذا.
    والخلط بين الأمور هو الذي سبَّب لنا الخلل الكبير في الرؤية التعميمية التي خلطنا بها الطُّلَقاء مع السابقين، فلا بدَّ من وضع الأمور في مواضِعها الصحيحة )).
    ويُجاب عن ذلك بما يلي:
    الأول: أنَّ للعلماء في المراد بالفتح في هذه الآية قولين، ذكرهما ابن كثير والشوكاني:
    أحدهما: أنَّه فتح مكة، وهو قول الجمهور.
    والثاني: أنَّه صلح الحُديبية.
    وعلى قول الجمهور فالآيةُ تدلُّ على تفضيل القتال والإنفاق مِمَّن كانوا قبل فتح مكة، على القتال والإنفاق مِمَّن كانوا بعد فتحها، وهو متَّفق مع ما جاءت به الأحاديث من استمرار الهجرة المحمود أهلها إلى فتح مكة، وهو يردُّ قولَ المالكي في قصْر الصُّحبة والهجرة المحمود أهلها على مَن كانوا قبل صُلح الحُديبية.
    وعلى القول بأنَّ المرادَ بالفتح صلح الحُديبية فليس هناك دليل يَمنعُ من دخول بقيَّة أصحاب رسول الله r مِمَّن كان إسلامُهم وصُحبتُهم بعد الحُديبية إلى حين وفاته r في الوعد الكريم الذي دلَّت عليه الآية، مع القطع بالتفاوت بين المتقدِّمين منهم والمتأخرين.
    الثاني: أنَّه لا وجه لاستغراب المالكي الوعد لجميع الصحابة بالحُسنى وهي الجنَّة، ومِمَّن فسَّر {الحُسْنَى} في الآية بالجنَّة القرطبيُّ والشوكاني والشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفاسيرهم، وقدجاء في السُّنَّة تفسير {الحُسْنَى} في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} بأنَّها الجنَّة، وذلك من حديث صُهيب رضي الله عنه عند الإمام مسلم (297 ـ 298).
    فلماذا هذا الاستغراب، وفضلُ الله واسعٌ ورحمتُه وسعت كلَّ شيء؟!
    وأسْعَدُ الناسِ بجنَّتِه ورحمتِه أصحابُ رسوله r الذين هم خير هذه الأمَّة، التي هي خير أمَّة أُخرجت للناس، الذين اختارهم الله لِصُحبته، ومتَّع أبصارَهم في هذه الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعته، ومتَّع أسماعَهم بسماع القرآن والسُّنَّة منه r ونقلهما إلى الناس بعدهم، وهم الواسطة بين الرسول r وبين غيرهم.
    * * *
    استدلاله بآية سورة الأنفال والرد عليه:
    وقال في (ص:33 ـ 34): (( الدليل الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِن وَلاَيَتِهِم مِن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
    أقول: هذه الآية من سورة الأنفال (72) فيها فوائد عظيمة:
    الأولى: إثبات ولاية المهاجرين مع الأنصار فقط، وهذا ما يُفسِّرُه الحديث الشريف عن رسول الله r: (المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطُّلَقاء من قريش والعُتقاء من ثقيف بعضُهم أولياء بعض إلى يوم القيامة)، والحديث فيه إخراج للطُّلقاء من المهاجرين والأنصار الذين هم أصحاب النَّبِيِّ r فقط، كما في حديثٍ الآخر: (أنا وأصحابي حيِّز، والناس حيِّز)، قالها النَّبِيُّ r يوم الفتح، وكلمة (أصحابي) في هذا الحديث الأخير كلمة مطلقةٌ فسَّرها الحديثُ المتقدِّم وقيَّدها بأنَّ المرادَ بها (المهاجرون والأنصار)، فتأمَّل لهذا التوافق والترابط؛ فإنَّك لن تجدَه في غير هذا المكان!
    الفائدة الثانية: أنَّ الذين أسلموا ولَم يُهاجروا لا يستحقُّون من المسلمين في عهد النَّبِيِّ r الولايةَ التي تعنِي النُّصرةَ والولاء، فإذا كان المسلمون قبل فتح مكة لا يستحقُّون النُّصرةَ ولا الولاء حتى يُهاجروا، فكيف بِمَن انتظر من الطُّلَقاء حتى قال النَّبِيُّ r: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة).
    فهؤلاء لَم يُدركوا فضلَ من لا يستحقُّ النُّصرة والولاية، فضلاً عن إدراكهم لفضل السابقين من المهاجرين والأنصار.
    الثالثة: أنَّ المسلمين الذين لَم يُهاجِروا لا يجوز أن يُنصَروا على الكفَّار المعاهدين الذين معهم ميثاق مع المهاجرين والأنصار، وهذا الحكم يبيِّن الفرقَ الواسع بين مَن هاجر ومَن بقي مؤمناً في دياره، فكيف بِمَن لَم يؤمن إلاَّ عند إلغاء الهجرةِ الشرعية من مكة، وأسلم رغبة في الدنيا ورهبةً من السيف، حتى وإن حسُن إسلامه فيما بعد؟!!! )).
    ويُجاب عن ذلك بما يلي:
    الأول: أنَّ كونَ المهاجرين والأنصار بعضُهم أولياء بعض لا يدلُّ على نفي ولايتِهم عن غيرهم مِمَّن أسلموا بعد فتح مكة، فالكلُّ خيار المؤمنين، مع التفاوت الكبير بينهم في الإيمان، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وسيأتي لذلك زيادةُ بيان عند ذِكر حديث (( المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض )).
    الثاني: أنَّ حديث (( المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض )) صحيح، وحديث (( الحيز )) ضعيف، وسيأتي بيان ذلك عند ذِكر الحديثين.
    الثالث: أنَّ ما ذكره من كون المهاجرين والأنصار هم أصحاب النَّبِيِّ r فقط قولٌ باطلٌ، وقد تكرَّر منه قصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، وتكرَّر منِّي التنبيه على بطلان قوله بسبب تكراره.
    الرابع: أنَّ الطُّلقاءَ وغيرَهم قد فاتتهم الهجرة، لكن لَم يفُتهم الجهاد والنيَّة، فقد أبلى كثيرٌ منهم في الجهادِ مع النَّبِيِّ r بلاءً حسناً، وقوله: (إنَّ إسلامهم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف) هو مِن الظلم البيِّن، والظُّلمُ ظلمات يوم القيامة، لا سيما ما كان منه لأصحاب رسول الله r.
    ولو حصل إسلام أحد منهم من أجل الدنيا فإنَّ الحالة تتغيَّر إلى خير؛ لقول أنس رضي الله عنه: (( إن كان الرَّجلُ لَيُسلِم ما يريد إلاَّ الدنيا، فما يُسلم حتى يكون الإسلامُ أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها )) رواه مسلم في صحيحه (2312).
    * * *
    استدلاله بآية سورة الفتح والرد عليه:
    وقال (ص:36 ـ 37): (( الدليل الثامن: قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
    أقول: لولا أنَّ بعضَ الناس يورد هذه الآية للدلالة على فضل مسلمة الفتح وأمثالهم لَما أوردتُها هنا، فالآية من سورة الفتح التي نزلت قبل فتح مكة، وعلى هذا فالثناء الذي فيها على (الذين مع النَّبِيِّ r) ينزل على المؤمنين يومئذ من المهاجرين والأنصار، ولا ينزل على مَن بعدهم، إضافةً إلى أنَّ المعيَّة تقتضي النُّصرةَ والتمكينَ أيَّام الحاجة والذُّلِّ والضَّعف )).
    ويُجاب عن قوله هذا:
    أنَّ الآيةَ عامَّةٌ في الصحابة، وليس فيها ذِكر المهاجرين والأنصار، لكن المالكي قصَرها عليهم، حرصاً على حِرمان مسلمة الفتح من تحصيل الفضلِ الوارد فيها، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا}، وكون سورة الفتح ـ ومنها هذه الآية ـ نزلت قبل فتح مكة لا يدلُّ على قصْر ما فيها على مَن كان قبل نزول الآية، بل الحكم شاملٌ لكلِّ مَن كان معه إلى نهاية حياته r.
    ثمَّ إنَّ هذه الصفات للذين مع النَّبِيِّ r قد ذُكرت في التوارة والإنجيل، وهي لجميع الصحابة، فلا وجه لإخراج أحدٍ من أصحاب رسول الله r منها،

    نقلاً عن
    الانتصار للصحابة الآخيار في رد أباطيل حسن المالكي (( للوالد عبد المحسن العباد )) Albaidha1

    لطفــــــاً .. من هنـــــــــــا

    [/size]

      الوقت/التاريخ الآن هو 15.11.24 0:21