[b]الانتصار للصحابة الآخيار في رد أباطيل حسن المالكي (( للوالد عبد المحسن العباد ))
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعدُ:
فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدْي هديُ محمد r، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
وبعد، فإنَّ من فضلِ الله تعالى وعظيمِ منَّتِه عليَّ أن حبَّبَ إليَّ صحابةَ رسول الله r الأخيار، وقرابتَه الأطهار، من غير إفراطٍ أو تفريطٍ، أو غُلوٍّ أوجفاءٍ، كما هي طريقةُ السَّلف الصالح، وقد ألَّفتُ رسالةً مختصرةً بعنوان: (( عقيدةُ أهل السنَّة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم ))، وقد نُشرتْ في مجلَّة الجامعة الإسلامية، في عدَدِها الثاني من السنة الرابعة، الصادر في شهر شوّال سنةَ 1391هـ، ثمَّ طُبعتْ مستقلَّة.
وألَّفتُ رسالةً بعنوان: (( فضلُ أهل البيت وعُلوُّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة )) طُبعتْ في عام 1422هـ، وسبق أن ألقيتُ محاضرةً في الموضوع في الجامعة الإسلامية في عام 1405هـ تقريباً بعنوان: (( مكانةُ أهل البيت عند الصحابة وتابعيهم بإحسان )).
وقد ألقيتُ محاضرةً في قاعة المحاضرات في الجامعة الإسلامية في عام 1405هـ تقريباً عن معاويةَ بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان عنوانها
في أوَّل الأمر (( معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بين المنصفين والمتعسِّفين ))، لكنِّي عند إلقائها اقتصرتُ على كلام أهل الإنصاف دون ذكر شيءٍ من كلام أهل الاعتساف، ثمَّ طُبعت بعنوان: (( من أقوال المنصفين في الصحابيِّ الخليفةِ معاويةَ رضي الله عنه )).
وفي الآونة الأخيرة وقفتُ على رسالتين لأحد المتعسِّفين الجُدُد، وهو حسن بن فرحان المالكي (نسبة إلى بَنِي مالك في أقصى جنوب المملكة)، إحداهما بعنوان: (( الصحابةُ بين الصُّحبة اللُّغوية والصُّحبة الشَّرعية ))، والثانية بعنوان: (( قراءةٌ في كتب العقائد ))، اشتملتَا على تَخبُّطٍ وتَخليطٍ في مسائل الاعتقاد، ولا سيَما في الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وعلى النَّيل من عددٍ كبيرٍ من علماء أهل السنَّة المتقدِّمين والمتأخِّرين، وإشادة بأهل البدع.
وسأقتصرُ في هذه الرسالة على دحضِ أباطيله في حقِّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
ومن هذه الأباطيل: تقسيمُه الصحبةَ إلى صحبةٍ شرعيَّة وصحبةٍ لغويَّةٍ، ويريدُ بالصُّحبة الشرعيَّة صحبة المهاجرين والأنصار من أوَّل الهجرة إلى صُلح الحُديبية، وأنَّ ما ورد من فضائل لأصحاب رسول الله r إنَّما هي لهؤلاء وحدهم، ومَن كان بعد الحُديبية فصحبتُه لغويَّة كصحبة المنافقين والكفّار. فأخرج بذلك الألوفَ الكثيرةَ من أصحاب رسول الله r الذين أسلموا وهاجروا إلى رسول الله r بعد الحُديبية، وكذلك الذين أسلموا عامَ الفتح، والوفودَ الذين وَفَدوا على رسول الله r وغيرَهم، ومِن الذين زعم أنَّهم لَم يظفروا بشرف الصُّحبة لرسول الله r وأنَّ صُحبَتَهم إيَّاه كصُحبة الكفَّار والمنافقين: عمُّه العباس بن عبد المطّلب وابنُه عبد الله وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية رضي الله عنهم، وسيأتي تنصيصُه على عدم صحبتِهم والردُّ عليه.
ومن هذه الأباطيل تشكيكُه في أفضليَّة أبي بكر على غيره وفي أَوْلَوِيَّته بالخلافة بعد رسول الله r، وغير ذلك مِمَّا سأذكرُه في الرَّدِّ عليه.
والله يعلم أنَّني كارهٌ لإيراد هذه الأباطيل، لكن حالي كما جاء في المَثَل: (( مُكرَهٌ أخوك لا بطل ))، كما في مجمع الأمثال للميداني (ص:274)، فأجدُني مضطرًّا إلى إيراد هذه التَّعسُّفات والرَّدِّ عليها،
وأقول فيها كما قال السيوطي في كتابه (( مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة )) (ص:5) في إبطال قول من قال: (إنَّه لا يُحتَجُّ بالسُّنَّة، إنَّما يُحتجُّ بالقرآن وحده!) قال: (( اعلموا ـ يرحمكم الله ـ أنَّ من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تُذكر إلاَّ عند داعية الضرورة )) إلى أن قال في (ص:6): (( وهذه آراء ما كنتُ أستحلُّ حكايتَها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من أعصار )).
ولشناعة هذه الأباطيل، فإنَّ مجرَّدَ تصوُّرِها يُغني عن الاشتغال في الردِّ عليها، لكنِّي رأيتُ الردَّ عليها في هذه الرسالة؛ لئلاَّ يغتَرَّ بها ذو جهل أو تغفيل، ورجاء أن يهدِيَ الله المردودَ عليه، ويُخرجه من الظلمات إلى النور، فيتوبَ من تلك الأباطيل قبل أن يفجأَه هادِمُ اللَّذَّات، والرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل، كما قال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تفسير القرطبي 5/262).
وقد سَمَّيتُ هذه الرسالة:
الانتصار للصحابةِ الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي
وما أعزوُه إليه مِن كلامٍ باطل للردِّ عليه فهو في كتابه الذي في الصحابة، وما كان في الكتاب الآخر وهو: (( قراءةٌ في كتب العقائد )) فإنِّي أنصُّ عليه، فأقول: قال في (( قراءته )) كذا وكذا، وقد رددتُ عليه من كتابه هذا في موضعين من هذا الردِّ (ص:65)، (ص:115 ...)، وسأُفرِدُ بحول الله الردَّ عليه فيه بكتاب بعنوان: (( الانتصار لأهل السُّنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي )).
وأسأل الله عزَّ وجلَّ التوفيقَ لِما فيه رضاه والفقهَ في دينه والثباتَ على الحقِّ، إنَّه سميعٌ مجيب.
* * *
زعمه قَصْر الهجرة على المهاجرين قبل الحُديبية، وقَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، والرد عليه:
قال في (ص:25) في بيان مَن هم الصحابة: (( أصحابُ النَّبِيِّ r:
ـ الصحبة الشرعية ـ ليسوا إلاَّ المهاجرين والأنصار، وقد يدخل فيهم مَن كان في حكمهم مِمَّن أسلم وهاجر إلى النَّبِيِّ r وعاد إلى بلاده قبل فتح الحُديبية.
فهذا أسلمُ تعريفٍ لأصحاب النَّبِيِّ r، وهذه الصُّحبةُ الشرعيةُ هي التي كان فيها النُّصرةُ والتمكينُ في أيَّام الضَّعفِ والذِّلَّة، وهي الصُّحبةُ الممدوحةُ في القرآن الكريم والسنَّة النبويّة، بمعنى أنَّ كلَّ آيات القرآن الكريم التي أثنت على (الذين مع النَّبِيِّ r) إنَّما كان الثناءُ مُنصَبًّا على المهاجرين والأنصار فقط، وليس هناك مدحٌ عامٌّ لِمَن كان مع النَّبِيِّ r إلاَّ وهو منصرفٌ لهؤلاء لا لغيرهم !! )).
وقد علَّق عند قوله: (( قبل فتح الحُديبية )) بقوله في الحاشية: (( وقد يدخل في مسمَّى (الأصحاب) مَن أسلم بَعد الحُديبية إلى فتح مكة، مع الجزم بالفرق الكبير بينهم وبين أصحاب النَّبِيِّ r قبل بيعة الرِّضوان؛ لحديث خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف، لكن لا يدخل فيهم طلقاءُ قريشٍ ولا عُتقاءُ ثقيفٍ ولا مَن كان في حُكمهم من الأعراب والوفود بعد فتح مكة !!! )).
وقال في نهاية الكتاب (ص:84 ـ 85): (( الصُّحبةُ الشرعية: لا تكون إلاَّ في المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع النَّبِيِّ r في المدينة من بداية الهجرة إلى زمن الحُديبية، ويدخل في هؤلاء السابقون بالإسلام، الذين توفوا في مكة قبل الهجرة، أو في الحبشة، أو قدموا بعد الحُديبية من مهاجرة الحبشة فقط.
الصُّحبة العامة: التي مرجعُها العُرفُ أو اللُّغة، فهذه يدخل فيها كلُّ مَن صحب النَّبِيَّ r من المسلمين أو المنافقين أو الكفَّار، والذي يُدخِل مَن صحب النَّبِيَّ r صحبةً يسيرةً لاحتمال اللُّغة ذلك لا يستطيع إخراجَ صحبة المنافق لا لغةً ولا عُرفاً؛ لأنَّ اللغةَ والعرفَ تحتملان ذلك أيضاً.
فإن قال المُخرج للمنافق أو الكافر: إنَّما أخرجناهما من الصُّحبةِ بالشرع، قلنا له: ونحنُ إنَّما حدَّدنا الصُّحبة الشرعية بالمهاجرين والأنصار بالشرع أيضاً.
فإن تَمسَّكتَ بمطلق اللغة فقد أدخلتَ على النَّبِيِّ r صحبةَ المنافقين، وإن قلتَ: أنَّ اللغة ليست حجَّةً على الشرع، قلنا: كذلك في الصحبة الشرعية، والعرفُ حكمُه حكمُ اللغة، وإن كان أقوى دلالةً من اللغة )).
أقول: إنَّ هذا الكلام يشتمل على أمور:
الأول: قصرُه المهاجرين هجرةً شرعيةً على مَن هاجر قبل الحُديبية، دون مَن هاجر بعدها.
الثاني: أنَّ المهاجرين قبل الحُديبية مع الأنصار هم أصحابُ رسول الله r الصُّحبةَ الشرعية دون غيرِهم.
الثالث: الجزم بأنَّ كلَّ مَن صحب الرسولَ r بعد فتح مكة ـ سواء كان من الطُّلَقاء والعُتقاء وأصحاب الوفود ـ لا يُعَدُّ صحابياًّ، وصحبتُه المضافة إليه لغوية، كصحبة المنافقين والكفّار.
الرابع: أنَّ أولادَ المهاجرين والأنصار ليس لهم حكم المهاجرين والأنصار.
الخامس: اعتبر مَن صَحِبَ النَّبِيَّ r بعد الحُديبية وقبل فتح مكة من أصحابه الصُّحبة اللُّغوية التي هي شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكفار، كما جاء في كلامه الأخير الذي هو خلاصةُ رأيه.
والجوابُ عن الأمر الأوّل أن يُقال:
إنَّ الهجرةَ إلى الرسول r في المدينة تَمتدُّ مِن بدْءِ الهجرة إلى فتحِ مكة، مع التفاوت الكبير بين مَن تقدَّمتْ هجرتُه ومَن تأخَّرتْ، كما أنَّ التفاوُتَ حاصلٌ بين مَن هاجر في بداية الهجرة وبين مَن هاجر قُبَيل صُلح الحُديبية.
فإنَّ مَن شَهِد بدراً وأُحُداً والخندقَ وغيرَها أفضلُ مِمَّن هاجر قُبَيل الحُديبية وشَهِد الحُديبية.
وما ذكره في (ص:85 ـ 86) من تقسيم الهجرة إلى (هجرة شرعية) تنتهي بصلح الحُديبية و(شرعيةِ هجرةٍ) تَمتَدُّ إلى فتح مكة، وقصْره فضلَ الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ على الهجرة قبل الحُديبية دون ما بعدها إلى فتح مكة تحكُّمٌ لا دليل عليه.
ويدلُّ لاستمرار الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ من بدء الهجرة إلى فتح مكة ما يأتي:
1 ـ حديث ابن عباس في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (2825)، أنَّ النَّبِيَّ r قال يومَ الفتح: (( لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّةٌ، وإذا استُنفِرْتُم فانفِروا )).
قال الحافظ في شرحه: (( قال الخطّابيُّ وغيرُه: كانت الهجرةُ فرضاً في أوَّل الإسلام على مَن أسلم لقلَّة المسلمين بالمدينة وحاجتِهم إلى الاجتماع، فلمَّا فتح الله مكةَ دخل النَّاسُ في دين الله أفواجاً، فسقط فرضُ الهجرة إلى المدينة، وبقي فرضُ الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدوٌّ )).
2 ـ حديث أبي عثمان النهدي عن مجاشع بن مسعود في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (3079)، قال: (( جاء مجاشعٌ بأخيه مجالد بن مسعود إلى النَّبِيِّ r، فقال: هذا مجالد يبايعُك على الهجرة، فقال: لا هجرةَ بعد فتح مكة، ولكن أبايعُه على الإسلام )).
وفي لفظٍ للبخاري (2963) قال مجاشع: (( أتيتُ النَّبِيَّ r أنا وأخي، فقلتُ: بايعْنا على الهجرة، فقال: مَضتِ الهجرةُ لأهلها، فقلتُ: علامَ تبايعنا؟ قال: على الإسلام والجهاد )).
وهو يدلُّ على استمرار الهجرة ذات المدح والثناء إلى فتح مكة.
3 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( انقطعت الهجرةُ منذُ فتح الله على نبِيِّه r مكة )) رواه البخاري (3080).
وهو واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الفضل إلى فتح مكة.
4 ـ حديث جرير رضي الله عنه مرفوعاً: (( المهاجرون والأنصارُ بعضُهم أولياءُ بعض في الدنيا والآخرة، والطُّلَقاءُ من قريشٍ والعتقاءُ من ثقيفٍ بعضُهم أولياءُ بعضٍ في الدنيا والآخرة ))، وهوحديثٌ صحيحٌ، انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (1036) والمسند (4/363).
والمقابلة بين المهاجرين والأنصار وبين الطُّلَقاء والعتقاء دالَّةٌ على استمرار الهجرة إلى فتح مكة.
وقد أورد المالكي في (ص:46 ـ 47) حديثَ مجاشعٍ، وفيه الدلالة على أنَّ الهجرة تنتهي بفتح مكة، وهو يخالفُ ما زعمَه في (ص: 45 ـ 46) من أنَّ الهجرةَ تنتهي بصُلح الحُديبية فقال: (( الدليلُ الخامس عشر ما رواه البخاري في صحيحه عن مجاشع بن مسعود قال: أتيتُ النَّبِيَّ r بأخي بعد الفتح، فقلتُ: يا رسول الله! جِئتُك بأخي لتبايعَه على الهجرة، قال: ذهب أهلُ الهجرة بما فيها.
أقول: هذه (كذا) فيه دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ فتحَ مكة قطع الهجرة، ولا يحصل مسلمو الفتح على اسم الهجرة ولا فضلها حتى لو وفدوا إلى النَّبِيِّ r، وعلى هذا فلا يُسمَّوْن مهاجرين، وإنَّما يُسمَّوْن (الناس) كما في حديث (أنا وأصحابي حيِّزٌ والناسُ حيِّزٌ)، أو يُسمَّون الطُّلَقاء، أو نحو ذلك! )).
ثمَّ علَّق على هذا بقوله:(( وقوله: (ذهب أهلُ الهجرة بِما فيها) أي بِما فيها من فضلٍ وتسميةٍ وغيرِ ذلك مِمَّا هو من خصائص المهاجرين وفضائلهم )).
وأقول: هذا واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الثناء والمدح إلى فتح مكة، وهو خلافُ ما دندن حولَه من أنَّ الهجرةَ المحمود أهلُها تنتهي بصلح الحُديبية، وهذا الحديثُ قد أوردتُه قريباً من جملة الأدلَّة الدالَّة على استمرار الهجرة المحمود أهلُها إلى فتح مكة، وليس إلى صلح الحُديبية كما زعم، وقد وُفِّق هنا للصواب بتقرير أنَّ الهجرةَ تستمرُّ إلى فتح مكة، وإن كان ذلك بغير قصدٍ منه.
وأمَّا الأمورُ الأربعةُ الباقيةُ، وهي قصرُه الصُّحبةَ الشرعية التي جاء مدحُها في الكتاب والسنَّة على المهاجرين قبل الحُديبية والأنصار إلى زمن صلح الحُديبية، ونفي هذه الصحبة عن المهاجرين بعد الحُديبية، وعن الطُّلَقاء وعتقاء ثقيف وأصحاب الوفود وأبناء المهاجرين والأنصار، فيجاب عن ذلك بأنَّ هذا التقسيم للصحابة إلى مَن صُحبتُهم صُحبةٌ شرعيةٌ ومَن صُحبتُهم لُغويةٌ شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكافرين تقسيمٌ غيرُ صحيحٍ، وهو من محدثات القرن الخامس عشر، والصحيحُ أنَّ كلَّ مَن لقي النَّبِيَّ r مؤمناً به ومات على الإسلام فهو من أصحابه.
[size=28]الانتصار للصحابةِ الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
- حفظه الله تعالى -
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
- حفظه الله تعالى -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعدُ:
فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدْي هديُ محمد r، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
وبعد، فإنَّ من فضلِ الله تعالى وعظيمِ منَّتِه عليَّ أن حبَّبَ إليَّ صحابةَ رسول الله r الأخيار، وقرابتَه الأطهار، من غير إفراطٍ أو تفريطٍ، أو غُلوٍّ أوجفاءٍ، كما هي طريقةُ السَّلف الصالح، وقد ألَّفتُ رسالةً مختصرةً بعنوان: (( عقيدةُ أهل السنَّة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم ))، وقد نُشرتْ في مجلَّة الجامعة الإسلامية، في عدَدِها الثاني من السنة الرابعة، الصادر في شهر شوّال سنةَ 1391هـ، ثمَّ طُبعتْ مستقلَّة.
وألَّفتُ رسالةً بعنوان: (( فضلُ أهل البيت وعُلوُّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة )) طُبعتْ في عام 1422هـ، وسبق أن ألقيتُ محاضرةً في الموضوع في الجامعة الإسلامية في عام 1405هـ تقريباً بعنوان: (( مكانةُ أهل البيت عند الصحابة وتابعيهم بإحسان )).
وقد ألقيتُ محاضرةً في قاعة المحاضرات في الجامعة الإسلامية في عام 1405هـ تقريباً عن معاويةَ بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان عنوانها
في أوَّل الأمر (( معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بين المنصفين والمتعسِّفين ))، لكنِّي عند إلقائها اقتصرتُ على كلام أهل الإنصاف دون ذكر شيءٍ من كلام أهل الاعتساف، ثمَّ طُبعت بعنوان: (( من أقوال المنصفين في الصحابيِّ الخليفةِ معاويةَ رضي الله عنه )).
وفي الآونة الأخيرة وقفتُ على رسالتين لأحد المتعسِّفين الجُدُد، وهو حسن بن فرحان المالكي (نسبة إلى بَنِي مالك في أقصى جنوب المملكة)، إحداهما بعنوان: (( الصحابةُ بين الصُّحبة اللُّغوية والصُّحبة الشَّرعية ))، والثانية بعنوان: (( قراءةٌ في كتب العقائد ))، اشتملتَا على تَخبُّطٍ وتَخليطٍ في مسائل الاعتقاد، ولا سيَما في الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وعلى النَّيل من عددٍ كبيرٍ من علماء أهل السنَّة المتقدِّمين والمتأخِّرين، وإشادة بأهل البدع.
وسأقتصرُ في هذه الرسالة على دحضِ أباطيله في حقِّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
ومن هذه الأباطيل: تقسيمُه الصحبةَ إلى صحبةٍ شرعيَّة وصحبةٍ لغويَّةٍ، ويريدُ بالصُّحبة الشرعيَّة صحبة المهاجرين والأنصار من أوَّل الهجرة إلى صُلح الحُديبية، وأنَّ ما ورد من فضائل لأصحاب رسول الله r إنَّما هي لهؤلاء وحدهم، ومَن كان بعد الحُديبية فصحبتُه لغويَّة كصحبة المنافقين والكفّار. فأخرج بذلك الألوفَ الكثيرةَ من أصحاب رسول الله r الذين أسلموا وهاجروا إلى رسول الله r بعد الحُديبية، وكذلك الذين أسلموا عامَ الفتح، والوفودَ الذين وَفَدوا على رسول الله r وغيرَهم، ومِن الذين زعم أنَّهم لَم يظفروا بشرف الصُّحبة لرسول الله r وأنَّ صُحبَتَهم إيَّاه كصُحبة الكفَّار والمنافقين: عمُّه العباس بن عبد المطّلب وابنُه عبد الله وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية رضي الله عنهم، وسيأتي تنصيصُه على عدم صحبتِهم والردُّ عليه.
ومن هذه الأباطيل تشكيكُه في أفضليَّة أبي بكر على غيره وفي أَوْلَوِيَّته بالخلافة بعد رسول الله r، وغير ذلك مِمَّا سأذكرُه في الرَّدِّ عليه.
والله يعلم أنَّني كارهٌ لإيراد هذه الأباطيل، لكن حالي كما جاء في المَثَل: (( مُكرَهٌ أخوك لا بطل ))، كما في مجمع الأمثال للميداني (ص:274)، فأجدُني مضطرًّا إلى إيراد هذه التَّعسُّفات والرَّدِّ عليها،
وأقول فيها كما قال السيوطي في كتابه (( مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة )) (ص:5) في إبطال قول من قال: (إنَّه لا يُحتَجُّ بالسُّنَّة، إنَّما يُحتجُّ بالقرآن وحده!) قال: (( اعلموا ـ يرحمكم الله ـ أنَّ من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تُذكر إلاَّ عند داعية الضرورة )) إلى أن قال في (ص:6): (( وهذه آراء ما كنتُ أستحلُّ حكايتَها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من أعصار )).
ولشناعة هذه الأباطيل، فإنَّ مجرَّدَ تصوُّرِها يُغني عن الاشتغال في الردِّ عليها، لكنِّي رأيتُ الردَّ عليها في هذه الرسالة؛ لئلاَّ يغتَرَّ بها ذو جهل أو تغفيل، ورجاء أن يهدِيَ الله المردودَ عليه، ويُخرجه من الظلمات إلى النور، فيتوبَ من تلك الأباطيل قبل أن يفجأَه هادِمُ اللَّذَّات، والرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل، كما قال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تفسير القرطبي 5/262).
وقد سَمَّيتُ هذه الرسالة:
الانتصار للصحابةِ الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي
وما أعزوُه إليه مِن كلامٍ باطل للردِّ عليه فهو في كتابه الذي في الصحابة، وما كان في الكتاب الآخر وهو: (( قراءةٌ في كتب العقائد )) فإنِّي أنصُّ عليه، فأقول: قال في (( قراءته )) كذا وكذا، وقد رددتُ عليه من كتابه هذا في موضعين من هذا الردِّ (ص:65)، (ص:115 ...)، وسأُفرِدُ بحول الله الردَّ عليه فيه بكتاب بعنوان: (( الانتصار لأهل السُّنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي )).
وأسأل الله عزَّ وجلَّ التوفيقَ لِما فيه رضاه والفقهَ في دينه والثباتَ على الحقِّ، إنَّه سميعٌ مجيب.
* * *
زعمه قَصْر الهجرة على المهاجرين قبل الحُديبية، وقَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، والرد عليه:
قال في (ص:25) في بيان مَن هم الصحابة: (( أصحابُ النَّبِيِّ r:
ـ الصحبة الشرعية ـ ليسوا إلاَّ المهاجرين والأنصار، وقد يدخل فيهم مَن كان في حكمهم مِمَّن أسلم وهاجر إلى النَّبِيِّ r وعاد إلى بلاده قبل فتح الحُديبية.
فهذا أسلمُ تعريفٍ لأصحاب النَّبِيِّ r، وهذه الصُّحبةُ الشرعيةُ هي التي كان فيها النُّصرةُ والتمكينُ في أيَّام الضَّعفِ والذِّلَّة، وهي الصُّحبةُ الممدوحةُ في القرآن الكريم والسنَّة النبويّة، بمعنى أنَّ كلَّ آيات القرآن الكريم التي أثنت على (الذين مع النَّبِيِّ r) إنَّما كان الثناءُ مُنصَبًّا على المهاجرين والأنصار فقط، وليس هناك مدحٌ عامٌّ لِمَن كان مع النَّبِيِّ r إلاَّ وهو منصرفٌ لهؤلاء لا لغيرهم !! )).
وقد علَّق عند قوله: (( قبل فتح الحُديبية )) بقوله في الحاشية: (( وقد يدخل في مسمَّى (الأصحاب) مَن أسلم بَعد الحُديبية إلى فتح مكة، مع الجزم بالفرق الكبير بينهم وبين أصحاب النَّبِيِّ r قبل بيعة الرِّضوان؛ لحديث خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف، لكن لا يدخل فيهم طلقاءُ قريشٍ ولا عُتقاءُ ثقيفٍ ولا مَن كان في حُكمهم من الأعراب والوفود بعد فتح مكة !!! )).
وقال في نهاية الكتاب (ص:84 ـ 85): (( الصُّحبةُ الشرعية: لا تكون إلاَّ في المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع النَّبِيِّ r في المدينة من بداية الهجرة إلى زمن الحُديبية، ويدخل في هؤلاء السابقون بالإسلام، الذين توفوا في مكة قبل الهجرة، أو في الحبشة، أو قدموا بعد الحُديبية من مهاجرة الحبشة فقط.
الصُّحبة العامة: التي مرجعُها العُرفُ أو اللُّغة، فهذه يدخل فيها كلُّ مَن صحب النَّبِيَّ r من المسلمين أو المنافقين أو الكفَّار، والذي يُدخِل مَن صحب النَّبِيَّ r صحبةً يسيرةً لاحتمال اللُّغة ذلك لا يستطيع إخراجَ صحبة المنافق لا لغةً ولا عُرفاً؛ لأنَّ اللغةَ والعرفَ تحتملان ذلك أيضاً.
فإن قال المُخرج للمنافق أو الكافر: إنَّما أخرجناهما من الصُّحبةِ بالشرع، قلنا له: ونحنُ إنَّما حدَّدنا الصُّحبة الشرعية بالمهاجرين والأنصار بالشرع أيضاً.
فإن تَمسَّكتَ بمطلق اللغة فقد أدخلتَ على النَّبِيِّ r صحبةَ المنافقين، وإن قلتَ: أنَّ اللغة ليست حجَّةً على الشرع، قلنا: كذلك في الصحبة الشرعية، والعرفُ حكمُه حكمُ اللغة، وإن كان أقوى دلالةً من اللغة )).
أقول: إنَّ هذا الكلام يشتمل على أمور:
الأول: قصرُه المهاجرين هجرةً شرعيةً على مَن هاجر قبل الحُديبية، دون مَن هاجر بعدها.
الثاني: أنَّ المهاجرين قبل الحُديبية مع الأنصار هم أصحابُ رسول الله r الصُّحبةَ الشرعية دون غيرِهم.
الثالث: الجزم بأنَّ كلَّ مَن صحب الرسولَ r بعد فتح مكة ـ سواء كان من الطُّلَقاء والعُتقاء وأصحاب الوفود ـ لا يُعَدُّ صحابياًّ، وصحبتُه المضافة إليه لغوية، كصحبة المنافقين والكفّار.
الرابع: أنَّ أولادَ المهاجرين والأنصار ليس لهم حكم المهاجرين والأنصار.
الخامس: اعتبر مَن صَحِبَ النَّبِيَّ r بعد الحُديبية وقبل فتح مكة من أصحابه الصُّحبة اللُّغوية التي هي شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكفار، كما جاء في كلامه الأخير الذي هو خلاصةُ رأيه.
والجوابُ عن الأمر الأوّل أن يُقال:
إنَّ الهجرةَ إلى الرسول r في المدينة تَمتدُّ مِن بدْءِ الهجرة إلى فتحِ مكة، مع التفاوت الكبير بين مَن تقدَّمتْ هجرتُه ومَن تأخَّرتْ، كما أنَّ التفاوُتَ حاصلٌ بين مَن هاجر في بداية الهجرة وبين مَن هاجر قُبَيل صُلح الحُديبية.
فإنَّ مَن شَهِد بدراً وأُحُداً والخندقَ وغيرَها أفضلُ مِمَّن هاجر قُبَيل الحُديبية وشَهِد الحُديبية.
وما ذكره في (ص:85 ـ 86) من تقسيم الهجرة إلى (هجرة شرعية) تنتهي بصلح الحُديبية و(شرعيةِ هجرةٍ) تَمتَدُّ إلى فتح مكة، وقصْره فضلَ الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ على الهجرة قبل الحُديبية دون ما بعدها إلى فتح مكة تحكُّمٌ لا دليل عليه.
ويدلُّ لاستمرار الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ من بدء الهجرة إلى فتح مكة ما يأتي:
1 ـ حديث ابن عباس في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (2825)، أنَّ النَّبِيَّ r قال يومَ الفتح: (( لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّةٌ، وإذا استُنفِرْتُم فانفِروا )).
قال الحافظ في شرحه: (( قال الخطّابيُّ وغيرُه: كانت الهجرةُ فرضاً في أوَّل الإسلام على مَن أسلم لقلَّة المسلمين بالمدينة وحاجتِهم إلى الاجتماع، فلمَّا فتح الله مكةَ دخل النَّاسُ في دين الله أفواجاً، فسقط فرضُ الهجرة إلى المدينة، وبقي فرضُ الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدوٌّ )).
2 ـ حديث أبي عثمان النهدي عن مجاشع بن مسعود في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (3079)، قال: (( جاء مجاشعٌ بأخيه مجالد بن مسعود إلى النَّبِيِّ r، فقال: هذا مجالد يبايعُك على الهجرة، فقال: لا هجرةَ بعد فتح مكة، ولكن أبايعُه على الإسلام )).
وفي لفظٍ للبخاري (2963) قال مجاشع: (( أتيتُ النَّبِيَّ r أنا وأخي، فقلتُ: بايعْنا على الهجرة، فقال: مَضتِ الهجرةُ لأهلها، فقلتُ: علامَ تبايعنا؟ قال: على الإسلام والجهاد )).
وهو يدلُّ على استمرار الهجرة ذات المدح والثناء إلى فتح مكة.
3 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( انقطعت الهجرةُ منذُ فتح الله على نبِيِّه r مكة )) رواه البخاري (3080).
وهو واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الفضل إلى فتح مكة.
4 ـ حديث جرير رضي الله عنه مرفوعاً: (( المهاجرون والأنصارُ بعضُهم أولياءُ بعض في الدنيا والآخرة، والطُّلَقاءُ من قريشٍ والعتقاءُ من ثقيفٍ بعضُهم أولياءُ بعضٍ في الدنيا والآخرة ))، وهوحديثٌ صحيحٌ، انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (1036) والمسند (4/363).
والمقابلة بين المهاجرين والأنصار وبين الطُّلَقاء والعتقاء دالَّةٌ على استمرار الهجرة إلى فتح مكة.
وقد أورد المالكي في (ص:46 ـ 47) حديثَ مجاشعٍ، وفيه الدلالة على أنَّ الهجرة تنتهي بفتح مكة، وهو يخالفُ ما زعمَه في (ص: 45 ـ 46) من أنَّ الهجرةَ تنتهي بصُلح الحُديبية فقال: (( الدليلُ الخامس عشر ما رواه البخاري في صحيحه عن مجاشع بن مسعود قال: أتيتُ النَّبِيَّ r بأخي بعد الفتح، فقلتُ: يا رسول الله! جِئتُك بأخي لتبايعَه على الهجرة، قال: ذهب أهلُ الهجرة بما فيها.
أقول: هذه (كذا) فيه دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ فتحَ مكة قطع الهجرة، ولا يحصل مسلمو الفتح على اسم الهجرة ولا فضلها حتى لو وفدوا إلى النَّبِيِّ r، وعلى هذا فلا يُسمَّوْن مهاجرين، وإنَّما يُسمَّوْن (الناس) كما في حديث (أنا وأصحابي حيِّزٌ والناسُ حيِّزٌ)، أو يُسمَّون الطُّلَقاء، أو نحو ذلك! )).
ثمَّ علَّق على هذا بقوله:(( وقوله: (ذهب أهلُ الهجرة بِما فيها) أي بِما فيها من فضلٍ وتسميةٍ وغيرِ ذلك مِمَّا هو من خصائص المهاجرين وفضائلهم )).
وأقول: هذا واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الثناء والمدح إلى فتح مكة، وهو خلافُ ما دندن حولَه من أنَّ الهجرةَ المحمود أهلُها تنتهي بصلح الحُديبية، وهذا الحديثُ قد أوردتُه قريباً من جملة الأدلَّة الدالَّة على استمرار الهجرة المحمود أهلُها إلى فتح مكة، وليس إلى صلح الحُديبية كما زعم، وقد وُفِّق هنا للصواب بتقرير أنَّ الهجرةَ تستمرُّ إلى فتح مكة، وإن كان ذلك بغير قصدٍ منه.
وأمَّا الأمورُ الأربعةُ الباقيةُ، وهي قصرُه الصُّحبةَ الشرعية التي جاء مدحُها في الكتاب والسنَّة على المهاجرين قبل الحُديبية والأنصار إلى زمن صلح الحُديبية، ونفي هذه الصحبة عن المهاجرين بعد الحُديبية، وعن الطُّلَقاء وعتقاء ثقيف وأصحاب الوفود وأبناء المهاجرين والأنصار، فيجاب عن ذلك بأنَّ هذا التقسيم للصحابة إلى مَن صُحبتُهم صُحبةٌ شرعيةٌ ومَن صُحبتُهم لُغويةٌ شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكافرين تقسيمٌ غيرُ صحيحٍ، وهو من محدثات القرن الخامس عشر، والصحيحُ أنَّ كلَّ مَن لقي النَّبِيَّ r مؤمناً به ومات على الإسلام فهو من أصحابه.