- مظاهر الغلو في الاعتقاد
- والعمل والحكم على الناس
- كلمة
- للشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله تعالى ضمن بحوث ندوة أثر القرآن الكريم في
- تحقيق الوسطية
- الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على
- رسوله .. أما بعد : فإن من مظاهر الغلو : الغلو في الاعتقاد، والعمل، والحكم على
- الناس.
- 1- الغلو من الاعتقاد
- أما الغلو في الاعتقاد: فهو مجاوزة الحد فيما
- شرع الله تعالى من الأمور الإعتقادية فإن الله تعالى إنما أنزل الكتاب وبعث
- المصطفى ليكون الدين كله لله، والغالي لا يكتفي بما أنزل تعالى من الشريعة
- الكاملة، بل يسعى إلى الزيادة على ما شرع الله، ومخالفة ما قصده الشارع من التيسير
- على المكلفين إلى التشديد على نفسه وعلى غيره، ونسبة ذلك إلى شرع الله تعالى .
- والغلو في الاعتقاد أخطر أنواع الغلو؟ ذلك بأن الاعتقاد درجة عالية من جزم القلب
- بما فيه من رأي أو فكر أو شرع، فأصعب ما يكون انتزاعها؛ لأن صاحبها يدافع عنها كما
- يدافع عن دمه وماله وعرضه، ومعلوم أن الغالي إنما يعتقد ما يتوهم أنه شرع الله
- وليس كذلك، بل إنما يعتقد فكرا أو رأيا مصدره الهوى . ومن هنا كان تحذير علماء
- المسلمين من أهل البدع والأهواء أكثر من تحذيرهم من أهل المعاصي والفسوق فالضرر
- الحاصل بالغلو في الاعتقاد أعظم من الضرر الحاصل بالغلو في العمل.
- ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع من الغلو : غلو
- الخوارج وهم الفرقة المعروفة في جسم الأمة الإسلامية منذ العصر الأول : إﻧﻬم فئة
- قادهم الغل و في الحكم على صاحب المعصية إلى إلحاقه بمن وقع في الكفر بالله تعالى
- فكان هذا الغلو الأعتقادي دافعا لهم إلى سلسلة من الجرائم الكبرى بحق الأمة
- الإسلامية:
- (أ)- حيث دفعهم إلى تكفير حكام المسلمين بمجرد
- الوقوع في المعاصي.
- (ب)- ثم تكفير عامة من لم يقنع بقولهم هذا من
- المسلمين، فكفروا اﻟﻤﺠتمعات المسلمة
- (ج)- فقاتلوا المسلمين، وخرجوا على حكامهم .
- وهكذا صور كثيرة من الظلم والاعتداء وإيهان قوة المسلمين، ارتكبها هؤلاء لأجل
- غلوهم في دين الله تعالى
- وقد كشف الحديث النبوي الشريف هذا الجانب السيئ
- في هذا الاتجاه، ففي صحيح ابن حبان ( 1)
- عن جندب البجلي أن حذيفة حدثه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إِنَّ
- مَا َأتَخَوَّفُ عََليْ ُ كمْ رَجُل َقرََأ اْلُقرْآن َ حَتَّى إَِذا رُئِيَتْ
- بَهْجَتُهُ عََليْهِ وَكَان رِدْءًا لِلْإِسَْلامِ، َ غيَّرَهُ إَِلى مَا شَاءَ
- اللَّهُ، فَانْسََلخَ مِنْهُ، وَنَبَذهُ وَرَاءَ َ ظهْرِهِ، وَسَعَى عََلى جَارِهِ
- بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ " قَال: ُقلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ،
- َأيُّهُمَا َأوَْلى بِالشِّرْكِ، الرَّامِي َأمِ الْمَرْمِيُّ؟ قَال: " بَلِ
- الرَّامِي ].
- فهذه الصورة تكشف الغلو الاعتقادي، كيف يبدأ
- صاحبه؟ ومن أين يأتيه الشيطان؟ وما يترتب على غلوه من المفاسد العظيمة: حيث قتل
- النفس التي حرم الله، وخيانة الجار، وزعزعة أمن الدولة المسلمة. كل ذلك يشرح نظريا
- شؤم الغلو الاعتقادي، ويب ين عموم ضرره. ومن هنا جاء كتاب الله تعالى وجاءت السنة
- النبوية بالتحذير الشديد من الغلو، وبيان عواقبه الوخيمة في أمور الدين وأمور
- الدنيا . ففي مسند الإمام أحمد( 2) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : {قال رسول
- الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع : هَُلمَّ اْلُقط ْ لِي، َفَلَقطْتُ َلهُ حَصَيَاتٍ،
- هُنَّ حَصَى اْلخَذفِ، َفَلمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ، قَال : " نَعَمْ، بَِأمَْثالِ
- هَؤَُلاءِ . وَإِيَّاكمْ وَالْغُُلوَّ فِي الدِّينِ، َفإِنَّمَا هََلكَ مَنْ كَان
- َقبَْل ُ كمْ بِالْغُُلوِّ فِي الدِّينِ { (3 ).
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "
- اقتضاء الصراط المستقيم " ((4 ) : هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات
- والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام : رمي الجمار، وهو داخل فيه مثل : الرمي بالحجارة
- الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا،
- إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به . وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من
- الهلاك . اهـ
- وغلو أهل الكتاب من النصارى في دينهم واضح حيث
- نص الله تعالى عليه في قوله : " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا
- على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم
- وروح منه "( 5).
- فهنا غلو منهم في الاعتقاد، ساقهم إليه الشيطان،
- حيث زين لهم عبادة المسيح من دون الله تعالى في هيئة محبة الأنبياء وتعظيمهم، وقد
- أبطل الله هذه الشبهة بأدلة متعددة، كقوله تعالى : " ما المسيح بن مريم إلا
- رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام "( 6)
- ومثل فعل النصارى هذا؛ فعل اليهود مع العزير، وفعل
- بعض فرق هذه الأمة مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ولهذا حرقهم علي رضي
- الله عنه واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، واختار ابن عباس أن يقتلوا
- بالسيف من غير تحريق، وهو قول أكثر العلماء( 7)
- وقد قاد الغلو النصارى إلى ابتداع البدع في
- دينهم، والتعبد لله تعالى ﺑﻬا، كما قال تعالى : " رهبانية إبتدعوها ما كتبناها عليهم إلا
- إبتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها "( 8).
- فكل من غلا من هذه الأمة، واتبع هواه وحكمه في
- دين الله، أو زاد على ما شرعه الله ففيه شبه من أهل الكتاب، ومن تشبه بقوم فهو
- منهم . ومآله إلى الهلاك في الدنيا والآخرة؛ لأن الغلو هو سبب هلاك من مضى من أهل
- الكتاب باختلافهم وتقاتلهم وتباغضهم، وفي الآخرة هم الأخسرون . ولهذا قال صلى الله
- عليه وسلم : " هلك المتنطعون قالها ثلاثا "(9 ) رواه مسلم في صحيحه عن
- ابن مسعود( 10)
- قال الخطابي في " معالم السنن "(11
- )المتنطع : المتعمق في الشيء، المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين
- فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم. اهـ
- فهذا خبر عن هلاك من وقع في التنطع الذي هو ضرب
- من الغلو في الكلام ونحوه، فدل على أن عقوبة الغالين من المتقدمين والمتأخرين هو :
- الهلاك، ولهذا لا يقوم لأهل الغلو دولة، ولا تجتمع الأمة عليهم، كما قال الإمام
- وهب بن منبه - رحمه الله تعالى - في الخوارج كنموذج للغلو، عند مناصحته لمن وقع في
- رأيهم :( فوالله ما كانت للخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاﺗﻬم، وما
- أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج .
- ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض، وقطعت السبل، وقطع الحج إلى بيت الله
- الحرام، وإذن لعاد أمر الإسلام جاهلية، حتى يعود الناس يستعينون برءوس الجبال كما
- كانوا في الجاهلية، وإذن لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلا ليس منهم رجل إلا وهو
- يدعو إلى نفسه بالخلافة، ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلاف يقاتل بعضهم بعضا،
- ويشهد بعضهم على بعض بالكفر حتى يصبح الرجل المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه
- وأهله وماله، لا يدري أين يسلك أو مع من يكون. غير أن الله بحكمه وعلمه ورحمته نظر
- لهذه الأمة فأحسن النظر لهم، فجمعهم وألف بين قلوﺑﻬم على رجل واحد ليس من
- الخوارج...)الخ( 12) وكل ما ذكره هذا الإمام واقع ملموس في هذه الفئة ومن نحا
- نحوها في الغلو، ذلك بأن كل خير يحصل للأمة إنما هو بسبب اجتماعها على كتاب الله
- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن هنا فسر حبل الله تعالى الوارد قي قوله جل
- وعلا: "وإعتصموا بحل الله جميعا ولا تفرقوا "(13) بالجماعة في قول ابن
- مسعود رضي الله عنه عنه وغيره( 14)
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله" :
- وأهل الإثبات من المتكلمين مثل الكلابية والكرامية والأشعرية أكثر اتفاقا وائتلافا
- من المعتزلة، فإن في المعتزلة من ا لاختلافات وتكفير بعضهم بعضا، حتى ليكفر
- التلميذ أستاذه، من جنس ما بين الخوارج، وقد ذكر من صنف في فضائح المعتزلة من ذلك
- ما يطول وصفه . ولست تجد اتفاقا وائتلافا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن
- والحديث وما تبع ذلك، ولا تجد افتراقا واختلافا إلا عند من ترك ذلك، وقدم غيره
- عليه، قال تعالى :" ولا يزالون مختلفين إلا ما رحم ربك ولذلك خلقهم"(
- 15) فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأ نبياء قولا وفعلا،
- وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر
- ذلك..."( 16)ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- 1 - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان [1/ 282] .
- 2 - [ 1/ 215-347] وصححه شيخ الإسلام في " اقتضاء الصراط المستقيم
- " [1/289]
- 3 - النسائي مناسك الحج [3057] ابن ماجه المناسك [3029] أحمد [1/215].
- 4 - [1/279] ونقله عنه الشيخ سليمان في تيسير العزيز الحميد [ص 275]
- والنقل بواسطته.
- 5 - سورة النساء 187.
- 6 - سورة المائدة 75.
- 7 - ينظر منهاج السنة لإبن تيمية [1/28].
- 8 - سورة الحديد آية 27.
- 9 - مسلم العلم[2670] , أبو داوود[4608] ,أحمد[1/376] .
- 10- صحيح مسلم [2670].
- -11 [7 /12-13].
- 12- رسالة مناصحة وهب بن منبه لرجل تأثر بمنهج الخوارج ص 17.
- 13- سورة آل عمران آية 103.
- 14- المحرر الوجيز لابن عطية [3/182].
- 15- سورة هود الآيتان 118-119.
- 16- مجموع الفتاوى [4/52] .
عدل سابقا من قبل أبو عبد الله أحمد بن نبيل في 01.08.08 8:33 عدل 1 مرات