شرح حديث
"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"
للشيخ العلامة عبد القادر الأرناؤوط
- رحمه الله تعالى -
بسم الله الرحمن الرحيم
"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"
للشيخ العلامة عبد القادر الأرناؤوط
- رحمه الله تعالى -
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. [ يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. [ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوْا اللَّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْباً [النساء:1] [ يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْÿاتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماًً [ الأحزاب:70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
معشر المسلمين:
قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } (153) سورة الأنعام]ÿذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
وقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا } (18) سورة الجاثية]ÿيَعْلَمُونَ
روى أحمد في (مسنده)، والدارمي في (سننه)، والترمذي في (جامعه)، وأبو داود في (سننه)، وابن ماجه في (سننه)، عن العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فأوصنا فقال: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة).
حديثنا هذا طويل ويحتاج إلى شرح طويل، ولكن نوجزه في هذه الساعة المباركة، ونتكلم فيما لا بد منه في هذا الحديث الذي عليه مدار الإسلام، وعليه مدار سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، الذين تمسكوا بهديه، وساروا على طريقته، وسنته، وشريعته، لم يغيروا، ولم يبدلوا، وهم الذين مدحهم الله عز وجل في القرآن بقوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا } (23) سورة الأحزاب].ÿبَدَّلُوا تَبْدِيلًا
العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه، هذا الصحابي الجليل، وهو قديم الإسلام، كان من أهل الصفة، جاء إلى الشام، وسكن حمص، وكان من عظماء الصحابة رضي الله عنهم، يقول: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الفجر) يعني صلاة الصبح، وهذا دليل على أن رسول الله كان يعظ أصحابه في غير الخطب الرسمية، كخطبة عيد الفطر، والأضحى، ويوم الجمعة، فهذه الموعظة كانت في غير عيد، وفي غير جمعة، عقب صلاة الصبح، في يوم من الأيام، التفت رسول الله إلى أصحابه، وأقبل عليهم، فوعظهم. الوعظ: هو التذكير، أي ذكرهم، ووعظهم، وعلمهم، وبين لهم، والله تعالى قال في كتابه لرسوله صلى الله عليه وسلم {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} (63) سورة النساء].
وقال له تبارك وتعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (125) سورة النحل].
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا) أي مخافة الملل، فكان يعظهم بين حين، وآخر، كي لا يحصل الملل بين الناس.
وكانت مواعظه بليغة، والبلاغة، هي إفهام السامع، وإعطاؤه حسب ما يفهم، فلذلك عرف علماء البلاغة، البلاغة، أنها هي الإتيان بعبارة فصيحة، صحيحة، لها في النفس أثر خلاب، مع ملاءمة كل مكان، للموطن الذي يقال فيه، والأشخاص الذين يخاطبون، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت مواعظه فصيحة، بليغة، صغيرة، ولكن ذات معاني كثيرة، ولقد أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام، فلذلك العرباض بن سارية (وعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب): هاتان الصفتان ذكرهما الله عز وجل في القرآن من صفات المؤمنين إذ قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (2) سورة الأنفال].
فكانت تلك الموعظة، التي وعظها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ذلك اليوم، بعد صلاة الصبح موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. (فقال قائل): أي من هؤلاء الذين يسمعون تلك الموعظة (كأن هذه موعظة مودع يا رسول الله)، كأنك تودعنا من الدنيا بهذه الموعظة (فأوصنا): أي أوصنا موعظة بليغة، جامعة، مفيدة. قال عليه الصلاة والسلام: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة): أوصاهم بتقوى الله عز وجل، والتقوى وصية الأولين، والآخرين، قال ربنا عز وجل في كتابه {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ} (131) سورة النساء].
أي أوصيناكم، وأوصينا الذين قبلكم بتقوى الله، ولذلك كانت الوصية بتقوى الله عز وجل في القرآن الكريم، وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن داعية إلى الله عز وجل قال له: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). فكانت وصية التقوى دائماً وأبداً، في القرآن كثيرة، وما أكثر الآيات التي تأمرنا بتقوى الله، وما أكثر الأحاديث التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بتقوى الله.
وتقوى الله، التزام ما أمر الله، والابتعاد عما نهى عنه الله، أن يقف عند حدود الله (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنه).
(والسمع والطاعة): السمع لكلام الله، والطاعة لله، والسمع لكلام رسول الله، والطاعة لرسول الله {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (71) سورة الأحزاب]. {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَÿوَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا} [سورة النساء:69-70]
ورسول الله بين أن السمع والطاعة، إذا كانت لله، ولرسوله (وإن كان عبدا حبشيا)، أي وإن كان الآمر بها عبداً حبشياً، نسمع له، لأنه يأمرنا بطاعة الله، ويأمرنا بطاعة رسول الله، ولا طاعة لمخلوق، إنما الطاعة في المعروف، ولذلك أُمرنا أن نستمع إلى آيات الله، وأحاديث رسول الله، ومن يأمرنا بطاعة الله، وطاعة رسوله، أياً كان، عربياً كان، أو عجمياً، صغيراً كان، أو كبيراً، رجلاً كان، أو امرأة، ولذلك ينبغي أن نسمع، ونطيع، ولذلك قال رسول الله (أوصيكم بتقوى الله، والسمع، والطاعة).
وربنا عز وجل وصف المؤمنين الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285) سورة البقرة]
لقد كان بنو إسرائيل من اليهود يقولون: سمعنا، وعصينا، وأما هذه الأمة فقالت في أولها: سمعنا، وأطعنا، وتحققوا بالسمع، والطاعة، ونحن في عصرنا هذا نقول بألفاظنا: سمعنا، وأطعنا، ولكن في الحقيقة، نسمع ولا نطيع في كثير من الأوامر، فلسنا عمليين، وإنما نقول، ونتلفظ بالسمع، والطاعة، ولكن ما أقل من يطيع إذا سمع لكلام الله، ولكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع، والطاعة وإن كان عبداً حبشياً).
(فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا): كما هو في وضعنا الحاضر، ما أكثر الاختلافات التي تدور بين الناس، والفلسفات التي يتفلسفون بها، ولا تصل منها إلى نتيجة، فحسبنا كتاب ربنا، وسنة رسولنا، فإن الله عز وجل قال في كتابه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ (59) سورة النساء].ÿتَأْوِيلاً
فنحن إذا اختلفنا، أمامنا كتاب الله، لم يتغير، ولم يتبدل، ولن يتغير، ولن يتبدل، محفوظ بحفظ الله، وتفسير القرآن فسره الصحابة الكرام، فلذلك كان أحسن طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، ثم القرآن بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين الذين هم أعلم الناس باللغة العربية، وأعلم الناس بالسنة النبوية التي تركهم رسول الله عليها كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الوصية الجامعة التي جمعت كل خير، وظن الصحابة أن رسول الله يودعهم، ويريد أن يتركهم عندما سمعوا في تلك اليوم الوصايا، فلذلك أوصاهم بهذه الوصية الجامعة التي يحتاج إليها كل مسلم، كل مؤمن، ولذلك قال رسول الله في حدثه هذا بعدما قال: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع، والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا). وما أكثر الاختلافات، والأهواء التي يسير عليها الناس، وربنا عز وجل يقول لنبيه ورسوله الذي أنزل عليه القرآن، وأمره أن يبين للناس هذه الشريعة الغراء {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ (18) سورة الجاثية].ÿلَا يَعْلَمُونَ