تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد
للإمام محمد بن الأمير الصنعاني
للإمام محمد بن الأمير الصنعاني
الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يفردوه بتوحيد العبادة كل الإفراد من اتخاذ الأنداد فلا يتخذون له ندا ولا يدعون معه أحدا ولا يتكلون إلا عليه ولا يفزعون في كل حال إلا إليه ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى ولا يتوصلون إليه بالشفعاء (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)وأشهد أن لا إله إلا الله ربا ومعبودا وأن محمدا عبده ورسوله، الذي أمره أن يقول (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله)، وكفى بالله شهيدا. صلى الله عليه وعلى آله والتابعين له في السلامة من العيوب وتطهير القلوب من اعتقاد كل شيء يشوب. وبعد، فهذا (تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد) وجب علي تأليفه وتعين علي ترصيفه لما رأيته معلمته من اتخاذ العباد الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجدا ولا يرى لله راكعا أو ساجدا، ولا يعرف السنة ولا الكتاب ولا يهاب البعث ولا الحساب. فوجب علي أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره. فاعلم أن ههنا أصولا هي قواعد للدين، ومن أهم ما تجب معرفته على الموحدين:
الأصل الأول:
أنه قد علم من ضرورة الدين أن كل ما في القران فهو حق لا باطل وصدق لا كذب وهدى لا ضلالة وعلم لا جهالة ويقين لا شك فيه. فهذا الأصل أصل لا يتم إسلام أحد ولا إيمانه إلا بالإقرار به. وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه.
الأصل الثاني:
أن رسل الله وأنبياءه ـ من أولهم إلى آخرهم ـ بعثوا لدعاء العباد إلى توحيد الله بتوحيد العبادة. وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه قوله: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} {أن لا تعبدوا إلا الله} {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} وهذه الذي تضمنه قول "لا إله إلا الله". فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة واعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان. ومعناها: هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لما يعبد من دونه والبراءة منه. وهذا الأصل لا مرية فيما تضمنه، ولا شك فيه وفي أنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه ويحققه.
الأصل الثالث:
أن التوحيد قسمان:
القسم الأول: توحيد الربوبية والخالقية والرازقية ونحوها، ومعناه: أن الله وحده هو الخالق للعالم وهو الرب لهم والرازق لهم. وهذا لا ينكره المشركون ولا يجعلون لله فيه شريكا، بل هم مقرون به، كما سيأتي في الأصل الرابع.
القسم الثاني: توحيد العبادة ومعناه: إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات الآتي بيانها. فهذا هو الذي جعلوا لله فيه شركاء. ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى.
فالرسل عليهم السلام بعثوا لتقرير الأول ودعاء المشركين إلى الثاني، مثل قولهم في خطاب المشركين: {أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} [14:10] {هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو} [35:3] ونهيهم عن شرك العبادة، ولذا قال الله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [16:36] أي قائلين لأممهم أن اعبدوا الله. فأفاد بقوله (في كل أمة) أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلى لطلب توحيد العبادة، لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم وأنه رب السموات والأرض، فإنهم مقرون بهذا. ولهذا لم ترد الآيات فيه ـ في الغالب ـ إلا بصيغة استفهام التقرير، نحو: {هل من خالق غير الله} [35:3] {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [16:17] {أفي الله شك فاطر السموات والأرض} [6:14] {أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض} [6:14] {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} [31:11] {أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات} [46:4] استفهام تقرير لهم لأنهم به مقرون.
وبهذا تعرف أن المشركين لم يتخذوا الأصنام والأوثان ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمة ولم يتخذوا الملائكة شركاء لله تعالى لأنهم أشركوهم في خلق السموات والأرض، بل اتخذوهم لأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، كما قالوه. فهم مقرون بالله في نفس كلمات كفرهم وأنهم شفعاء عند الله. قال الله تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} [10:18] فجعل الله تعالى اتخاذهم للشفعاء شركا ونزه نفسه عنه لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها ولا يغنون عنهم من الله شيئا؟
الأصل الرابع:
أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله خالقهم {ولئن سألتهم: من خلقهم ليقولن الله} [43:87]، {ولئن سألتهم: من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن: خلقهن العزيز العليم} [43:9] وأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة، {قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار والأفئدة ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون: الله فقل أفلا تتقون} {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله. قل أفلا تذكرون؟ قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله، قل أفلا تتقون؟ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله، قل فأنى تسحرون} [23:84-98] وهذا فرعون مع غلوه في كفره ودعواه أقبح دعوى ونطقه بالكلمة الشنعاء، يقول الله في حقه حاكيا عن موسى عليه السلام {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} [17:102] وقال إبليس {إني أخاف الله رب العالمين} [59:16] وقال {رب بما أغويتن} [17:39] وقال {رب فأنظرني} [15:36] وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السماوات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم، ولهذا احتج عليهم الرسل بقولهم {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [16:17] وبقولهم {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} [22:73] والمشركون مقرون بذلك لا ينكرونه.
الأصل الخامس:
أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلل، ولم تستعمل إلا في الخضوع لله. لأنه مولى أعظم النعم. وكان لذلك حقيقا بأقصى غاية الخضوع، كما في (الكشاف[1]).
ثم إن رأس العبادة وأساسها التوحيد لله التوحيد الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل، وهي قول (لا إله إلا الله) والمراد اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها لا مجرد قولها باللسان.
ومعناها: إفراد الله بالعبادة والإلهية والنفي والبراءة من كل معبود دونه. وقد علم الكفار هذا المعنى لأنهم أهل اللسان العربي، فقالوا: {أجعل الآلهة إله واحدا إن هذا لشيء عجاب} [38:5].
فصل
إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أن الله تعالى جعل العبادة له أنواعا:
اعتقادية: وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر وبيده النفع والضر وأنه الذي لا شريك له ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك من لوازم الألوهية.
ومنها اللفظية: وهي النطق بكلمة التوحيد، فمن اعتقد ما ذكر ولم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله، وكان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد بل ويقر به كما أسلفنا عنه، إلا أنه لم يمتثل أمر الله فكفر. ومن نطق ولم يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين.
وبدنية، كالقيام والركوع والسجود في الصلاة. ومنها الصوم وأفعال الحج والطواف.
ومالية، كإخراج جزء من المال امتثالا لما أمر الله تعالى به. وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال والأبدان والأفعال والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها.
وإذا تقررت هذه الأمور، فاعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرون بذلك، كما قررناه وكررناه، ولذا قالوا {أجئتنا لنبد الله وحده} [7:69] أي لنفرده بالعبادة ونخصه بها من دون آلهتنا، فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله. فلم ينكروا الله تعالى ولا قالوا إنه لا يعبد، بل أقروا بأنه يعبد وأنكروا كونه يفرد بالعبادة، فعبدوا مع الله غيره وأشركوا معه سواه واتخذوا له أندادا، كما قال تعالى {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [2:22] أي وأنتم تعلمون أنه لا ند له. وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج: "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك". وكان يسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم عند قولهم "لا شريك لك" ويقول: قد افردوه جل جلاله لو تركوا قولهم "إلا شريكا هو لك". فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به. قال تعالى {أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} [6:22] {وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} [28:4] (قل ادعوا شركاؤكم ثم كيدون فلا تنظرون} [7:194] فنفس اتخاذ الأنداد إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا الأنداد بالخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم لديه.
فأرسل الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه وتبين أن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل وأن التقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده. وهذا هو توحيد العبادة. وقد كانوا مقرين ـ كما عرفت في الأصل الرابع ـ بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده والرازق وحده.
ومن هذا تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم وهو نوح عليه السلام إلى آخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم هو توحيد العبادة، ولذا تقول لهم الرسل (ألا لا تعبدوا إلا الله) (اعبدوا الله مالكم من إله غيره).
وقد كان المشركون منهم من يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد ومنهم من يعبد أحجارا ويهتف بها عند الشدائد، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الله وحده وبأن يفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية، أي بربوبيته للسماوات والأرض وان يفردوه بمعنى ومؤدى كلمة " لا إله إلا الله" معتقدين لمعناها عاملين بمقتضاها وأن لا يدعوا مع الله أحدا. وقال تعالى {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} [13:14] وقال تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} [5:22]، أي من شرط الصدق في الإيمان بالله أن لا يتوكلوا إلا عليه وأن يفردوه بالتوكل كما يجب أن يفردوه بالدعاء والاستغفار. وأمر الله عباده أن يقولوا (إياك نعبد) ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى، وإلا كان كاذبا منهيا عن أن يقول هذه الكلمة، إذا معناها: نخصك بالعبادة ونفردك بها دون كل أحد، وهو معنى قوله {فإياي فاعبدون} [29:56] {وإياي فاتقون} [2:41] كما عرف من علم البيان أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي لا تعبدوا إلا الله ولا تعبدوا غيره ولا تتقوا غيره كما في (الكشاف). فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده واللجأ إلى الله والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات من الخضوع والقيام تذللا لله تعالى والركوع والسجود والطواف والتجرد عن الثياب والحلق والتقصير كله لا يكون إلا لله عز وجل. ومن فعل شيئا من ذلك لمخلوق حي أو ميت أو جماد أو غير ذلك فقد أشرك في العبادة. وصار من تفعل له هذه الأمور إله لعابديه، سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرا أو قبرا أو جنيا أو حيا أو ميتا. وصار العابد بهذه العبادة أو بأي نوع منها عابدا لذلك المخلوق مشركا بالله، وإن أقر بالله وعبده، فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك دمائهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم غنيمة. قال الله تعالى [في الحديث القدسي] (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) لا يقبل الله عملا شورك فيه غيره، ولا يؤمن به من عبد معه غيره.
[1] - الكشاف، كتاب في التفسير ويسمى تفسير الزمخشري، والزمخشري من أئمة اللغة لكنه معتزلي جلد، يتميز تفسيره بالفوائد اللغوية والبلاغية.