الضوابط الشرعية في التعبير عن الرأي / د . هاني بن عبد الله الجبير .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده وبعد فـ ( لقد كفل الإسلام حريِّة الرأي والتعبير بمفهومها الإسلاميّ, وحرية الرأي والتعبير تعني: تمتع الإنسان بكامل حريته في الجهر بالحق, وإسداء النصيحة في كل أمور الدين والدنيا, فيما يحقق نفع المسلمين ويصون مصالح كل من الفرد والمجتمع ويحفظ النظام العام وذلك في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومع اهتمام الإسلام بحرية الرأي والتعبير إلاَّ أنَّه قد حرص على عدم تحريرها من القيود والضوابط الكفيلة بحسن استخدامها, وتوجيهها إلى ما ينفع الناس ويرضي الخالق جل وعلا, فهناك حدود لا ينبغي الاجتراء عليها و إلا كانت النتيجة هي الخوض فيما يغضب الله أو يلحق الضرر بالفرد والمجتمع على السواء, ويخل بالنظام العام وحسن الآداب ).([1])
ولهذا الحق المكفول طرق ووسائل توصل إليه منها ما نص الشارع على عينه بإباحة أو تحريم ومنها ما سكت عنها فلم ينص على اعتبارها ولا عدم اعتبارها كوسائل الإعلام الحديثة.
ويرى كل متابع ما يحصل من تداعى جماهير من الناس كل واحد منهم يعتصر الهم فؤاده ويحتقن الغضب في صدره وهو يرى ما لا يحب مما لا يقدر على منعه ولا خيرة إليه في رفضه فيتبع وسائل للتعبير عمَّا في نفسه يستشعر فيها أنه بذل شيئاً مما تبرأ به الذّمة مهما كان حال هذه الوسيلة .
ولكن الباحث الشرعي همه تنـزيل الأحكام على الوقائع ورائده في ذلك تطلب الحق والبحث عن الدليل وإعمال الضوابط بعد استطلاع الواقع ونشدانه .
أولاً : قواعد ومقدمات :
تحتاج كل حادثة إلى معرفة أُصول وقواعد يتفرع عن معرفتها وتقريرها بيان الحكم الشرعي لها وسأتناول هنا مقدمات أصولاً أربعة :
الأولى: الأصل في النصيحة:
- الأصل في مناصحة الولاة والإنكار عليهم أن تكون بالسِّر لا بالجهر. وهو الأصل في النصيحة عموماً.
عن عياض بن غُنْم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية, وليأخذ بيده فإن سمع منه فذاك و إلا كان أدَّى الذي عليه).([2])
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان لتكلِّمه ؟ فقال: (أترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم ؟ والله لقد كلَّمتُهُ فيما بيني وبينه من دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه)([3])
ومراده أنّه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك.([4])
قال الشوكاني – رحمه الله - :(ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل: أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد).([5])
هذا هو الأصل وقد يسوغ غيره في ظروف معينة كما حصل لأبي سعيد الخدري عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان, فقام إليه رجلٌ فقال: الصلاة قبل الخطبة, فقال: قد تُرك ما هنالك, فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان).([6])
وفي بعض روايات الحديث أن أبا سعيد قال: خرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلى, فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبراً من طين ولبن, فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجرُّه نحو الصّلاة فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة ؟ فقال: لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم قلت كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم ثلاثاً ثم انصرف.([7])
قال النووي رحمه الله: (فيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقول الناس فيهم لينكفوا عنه، وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق).([8])
- والأصل في نصح عامة المسلمين أن ينصح المخطئ والمقصّر سراً وعلى ذلك كان السلف قال الفضيل بن عياض رحمه الله : (المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير)( [9])
ومع ذلك فإنه إذا لزم الأمر ودعا الموقف إلى التشهير بمنكر وفاعله فإن ذلك سائغ إذا كانت المصلحة فيه راجحة على المفسدة كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث عمر على الصدقة فقيل منع ابن جميل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله)([10]). قال ابن حجر: (في الحديث العتب على من منع الواجب وجواز ذكره في غيبته بذلك)([11]).
الثانية:وسائل إبداء الرأي اجتهاديَّة :
لقد كلف الله تعالى هذه الأمة بإبلاغ الدين ونشر الرسالة ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). (آل عمران:104) وجعل ذلك سبب خيريتها ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(آل عمران: 110).
وجعل النصيحة من الدين عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الدين النصيحة) قلنا لمن. قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)([12]). كما أنه كفل لأتباعه التعبير عن آرائهم([13]) – فيما يسوغ ذلك - .
ولا يتحقق النصيحة والدعوة والتعبير عن الرأي إلا بوسائل وطرق وأسباب للمسلم أن يسلكها ليصل من خلالها لما يريد ولو كانت حادثة لم ينص عليها الشرع ولم يستعملها السلف مادامت معبّرة عن المراد وموصلة إليه.([14])
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدى رحمه الله: (لا ريب أن كل أمر مهم عمومي يراد إعلانه وإشاعته والإخبار به .. يُسلك فيه طريق يحصل به هذا المقصود .. ولم يزل الناس على هذا يعبرون ويخبرون على مثل هذه الأمور بأسرع وسيلة يتعمّم ويشيع فيها الخبر .. وكلما تجدد لهم وسيلة أسرع وأنجح مما قبلها أسرعوا إليها وقد أقرهم الشارع على هذا الجنس والنوع ووردت أدلة وأصول في الشريعة تدل عليه فكل ما دل على الحق والصدق والخبر الصحيح مما فيه نفع للناس في أمور دينهم ودنياهم فإن الشرع يقره ويقبله, ويأمر به أحياناً ويجيزه أحياناً, بحسب ما يؤدي إليه من المصلحة .. فاستمسك بهذا الأصل الكبير فإنّه نافع في مسائل كثيرة ويمكنك – إذا فهمته – أن تطبق عليه كثيراً من الأفراد والجزئيات الواقعة والتي لا تزال تقع ولا تقصر فهمك عنه فيفوتك خيرٌ كثيرٌ وربما ظننت كثيراً من الأشياء بدعاً محرماً إذا كانت حادثة ولم تجد لها تصريحاً في كلام الشارع, فتخالف بذلك الشرع والعقل وما فطر عليه الناس ... و الترجمة التي يحصل بها العلم لم يزل العمل بها على أي طريقة و صفة كانت, ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أَمر بالتبليغ عنه وتبليغ شرعه وحث على ذلك بكل وسيلة وطريقة ... و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أكبر واجبات الدين, ومن أعظم ما يدل في ذلك أنَّه إذا ثبتت الأحكام الشرعية التي يتوقف عمل الناس بها على بلوغ الخبر, فإنّه يتعيّن على القادرين إيصالها إلى الناس بأسرع طريق, و أحسن وسيلة يتمكنون بها من أداء الواجبات وتوقّى المحرمات).([15])
والسبب في هذا أن الوسائل من قبيل العادات والأصل فيها الإباحة قال الشاطبي – يرحمه الله- : (و التبليغ كما لا يتقيّد بكيفيَّةٍ معلومة؛ لأنه من قبيل المعقول المعنى, فيصح بأيّ شيء أمكن من الحفظ والتلقين و الكتابة وغيرها).([16])
الثالثة :مجالات ابداء الرأي .
كل أمر جاء الشرع بحكمه بدليل من الأدلة سواء كان متعلقاً بالعبادات أو المعاملات أو العقوبات أو العلاقات الشخصِيَّة فهذا ليس للإنسان فيه إلا أن يعمل بمقتضى الدليل ويتفقَّه فيه (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(الأحزاب: من الآية36).
وهذا أظهر من أن يستدل له؛ إذ العبوديَّة لله تقتضي الامتثال لأمره.
وأما ما لم يبين حكمه والموقف منه بعينه في الشرع فإن للمسلم أن يتخذ فيه رأياً يبديه لا يتعارض مع الضوابط العامَّة لإبداء الرأي.
وذلك كطريقة تنفيذ ما أمر الله به وسكت عن طريقة تنفيذه, أو ما لم يرد به نص محكم.
ولذا كان من القواعد المقررة عند أهل العلم أن (لا اجتهاد في مواد النص)([17]) وأن ما عارض النص ففاسد الاعتبار([18]).
الرابعة: صاحب الرأي.
ذمَّ الله تعالى من يقول بلا علم. فقال:( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116).
وهذا كما يكون في أحكام الشرع فهو منسحب إلى كل علم. فليس لأحدٍ أن يتناوله بغير إتقان له.
فلابُدَّ أن يكون صاحب الرأي من أهل الخبرة والاختصاص فيما يتكلّم عنه. وكلام الإنسان فيما يجهله غير مفيد.
والله تعالى أمر بسؤال أهل الذكر دون غيرهم ( فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(النحل: من الآية43). وهذا دليل على أن ما يقوله غير العالم لا عبرة به.
ولذا لما وصف أهل العلم رجال المشورة جعلوا من صفاتهم العلم فيما يُسْتشارون فيه. قال ابن خويز منداد: (واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون, وفيما أشكل عليهم من أمور الدين. ووجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب. ووجوه الناس فيما يتعَلَّق بالمصالح, ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها)([19]).
فجعل كلاً يُسْتشار فيما هو مختص به.
وكذا إبداء الرأي لا يسوغ لمن لم يكن مختصاً في فن أن يتكلم فيه ولذا ذكر الفقهاء أنه يشرع الحجر على المتطبب الجاهل([20]), فكذلك غير الطب يمنع من لم يكن مؤهلاً من إبداء رأيه إذ لا يوثق برأيه.
فالعالم بالشرع يبين أحكام الشرع وضوابطه في كل أمر وتصرّف لكن ليس له أن يصف العلاج المركب للمرضى إلا إذا كان مع ذلك طبيباً.
والمهندس له أن يتناول أموراً هندسيَّة بالرأي لكن الفتوى إنما تناط بالعالم بالشرع فقط وهكذا.
وكذلك أمور السياسة فإن العلم الشرعي يكفي للحكم على تصرفات المكلفين فيما يتعلّق بالسياسة لكنه لا يكفي وحده لتناول القضايا السياسية إلا على أساس خبرته بها.
قال ابن خلدون رحمه الله: (العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها والسببُ في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذّهن أموراً كلية عامة ليحكم عليها بأمر على العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل.. ويطبقون بعد ذلك الكلي على الخارجيات .. وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها .. فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنيّة والأنظار الفكريَّة لا يعرفون سواها .. والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها ..)([21]).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده وبعد فـ ( لقد كفل الإسلام حريِّة الرأي والتعبير بمفهومها الإسلاميّ, وحرية الرأي والتعبير تعني: تمتع الإنسان بكامل حريته في الجهر بالحق, وإسداء النصيحة في كل أمور الدين والدنيا, فيما يحقق نفع المسلمين ويصون مصالح كل من الفرد والمجتمع ويحفظ النظام العام وذلك في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومع اهتمام الإسلام بحرية الرأي والتعبير إلاَّ أنَّه قد حرص على عدم تحريرها من القيود والضوابط الكفيلة بحسن استخدامها, وتوجيهها إلى ما ينفع الناس ويرضي الخالق جل وعلا, فهناك حدود لا ينبغي الاجتراء عليها و إلا كانت النتيجة هي الخوض فيما يغضب الله أو يلحق الضرر بالفرد والمجتمع على السواء, ويخل بالنظام العام وحسن الآداب ).([1])
ولهذا الحق المكفول طرق ووسائل توصل إليه منها ما نص الشارع على عينه بإباحة أو تحريم ومنها ما سكت عنها فلم ينص على اعتبارها ولا عدم اعتبارها كوسائل الإعلام الحديثة.
ويرى كل متابع ما يحصل من تداعى جماهير من الناس كل واحد منهم يعتصر الهم فؤاده ويحتقن الغضب في صدره وهو يرى ما لا يحب مما لا يقدر على منعه ولا خيرة إليه في رفضه فيتبع وسائل للتعبير عمَّا في نفسه يستشعر فيها أنه بذل شيئاً مما تبرأ به الذّمة مهما كان حال هذه الوسيلة .
ولكن الباحث الشرعي همه تنـزيل الأحكام على الوقائع ورائده في ذلك تطلب الحق والبحث عن الدليل وإعمال الضوابط بعد استطلاع الواقع ونشدانه .
وفي هذه الأوراق القليلة نطرات عاجلة تبيّن ضوابط في هذا الموضوع لتكون مقدمة لدراسات أكثر جداً وتوسعاً .
أولاً : قواعد ومقدمات :
تحتاج كل حادثة إلى معرفة أُصول وقواعد يتفرع عن معرفتها وتقريرها بيان الحكم الشرعي لها وسأتناول هنا مقدمات أصولاً أربعة :
الأولى: الأصل في النصيحة:
- الأصل في مناصحة الولاة والإنكار عليهم أن تكون بالسِّر لا بالجهر. وهو الأصل في النصيحة عموماً.
عن عياض بن غُنْم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية, وليأخذ بيده فإن سمع منه فذاك و إلا كان أدَّى الذي عليه).([2])
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان لتكلِّمه ؟ فقال: (أترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم ؟ والله لقد كلَّمتُهُ فيما بيني وبينه من دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه)([3])
ومراده أنّه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك.([4])
قال الشوكاني – رحمه الله - :(ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل: أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد).([5])
هذا هو الأصل وقد يسوغ غيره في ظروف معينة كما حصل لأبي سعيد الخدري عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان, فقام إليه رجلٌ فقال: الصلاة قبل الخطبة, فقال: قد تُرك ما هنالك, فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان).([6])
وفي بعض روايات الحديث أن أبا سعيد قال: خرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلى, فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبراً من طين ولبن, فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجرُّه نحو الصّلاة فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة ؟ فقال: لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم قلت كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم ثلاثاً ثم انصرف.([7])
قال النووي رحمه الله: (فيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقول الناس فيهم لينكفوا عنه، وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق).([8])
- والأصل في نصح عامة المسلمين أن ينصح المخطئ والمقصّر سراً وعلى ذلك كان السلف قال الفضيل بن عياض رحمه الله : (المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير)( [9])
ومع ذلك فإنه إذا لزم الأمر ودعا الموقف إلى التشهير بمنكر وفاعله فإن ذلك سائغ إذا كانت المصلحة فيه راجحة على المفسدة كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث عمر على الصدقة فقيل منع ابن جميل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله)([10]). قال ابن حجر: (في الحديث العتب على من منع الواجب وجواز ذكره في غيبته بذلك)([11]).
الثانية:وسائل إبداء الرأي اجتهاديَّة :
لقد كلف الله تعالى هذه الأمة بإبلاغ الدين ونشر الرسالة ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). (آل عمران:104) وجعل ذلك سبب خيريتها ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(آل عمران: 110).
وجعل النصيحة من الدين عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الدين النصيحة) قلنا لمن. قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)([12]). كما أنه كفل لأتباعه التعبير عن آرائهم([13]) – فيما يسوغ ذلك - .
ولا يتحقق النصيحة والدعوة والتعبير عن الرأي إلا بوسائل وطرق وأسباب للمسلم أن يسلكها ليصل من خلالها لما يريد ولو كانت حادثة لم ينص عليها الشرع ولم يستعملها السلف مادامت معبّرة عن المراد وموصلة إليه.([14])
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدى رحمه الله: (لا ريب أن كل أمر مهم عمومي يراد إعلانه وإشاعته والإخبار به .. يُسلك فيه طريق يحصل به هذا المقصود .. ولم يزل الناس على هذا يعبرون ويخبرون على مثل هذه الأمور بأسرع وسيلة يتعمّم ويشيع فيها الخبر .. وكلما تجدد لهم وسيلة أسرع وأنجح مما قبلها أسرعوا إليها وقد أقرهم الشارع على هذا الجنس والنوع ووردت أدلة وأصول في الشريعة تدل عليه فكل ما دل على الحق والصدق والخبر الصحيح مما فيه نفع للناس في أمور دينهم ودنياهم فإن الشرع يقره ويقبله, ويأمر به أحياناً ويجيزه أحياناً, بحسب ما يؤدي إليه من المصلحة .. فاستمسك بهذا الأصل الكبير فإنّه نافع في مسائل كثيرة ويمكنك – إذا فهمته – أن تطبق عليه كثيراً من الأفراد والجزئيات الواقعة والتي لا تزال تقع ولا تقصر فهمك عنه فيفوتك خيرٌ كثيرٌ وربما ظننت كثيراً من الأشياء بدعاً محرماً إذا كانت حادثة ولم تجد لها تصريحاً في كلام الشارع, فتخالف بذلك الشرع والعقل وما فطر عليه الناس ... و الترجمة التي يحصل بها العلم لم يزل العمل بها على أي طريقة و صفة كانت, ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أَمر بالتبليغ عنه وتبليغ شرعه وحث على ذلك بكل وسيلة وطريقة ... و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أكبر واجبات الدين, ومن أعظم ما يدل في ذلك أنَّه إذا ثبتت الأحكام الشرعية التي يتوقف عمل الناس بها على بلوغ الخبر, فإنّه يتعيّن على القادرين إيصالها إلى الناس بأسرع طريق, و أحسن وسيلة يتمكنون بها من أداء الواجبات وتوقّى المحرمات).([15])
والسبب في هذا أن الوسائل من قبيل العادات والأصل فيها الإباحة قال الشاطبي – يرحمه الله- : (و التبليغ كما لا يتقيّد بكيفيَّةٍ معلومة؛ لأنه من قبيل المعقول المعنى, فيصح بأيّ شيء أمكن من الحفظ والتلقين و الكتابة وغيرها).([16])
الثالثة :مجالات ابداء الرأي .
كل أمر جاء الشرع بحكمه بدليل من الأدلة سواء كان متعلقاً بالعبادات أو المعاملات أو العقوبات أو العلاقات الشخصِيَّة فهذا ليس للإنسان فيه إلا أن يعمل بمقتضى الدليل ويتفقَّه فيه (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(الأحزاب: من الآية36).
وهذا أظهر من أن يستدل له؛ إذ العبوديَّة لله تقتضي الامتثال لأمره.
وأما ما لم يبين حكمه والموقف منه بعينه في الشرع فإن للمسلم أن يتخذ فيه رأياً يبديه لا يتعارض مع الضوابط العامَّة لإبداء الرأي.
وذلك كطريقة تنفيذ ما أمر الله به وسكت عن طريقة تنفيذه, أو ما لم يرد به نص محكم.
ولذا كان من القواعد المقررة عند أهل العلم أن (لا اجتهاد في مواد النص)([17]) وأن ما عارض النص ففاسد الاعتبار([18]).
الرابعة: صاحب الرأي.
ذمَّ الله تعالى من يقول بلا علم. فقال:( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116).
وهذا كما يكون في أحكام الشرع فهو منسحب إلى كل علم. فليس لأحدٍ أن يتناوله بغير إتقان له.
فلابُدَّ أن يكون صاحب الرأي من أهل الخبرة والاختصاص فيما يتكلّم عنه. وكلام الإنسان فيما يجهله غير مفيد.
والله تعالى أمر بسؤال أهل الذكر دون غيرهم ( فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(النحل: من الآية43). وهذا دليل على أن ما يقوله غير العالم لا عبرة به.
ولذا لما وصف أهل العلم رجال المشورة جعلوا من صفاتهم العلم فيما يُسْتشارون فيه. قال ابن خويز منداد: (واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون, وفيما أشكل عليهم من أمور الدين. ووجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب. ووجوه الناس فيما يتعَلَّق بالمصالح, ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها)([19]).
فجعل كلاً يُسْتشار فيما هو مختص به.
وكذا إبداء الرأي لا يسوغ لمن لم يكن مختصاً في فن أن يتكلم فيه ولذا ذكر الفقهاء أنه يشرع الحجر على المتطبب الجاهل([20]), فكذلك غير الطب يمنع من لم يكن مؤهلاً من إبداء رأيه إذ لا يوثق برأيه.
فالعالم بالشرع يبين أحكام الشرع وضوابطه في كل أمر وتصرّف لكن ليس له أن يصف العلاج المركب للمرضى إلا إذا كان مع ذلك طبيباً.
والمهندس له أن يتناول أموراً هندسيَّة بالرأي لكن الفتوى إنما تناط بالعالم بالشرع فقط وهكذا.
وكذلك أمور السياسة فإن العلم الشرعي يكفي للحكم على تصرفات المكلفين فيما يتعلّق بالسياسة لكنه لا يكفي وحده لتناول القضايا السياسية إلا على أساس خبرته بها.
قال ابن خلدون رحمه الله: (العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها والسببُ في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذّهن أموراً كلية عامة ليحكم عليها بأمر على العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل.. ويطبقون بعد ذلك الكلي على الخارجيات .. وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها .. فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنيّة والأنظار الفكريَّة لا يعرفون سواها .. والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها ..)([21]).