خلاصة المستفيد من القول المفيد . الشيخ العلامة ابن عثيمين.
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين ، أما بعد :
قمت بتدريس إخواني الكرام بعد صلاة الفجر في مكتبة مسجدي الذي أؤم فيه : " القول المفيد على كتاب التوحيد " ، للشيخ العلامة ابن عثيمين – قدس الله روحه ، وأسكنه الله تعالى الفردوس الأعلى – فكنت إذا مرت بنا الفائدة دونتها على غلاف الكتاب ، حتى تجمعت عندي عشرات الفوائد ، فقيدتها لإخواني ، لعل الله تبارك وتعالى يتقبلها مني ، وليستفيد إخواني طلبة العلم من علم هذا العلم ، والبحر الخضم ، فأسأل الله تعالى أن يدخرها لي في {يوم لا ينفع فيه مال وبنون إلا من أتى الله بقلب سليم} .
وكنت قد رقمت منها مجموعة ، سأعجل بها من باب المبادرة إلى الخير ، وما بقي أسطره تباعا ، وقد سميت هذه الفوائد :
[ خلاصة المستفيد من القول المفيد شرح كتاب التوحيد ].
وإلى المقصود :
الفائدة الأولى:
في باب : من الشرك الاستعاذة بغير الله :
قال – رحمه الله تعالى - :
[ قوله: { برجال من الجن } ، يستفاد منه أن للجن رجالاً، ولهم إناث، وربما يجامع الرجل من الجن الأنثى من بني آدم، وكذلك العكس الرجل من بني آدم قد يجامع الأنثى من الجن، وقد ذكر الفقهاء الخلاف في وجوب الغسل بهذا الإجماع.
والفقهاء يقولون في باب الغسل، لو قالت : إن بها جنياً يجامعها كالرجل، وجب عليها الغسل، وأما أن الرجل يجامع الأنثى من الجن، فقد قيل ذلك، لكن لم أره في كلام أهل العلم، وإنما أساطير تقال، والله أعلم.
لكن علينا أن نصدق بوجودهم، وأنهم مكلفون، وبأن منهم الصالحين ومنهم دون ذلك، وبأن منهم المسلمين والقاسطين، وبأن منهم رجالاً ونساء].
الفائدة الثانية :
في باب : من الشرك الاستعاذة بغير الله. في حديث " خولة بنت حكيم " [ من نزل منزلا ..]
قال – رحمه الله تعالى - :
قوله: "لم يضره شيء"، نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم من شر كل ذي شر من الجن والإنس وغيرهم والظاهر الخفي حتى يرتحل من منزله، لأن هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مُخْبَرُه، لأنه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف، فهو لوجود مانع لا لقصور السبب أو تخلف الخبر.
ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب، فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع، مثل: قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرأها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصوراً في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره.
ومنه: التسمية عند الجماع، فإنها تمنع ضرر الشيطان للولد، وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هو المانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب.
قال القرطبي: وقد جربت ذلك، حتى إني نسيت ذات يوم، فدخلت منزلي ولم أقل ذلك، فلدغتني عقرب].
الفائدة الثالثة : هل الاستعاذة بغير الله شرك على الإطلاق؟
في باب : من الشرك الاستعاذة بغير الله .
قال – رحمه الله تعالى - :
[ أما الاستعاذة بالمخلوق، ففيها تفصيل، فإن كان المخلوق لا يقدر عليه، فهي من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق عند أحد من الأئمة"، وهذا ليس على إطلاقه، بل مرادهم مما لا يقدر عليه إلا الله، لأنه لا يعصمك من الشر الذي لا يقدر عليه إلا الله، سوى الله.
ومن ذلك أيضاً الاستعاذة بأصحاب القبور، فإنهم لا ينفعون ولا يضرون، فالاستعاذة بهم شرك أكبر، سواء كان عند قبورهم أم بعيداً عنهم.
أما الاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه، فهي جائزة، وقد أشار إلى ذلك الشارح الشيخ سليمان في "تيسير العزيز الحميد"، وهو مقتضى الأحاديث الواردة في "صحيح مسلم" لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الفتن، قال: "فمن وجد من ذلك ملجأ، فليعذ به".
وكذلك قصة المرأة التي عاذت بأم سلمة، والغلام الذي عاذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك في قصة الذين يستعيذون بالحرم والكعبة ، وما أشبه ذلك.
وهذا هو مقتضى النظر، فإذا اعترضني قطاع طريق، فعذت بإنسان يستطيع أن يخلصني منهم، فلا شيء فيه.
لكن تعليق القلب بالمخلوق لا شك أنه من الشرك، فإذا علقت قلبك ورجاءك وخوفك وجميع أمورك بشخص معين، وجعلته ملجأ، فهذا شرك، لأن هذا لا يكون إلا لله.
وعلى هذا، فكلام الشيخ رحمه الله في قوله: "إن الأئمة لا يجوزون الاستعاذة بمخلوق" مقيد بما لا يقدر عليه إلا الله، ولولا أن النصوص وردت بالتفصيل لأخذنا الكلام على إطلاقه، وقلنا: لا يجوز الاستعاذة بغير الله مطلقا].
الفائدة الرابعة : كل قيد يراد به بيان الواقع، فإنه كالتعليل للحكم؛(الصفة الكاشفة).
وفي باب : من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره،
قال – رحمه الله تعالى - :
[ وقوله: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } ، أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك، وهذا القيد ليس شرطاً بحيث يكون له مفهوم، فيكون لك أن تدعو من ينفعك ويضرك، بل هو لبيان الواقع، لأن المدعو من دون الله لا يحصل منه نفع ولا ضرر، قال الله تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } [الأحقاف: 5 ، 6].
ومن القيد الذي ليس بشرط، بل هو لبيان الواقع قوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [البقرة: 21].
فإن قوله: { الذي خلقكم والذين من قبلكم } لبيان الواقع، إذ ليس هناك رب ثان لم يخلقنا والذين من قبلنا.
ومنه قوله تعالى: { وربائبكم اللاتي في حجوركم } [النساء: 23]، فهذا بيان للواقع الأغلب.
ومنه قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } [الأنفال: 24]، فهذا بيان للواقع، إذ دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيانا كله لما يحيينا.
وكل قيد يراد به بيان الواقع، فإنه كالتعليل للحكم، فمثلاً قوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم } [البقرة: 21]، أي اعبدوه لأنه خلقكم.
وقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ، أي: لأنه لا يدعوكم إلا لما يحييكم.
وكذلك قوله تعالى: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } ، أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك، فعلى هذا لا يكون هذا القيد شرطاً، وهذه يسميها بعض الناس صفة كاشفة].
الفائدة الخامسة : الشكر يكون في ثلاثة مواضع.
في باب : من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.
في قوله تعالى [ فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له ] العنكبوت (17).
قال – رحمه الله تعالى - :
[ والشكر فسروه بأنه: القيام بطاعة المنعم، وقالوا: إنه يكون في ثلاثة مواضع:
1- في القلب، وهو أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله، فيرى لله فضلاً عليه بها، قال تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله } [النحل: 53]، وأعظم نعمة هي نعمة الإسلام، قال تعالى: { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } [الحجرات: 17]، وقال تعالى: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته..... } الآية [آل عمران: 164].
2- اللسان، وهو أن يتحدث بها على وجه الثناء على الله والاعتراف وعدم الجحود، لا على سبيل الفخر والخيلاء والترفع على عباد الله، فيتحدث بالغنى لا ليكسر خاطر الفقير، بل لأجل الثناء على الله ، وهذا جائز كما في قصة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكرهم المَلَك بنعمة الله، قال "نعم، كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأعطاني الله المال"، فهذا من باب التحدث بنعمة الله.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - تحدث بنعمة الله عليه بالسيادة المطلقة، فقال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة".
3- الجوارح، وهو أن يستعملها بطاعة المنعم، وعلى حسب ما يختص بهذه النعمة،
فمثلاً: شكر الله على نعمة العلم: أن تعمل به، وتعلمه الناس.
وشكر الله على نعمة المال: أن تصرفه بطاعة الله، وتنفع الناس به.
وشكر الله على نعمة الطعام: أن تستعمله فيما خلق له، وهو تغذية البدن، فلا تبني من العجين قصراً مثلاً، فهو لم يخلق لهذا الشيء].
قلت : (علي) قول الشيخ أخيرا : " فلا تبني من العجين قصرا ..." فيه خطأ ما يُفعل في أعياد الميلاد المبتدعة من صنع الفطائر على هيأة منزل أو سفينة أو قصر ، وخطأ ما يفعله أصحاب محلات الكعك والفطائر والحلويات بمثل هذه النعم مما سبق ذكره،وأنه من كفران النعم.
الفائدة السادسة : الاستفهام المراد به النفي أبلغ من النفي المجرد .
في باب : من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.
في قوله تعالى [ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة]
قال – رحمه الله تعالى - :
[ والاستفهام يراد به هنا النفي، أي لا أحد أضل.
و { أضل } : اسم تفضيل، أي: لا أحد أضل من هذا.
والضلال: أن يتيه الإنسان عن الطريق الصحيح.
وإذا كان الاستفهام مرادا به النفي كان أبلغ من النفي المجرد، لأنه يحوله من نفي إلى تحد، أي: بين لي عن أحد أضل ممن يدعو من دون الله؟ فهو متضمن للتحدي، وهو أبلغ من قوله: لا أضل ممن يدعو، لأن هذا نفي مجرد، وذاك نفي مشرب معنى التحدي].
الفائدة السابعة : فرق بين ما يأتي بالشيء ، وما يأتي عند الشيء.
في باب : من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.
قال – رحمه الله تعالى - :
[قوله: { من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } ، فإذا كان من سوى الله لا يستجيب إلى يوم القيامة، فكيف يليق بك أن تستغيث به دون الله؟! فبطل تعلق هؤلاء العابدين بمعبوداتهم.
فالذي يأتي للبدوي أو للدسوقي في مصر، فيقول: المدد! المدد! أو: أغثني، لا يغني عنه شيئاً، ولكن قد يبتلي فيأتيه المدد عند حصول هذا الشيء لا بهذا الشيء، وفرق بين ما يأتي بالشيء وما يأتي عند الشيء.
مثال ذلك: امرأة دعت البدوي أن تحمل، فلما جامعها زوجها حملت، وكانت سابقاً لا تحمل، فنقول هنا: إن الحمل لم يحصل بدعاء البدوي، وإنما حصل عنده لقوله تعالى: { من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } .
أو يأتي للجيلاني في العراق، أو ابن عربي في سوريا، فيستغيث به، فإنه لا ينتفع، ولو بقي الواحد منهم إلى يوم القيامة يدعو ما أجابه أحد.
والعجب أنهم في العراق يقولون: عندنا الحسين، فيطوفون قبره ويسألونه، وفي مصر كذلك، وفي سوريا كذلك، وهذا سفه في العقول، وضلال في الدين، والعامة لا يلامون في الواقع، لكن الذي يلام من عنده علم من العلماء ومن غير العلماء].
قلت (علي ) : وقول الشيخ : " لكن الذي يلام من عنده علم من العلماء ومن غير العلماء " فيه تنبيه لأؤلائكم النفر الذين باعوا الآخرة بالدنيا ، واشتروا به ثمنا قليلا ، فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون.
.....
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين ، أما بعد :
قمت بتدريس إخواني الكرام بعد صلاة الفجر في مكتبة مسجدي الذي أؤم فيه : " القول المفيد على كتاب التوحيد " ، للشيخ العلامة ابن عثيمين – قدس الله روحه ، وأسكنه الله تعالى الفردوس الأعلى – فكنت إذا مرت بنا الفائدة دونتها على غلاف الكتاب ، حتى تجمعت عندي عشرات الفوائد ، فقيدتها لإخواني ، لعل الله تبارك وتعالى يتقبلها مني ، وليستفيد إخواني طلبة العلم من علم هذا العلم ، والبحر الخضم ، فأسأل الله تعالى أن يدخرها لي في {يوم لا ينفع فيه مال وبنون إلا من أتى الله بقلب سليم} .
وكنت قد رقمت منها مجموعة ، سأعجل بها من باب المبادرة إلى الخير ، وما بقي أسطره تباعا ، وقد سميت هذه الفوائد :
[ خلاصة المستفيد من القول المفيد شرح كتاب التوحيد ].
وإلى المقصود :
الفائدة الأولى:
في باب : من الشرك الاستعاذة بغير الله :
قال – رحمه الله تعالى - :
[ قوله: { برجال من الجن } ، يستفاد منه أن للجن رجالاً، ولهم إناث، وربما يجامع الرجل من الجن الأنثى من بني آدم، وكذلك العكس الرجل من بني آدم قد يجامع الأنثى من الجن، وقد ذكر الفقهاء الخلاف في وجوب الغسل بهذا الإجماع.
والفقهاء يقولون في باب الغسل، لو قالت : إن بها جنياً يجامعها كالرجل، وجب عليها الغسل، وأما أن الرجل يجامع الأنثى من الجن، فقد قيل ذلك، لكن لم أره في كلام أهل العلم، وإنما أساطير تقال، والله أعلم.
لكن علينا أن نصدق بوجودهم، وأنهم مكلفون، وبأن منهم الصالحين ومنهم دون ذلك، وبأن منهم المسلمين والقاسطين، وبأن منهم رجالاً ونساء].
الفائدة الثانية :
في باب : من الشرك الاستعاذة بغير الله. في حديث " خولة بنت حكيم " [ من نزل منزلا ..]
قال – رحمه الله تعالى - :
قوله: "لم يضره شيء"، نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم من شر كل ذي شر من الجن والإنس وغيرهم والظاهر الخفي حتى يرتحل من منزله، لأن هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مُخْبَرُه، لأنه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف، فهو لوجود مانع لا لقصور السبب أو تخلف الخبر.
ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب، فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع، مثل: قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرأها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصوراً في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره.
ومنه: التسمية عند الجماع، فإنها تمنع ضرر الشيطان للولد، وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هو المانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب.
قال القرطبي: وقد جربت ذلك، حتى إني نسيت ذات يوم، فدخلت منزلي ولم أقل ذلك، فلدغتني عقرب].
الفائدة الثالثة : هل الاستعاذة بغير الله شرك على الإطلاق؟
في باب : من الشرك الاستعاذة بغير الله .
قال – رحمه الله تعالى - :
[ أما الاستعاذة بالمخلوق، ففيها تفصيل، فإن كان المخلوق لا يقدر عليه، فهي من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق عند أحد من الأئمة"، وهذا ليس على إطلاقه، بل مرادهم مما لا يقدر عليه إلا الله، لأنه لا يعصمك من الشر الذي لا يقدر عليه إلا الله، سوى الله.
ومن ذلك أيضاً الاستعاذة بأصحاب القبور، فإنهم لا ينفعون ولا يضرون، فالاستعاذة بهم شرك أكبر، سواء كان عند قبورهم أم بعيداً عنهم.
أما الاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه، فهي جائزة، وقد أشار إلى ذلك الشارح الشيخ سليمان في "تيسير العزيز الحميد"، وهو مقتضى الأحاديث الواردة في "صحيح مسلم" لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الفتن، قال: "فمن وجد من ذلك ملجأ، فليعذ به".
وكذلك قصة المرأة التي عاذت بأم سلمة، والغلام الذي عاذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك في قصة الذين يستعيذون بالحرم والكعبة ، وما أشبه ذلك.
وهذا هو مقتضى النظر، فإذا اعترضني قطاع طريق، فعذت بإنسان يستطيع أن يخلصني منهم، فلا شيء فيه.
لكن تعليق القلب بالمخلوق لا شك أنه من الشرك، فإذا علقت قلبك ورجاءك وخوفك وجميع أمورك بشخص معين، وجعلته ملجأ، فهذا شرك، لأن هذا لا يكون إلا لله.
وعلى هذا، فكلام الشيخ رحمه الله في قوله: "إن الأئمة لا يجوزون الاستعاذة بمخلوق" مقيد بما لا يقدر عليه إلا الله، ولولا أن النصوص وردت بالتفصيل لأخذنا الكلام على إطلاقه، وقلنا: لا يجوز الاستعاذة بغير الله مطلقا].
الفائدة الرابعة : كل قيد يراد به بيان الواقع، فإنه كالتعليل للحكم؛(الصفة الكاشفة).
وفي باب : من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره،
قال – رحمه الله تعالى - :
[ وقوله: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } ، أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك، وهذا القيد ليس شرطاً بحيث يكون له مفهوم، فيكون لك أن تدعو من ينفعك ويضرك، بل هو لبيان الواقع، لأن المدعو من دون الله لا يحصل منه نفع ولا ضرر، قال الله تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } [الأحقاف: 5 ، 6].
ومن القيد الذي ليس بشرط، بل هو لبيان الواقع قوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [البقرة: 21].
فإن قوله: { الذي خلقكم والذين من قبلكم } لبيان الواقع، إذ ليس هناك رب ثان لم يخلقنا والذين من قبلنا.
ومنه قوله تعالى: { وربائبكم اللاتي في حجوركم } [النساء: 23]، فهذا بيان للواقع الأغلب.
ومنه قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } [الأنفال: 24]، فهذا بيان للواقع، إذ دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيانا كله لما يحيينا.
وكل قيد يراد به بيان الواقع، فإنه كالتعليل للحكم، فمثلاً قوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم } [البقرة: 21]، أي اعبدوه لأنه خلقكم.
وقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ، أي: لأنه لا يدعوكم إلا لما يحييكم.
وكذلك قوله تعالى: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } ، أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك، فعلى هذا لا يكون هذا القيد شرطاً، وهذه يسميها بعض الناس صفة كاشفة].
الفائدة الخامسة : الشكر يكون في ثلاثة مواضع.
في باب : من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.
في قوله تعالى [ فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له ] العنكبوت (17).
قال – رحمه الله تعالى - :
[ والشكر فسروه بأنه: القيام بطاعة المنعم، وقالوا: إنه يكون في ثلاثة مواضع:
1- في القلب، وهو أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله، فيرى لله فضلاً عليه بها، قال تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله } [النحل: 53]، وأعظم نعمة هي نعمة الإسلام، قال تعالى: { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } [الحجرات: 17]، وقال تعالى: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته..... } الآية [آل عمران: 164].
2- اللسان، وهو أن يتحدث بها على وجه الثناء على الله والاعتراف وعدم الجحود، لا على سبيل الفخر والخيلاء والترفع على عباد الله، فيتحدث بالغنى لا ليكسر خاطر الفقير، بل لأجل الثناء على الله ، وهذا جائز كما في قصة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكرهم المَلَك بنعمة الله، قال "نعم، كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأعطاني الله المال"، فهذا من باب التحدث بنعمة الله.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - تحدث بنعمة الله عليه بالسيادة المطلقة، فقال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة".
3- الجوارح، وهو أن يستعملها بطاعة المنعم، وعلى حسب ما يختص بهذه النعمة،
فمثلاً: شكر الله على نعمة العلم: أن تعمل به، وتعلمه الناس.
وشكر الله على نعمة المال: أن تصرفه بطاعة الله، وتنفع الناس به.
وشكر الله على نعمة الطعام: أن تستعمله فيما خلق له، وهو تغذية البدن، فلا تبني من العجين قصراً مثلاً، فهو لم يخلق لهذا الشيء].
قلت : (علي) قول الشيخ أخيرا : " فلا تبني من العجين قصرا ..." فيه خطأ ما يُفعل في أعياد الميلاد المبتدعة من صنع الفطائر على هيأة منزل أو سفينة أو قصر ، وخطأ ما يفعله أصحاب محلات الكعك والفطائر والحلويات بمثل هذه النعم مما سبق ذكره،وأنه من كفران النعم.
الفائدة السادسة : الاستفهام المراد به النفي أبلغ من النفي المجرد .
في باب : من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.
في قوله تعالى [ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة]
قال – رحمه الله تعالى - :
[ والاستفهام يراد به هنا النفي، أي لا أحد أضل.
و { أضل } : اسم تفضيل، أي: لا أحد أضل من هذا.
والضلال: أن يتيه الإنسان عن الطريق الصحيح.
وإذا كان الاستفهام مرادا به النفي كان أبلغ من النفي المجرد، لأنه يحوله من نفي إلى تحد، أي: بين لي عن أحد أضل ممن يدعو من دون الله؟ فهو متضمن للتحدي، وهو أبلغ من قوله: لا أضل ممن يدعو، لأن هذا نفي مجرد، وذاك نفي مشرب معنى التحدي].
الفائدة السابعة : فرق بين ما يأتي بالشيء ، وما يأتي عند الشيء.
في باب : من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.
قال – رحمه الله تعالى - :
[قوله: { من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } ، فإذا كان من سوى الله لا يستجيب إلى يوم القيامة، فكيف يليق بك أن تستغيث به دون الله؟! فبطل تعلق هؤلاء العابدين بمعبوداتهم.
فالذي يأتي للبدوي أو للدسوقي في مصر، فيقول: المدد! المدد! أو: أغثني، لا يغني عنه شيئاً، ولكن قد يبتلي فيأتيه المدد عند حصول هذا الشيء لا بهذا الشيء، وفرق بين ما يأتي بالشيء وما يأتي عند الشيء.
مثال ذلك: امرأة دعت البدوي أن تحمل، فلما جامعها زوجها حملت، وكانت سابقاً لا تحمل، فنقول هنا: إن الحمل لم يحصل بدعاء البدوي، وإنما حصل عنده لقوله تعالى: { من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } .
أو يأتي للجيلاني في العراق، أو ابن عربي في سوريا، فيستغيث به، فإنه لا ينتفع، ولو بقي الواحد منهم إلى يوم القيامة يدعو ما أجابه أحد.
والعجب أنهم في العراق يقولون: عندنا الحسين، فيطوفون قبره ويسألونه، وفي مصر كذلك، وفي سوريا كذلك، وهذا سفه في العقول، وضلال في الدين، والعامة لا يلامون في الواقع، لكن الذي يلام من عنده علم من العلماء ومن غير العلماء].
قلت (علي ) : وقول الشيخ : " لكن الذي يلام من عنده علم من العلماء ومن غير العلماء " فيه تنبيه لأؤلائكم النفر الذين باعوا الآخرة بالدنيا ، واشتروا به ثمنا قليلا ، فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون.
.....