التوحيد وكشف الكروب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
أما بعد
فيقول الرب جل وعلا: " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ".
وقال تعالى : " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ".
الدعاء على نوعين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة والطلب.
فدعاء المسألة هو أن يطلب الداعي ما ينفعه من جلب نفع أو كشف ضرّ والله سبحانه وتعالى قد خطّأ في القرآن الكريم من دعا غير الله في جلب النفع أو كشف الضر، كما أنه تعالى يقول: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم) (5/79)، وقال: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله) (6/71)، وقال: (ولا تدعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين) (10/106).
وأما دعاء العبادة فإنه وإن لم يكن بصيغة الطلب إلا أنه يستلزم دعاء المسألة، لأن كل عبادة يطلب بها الإنسان ما ينفعه، وكل دعاء مسألة فإنه يتضمن دعاء العبادة كما قال الله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين) (7/55)
(قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) (6/4, 41) (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) (72/18) وأمثال هذه الآيات كثيرة في القرآن وكلها تدل على أن دعاء المسألة يستلزمه دعاء العبادة لأن السائل يُخلص دعاءه لله تعالى.
يقول ابن القيم في بدائع الفوائد3/513 في قوله تعالى : " أدعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين".
هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما وهما متلازمان فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضرر ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وقوله تعالى ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك وقوله تعالى قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم وقوله تعالى أفتعبدون من دون الله ما لاينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله وقوله تعالى واتل عليهم نبأإبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذا تدعون أو ينفعونكم أو يضرون وقوله تعالى واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر القاصر والمتعدي فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم وهذا في القرآن كثير بيد أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة ويدعي خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان".
بل إن الله جل وعلا لا يعبأ بعباده لولا أنه دعاهم إلى دعاءه وعبادته ؛ يقول الله جل وعلا : " قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا".
يقول الشنقيطي في أضواء البيان ج6/ص81 : " العرب الذين نزل القرءان بلغتهم يقولون ما عبأت بفلان أي ما باليت به ولا اكترثت به أي ما كان له عندي وزن ولا قدر يستوجب الإكتراث والمبالاة به وأصله من العبء وهو الثقل؛
واعلم أوّلاً أن العلماء اختلفوا في المصدر في قوله لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ هل هو مضاف إلى فاعله أو إلى مفعوله وعلى أنه مضاف إلى فاعله فالمخاطبون بالآية داعون لا مدعوون أي مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ أي عبادتكم له وأمّا على أن المصدر مضاف إلى مفعوله فالمخاطبون بالآية مدعوون لا داعون أي ما يعبؤا بكم لولا دعاؤه إياكم إلى توحيده وعبادته على ألسنة رسله عليهم الصّلاة والسّلام واعلم أيضًا أن ثلاثة من الأقوال الأربعة المذكورة في الآية مبنيّة على كون المصدر فيها مضافًا إلى فاعله والرابع مبني على كونه مضافًا إلى مفعوله .
أمّا الأقوال الثلاثة المبنيّة على كونه مضافًا إلى فاعله.
فالأوّل منها أن المعنى مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ أي عبادتكم له وحده جلَّ وعلا وعلى هذا القول فالخطاب عام للكافرين والمؤمنين ثم أفرد الكافرين دون المؤمنين بقوله َقَدْ كَذَّبْتُمْ.
والثاني منها أن المعنى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ أيها الكفار له وحده عند الشدائد والكروب أي ولو كنتم ترجعون إلى شرككم إذا كشف الضرّ عنكم .
والثالث أن المعنى مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى أي ما يصنع بعذابكم لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ معه آلهة أخرى ولا يخفى بُعد هذا القول وأن فيه تقدير ما لا دليل عليه ولا حاجة إليه .
أمّا القول الرابع المبنى على أن المصدر في الآية مضاف إلى مفعوله فهو ظاهر أي مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دعاؤه إياكم على ألسنة رسله.
وإذا عرفت هذه الأقوال فاعلم أن كل واحد منها قد دلَّ عليه قرءان وسنبيّن هنا إن شاء اللَّه تعالى دليل كل قول منها من القرءان مع ذكر ما يظهر لنا أنه أرجحها .
أمّا هذا القول الأخير المبني على أن المصدر في الآية مضاف إلى مفعوله وأن المعنى مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دعاؤه إياكم إلى الإيمان به وتوحيده وعبادته على ألسنة رسله فقد دلّت عليه آيات من كتاب اللَّه كقوله تعالى في أوّل سورة هود (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وقوله تعالى في أوّل سورة الكهف (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً) وقوله في أوّل سورة الملك (الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) فهذه الآيات قد أوضحت أن الحكمة في خلقه السماوات والأرض وجميع ما على الأرض والموت والحياة هي أن يدعوهم على ألسنة رسله ويبتليهم أي أن يختبرهم أيّهم أحسن عملاً وهذه الآيات تبيّن معنى قوله تعالى ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ )
وفي هذه الآيات إيضاح لأن معنى قوله لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ أي دعاؤه إياكم على ألسنة رسله وابتلاؤكم أيّكم أحسن عملاً وعلى هذا فلا إشكال في قوله فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أي مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ لَوْلاَ دعاؤه إياكم أي وقد دعاكم فكذبتم وهذا القول هو وحده الذي لا إشكال فيه فهو قويّ بدلالة الآيات المذكورة عليه.
وأمّا القول بأن معنى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ أي إخلاصكم الدعاء له أيّها الكفار عند الشدائد والكروب فقد دلَّت على معناه آيات كثيرة كقوله تعالى (فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ) وقوله تعالى (جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ )
وأمّا على القول بأن المعنى ما يصنع بعذابكم لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ معه آلهة أخرى فقد دلَّ على معناه قوله تعالى مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ .
والقول الأوّل الذي هو أشهر الأقوال وأكثرها قائلاً وهو أن المعنى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ أي عبادتكم له وحده قد دلَّ عليه جميع الآيات الدالَّة على ما يعطيه اللَّه لمن أطاعه وما أعدّه لمن عصاه وكثرتها معلومة لا خفاء بها ".
ولما كان الدعاء بهذه الأهمية العظيمة والمكانة العلية وأنّ من الدعاء التوحيد بل هو أعظم الدعاء به يكون دفع المكروه وجلب المحبوب؛ كانت لنا هذه الوقفة مع نبي من أنبياء الله جل وعلا وقد حصل له من الكرب ما ذكره القرآن الكريم؛ ألا وهو يونس عليه السلام في مقال أسميته { التوحيد وكشف الكروب}.
قال الله تعالى في ذكر قصته في سورة الأنبياء :
" وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ".
قال الشنقيطي في أضواء البيان4/240{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}.أي واذكر ذا النون. والنون: الحوت. "وذا" بمعنى صاحب. فقوله {وَذَا النُّونِ} معناه صاحب الحوت.كما صرح الله بذلك في "القلم" في قوله {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}. وإنما أضافه إلى الحوت لأنه التقمه كما قال تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}.
وقوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} فيه وجهان من التفسير لا يكذب أحدهما الآخر:
الأول: أن المعنى {لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي لن نضيق عليه في بطن الحوت. ومن إطلاق "قدر" بمعنى "ضيق" في القرآن قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي ويضيق الرزق على من يشاء، وقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ نْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} . فقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ومن ضيق عليه رزقه.
الوجه الثاني: أن معنى {لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} لن نقضي عليه ذلك. وعليه فهو من القدر والقضاء. "وقدر" بالتخفيف تأتي بمعنى "قدر" المضعفة: ومنه قوله تعالى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي قدره الله. ومنه قول الشاعر وأنشده ثعلب شاهداً لذلك:
فليست عشيات الحمى برواجع ... لنا أبداً ما أورق السلم النضر
ولا عائذ ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
والعرب تقول: قدر الله لك الخير يقدره قدراً، كضرب بضرب، ونصر ينصر، بمعنى قدره لك تقديراً. ومنه على أصح القولين "ليلة القدر" لأن الله يقدر فيها الأشياء. كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} والقدر بالفتح، والقدر بالسكون: ما يقدره الله من القضاء. ومنه قول هدبة بن الخشرم:
ألا يا لقومي للنوائب والقدر ... وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
أما قول من قال: إن {لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} من القدرة: فهو قول باطل بلا شك. لأن نبي الله يونس لا يشك في قدرة الله على كل شيء، كما لا يخفى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {مُغَاضِباً} أي في حال كونه مغاضباً لقومه. ومعنى المفاعلة فيه: أنه أغضبهم بمفارقته وتخوفهم حلول العذاب بهم، وأغضبوه حين دعاهم إلى الله مدة فلم يجيبوه، فأوعدهم بالعذاب. ثم خرج من بينهم على عادة الأنبياء عند نزول العذاب قبل أن يأذن الله له في الخروج. قاله أبو حيان في البحر. وقال أيضاً: وقيل معنى {مُغَاضِباً} غضبان، وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكاً.
واعلم أن قول من قال {مُغَاضِباً} أي مغاضباً لربه كما روي عن ابن مسعود، وبه قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير، واختاره الطبري والقتبي، واستحسنه المهدوي ـ يجب حمله على معنى القول الأول. أي مغاضباً من أجل ربه. قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول عمن ذكرنا: وقال النحاس: وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة، وهو قول صحيح، والمعنى: مغاضباً من أجل ربه كما تقول: غضبت لك أي من أجلك، والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصى ـ انتهى منه. والمعنى على ما ذكر: مغاضباً قومه من أجل ربه، أي، من أجل كفرهم به، وعصيانهم له. وغير هذا لا يصح في الآية.
وقوله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} . أي ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت.و {َأنْ} في قوله: {َأنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} مفسره.
وقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي أجبناه ونجيناه من الغم الذي هو فيه في بطن الحوت، وإطلاق استجاب بمعنى أجاب معروف في اللغة، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية: من نداء نبيه يونس في تلك الظلمات: هذا النداء العظيم، وأن الله استجاب له ونجاه من الغم . قلت ( أبو الحسين): الفعل على وزن استفعل يفيد الطلب غالبا إلا في بعض المواطن مثل استجاب ومثل قوله تعالى ( واستغنى الله) ومثل استقر بمعنى قرّ ومثل استطاع فإنه في مثل هذه المواطن لا يفيد الطلب بل لزيادة توكيد الفعل وزيادة المعنى والله أعلم.
وبين في بعض المواضع: أنه لو لم يسبح هذا التسبيح العظيم للبث في بطن الحوت إلى يوم البعث ولم يخرج منه. وبين في بعضها أنه طرحه بالعراء وهو سقيم.
وبين في بعضها: أنه خرج بغير إذن كخروج العبد الآبق، وأنهم اقترعوا على من يلقى في البحر فوقعت القرعة على يونس أنه هو الذي يلقى فيه.
وبين في بعضها: أن الله تداركه برحمته. ولو لم يتداركه بها لنبذ بالعراء في حال كونه مذموماً، ولكنه تداركه بها فنبذ غير مذموم، قال تعالى في "الصافات" : {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} . فقوله في آيات "الصافات" المذكورة {إِذْ أَبَقَ} أي حين أبق، وهو من قول العرب: عبد آبق، لأن يونس خرج قبل أن يأذن له ربه، ولذلك أطلق عليه اسم الإباق. واستحقاق الملامة في قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} لأن المليم اسم فاعل ألام إذا فعل ما يستوجب الملام".
وفي تفسير ابن كثير3/234:" ذلك أن يونس بن متى عليه السلام, بعثه الله إلى أهل قرية نينوى, وهي قرية من أرض الموصل, فدعاهم إلى الله تعالى, فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم, فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم, ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث, فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب, خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم, وفرقوا بين الأمهات وأولادها, ثم تضرعوا إلى الله عز وجل وجأروا إليه, ورغت الإبل وفصلانها, وخارت البقر وأولادها, وثغت الغنم وسخالها, فرفع الله عنهم العذاب, قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}.
وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم, وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه, فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه, ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً فأبوا, ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً, قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي وقعت عليه القرعة فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه, ثم ألقى نفسه في البحر, وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود - حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة, فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً ولا تهشم له عظماً, فإن يونس ليس لك رزقاً وإنما بطنك تكون له سجناً.
وقوله: {وَذَا النُّونِ} يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله :{ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً} قال الضحاك لقومه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي نضيق عليه في بطن الحوت, يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم, واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} وقال عطية العوفي: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}, أي نقضي عليه, كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير, فإن العرب تقول: قدر وقدّر بمعنى واحد, وقال الشاعر:
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يكن فلك الأمر
ومنه قوله تعالى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي قدر. {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} قال ابن مسعود: ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل, وكذا روي عن ابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة. وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر, قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر, فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره, فعند ذلك وهنالك قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال عوف الأعرابي: لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات, ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه".