[b]بسم الله،
و الصلاة و السلام على رسول الله،
و بعد،
"الفقير هو الذي يجرد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة للَّه لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه، و يرى أَعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكاً عبداً مستعملاً فيما أَمره به سيده، فنفسه مملوكة، و أَعماله مستحقة بموجب العبودية، فليس مالكاً لنفسه و لا لشيء من ذراته و لا لشيء من أَعماله. بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه، كرجل اشترى عبداً بخالص ماله ثم علّمه بعض الصنائع، فلما تعلمها قال له: اعمل وَ أَدّ إِليَّ فليس لك في نفسك و لا في كسبك شيء، فلو حصل بيد هذا العبد من الأَموال و الأَسباب ما حصل لم ير له فيها شيئاً، بل يراه كالوديعة في يده، و أَنها أَموال أُستاذه و خزائنه و نعمه بيد عبده، مستودعاً متصرفاً فيها لسيده لا لنفسه، كما قال عبد الله و رسوله و خيرته من خلقه: "و الله إِني لا أَعطي أحداً و لا أَمنع أَحداً، و إِنما أَنا قاسم أَضع حيث أُمرت" ، فهو متصرف في تلك الخزائن الأَمر المحض تصرف العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أَوامر سيده، فالله هو المالك الحق، و كل ما بيد خلقه هو من أَمواله و أَملاكه و خزائنه أَفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل و الإِمساك، و هل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عَزَّ وجلَّ، فيبذل أَحدهم الشيء رغبة في ثواب الله و رهبة من عقابه و تقرباً إِليه و طلباً لمرضاته؟ أَم يكون البذل و الإِمساك منهم صادراً عن مراد النفس و غلبة الهوى و موجب الطبع فيعطي لهواه و يمنع لهواه؟ فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك، فيكون مصدر تصرفه الهوى و مراد النفس، و غايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أَو رفعة أو منزلة أَو مدح أَو حظ من الحظوظ، أَو الرهبة من فوت شيء من هذه الأَشياء، و إِذا كان مصدر تصرفه و غايته هو هذه الرغبة و الرهبة رأَى نفسه لا محالة مالكاً، فادعى الملك و خرج عن حد العبودية و نسى فقره، و لو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أَنما هو مملوك ممتحن في صورة ملك متصرف كما قال تعالى: {ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]".
طريق الهجرتين للعلامة ابن القيم – رحمه الله – تعالى 11-12.[/b]
و الصلاة و السلام على رسول الله،
و بعد،
"الفقير هو الذي يجرد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة للَّه لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه، و يرى أَعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكاً عبداً مستعملاً فيما أَمره به سيده، فنفسه مملوكة، و أَعماله مستحقة بموجب العبودية، فليس مالكاً لنفسه و لا لشيء من ذراته و لا لشيء من أَعماله. بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه، كرجل اشترى عبداً بخالص ماله ثم علّمه بعض الصنائع، فلما تعلمها قال له: اعمل وَ أَدّ إِليَّ فليس لك في نفسك و لا في كسبك شيء، فلو حصل بيد هذا العبد من الأَموال و الأَسباب ما حصل لم ير له فيها شيئاً، بل يراه كالوديعة في يده، و أَنها أَموال أُستاذه و خزائنه و نعمه بيد عبده، مستودعاً متصرفاً فيها لسيده لا لنفسه، كما قال عبد الله و رسوله و خيرته من خلقه: "و الله إِني لا أَعطي أحداً و لا أَمنع أَحداً، و إِنما أَنا قاسم أَضع حيث أُمرت" ، فهو متصرف في تلك الخزائن الأَمر المحض تصرف العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أَوامر سيده، فالله هو المالك الحق، و كل ما بيد خلقه هو من أَمواله و أَملاكه و خزائنه أَفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل و الإِمساك، و هل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عَزَّ وجلَّ، فيبذل أَحدهم الشيء رغبة في ثواب الله و رهبة من عقابه و تقرباً إِليه و طلباً لمرضاته؟ أَم يكون البذل و الإِمساك منهم صادراً عن مراد النفس و غلبة الهوى و موجب الطبع فيعطي لهواه و يمنع لهواه؟ فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك، فيكون مصدر تصرفه الهوى و مراد النفس، و غايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أَو رفعة أو منزلة أَو مدح أَو حظ من الحظوظ، أَو الرهبة من فوت شيء من هذه الأَشياء، و إِذا كان مصدر تصرفه و غايته هو هذه الرغبة و الرهبة رأَى نفسه لا محالة مالكاً، فادعى الملك و خرج عن حد العبودية و نسى فقره، و لو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أَنما هو مملوك ممتحن في صورة ملك متصرف كما قال تعالى: {ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]".
طريق الهجرتين للعلامة ابن القيم – رحمه الله – تعالى 11-12.[/b]