خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    أصول الفقه على منهج أهل الحديث

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أصول الفقه على منهج أهل الحديث Empty أصول الفقه على منهج أهل الحديث

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 10.08.10 19:45

    أصول الفقه على
    منهج أهل الحديث

    تصنيف

    زكريا بن غلام قادر الباكستاني





    دار الخراز



    حقوق الطبع محفوظة
    الطبعة الأولى
    1423هـ / 2002م

    دار الخراز
    ص . ب 164 جدة 21411
    هاتف وفاكس 6700484 / 02


    المقدمة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
    ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد
    أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
    أما بعد :
    فقد أخرج البخاري ( 71 ) ومسلم ( 1524 ) من حديث معاوية رضي الله عنه عن
    النبي r قال : (( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من
    خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس )) .
    وفي رواية للترمذي ( 2193 ) من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً : (( لا
    تزال طائفة من أمتي منصورين ، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة )) .
    وقد تتابعت كلمات الأئمة أن هذه الطائفة المنصورة هم أهل الحديث ، قال أبو
    الفتوح الطائي الهمذاني في كتاب الأربعين ( 163 ـ مكتبة المعارف ) : نقل
    عن الجم الغفير والعدد الكثير من علماء الأمة ، وأعيان الأئمة ، مثل عبد
    الله بن المبارك ، وأحمد بن حنبل ، ويزيد بن هارون ، وإبراهيم بن الحسن
    ديزيل الهمذاني أن المراد بالطائفة المذكورة في الحديث : هم أصحاب الحديث
    وأهل الآثار الذين نهجوا الدين القويم وسلكوا الصراط المستقيم ، فتمسكوا
    بالسبيل الأقوم ، والمنهاج الأرشد . انتهى .
    وإذا كان أهل الحديث هم الطائفة المنصورة ، فلا شك أنهم يكونون أفقه الناس
    وأصولهم أصح الأصول ، لأن هذا من مقومات الطائفة المنصورة ، وإنما يعيب أهل
    الحديث بقلة الفقه من لا يعرف الفقه الصحيح أولا يعرف أهل الحديث حق
    المعرفة ، أو ما قرأ تبويبات البخاري في صحيحه ، أو مسائل أحمد بن حنبل ،
    أو الأم للشافعي ، أو شرح السنة للبغوي ، أو مجموع الفتاوى لابن تيمية أو
    غيرها من كتب أهل الحديث .
    وقد ذكرت في هذا الكتاب ثناء الأئمة على فقه أهل الحديث وأصولهم ، وذكرت
    أيضا على ماذا ينبني فقه أهل الحديث ، وذكرت أيضا المسائل الأصولية على
    منهج أهل الحديث .
    وأسأل الله عز وجل أن يحشرنا في زمرة أهل الحديث ، وأن يوفقنا لما يحبه
    ويرضاه ، إنه على كل شيء قدير .
    وكتبه :
    زكريا بن غلام قادر الباكستاني





    ثناء الأئمة على فقه أهل الحديث

    قال الخطيب البغدادي في كتاب شرف أصحاب الحديث ( 8 ) : وقد جعل الله تعالى
    أهله ( أي أهل الحديث ) أركان الشريعة ، وهدم بهم كل بدعة شنيعة ، فهم
    أمناء الله من خليقته ، والواسطة بين النبي r وأمته ، والمجتهدون في حفظ
    ملته ، أنوارهم زاهرة ، وفضائلهم سائرة ، وآياتهم باهرة ، ومذاهبهم ظاهرة ،
    وحججهم قاهرة ، وكل فئة تتخير إلى هوى ترجع إليه ، أو تستحسن رأيا تعكف
    عليه ، سوى أصحاب الحديث ، فإن الكتاب عدتهم ، والسنة حجتهم ، والرسول
    فئتهم ، وإليه نسبتهم ، لا يعرجون على الأهواء ، ولا يلتفتون إلى الآراء
    يقبل منهم ما رووا عن الرسول ، وهم المأمونون عليه ، حفظة الدين وخزنته ،
    وأوعية العلم وحملته ، وإذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع فما حكموا به
    فهو المقبول المسموع ، ومنهم كل عالم فقيه ، وإمام رفيع نبيه ، وزاهد في
    قبيلة ، ومخصوص بفضيلة ، وقارئ متقن ، وخطيب محسن ، وهم الجمهور العظيم
    وسبيلهم السبيل المستقيم ، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر وهو على الإفصاح
    بغير مذاهبم لا يتجاسر ، من كادهم قصمه الله ، ومن عاندهم خذله الله ، لا
    يضرهم من خذلهم ، ولا يفلح من اعتزلهم ، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير ،
    وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير ، وإن الله على نصرهم لقدير .
    وقال أيضا ( ص ـ 10 ) : فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين ،
    وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسكهم بالشرع المتين ، واقتفائهم آثار الصحابة
    والتابعين ، فشأنهم حفظ الآثار ، وقطع المفاوز والقفار ، في اقتباس ما شرع
    المصطفى ، لا يعرجون عنه إلى رأى ولا هوى ، قبلوا شريعته قولاً وفعلاً ،
    وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً ، حتى ثبَّتوا بذلك أصلها ، وكانوا أحق بها
    وأهلها . انتهى .
    وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ( 51 ) : فأما أصحاب الحديث فإنهم
    التمسوا الحق من وجهته ، وتتبعوا مظانه ، وتقربوا من الله تعالى باتباعهم
    سنن رسول الله r وطلبهم لآثاره وأخباره براً وبحراً ، وشرقاً وغرباً ، يرحل
    الواحد منهم راجلاً مقوياً في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى
    يأخذها من الناقل لها مشافهة ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث
    لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها ، وناسخها ومنسوخها ، وعرفوا من خالفها من
    الفقهاء إلى الرأي فنبهوا على ذلك حتى نجم بعد أن كان عافياً ، وبسق بعد أن
    كان دارساً ، واجتمع بعد أن كان متفرقاً ، وانقاد للسنن من كان عنها معرضا
    ، وتنبه عليها من كان عنها غافلا . انتهى .
    وقال ابن حبان في مقدمة صحيحه ( 1/34 ) بعد الثناء على الله عز وجل قال :
    ثم اختار طائفة لصفوته ، وهداهم لزوم طاعته ، من اتباع سبل الأبرار ، في
    لزوم السنن والآثار ، فزين قلوبهم بالإيمان ، وأنطق ألسنتهم بالبيان من كشف
    أعلام دينه ، واتباع سنن نبيه ، بالدؤوب في الرحل والأسفار ، وفراق الأهل
    والأوطار ، في جمع السنن ، ورفض الأهواء ، والتفقه فيها بترك الآراء ،
    فتجرد القوم للحديث وطلبوه ورحلوا فيه وكتبوه ، وسألوا عنه وأحكموه ،
    وذاكروا به ونشروه ، وتفقهوا فيه ، وأصلوه ، وفرعوا عليه وبذلوه ، وبينوا
    المرسل من المتصل ، والموقوف من المنفصل ، والناسخ من المنسوخ ، والمحكم من
    المفسوخ ، والمفسر من المجمل ، والمستعمل من المهمل ، والعموم من الخصوص ،
    والدليل من المنصوص ، والمباح من المزجور ، والغريب من المشهور ، والعرض
    من الإرشاد ، والحتم من الإيعاد ، والعدول عن المجروحين ، والضعفاء من
    المتروكين ، وكيفية المعمول ، والكشف عن المجهول .. ، حتى حفظ الله بهم
    الدين على المسلمين ، فصانه على ثلب القادحين ، وجعلهم عند التنازع أئمة
    الهدى ، وفي النوازل مصابيح الدجى ، فهم ورثة الأنبياء ، ومأنس الأصفياء ،
    وملجأ الأتقياء ، ومركز الأولياء . انتهى .
    وقال السمعاني كما في صون المنطق ( 165 ـ 167 ) : ومما يدل على أن أهل
    الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم ،
    قديمهم وحديثهم ، مع اختلاف بلدانهم ووزانهم ، وتباعد ما بينهم في الديار ،
    وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار وجدتهم في بيان الإعتقاد على وتيرة
    واحدة ونمط واحد ، ويجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ، ولا يميلون فيها ،
    قولهم في ذلك واحد ، وفعلهم واحد .. إلى أن قال : وكان السبب في اتفاق أهل
    الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريقة النقل فأورثهم الإتفاق
    والائتلاف وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء ، فأورثهم
    الإفتراق والإختلاف . انتهى .
    وقال اللكنوي في كتابه إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام ( 228 )
    : ومن نظر بنظر الإنصاف وغاص في بحار الفقه والأصول ، متجنباً عن
    الإعتساف ، يعلم علما يقيناً أن أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف
    العلماء فيها ، فمذهب المحدثين فيها أقوى من مذاهب غيرهم ، وإني كلما أسير
    في شعب الإختلاف أجد قول المحدثين فيه قريبا من الإنصاف فلله دّرُّهُم ،
    كيف لا وهم ورثة النبي حقاً ونُوَّاب شرعه صدقاً . انتهى .
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 34/113 ) : موافقة أحمد
    للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما ، وأصوله بأصولهما أشبه منها
    بأصول غيرهما ، وكان يثني عليهما ويعظمهما ، ويرجح أصول مذهبهما على من
    ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما ، ومذهبه أن أصول فقهاء الحديث أصح من
    أصول غيرهم ، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث في عصرهما .
    انتهى .
    وقال في كتاب علم الحديث ( 44 ) : بعض أئمة أهل الكلام تكلموا في أهل
    الحديث ، وذموهم بقلة الفهم ، وأنهم لا يفهمون معاني الحديث ، ولا يميزون
    بين صحيحه من ضعيفه ، ويفتخرون عليهم بحذقهم ودقة فهمهم ، ولا ريب أن هذا
    موجود في بعضهم ، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول ، وآثار
    مفتعلة ، وحكايات غير صحيحة ، ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون
    معناه ، ولكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية أهل
    الملل ، فكل شرٍّ في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر ، وكل خير يكون في
    غيرهم فهو فيهم أعظم ، وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم . انتهى .
    وقال شيخ الإسلام أيضا كما في مجموع الفتاوى ( 4/91 ) : من المعلوم أن كل
    من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم وهو بذلك أقوم ،
    كان أحق بالإختصاص به ، ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم رسول
    الله r وعلم خاصته مثل : الخلفاء الراشدين وسائر العشرة ، ومثل أبي بن كعب
    ، وعبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وعبد الله بن سلام ، وسلمان
    الفارسي ، وأبي الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وأبي ذر الغفاري ، وعمار بن
    ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، ومثل سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وسالم مولى
    أبي حذيفة ، وغير هؤلاء ممن كان أخص الناس بالرسول ، وأعلمهم بباطن أموره
    وأتبعهم لذلك . انتهى .
    وقال في نقض المنطق ( 42 ) : إنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من
    القول إلى قول ، وجزما بالقول في موضع ، وجزما بنقيضه وتكفير قائله في موضع
    آخر ، وهذا دليل على عدم يقين .. ، وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد
    من علمائهم ، ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده بل هم أعظم الناس
    صبراً على ذلك ، وإن امتحنوا بأنواع المحن وفتنوا بأنواع الفتن ، وهذه حال
    الأنبياء ، وأتباعهم من المتقدمين ، وكسلف هذه الأمة والصحابة والتابعين ،
    وغيرهم من الأئمة ، ومن صبر من أهل الأهواء على قوله ، فذاك لما فيه من
    الحق ، إذ لا بد في كل بدعة عليها طائفة كبيرة من الناس أن يكون فيها من
    الحق الذي جاء به الرسول r ويوافق عليه أهل السنة والحديث ما يوجب قبولها ،
    إذ الباطل المحض لا يقبل بحال ، وبالجملة : فالثبات والإسقرار في أهل
    الحديث والسنة أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة . انتهى .
    وقال أيضا كما في مجموع الفتاوى ( 3/346 ) : إن أحق الناس بأن تكون هي
    الفرقة الناجية : أهل الحديث والسنة ، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا
    رسول الله r وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله ، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها
    وسقيمها ، وأئمتهم فقهاء فيها ، وأهل معرفة بمعانيها ، واتباعا لها تصديقاً
    وعملاً وحباً وموالاةً لمن والاها ، ومعاداة لمن عاداها ، الذين يردون
    المقالات المجملة إلى ما جاء به الكتاب والحكمة ، فلا ينصبون مقالة ،
    ويجعلونها من أصول دينهم ، وجمل كلامهم ، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به
    الرسول ، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي
    يعتقدونه ويعتمدونه . انتهى .




    & # &














    على ماذا يبني أهل الحديث فقههم ؟

    أهل الحديث يبنون فقههم على قواعد مأخوذة من الكتاب والسنة والصحيحة وعلى
    ما كان عليه السلف الصالح ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع
    الفتاوى ( 10/362 ) : بعد أن أثنى على أهل الحديث : فلا ينصبون مقالة ،
    ويجعلونها من أصول دينهم ، وجمل كلامهم ، إن لم تكن تابعة فيما جاء به
    الرسول ، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي
    يعتقدونه ويعتمدونه .
    وقال ابن رجب في كتاب فضل علم السلف : ( 57 ) : ومن ذلك أعنى محدثات العلوم
    ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ، ورد فروع الفقه إليها
    سواء خالفت السنة أم وافقتها ، طرداً لتلك القواعد المتقررة ، وإن كان
    أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلان يخالفهم غيرهم فيها ،
    وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام . انتهى .
    وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 10/362 ) : فمن بنى الكلام في علم
    الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب
    طريق النبوة . انتهى .
    وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 2/368 ) : أما أن نقعد قاعدة ونقول هذا
    هو الأصل ، ثم ترد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة ، فلعمر الله ، لهدم ألف
    قاعدة لم يؤصلها الله ورسوله أفرض علينا من ردَّ حديث واحد . انتهى .





    & # &











    التنبيه على المسائل الدخيلة في أصول الفقه

    أول من صنف في أصول الفقه هو الإمام الشافعي في كتابه الرسالة وهو من أنفع
    الكتب وأحسنها فقد بنى كتابه على الأدلة الشرعية والآثار السلفية ، ثم كثرت
    التصانيف بعد ذلك ، وكانت أكثر الكتب الأصولية أصحابها من الأشاعرة أو من
    المعتزلة فأفسدوا علم أصول الفقه فأدخلوا فيه علم الكلام ، ومسائل لا ثمرة
    من ذكرها ، ومسائل لا تعلق لها بأصول الفقه ، وعقدوا العبارات وجعلوا اللغة
    هي الأصل ، فانصرف الناس عن دراسة أصول الفقه بسبب هذه الأمور والتعقيدات
    التي دخلت في مسائل الأصول ، قال العلامة طاهر الجزائري في كتاب توجيه
    النظر إلى أصول الأثر ( 237 ) : وقد وقع في كتب أصول الفقه مسائل كثيرة
    مبنية على مجرد الفرض وهي ليست داخلة فيه وكثيراً ما أوجب ذلك حيرة المطالع
    النبيه حيث يطلب لها أمثلة فيرجع بعد الجد والإجتهاد ولم يحظ بمثال واحد
    فينبغي الإنتباه لهذا الأمر ولما ذكره بعض العلماء وهو : أن كل مسألة تذكر
    في أصول الفقه ولا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أولا تكون عوناً
    في ذلك فهي غير داخلة في أصول الفقه ، وذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته
    إلى الفقه إلا لكونه مفيداً له ، ومحققاً للإجتهاد فيه فإذا لم يفد ذلك لم
    يكن أصلا له ويخرج على هذا كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون
    وأدخلوها فيه كمسائل ابتداء وضع اللغات ومسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا ؟
    ومسألة أمر المعدوم ؟ وكذلك كل مسألة ينبني عليها فقه إلا أنه لا يحصل من
    الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه مثل مسألة الأمر بواحد مبهم من
    أشياء معينة كما في كفارة اليمين ، فقيل : إن الأمر بذلك يوجب واحداً منها
    لا بعينه وقيل إنه يوجب الكل ويسقط الكل بفعل واحد منها ، وقيل : إنه يوجب
    ما يختاره المكلف فإن فعل الكل فقيل الواجب أعلاها ، وإن تركها فقيل يعاقب
    على أدناه فهذه المسألة وما أشبهها من المسائل التي فرضوها مما لا ثمرة له
    في الفقه غير داخله في أصوله . انتهى .
    وقال الشوكاني في منتهى الأرب في أدب الطلب ( 174 ) : ومن أسباب التعصب
    الحائلة بين من أصيب بها وبين المتمسك بالإنصاف : التباس ما هو من الرأي
    البحت بشيء من العلوم التي هي مواد الاجتهاد . وكثيراً ما يقع ذلك في أصول
    الفقه فإنه قد اختلط فيها المعروف بالمنكر والصحيح بالفاسد والجيد بالرديء ،
    فربما يتكلم أهل هذا العلم على مسائل من مسائل الرأي ويحررونها ويقررونها ،
    وليست منه في شيء ولا تعلق لها به بوجه . فيأتي الطالب لهذا العلم إلى تلك
    المسائل فيعتقد أنها منه فير إليها المسائل الفروعية ، ويرجع إليها عند
    تعارض الأدلة . ويعمل بها في كثير من المباحث ، زاعماً أنها من أصول الفقه .
    ذاهلاً عن كونها من علم الرأي . ولو علم بذلك لم يقع فيه ولا ركن إليه .
    فيكون هذا وأمثاله قد وقعوا في التعصب وفارقوا مسلك الانصاف ، ورجعوا إلى
    علم الرأي وهم لا يشعرون بشيء من ذلك ولا يفطنون به ، بل يعتقدون أنهم
    متشبثون بالحق متمسكون بالدليل واقفون على الانصاف خارجون عن التعصب .
    وقلَّ من يسلم من هذه الدقيقة وينجو من غبار هذه الأعاصير . بل هم أقل من
    القليل . وما أخطر ذلك وأعظم ضرره وأشد تأثيره وأكثر وقوعه وأسرع نفاقه على
    أهل الانصاف وأرباب الاجتهاد .
    فإن قلتَ : إذا كان هذا السبب كما زعمت من الغموض والدقة ووقوع كثير من
    المنصفين فيه وهم لا يشعرون فما أحقه بالبيان وأولاه بالإيضاح وأجدره
    بالكشف حتى يتخلص عنه الواقعون فيه وينجوا منه المتهافتون إليه ؟
    قلتُ : اعلم أن ما كان من أصول الفقه راجعاً إلى لغة العرب رجوعاً ظاهراً
    مكشوفاً كبناء العام على الخاص . وحمل المطلق على المقيد ورد المجمل إلى
    المبيَّن . وما يقتضيه الأمر والنهي ونحو هذه الأمور . فالواجب على المجتهد
    أن يبحث عن مواقع الألفاظ العربية . وموارد كلام أهلها وما كانوا عليه في
    مثل ذلك . فما وافقه فهو الأحق بالقبول والأولى بالرجوع إليه . فإذا اختلف
    أهل الأصول في شيء من هذه المباحث كان الحق بيد من هو أسعد بلغة العرب .
    هذا على فرض عدم وجود دليل شرعي يدل على ذلك . فإن وجد فهو المقدم( ) على
    كل شيء وإذا أردت الزيادة في البيان والكثير من الإيضاح بضرب من التمثيل
    وطرف من التصوير : فاعلم ، أنه قد وقع الخلاف في أنه هل يُبنى العام على
    الخاص مطلقاً أو مشروطاً بشرط أن يكون الخاص متأخراً . ووقع الخلاف في أنه
    هل يُحمل المطلق على المقيّد مع اختلاف السبب أم لا . ووقع الخلاف في معنى
    الأمر الحقيقي هل هو الوجوب أو غيره . ووقع الخلاف في معنى النهي الحقيقي
    هل هو التحريم أو غيره . فإذا أردت الوقوف على الحق في بحث من هذه الأبحاث ،
    فانظر في اللغة العربية واعمل على ما هو موافق لها مطابق لما كان عليه
    أهلها . واجتنب ما خالفها ، فإن وجدت ما يدل على ذلك من أدلة الشرع كما
    ستقف عليه في الأدلة الشرعية من كون الأمر يفيد الوجوب والنهي يفيد التحريم
    فالمسألة أصولية لكونها قاعدة كلية شرعية لكون دليلها شرعياً كما أن ما
    يستفاد من اللغة من القواعد الكلية أصولية لغوية . فهذه المباحث وما
    يشابهها من مسائل النسخ ومسائل المفهوم والمنطوق الراجعة إلى لغة العرب
    المستفادة منها على وجه يكون قاعدة كلية هي مسائل الأصول . والمرجع لها
    الذي يعرف به راجحها من مرجوحها هو العلم الذي هي مستفادة منه مأخوذة من
    موارده ومصادره . وأما مباحث القياس فغالبها من بحث الرأي الذي لا يرجع إلى
    شيء مما تقوم به الحجة ، وبيان ذلك أنهم جعلوا للعلة مسالك عشرة لا تقوم
    الحجة بشيء منها إلا ما كان راجعاً إلى الشرع . كمسلك النص على العلة . أو
    ما كان معلوماً من لغة العرب كالإلحاق بـمسك إلغاء الفارق . وكذلك قياس
    الأولى المسمى عند البعض بفحوى الخطاب . وأما المباحث التي يذكرها أهل
    الأصول في مقاصده كما فعلوه في مقصد الكتاب ومقصد السنة والإجماع . فما كان
    من تلك المباحث الكلية مستفاداً من أدلة الشرع فهو أصولي شرعي , وما كان
    مستفاداً من مباحث اللغة فهو أصولي لغوي . وما كان مستفاداً من غير هذين
    فهو من علم الرأي الذين كررنا عليك التحذير منه . ومن المقاصد المذكورة في
    الكتب الأصولية التي هي من محض الرأي الاستحسان والاستصحاب والتلازم .
    وأما المباحث المتعلقة بالاجتهاد والتقليد وشرع من قبلنا والكلام على أقوال
    الصحابة ، فهي شرعية فما انتهض عليه دليل الشرع منها فهو حق . وما خالفه
    فباطل .
    وأما المباحث المتعلقة بالترجيح ، فإن كان المرجح مستفاداً من الشرع فهو
    شرعي . وإن كان مستفاداً من علم من العلوم المدونة فالاعتبار بذلك العلم
    فإن كان له مدخل في الترجيح كعلم اللغة فإنه مقبول وإن كان لا مدخل له إلا
    لمجرد الدعوى كعلم الرأي فإنه مردود . انتهى .

















    الـدلـيـل
    القاعدة الأولى : الدليل هو الأصل الذي تبنى عليه القاعدة أو المسألة

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 30/269 ) : قد ينص النبي
    r نصاً يوجب قاعدة ويخفى النص على بعض العلماء حتى يوافقوا غيرهم على بعض
    أحكام تلك القاعدة ، وينازعوا فيما لم يبلغهم فيه النص ، مثل اتفاقهم على
    المضاربة ومنازعتهم في المساقاة والمزارعة وهما ثابتان بالنص ، والمضاربة
    ليس فيها نص وإنما فيها عمل الصحابة رضي الله عنه ، ولهذا كان فقهاء الحديث
    يؤصلون أصلاً بالنص ، ويفرعون عليه ، لا يتنازعون في الأصل المنصوص
    ويوافقون فيما لا نص فيه .انتهى.

    القاعدة الثانية : الأحكام الشرعية تؤخذ من الحديث الصحيح ولا يجوز أخذها
    من الحديث الضعيف
    لا يجوز في دين الله عز وجل أن يؤخذ فيه بحكم من الأحكام إلا من الحديث
    الصحيح ، وأما الحديث الضعيف فيطرح ولا يعمل به ، فقد ميَّز الله عز وجل
    هذه الأمة بالإسناد ، فالإسناد من قوام الدين فيجب العمل بالإسناد الصحيح
    ويترك الإسناد الضعيف ، ولا يشرع لأي مسلم أن يأخذ حكما من حديث ما حتى
    ينظر فيه أولاً : هل صح سند ذلك الحديث أم لا ؟ .
    قال عبد الله بن أحمد بن حنبل ( كما في إعلام الموقعين 4/179 ) : سألت أبي
    عن الرجل يكون وعنده الكتب المصنفة فيها قول رسول الله r والصحابة
    والتابعين وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك ولا الإسناد القوي عن
    الضعيف فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير منها فيفتي به ويعمل به ؟ قال : لا
    يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها فيكون يعمل على أمر صحيح ، ويسأل عن ذلك أهل
    العلم . انتهى .
    وقال الإمام مسلم صاحب الصحيح في كتاب التمييز ( 218 ) : اعلم رحمك الله أن
    صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة ،
    لأنهم الحفاظ لروايات الناس العارفين بها دون غيرهم إذ الأصل الذي يعتمدون
    لأديانهم : السنن والآثار المنقولة من عصر إلى عصر من لدن نبينا r إلى
    عصرنا هذا .
    وقال ابن رجب في فضل علم السلف ( 57 ) : فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث
    فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان .
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 1/250 ) : لا يجوز أن
    يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليسـت صحيحة ولا حسنه . انتهى .

    وقال الأنصاري في فتح الباقي في شرح ألفية العراقي : من أراد الاحتجاج
    بحديث من السنن أو المسانيد إن كان متأهلاً لمعرفة ما يحتج به من غيره فلا
    يحتج به حتى ينظر في اتصال إسناده وأصول رواته ، وإلا فإن وجد أحداً من
    الأئمة صححه أو حسنه فله تقليده ، وإلا فلا يحتج به . انتهى .


    القاعدة الثالثة : لا فرق في عدم جواز العمل بالحديث الضعيف بين أن
    يكون في فضائل الأعمال أو في غير فضائل الأعمال
    الأحكام التكليفية لا يشرع القول بها إلا بدليل صحيح ، والاستحباب نوع من
    أنواع الحكم التكليفي ، وعليه فلا يشرع استحباب شيء إلا بدليل صحيح ،
    ففضائل الأعمال يجب إثباتها بالدليل الصحيح لأنها داخلة في الحكم التكليفي
    ألا وهو الاستحباب ، والسلف الصالح ما كانوا يفرقون بين الحديث الوارد في
    فضائل الأعمال والحديث الوارد في بقية أمور الدين ، ويوضح هذا أنهم تكلموا
    في التثبت في الأسانيد والتشديد في الأخذ بها والعمل بالصحيح منها ، وما
    كانوا يستثنون من ذلك الحديث الوارد في فضائل الأعمال ، ولا جاء عن أحد
    منهم في ذلك شيء قط ، فإن قيل قد جاء عن الإمام أحمد وبعض الأئمة أنهم
    قالوا : إذا روينا في الأحكام والحلال والحرام تشدَّدنا ، وإذا روينا في
    الفضائل والثواب والعقاب تساهلنا .
    والجواب : أن المراد بهذا القول هو التساهل في الرواية وليس مشروعية العمل
    بذلك الضعيف في فضائل الأعمال ، قال المعلمي في الأنوار الكاشفة ( 87 ) :
    كان من الأئمة من إذا سمع الحديث لم يروه حتى يتبين له أنه صحيح أو قريب من
    الصحيح ، أو يوشك أن يصح إذا وجد ما يعضده ، فإذا كان دون ذلك لم يروه
    البتة ومنهم إذا وجد الحديث غير شديد الضعف وليس فيه حكم ولا سنة إنما هو
    في فضيلة عمل متفق عليه كالمحافظة على الصلوات ونحو ذلك لم يمتنع من روايته
    فهذا هو المراد بالتساهل في عبارتهم . انتهى .
    وقد ذهب النووي إلى أن الحديث الضعيف في فضائل الأعمال يعمل به بالإجماع .
    وفي القول بالإجماع نظر ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه كما في مجموع الفتاوى (
    1/251 ) : وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي ، وروي في فضله
    حديث لا يعلم أنه كذب ، جاز أن يكون الثواب حقاً ، ولم يقل أحد من الأئمة :
    إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف ، ومن قال هذا فقد
    خالف الإجماع . انتهى .
    قلت : فقول شيخ الإسلام يدل على أن الإجماع على خلاف ما ادعاه النووي .
    والذي يظهر أن الخلاف حدث بعد العصور المتقدمة .
    وقال شيخ الإسلام أيضا كما في مجموع الفتاوى ( 18/65 ) : وكذلك ما عليه
    العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس معناه إثبات
    الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به ، فإن الاستحباب حكم شرعي ، فلا يثبت
    إلا بدليل شرعي ، ومن خبر عن الله أنه يحب عملاً من الأعمال من غير دليل
    شرعي ، فقد شرع في الدين مالم يأذن به الله ، كما لو أثبت الإيجاب أو
    التحريم ، ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره ، بل هو
    أصل في الدين مشروع . انتهى .
    وقال الشوكاني في وبل الغمام ( 1/54 ) : وقد سوغ بعض أهل العلم العمل
    بالضعيف في ذلك مطلقا ، وبعضهم منع من العمل بما لم تقم به الحجة مطلقاً ،
    وهو الحق ، لأن الأحكام الشرعية متساوية الأقدام ، فلا يحل أن ينسب إلى
    الشرع مالم يثبت كونه شرعاً ، لأن ذلك من التقول على الله بمالم يقل ، وكان
    في فضائل الأعمال ، إذ جعل العمل منسوبا إليه نسبة المدلول إلى الدليل ،
    فلا ريب أن العامل به ، وإن كان لم يفعل إلا الخير من صلاة أو صيام أو ذكر ،
    لكنه مبتدع في ذلك الفعل من حيث اعتقاده مشروعيته بما ليس شرع ، وأجر ذلك
    العمل لا يوازي وزر الابتداع ، ولم يكن فعل مالم يثبت مصلحة خالصة ، بل معه
    عرضة بمفسدة هي إثم البدعة ، ودفع المفاسد أهم من جلب المصالح .. ، وقيل :
    إن كان ذلك العمل الفاضل الذي دل عليه الحديث الضعيف داخلاً تحت عموم صحيح
    يدل على فضله ساغ العمل بالحديث الضعيف في ذلك ، وإلا فلا ، مثلاً : لو
    ورد حديث ضعيف يدل على فضيلة صلاة ركعتين في غير وقت كراهة فلا بأس بصلاة
    تلك الركعتين لأنه قد دل الدليل العام على فضلية الصلاة مطلقا إلا ما خص .
    يقال : إن كان العمل بذلك العام الصحيح فلا ثمرة للاعتداد بالخاص الذي لم
    يثبت إلا مجرد الوقوع في البدعة ، وإن كان العمل بالخاص عاد الكلام الأول ؛
    وإن كان العمل بمجموعهما كان فعل الطاعة مشوبا ببدعة ، من حيث إثبات عبادة
    شرعية بدون شرع . انتهى .
    وقال ابن حجر في تبيين العجب ( 22 ) : لا فرق في العمل بالحديث في الأحكام
    أو الفضائل ، إذ الكل شرع . انتهى .
    وللعلامة الألباني رحمه الله تعالى تفصيل طويل رائع في هذه المسألة في
    مقدمة صحيح الترغيب والترغيب فليرجع إليه .

    القاعدة الرابعة : يجب فهم الدليل على ما فهمه السلف الصالح
    السلف الصالح جاءت الأدلة بتزكيتهم واتباع طريقهم ، قال الله تعالى في
    كتابه الكريم : { والسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ
    والأنْصَارِ والذِينَ اتَّبَعُوهم بإحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُم وَرَضُوا
    عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهَارُ خَالِدينَ
    فيهَا أبَدًا ذَلكَ الفوْزُ العَظِيمُ } [ التوبة : 100 ] .
    : وعن ابن مسعود أن النبي r قال : (( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ، ثم
    الذين يلونهم )) . أخرجه البخاري ( 6429 ) ومسلم ( 2535 )
    فهم القدوة وهم الأسوة ، فيجب على كل مسلم اتباعهم فيما ذهبوا إليه من
    فهم أدلة الكتاب والسنة لأنهم أعلم الناس وأفهم الناس بدلالة النصوص
    الشرعية ، فإذا أخذ المسلم بغير فهمهم فإنه يضلُّ عن الصراط المستقيم ،
    لأنهم عن بصيرة وقفوا وبعلم ثاقب نظروا .
    قال ابن أبي زيد القيرواني في الجامع ( 117 ) : التسليم للسنن لا تعارض
    برأي ولا تدفع بقياس ، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه ، وما عملوا به
    عملناه ، وما تركوه تركناه ، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا ، ونتبعهم فيما
    بينوا ، ونقتدي بهم فيما استنبطوا ورأوه من الحديث ، ولا نخرج عن جماعتهم
    فيما اختلفوا فيه أو تأويله ، وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة
    الناس في الفقه والحديث .
    وقال السمعاني كما في صون المنطق ( 158 ) : إنا أمرنا بالإتباع وندبنا إليه
    ، ونهينا عن الإبتداع وزجرنا عنه ، وشعار أهل السنة اتباعهم للسلف الصالح ،
    وتركهم كل ما هو مبتدع محدث . انتهى .
    وقال قوام السنة الأصبهاني في كتابة الحجة في بيان المحجة ( 2/437 ، 440 ) :
    وليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو الإتباع والإستعمال ، يقتدي بالصحابة
    والتابعين ، وإن كان قليل العلم ، ومن خالف الصحابة والتابعين فهو ضال ،
    وإن كان كثير العلم .. إلى أن قال : وذلك أنه تبين للناس أمر دينهم فعلينا
    الإتباع ، لأن الدين إنما جاء ، من قبل الله تعالى لم يوضع على عقول الرجال
    وآرائهم فقد بين الرسول r السنة لأمته ، وأوضحها لأصحابه ، فمن خالف أصحاب
    رسول الله r في شيء من الدين فقد ضل . انتهى .
    وقال ابن رجب في كتاب فضل علم السلف على علم الخلف ( 72 ) : فالعلم النافع
    من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها ، والتقيد في ذلك
    بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعهيم في معاني القرآن والحديث ، وفيما
    ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام ، والزهد والرقائق والمعارف
    وغير ذلك . انتهى .
    وقال شيخ الإسلام في كتاب الإيمان ( 114 ) : وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل
    ( يعني الإيمان ) عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم
    بإحسان ، واعتمدوا على رأيهم وعلى ما تأولوه بفهمهم اللغة ، وهذه طريقة أهل
    البدع ، ولهذا كان الإمام أحمد يقول : أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل
    والقياس ، ولهذا نجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع
    يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم ، وما تأولوه من اللغة ، ولهذا تجدهم لا
    يعتمدون على أحاديث النبي r والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ، فلا
    يعتمدون على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم ، إنما يعتمدون على العقل
    واللغة ، ونجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثور ، والحديث وآثار السلف
    .
    وقال كما في مجموع الفتاوى ( 10/362 ) : فالعلم المشروع والنسك المشروع
    مأخوذ عن أصحاب رسول الله r وأما ما جاء عمن بعدهم فلا ينبغي أن يجعل أصلاً
    ، وإن كان صاحبه معذوراً ، بل مأجوراً لاجتهاد أو تقليد ، فمن بنى الكلام
    في علم الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة السابقين فقد
    أصاب طريق النبوة وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق
    بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان
    والسنة والهدى الذي كان عليه محمد r وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة ، وهذه
    طريق أئمة الهدى ، تجد الإمام أحمد إذا ذكر أصول السنة قال : هي التمسك بما
    كان عليه أصحاب رسول الله r ، وكتب التفسير المأثور عن النبي r والصحابة
    والتابعين ، وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه .. ، وكذلك في الزهد
    والرقائق والأحوال فإنه اعتمد في كتاب الزهد على المأثور على الأنبياء
    صلوات الله عليهم من آدم إلى محمد ثم على طريق الصحابة والتابعين ولم يذكر
    من بعدهم . انتهى .

    القاعدة الخامسة : يجب الأخذ بظاهر الدليل وعدم تأويله
    أهل الحديث وسط بين الذين بالغوا في الأخذ بالظاهر ولم يلتفتوا إلى معاني
    الأدلة وبين الذين فرطوا في الأخذ بالظاهر ، فردوا ظاهر الدليل بأدنى شيء
    أو أولوا الحديث حتى يوفقوا بين الحديث وبين قول إمامهم ، فأهل الحديث
    يمشون على ظاهر الدليل .
    ولا يأولونه ويخرجونه عن ظاهره إلا بدليل يدل على صحة ذلك التأويل ، ولهذا
    كان السلف يقولون : أمروها كما جاءت .
    وهذا وإن كان ورد في باب الأسماء والصفات ، لكن مما لا شك فيه أن جميع
    الأحكام الشرعية على منوال واحد وطريقة سوية ، ولذلك ما كان السلف يؤولون
    الأحاديث الواردة في الأحكام ، بل كانوا يجرونها على ظاهرها .
    فمثلاً : قد ثبت عن النبي r أنه قال لـمَّا سئل عن الوضوء من لحوم الإبل : (
    توضئوا منها ) .
    أخرجه مسلم ( 360 ) وأبو داود ( 184 ) والترمذي ( 81 ) .
    فالوضوء يطلق على غسل اليدين فقط ويطلق أيضا على الوضوء المعروف في الشرع ،
    وظاهر الحديث أن المراد هو الوضوء المعروف في الشرع ، وقد مشى الصحابة على
    هذا الظاهر فقد كانوا يتوضؤون من لحوم الإبل الوضوء الشرعي المعروف ولم
    يكونوا يأولونه بغسل اليدين فقط .
    قال الخطيب في الفقه والمتفقه ( 1/222 ) : ويجب أن يحمل حديث رسول الله r
    على عمومه وظاهره إلا أن يقوم الدليل على أن المراد به غير ذلك فيعدل إلى
    ما دل الدليل عليه ، قال الشافعي : ولو جاز في الحديث أن يحال شيء منه عن
    ظاهره إلى معنى باطن يحتمله كان أكثر الحديث يحتمل عدداً من المعاني فلا
    يكون لأحد ذهب إلى معنى منها حجة على أحد ذهب إلى معنى غيره ، ولكن الحق
    فيها واحد إنما هو على ظاهرها وعمومها إلا بدلالة عن رسول الله r . انتهى .
    وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 3/108 ) : الواجب حمل كلام الله تعالى
    ورسوله ، وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره ، وهو الذي يقصد من
    اللفظ عند التخاطب ، ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك . انتهى .
    وقال الشنقيطي في أضواء البيان ( 7/438 ) : التحقيق الذي لا شك فيه ، وهو
    الذي عليه أصحاب رسول الله r ، وعامة المسلمين : أنه لا يجوز العدول عن
    ظاهر كتاب الله وسنة رسوله r في حال من الأحوال بوجه من الوجوه حتى يقوم
    دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح . انتهى .
    وقال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 263 ) : واعلم أن الظاهر دليل شرعي يجب
    اتباعه والعمل به بدليل إجماع الصحابة على العمل بظواهر الألفاظ . انتهى .
    وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 4/148 ) : ينبغي للمفتي أن يفتي
    بلفظ النص مهما أمكنه ، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام ، فهو
    حكم مضمون له الصواب ، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان ، وقول الفقيه
    المعين ليس كذلك ، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على
    مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن
    النصوص واشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص ، فأوجب ذلك هجر النصوص ،
    ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي النصوص من الحكم والدليل وحسن
    البيان ، فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق
    الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله ، فألفاظ النصوص
    عصمة وحجة ، بريئة من الخطأ والتناقض ، والتعقيد والاضطراب ، ولما كانت هي
    عصمة عهدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من
    بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم ثم التابعون بالنسبة
    إلى من بعدهم كـذلك وهَلـُمَّ جرَّا .. ، وقد كان أصحاب رسول الله r إذا
    سئلوا عن مسألة يقولون قال الله كذا ، قال رسول الله كذا ، ولا يعدلون عن
    ذلك و ما وجدوا إليه سبيلاً قط فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور .
    انتهى .
    وقال الشوكاني في منتهى الأرب في أدب الطلب ( 235 ) : ومن جملة ما ينبغي له
    تصوره ويعنيه استحضاره أن يعلم أن هذه الشريعة المباركة هي ما اشتمل عليه
    الكتاب والسنة من الأوامر والنواهي والترغيبات والتنفيرات وسائر ما له مدخل
    في التكليف ، من غير قصد إلى التعمية والإلغاز ولا إرادة لغير ما يفيده
    الظاهر ، ويدل عليه التركيب ويفهمه أهل اللسان العربي . فمن زعم أن حرفاً
    من حروف الكتاب والسنة لا يراد به المعنى الحقيقي والمدلول الواضح فقد زعم
    على الله ورسوله زعماً يخالف اللفظ الذي جاءنا عنهما ، فإن كان ذلك لمسوّغ
    شرعي تتوقف عليه الصحة الشرعية أو العقلية التي يتفق العقلاء عليها ، لا
    مجرد ما يدعيه أهل المذاهب والنحل على العقل ، مطابقاً لما قد حببه إليهم
    التعصب ، وأدناه من عقولهم البُعد عن الإنصاف فلا بأس بذلك ، وإلاّ فدعوى
    التجوز مردودة مضروب بها في وجه صاحبها ، فاحرص على هذا فإنه وإن وقع
    الاتفاق على أصالة المعنى الحقيقي وعدم جواز الانتقال عنه إلا لعلاقة
    وقرينة كما صُرح به في الأصول وغيرها ، فالعمل في كتب التفسير والحديث
    والفقه يخالف هذا لمن تدبره وأعمل فكره . ولم يغتر بالظواهر ولا جمد
    على قبول ما يُقال من دون بحث عن موارده ومصادره . وكثيراً ما تجد
    المتعصبين يحامون عن مذاهبهم ويؤثرونها على نصوص الكتاب والسنة . فإذا
    جاءهم نص لا يجدون عنه متحولاً وأعياهم رده وأعجزهم دفعه . ادعوا أنه مجاز
    وذكروا للتجوز علاقة هي من البعد بمكان ، وقرينة ليس لها في ذلك المقام
    وجود ولا تدعو إليها حاجة . وأعانهم على هذه الترهات استكثارهم من تعداد
    أنواع القرائن والعلاقات ، حتى جعلوا من جملة ما هو من العلاقات المسوّغة
    للتجوز التضاد ، فانظر هذا التلاعب ، وتدبر هذه الأبواب التي فتحوها على
    أدلة الكتاب والسنة . وقَبِلَها عنهم من لم يمعن النظر ويطيل التدبر فجعلها
    علماً وقبلها على كتاب الله وسنة رسوله . وأصلها دعوى افتراها على أهل
    اللغة متعصب قد آثر مذهبه على الكتاب والسنة ، ولم يستطع التصريح بترجيح
    المذهب على الدليل ، فدقّقَ الفكر وأعمق النظر فقال : هذا الدليل وإن كان
    معناه الحقيقي يخالف ما نذهب إليه فهو ههنا مجاز والعلاقة كذا والقرينة كذا
    ، ولا علاقة ولا قرينة . فيأتي بعد عصر هذا المتعصب من لا يبحث عن المقاصد
    ولا يتدبر المسالك كما ينبغي فيجعل تلك العلاقة التي افتراها ذلك المتعصب
    من جملة العلائق المسوغة للتجوز . ولهذا صارت العلاقات قريباً من ثلاثين
    علاقة . ثم لما كان من جملة أنواع القرائن ، القرائن العرفية والعقلية
    افترى كل متعصب على العقل والعرف ما شاء وصنع في مواطن الخلاف ما أراد
    والله المستعان . انتهى .

    القاعدة السادسة : لا يصرف الدليل عن ظاهره بقول جمهور العلماء
    قول الجمهور ليس بحجة ، لأن الله عز وجل لم يتعبدنا بقول الجمهور ، فلا
    يصرف الحديث عن ظاهره لأن الجمهور صرفوه عن ظاهره ، فمثلا : لا يصرف ظاهر
    الأمر من الوجوب إلى الاستحباب لقول الجمهور ، ولا يصرف النهي من التحريم
    إلى الكراهة لقول الجمهور ، ولا يصرف العام إلى الخاص لقول الجمهور ، وذلك
    لأن قول الجمهور ليس بحجة ، وظاهر الحديث حجة ، فلا يترك ما هو حجة لأجل ما
    ليس بحجة ، قال العلامة صديق حسن كما في قواعد التحديث ( 91 ) : اعلم أنه
    لا يضر الخبر الصحيح عمل أكثر الأمة بخلافه ، لأن قول الأكثر ليس بحجة .
    انتهى .

    القاعدة السابعة : لا يسقط الاستدلال بالدليل بمجرد تطرق الاحتمال إليه
    الدليل لا يسقط بمجرد تطرق الاحتمال إليه ، وقول العلماء : الدليل إذا تطرق
    إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ، مرادهم بذلك الاحتمال القوي الذي احتفت
    به القرائن واعتضد بالاعتبارات لا بأي احتمال ، لأنه ما من دليل إلا ويتطرق
    إليه الاحتمال ، ولو فتح باب الاحتمال لم يبق شيء من الأدلة إلا وسقط
    الاستدلال به بدعوى تطرق الاحتمال إليه ، ثم إن المراد بسقوط الاستدلال به ،
    أي على تعيين ذلك الوجه المراد الاستدلال به من الدليل ، لا أن الاستدلال
    بالدليل يسقط جملة وتفصيلا .
    أخرج البخاري ( الفتح 1/413 ) ومسلم ( 1/145 ) عن عائشة قالت : (( كنت أنام
    بين يدي رسول الله r ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا
    قام بسطتها )) .
    فهذا الحديث يدل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء ، واعترض عليه باحتمال
    الخصوصية أو أن المس كان بحائل .
    وقد تعقب هذا الكلام العلامة أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي ( 1/142 )
    فقال : ومن البين الواضح أن هذا التعقيب لا قيمة له ، بل هو باطل ، لأن
    الخصوصية لا تثبت إلا بدليل صريح ، واحتمال الحائل لا يفكر فيه إلا متعصب !
    انتهى .

    القاعدة الثامنة : لا فرق بين الدليل المتواتر والآحاد في
    جميع القواعد والأحكام
    الحديث الآحاد كالتواتر في جميع القواعد والأحكام الشرعية فكما أن المتواتر
    ينسخ المتواتر فكذلك الآحاد ينسخ المتواتر وكما أن المتواتر يخصص العام ،
    فكذلك الآحاد يخصص العام ، وكما أن المتواتر مقدم على القياس ، فكذلك
    الآحاد مقدم على القياس ، وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح فإنهم كانوا لا
    يفرقون في شيء من القواعد والأحكام بين المتواتر والآحاد ، بل التفريق بين
    المتواتر والآحاد بدعة حدثت بعدهم ، فقد أخذ الصحابة بقول الواحد في النسخ
    وذلك لما كانوا في الصلاة تجاه بيت المقدس وأخبرهم شخص واحد بأن القبلة
    تحولت إلى الكعبة فتحولوا وهم في الصلاة .
    قال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 236 ) بعد أن ذكر أن الآحاد يخصص عموم
    المتواتر : واحتج ابن المسمعاني على الجواز بإجماع الصحابة فإنهم خصوا قوله
    تعالى : { يُوصَيكُمُ الله فِي أوْلادِكُمْ }[ النساء : 11 ] بقوله r : ((
    إنا معشر الأنبياء لا نورث )) وخصوا قوله (( فاقْتُلُوا المشْرِكِينَ ))
    بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس وغير ذلك كثير ، وأيضا يدل على جواز
    التخصيص دلالة بينة واضحة ما وقع من أوامر الله عز وجل باتباع نبيه r من
    غير تقييد فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجبا وإذا عارضه عموم قرآني كان
    سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتما ودلالة العام على أفراده
    ظنية لا قطعية فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية ، وقد استدل
    المانعون مطلقا بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس حيث لم
    يجعل لها سكنى ولا نفقة كما في حديثها الصحيح ، فقال عمر : " كيف نترك كتاب
    ربنا لقول امرأة ؟ " يعني قوله :{ أسْكِنُوهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] وأجيب
    عن ذلك بأنه إنما قال هذه المقالة لتردده في صحة الحديث لا لرده تخصيص عموم
    الكتاب بالسنة الآحادية فإنه لم يقل كيف نخصص عموم كتاب ربنا بخبر آحادي
    بل قال : كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة ؟ ويؤيد ذلك ما في صحيح مسلم وغيره
    بلفظ قال عمر : لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لعلها حفظت أو
    نسيت فأفاد هذا أن عمر إنما تردد في كونها حفظت أو نسيت ولو علم بأنها حفظت
    ذلك وأدته كما سمعته لم يتردد في العمل بما روته . انتهى .
    وبيَّن الشنقيطي في كتابه مذكرة في أصول الفقه ( 86 ) خطأ من قال إن الآحاد
    لا ينسخ المتواتر .

    القاعدة التاسعة : يجب العمل بالدليل وإن لم يعرف أن أحداً
    عمل به
    الحديث حجة بنفسه لا يحتاج إلى الاحتجاج به أن يكون أحد من الأئمة عمل به ،
    قال الشافعي في الرسالة ( 422 ) : أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن
    سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة ، وفي
    التي تليها بعشر ، وفي الوسطى بعشر ، وفي التي تلي الخنصر بتسع ، وفي
    الخنصر بست قال الشافعي : لما كان معروفا ـ والله أعلم ـ عندنا أن النبي r
    قضى في اليد بخمس ، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع نزلها
    منازلها فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف ، فلما وجدنا كتاب
    آل عمرو بن حزم فيه أن رسول الله r قال : (( وفي كل إصبع مما هنالك عشر من
    الإيل )) صاروا إليه ، وفي الحديث دلالتان :
    أحدهما : قبول الخبر .
    والآخر : أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه ، وإن لم يمض عمل من الأئمة
    بمثل الخبر الذي قبلوا .
    ودلالة على أنه لو مضى عمل من أحد من الأئمة ثم وجد خبراً عن النبي r يخالف
    عمله لترك عمله لخبر رسول الله r ، ودلالة على أن حديث رسول الله r يثبت
    بنفسه لا بعمل غيره .
    وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 4/204 ) : إذا كان عند الرجل الصحيحان
    أو أحدهما أو كتاب من سنن رسول الله r موثوق بما فيه فهل له أن يفتي بما
    يجده ؟، فقالت طائفة من المتأخرين : ليس له ذلك لأنه قد يكون منسوخاً أو له
    معارض أو يفهم من دلالته خلاف ما دل عليه فلا يجوز له العمل ولا الفتيا به
    حتى يسأل أهل الفقه والفتيا . وقال طائفة بل له أن يعمل به ويفتي به بل
    يتعين عليه كما كان الصحابة يفعلون إذا بلغهم الحديث عن رسول الله r وحدث
    به بعضهم بعضاً بادروا إلى العمل به من غير توقف ولا بحث عن معارض ولا يقول
    أحد منهم قط : هل عمل بهذا فلان وفلان ، ولو رأوا من يقول ذلك لأنكروا
    عليه أشد الإنكار وكذلك التابعون وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة
    بحال القول وسيرتهم وطول العهد بالنسبة ، وبعد الزمان وعتقها لا يسوغ ترك
    الأخذ بها والعمل بغيرها ولو كانت سنن رسول الله r لا يسوغ العمل بها بعد
    صحتها حتى يعمل بها فلان أو فلان لكان قول فلان أو فلان عياراً على السنن ،
    ومزكيا لها ، وشرطاً في العمل بها ، وهذا من أبطل الباطل وقد أقام الله
    الحجة برسوله دون آحاد الأمة وقد أمر النبي r بتبليغ سنته ودعا لمن بلَّغها
    ، فلو كان من بلغته لا يعمل بها حتى يعمل بها الإمام فلان والإمام فلان لم
    يكن في تبليغها فائدة وحصل الاكتفاء بقول فلان وفلان .
    وقال أيضا في إعلام الموقعين ( 4/212 ) : فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم
    ثبت عن النبي r أنه قال كذا وكذا ، يقول من قال بهذا ؟ ويجعل هذا دفعاً في
    صدر الحديث أو يجعل جهله بالقائل حجة له في مخالفته وترك العمل به ، ولو
    نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل وأنه لا يحل دفع سنن رسول الله
    r بمثل هذا الجهل ، وأقبح من ذلك عذره في جهله إذ يعتقد أن الإجماع
    منعقد على مخالفة تلك السنة ، هذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم إلى
    اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله r ، وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا
    الإجماع وهو جهله ودعم عمله بمن قال بالحديث ، فعاد الأمر إلى تقديم جهله
    على السنة والله المستعان . ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام البتة قال : لا
    نعمل بحديث رسول الله r حتى نعرف من عمل به .
    وقال في كتاب الروح ( 264 ) : فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله
    ورسوله ، بل اذهب إلى النص ، ولا تضع
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أصول الفقه على منهج أهل الحديث Empty رد: أصول الفقه على منهج أهل الحديث

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 10.08.10 19:48

    الإجـمـــــاع

    القاعدة الأولى : الإجماع حجة من الحجج الشرعية
    الإجماع : هو اتفاق مجتهدي أمة محمد r بعد وفاته في عصر من الأعصار على أمر
    من الأمور .
    وهو حجة بدليل الكتاب والسنة ، أما دليل الكتاب فهو قوله تعالى :
    { ومَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى
    ويَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيِلِ المؤمِنِينَ نُوَلِّهِ ماتَوَلَّى وَنصْلِهِ
    جَهنَّمَ وسَاءتْ مَصِيرًا } ( النساء : 115 ) .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 19/193 ) : .. كلاًّ من
    الوصفين يقتضي الوعيد لأنه مستلزم للآخر ، كما يقال مثل ذلك في معصية الله
    والرسول ، ومخالفة الإسلام والقرآن فيقال : من خالف القرآن والإسلام أو من
    خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار .. ، فهكذا مشاقة الرسول واتباع
    غير سبيل المؤمنين ، ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر ، ومن اتبع
    غير سبيلهم فقد شاقه أيضا ، فإنه قد جعل له مدخلاً في الوعيد ، فدل على أنه
    وصف مؤثر في الذم ، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعاً ،
    والآية توجب ذم ذلك ، وإذا قيل : هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول ؟ قلنا :
    لأنهما متلازمان ، وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصاً عن
    الرسول فالمخالف لهم مخالف للرسول ، كما أن المخالف للرسول مخالف لله ،
    ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول ، وهذا هو الصواب .
    انتهى .
    والدليل من السنة قوله r : (( إن أمتي لا تجتمع على ضلالة )) .
    وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود ( 4253 ) والترمذي ( 2167 ) وابن ماجة ( 3590
    ) .
    قال الشافعي في الرسالة ( 475 ) : ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد
    لزم جماعتهم ، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي
    أمر بلزومها ، وإنما تكون الغفلة في الفرقة ، فأما الجماعة فلا يمكن فيها
    كافة غفلة عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس ، إن شاء الله . انتهى .

    القاعدة الثانية : الإجماع لا بد أن يكون له مستند من الكتاب
    أو السنة
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 19/195 ) : فلا يوجد قط مسألة مجمع
    عليها إلا وفيها بيان من الرسول ، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم
    الإجماع فيستدل به ، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص ، وهو دليل
    ثان مع النص ، كالأمثال المضروبة في القرآن وكذلك الإجماع دليل آخر كما
    يقال : قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع ، وكل من هذه الأصول يدل على
    الحق مع تلازمها ، فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة ، وما
    دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه ، ولا
    يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص .. ثم قال : وعلى هذا فالمسائل
    المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصاً فقالوا فيها
    باجتهاد الرأي الموافق للنص ، لكن كان النص عند غيرهم ، وابن جرير وطائفة
    يقولون : لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول ، مع قولهم بصحة
    القياس ، ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل
    الأخبار ، لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة ، وكثير من
    العلماء لم يعلم النص ، وقد وافق الجماعة ، وكما أنه قد يحتج بقياس وفيها
    إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع . انتهى .

    القاعدة الثالثة : الإجماع لا يقدم على الكتاب أو السنة
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 19/200 ) : ومن قال من المتأخرين :
    إن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله فإنه لنقص معرفته بالكتاب
    والسنة احتاج إلى ذلك ، وهذا كقولهم : إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى
    القياس لعدم دلالة النصوص عليها فإنما هذا قول من لا معرفة له بالكتاب
    والسنة ودلالتها على الأحكام .. ، والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ( أي
    الصحابة ) ولا يحتاجون إليه ، إذ هم أهل الإجماع فلا إجماع قبلهم ، لكن لما
    جاء التابعون كتب عمر إلى شريح " اقض بما في كتاب الله ، فإن لم تجد
    فبما في سنة رسول الله ، فإن لم تجد فبما قضى به الصالحون قبلك ، وفي رواية
    : فبما أجمع عليه الناس " . وعمر قدم الكتاب ثم السنة ، وكذلك ابن مسعود
    قال مثل ما قال عمر : قدم الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ، وكذلك ابن عباس كان
    يفتي بما في الكتاب ثم بما في السنة ثم بسنة أبي بكر وعمر ، وهذه الآثار
    ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء
    وهو الصواب ، ولكن طائفة من المتأخرين قالوا : يبدأ المجتهد بأن ينظر أولاً
    في الإجماع فإن وجده لم يلتفت إلى غيره ، وإن وجد نصا خالفه اعتقد أنه
    منسوخ بنص لم يبلغه ، وقال بعضهم الإجماع نسخه ! والصواب طريقة السلف .
    انتهى .

    القاعدة الرابعة : الإجماع لا ينسخ النص
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 33/94 ) : وقد نقل عن طائفة :
    كعيسى بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة
    ومالك : أن الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنة ، وكنا نتأول كلام هؤلاء
    على أن مرادهم الإجماع يدل على نص ناسخ ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون
    الإجماع نفسه ناسخاً ، فإن كانوا أرادوا ذلك فهذا قول يجوِّز تبديل
    المسلمين دينهم بعد نبيهم كما تقول النصارى من أن المسيح سوغ لعلمائهم . أن
    يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة ، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة ، وليس هذا
    دين المسلمين ، ولو كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم ومن اعتقد في الصحابة
    أنهم كانوا يستحلون ذلك فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله . انتهى .
    وقال أيضا في ( 19/201 ) : وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون
    مع الإجماع نص معروف به أن ذلك منسوخ ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته
    الأمة وحفظت النص المنسوخ فهذا لا يوجد قط وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت
    عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه وهي معصومة عن ذلك . انتهى .

    القاعدة الخامسة : الإجماع الذي يغلب على الظن وقوعه هو الإجماع على ما
    هو معلوم من الدين بالضرورة
    قال الشافعي في الرسالة ( 534 ) : لست أقول ولا أحد من أهل العلم ( هذا
    مجتمع عليه ) إلا لما لا تلقى عالماً أبداً إلا قاله لك وحكاه عن من قاله
    كالظهر أربع ، وكتحريم الخمر وما أشبه هذا .
    قال الشيخ أحمد شاكر معلقا على كلام الشافعي : يعني أن الإجماع لا يكون
    إجماعاً إلا في الأمر المعلوم من الدين بالضرورة كما أوضحنا ذلك وأقمنا
    الحجة عليه مراراً في كثير من حواشينا على الكتب المختلفة . انتهى .
    وقال الشافعي أيضا لمن سأله عن وجود الإجماع ( كما في جماع العلم 7/257 ) :
    نعم بحمد الله ، كثير في جملة من الفرائض التي لا يسع أحداً جهلها فذلك
    الإجماع هو الذي لو قلت فيه أجمع الناس لم تجد حولك أحداً يقول لك ليس هذا
    بإجماع فهذه الطريق التي يصدق بها من ادعى الإجماع فيها ، وفي أشياء من
    أصول العلم دون فروعه .
    وقال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 111 ) ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم
    عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب والعكس فضلا عن العلم بكل واحد منهم على
    التفصيل وبكيفية مذهبه وبما يقوله في تلك المسألة بعينها وأيضا قد يحمل
    بعض من يعتبر في الإجماع على الموافقة وعدم الظهور بالخلاف التقية والخوف
    على نفسه .. ثم قال : ومن ادعى أنه يتمكن الناقل للإجماع من معرفة كل من
    يعتبر فيه من علماء الدنيا فقد أسرف في الدعوى وجازف في القول ورحم الله
    الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال : من ادعى الإجماع فهو كاذب . انتهى .

    القاعدة السادسة : إجماع الصحابة ممكن وقوعه وأما إجماع من بعدهم فمتعذر
    غالباً
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 11/341 ) : الإجماع متفق عليه بين
    عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة ،
    وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة ، لكن المعلوم منه هو ما كان
    عليه الصحابة ، وأما بعد ذلك فتعذر العلم به غالباً ، ولهذا اختلف أهل
    العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة واختلف في مسائل منه
    كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة والإجماع الذي لم ينقرض عصر أهله حتى
    خالفهم بعضهم ، والإجماع السكوتي وغير ذلك . انتهى .

    القاعدة السابعة : إذا اختلف عالمان في الإجماع على مسألة ما فإنه يقدم
    قول من نقل الخلاف في تلك المسألة لأنه مثبت
    قال شيخ الإسلام كما في المجموع ( 19/271 ) : وإذا نقل عالم الإجماع ونقل
    آخر النزاع : إما نقلا سمى قائله وإما نقلا بخلاف مطلقاً ولم يسم قائله ،
    فليس لقائل أن يقول : نقل لخلاف لم يثبت ، فإنه مقابل بأن يقال : ولا يثبت
    نقل الإجماع ، بل ناقل الإجماع ناف للخلاف ، وهذا مثبت ، والمثبت مقدم على
    النافي ، وإذا قيل : يجوز في ناقل النزاع أن يكون قد غلط فيما أثبته من
    الخلاف : إما لضعف الإسناد ، أو لعدم الدلالة ، قيل له : ونافي النزاع غلطه
    أجوز فإنه قد يكون في المسألة أقوال لم تبلغه ، أو بلغته وظن ضعف إسنادها
    وكانت صحيحة عند غيره ، أو ظن عدم الدلالة وكانت دالة ، فكل ما يجوز على
    المثبت من الغلط يجوز على النافي مع زيادة عدم العلم بالخلاف . انتهى .

    القاعدة الثامنة : عدم العلم بالمخالف لا يصح به دعوى الإجماع
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 19/271 ) : فإن عدم العلم ليس علما
    بالعدم لاسيما في أقوال علماء أمة محمد r التي لا يحصيها إلا رب العالمين ،
    ولهذا قال أحمد وغيره من العلماء : من ادعى الإجماع فقد كذب ، وهذه دعوى
    المريسي والأصم ، ولكن يقول : لا أعلم نزاعاً ، والذين كانوا يذكرون
    الإجماع كالشافعي وأبي ثور وغيرهما يفسرون مرادهم : بأنا لا نعلم نزاعاً ،
    ويقولون هذا هو الإجماع الذي ندعيه .
    وقال شيخ الإسلام أيضا ( 20/10 ) : وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من
    الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن الإجماع ، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة ،
    ولكن كثير من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعاً ولا يكون الأمر كلك .
    انتهى .

    القاعدة التاسعة : إجماع أهل المدينة لا يعتبر حجة
    قال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 124 ) : إجماع أهل المدينة على انفرادهم
    ليس بحجة عند الجمهور لأنهم بعض الأمة ، وقال مالك : إذا أجمعوا لم يعتد
    بخلاف غيرهم .. وقال الباجي : إنما أراد ذلك بحجية إجماع أهل المدينة فيما
    كان طريقه النقل المستفيض كالصاع والمد والأذان والإقامة وعدم وجوب الزكاة
    في الخضروات مما تقتضي العادة بأن يكون في زمن النبي r فإنه لو تغير عما
    كان عليه لعلم فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء . انتهى .
    وقد قسم شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع أهل المدينة إلى أربعة أقسام فقال كما
    في مجموع الفتاوى ( 20/303 ) : والتحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة أن
    منه ما هو متفق عليه المسلمون ، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين ، ومنه
    ما لا يقول به إلا بعضهم ، وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب : ـ
    الأولى : ما يجري مجرى النقل عن النبي r مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد
    وكترك صدقة الخضروات والأحباس ، فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء .
    الثانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان فهذا حجة في مذهب
    مالك وهو المنصوص عن الشافعي ، قال في رواية يونس بن عبد الأعلى : إذا رأيت
    قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريبا أنه الحق ، وكذا ظاهر
    مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها .. ، وما يعلم
    لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة رسول الله r .
    والمرتبة الثالثة : إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين جهل أيهما
    أرجح ، وأحدهما يعمل به أهل المدينة ففيه نزاع ، فمذهب مالك والشافعي أنه
    يرجح بعمل أهل المدينة ، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة ،
    ولأصحاب أحمد وجهان : أحدهما : أنه لا يرجح ، والثاني : أنه يرجح به ،
    قيل هذا هو المنصوص عن أحمد ومن كلامه قال : إذا رأى أهل المدينة حديثاً
    وعملوا به فهو الغاية .. فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في
    الترجيح لأقوال أهل المدينة .
    وأما المرتبة الرابعة : فهي العمل المتأخر بالمدينة ، فهذا هل هو حجة شرعية
    يجب اتباعه أم لا ؟ فالذي عليه أئمة المسلمين أنه ليس بحجة شرعية ، هذا
    مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم ، وهو قول المحققين من أصحاب مالك ..
    ، ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل
    المجمع عندهم ، فهو يحكي مذهبهم ، وتارة يقول : الذي لم يزل عليه أهل
    العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم وتارة لا يذكر ، ولو كان مالك يعتقد
    أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص لوجب
    عليه أن يلزم الناس بذلك الإمكان كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث
    والسنة الثابتة . انتهى .

    القاعدة العاشرة : قول جمهور العلماء في مسألة من المسائل
    لا يعتبر حجة
    الحجة إنما هو في الكتاب والسنة والإجماع ، وقول الجمهور ليس بإجماع فلا
    يعتبر حجة على القول الآخر ، ولو كان القائل بالقول الآخر أفراد من العلماء
    ، وإنما يؤخذ بالقول الذي معه الحجة ، وتؤيده القواعد الشرعية ، ولا عبرة
    بالكثرة في مقابل الحجة ، والسلف الصالح ما كانوا يقدمون قول الأكثر على
    الأقل ، وإنما كانوا يأخذون بالقول الذي معه الحجة .
    عن أبي هريرة أنه قال : " إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق
    بالأسواق ، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم ، وإن أبا
    هريرة كان يلزم رسول الله r يشبع بطنه ، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ مالا
    يحفظون " . أخرجه البخاري ( 118 ) .
    قال ابن حزم في الإحكام ( 1/599 ) : ففي هذا أن الواحد قد يكون عنده من
    السنن ما ليس عند الجماعة ، وإذا كان عنده من السنة ما ليس عند غيره فهو
    المصيب في فتياه بهذا دون غيره .. وبينا قبل وبعد أن العرض إنما هو اتباع
    القرآن وما حكم به رسول الله r فإنه لا معنى لقول أحد دون ذلك ، كثر
    القائلون به أو قلُّوا ، وهذا باب ينبغي أن يتقى فقد عظم الضلال به ، ونعوذ
    بالله العظيم من البلادة . انتهى .


    & # &













    الـقــــيـاس

    القاعدة الأولى : القياس حجة من الحجج الشرعية
    القياس حجة من الحجج الشرعية دلَّ على حجيته :
    إقرار النبي r له وإجماع الصحابة عليه ، أما دليل الإقرار فهو حديث عبد
    الله بن الصامت عن أبي ذر قال : قال رسول الله r : (( إذا قام أحدكم يصلي
    فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل ، فإذا لم يكن بين يديه مثل
    آخرة الرحل ، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود )) قلت : يا
    أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر ؟ قال : يا
    ابن أخي سألت رسول الله r كما سألتني فقال : (( الكلب الأسود شيطان ))
    أخرجه مسلم ( 510 ) .
    ووجه الدلالة من الحديث أن أبا ذر قاس الكلب الأحمر والأصفر على الكلب
    الأسود فلم ينكر عليه النبي r هذا القياس ولكن بين له أن العلة في الكلب
    الأسود غير موجودة في الكلاب الأخرى فافترق الحكم .
    وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى .. ثم قس الأمور بعضها ببعض ، وانظر
    أقربها إلى الله وأشبهها بالحق فاتبعه . أخرجه الإسماعيلي ( كما في مسند
    الفاروق 2/546 ) بإسناد صحيح .
    قال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 1/176 ، 177 ) : وقد كان أصحاب النبي r
    يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض ويعتبرون النظير بنظيره ..
    ، ولما قاس مجزز المدلجي وقاف وحكم بقياسه وقيافته على أن أقدام زيد
    وأسامة ابنه بعضها من بعض سرَّ بذلك رسول الله r حتى برقت أسارير وجهه من
    صحة هذا القياس وموافقته للحق .. ، قال المزني : الفقهاء من عصر رسول الله r
    إلى يومنا هذا وهلم جرا استعملوا القياس في الفقه في جميع الأحكام في أمر
    دينهم . انتهى .

    القاعدة الثانية : لا قياس في مقابل النص
    إذا ثبت النص بطل القياس لأنه لا قول لأحد مع قول الله تعالى وقول رسوله r ،
    ولأن النص هو الأصل والقياس فرع ، والأصل يبطل الفرع ، ولا يُبطل الفرع
    الأصل ، وفي الحقيقة أنه ليس هناك نص في الكتاب والسنة يخالف القياس
    أبداً ، وإذا قيل بأن قياساً مخالف للنص فهذا يدل على بطلان ذلك القياس ،
    قال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 4/24 ) بعد أن ذكر مجموعة من
    النصوص وافق بينها وبين القياس قال : فهذه نبذة يسيرة تطلعك على ما
    وراءها من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس ولا في المنقول عن الصحابة
    الذي لا يعلم لهم مخالف ، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها
    وجوداً وعدماً كما أن المعقول الصحيح دائر مع أخبارها وجوداً وعدماً فلم
    يخبر الله ولا رسوله بما يناقض صريح العقل ، ولم يشرع ما يناقض الميزان
    والعدل . انتهى .
    وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 19/288 ) : ودلالة القياس الصحيح
    توافق دلالة النص ، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد ولا يوجد نص
    يخالف قياساً صحيحاً كما لا يوجد معقول صريح مخالف للمنقول الصحيح . انتهى .


    القاعدة الثالثة : القياس لا يصار إليه إلا عند الضرورة
    أهل الحديث لا يتوسعون في استعمال القياس ، وإنما يستعملون القياس حين تضيق
    السبل بالأدلة الأخرى ، قال الإمام أحمد ( كما في كتاب أصول البدع
    والسنن/87 ) : سألت الشافعي عن القياس فقال : عند الضرورة .
    وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 1/304 ) : وأما أصحاب الرأي والقياس
    فإنهم لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام ولا شاملة لها فوسعوا
    طرق الرأي والقياس وقالوا بقياس الشبه ، وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن
    الشارع علقها بها ، واستنبطوا عللاً لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها
    . انتهى .

    القاعدة الرابعة : يصح القياس على ما ثبت خلافاً للأصل
    قال السمعاني في قواطع الأدلة ( 1/119 ) : يجوز القياس على أصل مخالف في
    نفسه الأصول بعد أن يكون ذلك الأصل ورد به الشرع ودل عليه الدليل .. ثم قال
    ( ص 121 ) : والمعتمد أن ما ورد به الخبر صار أصلا بنفسه فالقياس عليه
    يكون كالقياس على سائر الأصول .
    وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 20/555 ) : فذهب طائفة من الفقهاء
    إلى أن ما ثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه ، ويحكى هذا عن أصحاب أبي
    حنيفة ، والجمهور أنه يقاس عليه ، وهذا هو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأحمد
    وغيرهما ، وقالوا : إنما ينظر إلى شروط القياس فما عُلمت علته ألحقنا به ما
    شاركه في العلة ، سواء قيل : إنه على خلاف القياس أو لم يُقل ، وكذلك ما
    علم انتفاء الفارق فيه بين الأصل والفرع ، والجمع بدليل العلة كالجمع
    بالعلة ، وأما إذا لم يقم دليل على أنه كالأصل فهذا لا يجوز فيه القياس ،
    سواء قيل إنه على وفق القياس أو خلافه ، ولهذا كان الصحيح أن العرايا يلحق
    بها ما كان في معانيها ، وحقيقة الأمر أنه لم يُشرع شيء على خلاف القياس
    الصحيح ، بل ما قيل : إنه على خلاف القياس : فلا بد من اتصافه بوصف امتاز
    به عن الأمور التي خالفها واقتضى مفارقته لها في الحكم ، وإذا كان كذلك
    فذلك الوصف إن شاركه غيره فيه فحكمه كحكمه ، وإلا كان من الأمور المفارقة
    له . انتهى .

    القاعدة الخامسة : القياس الصحيح مقدم على الحديث الضعيف
    الحديث الضعيف لا اعتبار به في الأحكام وإنما الأحكام مبنية على الكتاب
    والسنة الصحيحة والإجماع والقياس ، فيقدم القياس على الحديث الضعيف ، وفي
    البحر المحيط ( 8/46 ) : وقال الشافعي : لا يجوز القياس مع نص القرآن أو
    خبر مسند صحيح وأما عند عدمهما فإن القياس واجب في كل حكم .. وحكى الشيخ
    شهاب أبو شامة أنه سمع أبا الوفاء بن عقيل في رحلته إلى العراق يقول : مذهب
    أحمد أن ضعيف الأثر خير من قوي النظر ، قال ابن العربي : وهذه وهلة من
    أحمد ، وقال بعض أئمة الحنابلة المتأخرين ، هذا ما حكاه عن أحمد ابنه عبد
    الله ، ذكره في مسائله ، ومراده بالضعيف غير ما اصطلح عليه المتأخرون من
    قسم الصحيح والحسن ، بل عنده الحديث قسمان صحيح وضعيف ، والضعيف ما انحط عن
    درجة الصحيح وإن كان حسناً .
    وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 1/25 ) : ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح
    وحسن وضعيف بل إلى صحيح وضعيف ، وللضعيف عنده مراتب .. . انتهى .

    القاعدة السادسة : قول الصحابي الذي لم يخالفه صحابي آخر مقدم على القياس
    قول الصحابي مقدم على القياس وذلك لأن الصحابي أدرى ممن أتى بعده بمسالك
    العلة وطرق القياس وكيفية النظر والاعتبار ، يقول شيخ الإسلام في رسالته في
    القياس ( 50 ) : وقد تأملت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابة أفقه
    الأمة وأعلمها ، وأعتبر هذا بمسائل الأيمان والنذور والعتق والطلاق وغير
    ذلك ، ومسائل تعليق الطلاق بالشروط ونحو ذلك ، وقد بينت فيما كتبته أن
    المنقول فيها عن الصحابة هو أصح الأقوال قضاء وقياساً ، وعليه يدل الكتاب
    والسنة وعليه دور القياس الجلي ، وكل قول سوى ذلك تناقض في القياس مخالف
    للنصوص ، وكذلك في مسائل غير هذه ، مثل مسألة ابن الملاعنة ، ومسألة ميراث
    المرتد ، وما شاء الله من المسائل لم أجد أجود الأقوال فيها إلا الأقوال
    المنقولة عن الصحابة وإلى ساعتي هذه ما علمت قولاً قاله الصحابة ولم
    يختلفوا فيه إلا وكان القياس معه . انتهى .

    القاعدة السابعة : الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً
    فال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 4/90 ) : الحكم يدور مع علته وسببه
    وجوداً وعدماً ، ولهذا إذا علق الشارع حكماً بسبب أو علة زال ذلك الحكم
    بزوالهما كالخمر علق بها حكم التنجيس ووجوب الحد لوصف الإسكار ، فإذا زال
    عنها وصارت خلا زال الحكم ، وكذلك وصف الفسق علق عليه المنع من قبول
    الشهادة والرواية فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه ، والشريعة مبنية
    على هذه القاعدة فهكذا الحالف إذا حلف على أمر لا يفعله لسبب فزال السبب
    لم يحنث بفعله لأن يمينه تعلقت به لذلك الوصف فإذا زال الوصف زال تعلق
    اليمين . انتهى .
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 18/274 ) : العلة إذا
    عدمت عدم الحكم المتعلق بها بعينه ، لكن يجوز وجود مثل ذلك الحكم بعلة أخرى
    ، فإذا وجد ذلك الحكم بدون علة أخرى علم أنها عديمة التأثير وبطلت ، وأما
    إذا وجد نظير ذلك الحكم بعلة أخرى كان نوع ذلك الحكم معللاً بعلتين وهذا
    جائز ، كما إذا قيل في المرأة المرتدة : كفرت بعد إسلامها فتقتل قياساً على
    الرجل ، لقول النبي r : (( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله
    إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفساً
    فقتل بها )) . فإذا قيل له : لا تأثير لقولك : كفر بعد إسلامه فإن الرجل
    يقتل بمجرد الكفر ، وحينئذ فالمرأة لا تقتل بمجرد الكفر ، فيقول : هذه علة
    ثابتة بالنص وبقوله : (( من بدَّل دينه فاقتلوه )) وأما الرجل فما قتلته
    لمجرد كفره بل لكفره وجراءته ، ولهذا لا أقتل من كان عاجزاً عن القتال
    كالشيخ الهرم ونحوه ، وأما الكفر بعد الإسلام فعلة أخرى مبيحة للدم ، ولهذا
    قُتل بالردة من كان عاجزاً عن القتال كالشيخ الكبير . انتهى .

    القاعدة الثامنة : العلة لا تثبت إلا بدليل
    علة الأحكام لا تثبت بالظن والتخمين وإنما تثبت بالدليل ، قال الخطيب في
    الفقيه والمتفقه ( 1/210 ، 214 ) : اعلم أن العلة الشرعية إمارة على الحكم
    ودلالة عليه ، ولا بد في رد الفرع إلى الأصل من علة تجمع بينهما ، ويلزم أن
    يدل دليل على صحتها لأن العلة شرعية كما أن الحكم شرعي ، فكما لا بد من
    الدلالة على الحكم فكذلك لابد من الدلالة على العلة ، والذي يدل على صحة
    العلة شيئان : أصل واستنباط ، فأما الأصل فهو قول الله وقول رسوله r
    وأفعاله وإجماع الأمة ، فأما قول الله وقول رسوله فدلالتهما من وجهين :
    أحدهما من جهة النطق ، والثاني من جهة الفحوى والمفهوم ، فأما دلالتهما من
    جهة النطق فمن وجوه بعضها أجلى من بعض ، فأجلاها ما صرح فيه بلفظ التعليل ،
    .. عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة أنه أهدى لرسول الله r وهو بودان أو
    بالأبواء حماراً وحشياً فرده رسول الله r قال : فلما رأى رسول الله r ما
    بوجهه قال : (( إنا لم نرده عليك إلا أننا حرم )) فبين النبي r بهذا القول
    المعنى الذي لأجله رده ، ليعلم أن اصطياد المحرم وما صيد له وأهدي إليه
    بمنزلة واحدة .. ، ويليها في البيان أن يعلق الحكم على عين موصوفة بصفة وقد
    يكون هذا بلفظ الشرط كقول الله تعالى : { وَإِنْ كُنَّ أولاَتٍ حملْ
    ٍفأنْفِقُوا عليهِنَّ حَتَّى يَضعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] فالظاهر
    أن حمل المرأة على وجوب النفقة ، وقد يكون بغير لفـظ الشرط كقـول الله
    تعالى : { والسَّارقُ والسَّارِقةُ فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما }[ المائدة
    : 38 ] ظاهر أن السرقة على وجوب القطع ، وأما دلالتها من جهة الفحوى
    والمفهوم فمن وجوه بعضها أجلى من بعض أيضا ، فأوضحها ما دل عليه بالتنبيه
    كقول الله تعالى : { فَلا تَقُل لَهُمَا أُفٍّ } [ الإسراء : 23 ] .
    لفظ الآية يدل بالتنبيه عند سماعه على أن الضرب أولى بالمنع من التأفيف .. ،
    ويلي ما ذكرناه في البيان أن يذكر صفة فيفهم من ذكرها المعنى الذي تتضمنه
    تلك الصفة من غير وجه التنبيه على غيرها ، .. عن أبي بكرة عن النبي r قال :
    (( لا ينبغي للقاضي يقضي بين اثنين وهو غضبان )) .. ، وعن أبي هريرة قال :
    قال رسول الله r : (( إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألـقوها
    وما حولها )) . المفهوم بضرب من الفكر في هذين الحديثين أن النبي r إنما
    منع من الغضبان من القضاء لاشتغال قلبه في تلك الحال وأن حكم الجائع
    والعطشان مثله ، وأنه إنما أمر بإلقاء ما حول الفأرة من السمن إن كان
    جامداً لينتفع بما سواه إذا لم تخالطه النجاسة ، وأن الشبرج والزيت مثله
    في الحكم ، وأما دلالة أفعال الرسول r فهو أن يفعل شيئا عند وقوع معنى من
    جهته أو من جهة غيره فيعلم أنه لم يفعل ذلك إلا لما ظهر من المعنى فيصير
    علة فيه ، وهذا مثل ما روي أن رسول الله r سهى فسجد فيعلم أن السهو علة
    للسجود .. ، وأما الضرب الثاني من الدليل على صحة العلة فهو الاستنباط وذلك
    من وجهين أحدهما التأثير والثاني شهادة الأصول ، فأما التأثير فهو أن يوجد
    الحكم لوجود معنى فيغلب على الظن أنه لأجله ثبت الحكم ، .. وأما شهادة
    الأصول ، فتختص بقياس الدلالة مثل أن يقول في أن القهقهة في الصلاة لا تنقض
    الوضوء ، ما لا ينقض الطهر خارج الصلاة لا ينقضه داخل الصلاة كالكلام فيدل
    عليها بأن الأصول تشهد بالتسوية بين داخل الصلاة وخارجها في هذا المعنى .
    انتهى .

    القاعدة التاسعة : لا يصح التعليل بمجرد الشبه في الصورة
    قال السمعاني في قواطع الأدلة ( 1/166 ، 168 ) : والصحيح أن مجرد الشبه في
    الصورة لا يجوز التعليل به ، لأن التعليل ما كان له تأثير في الحكم بأن
    يفيد قوة الظن ليحكم بها ، والشبه في الصورة لا تأثير له في الحكم ، وليس
    هو مما يفيد قوة الظن حتى يوجب حكما ، وقد استدل من قال إن قياس الشبه ليس
    بحجة بأن المشابهة في الأوصاف لا توجب المشابهة في الأحكام ، فإن جميع
    المحرمات يشابه بعضها بعضا في الأوصاف ، ويختلف في الأحكام ، ولأن المشابهة
    فيما لا يتعلق بالحكم لا توجب المشابهة في الحكم .. ، إن الأصل في القياس
    هم الصحابة والمنقول عن الصحابة النظر إلى المصالح والعلل المعنوية فأما
    مجرد الشبه فلم ينقل عنهم بوجه ما . انتهى .

    القاعدة العاشرة : لا قياس في العبادات
    لا يشرع القياس في العبادات ، لأن العبادات مبنية على نصوص الكتاب والسنة
    فلا يدخلها النظر والاعتبار ، قال العلامة العدوي في كتابه أصول في البدع
    والسنن ( 83 ) : قول بعض المؤلفين يسُنُّ للمؤذن الصلاة والسلام على النبي r
    عقب الأذان قياساً على المستمع هو قول بعيد عن الأصول المقررة في المذاهب
    الأربعة لأن النبي r علم أبا محذورة وغيره من المؤذنين ألفاظ الأذان
    المعروفة ، وعلَّم المستمعين أن يقولوا مثلما يقول إذا سمعوه ، ثم أمرهم
    بالصلاة عليه كما يفيده حديث مسلم : (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول
    : ثم صلوا علي )) فتراه فرَّق بين المؤذن والمستمع ، فبين لكل ما يطلب منه
    ، فتعليمه الصلاة للمستمعين وسكوته عن تعليمها للمؤذن مع أنه بعث للتعليم
    دليل على أن المطلوب من المؤذن ترك ما عدا ألفاظ الأذان ، فسنته في مثل
    الصلاة عقب الأذان سنة تركية وقد علمناها ، فلا يعمل بالقياس فيها ، لأن
    القياس يُصار إليه عند علم السنة كما هي قاعدة الباب . انتهى .
    وقال ابن كثير في تفسيره ( 4/401 ) : وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ،
    ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء . انتهى .
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أصول الفقه على منهج أهل الحديث Empty رد: أصول الفقه على منهج أهل الحديث

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 10.08.10 19:49

    أفـعــال الرسـول صلى الله عليه وسلم

    القاعدة الأولى : الخصوصية لا تثبت إلا بدليل
    الأصل في أفعال النبي r أنها تشريع لجميع الأمة ، وليست خاصة به ، حتى يقوم
    الدليل الدال على أنها خاصة به ، لا بـمجرد الاحتمال ، لقوله تعالى : {
    لقَدْ كاَنَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ( الأحزاب :16 ) .
    قال ابن القيم في زاد المعاد ( 307 ) : الأصل مشاركة أمته له في الأحكام
    إلا ما خصه الدليل .
    وقال ابن حزم في الإحكام ( 1/469 ) : لا يحل لأحد أن يقول في شيء فعله عليه
    السلام إنه خصوص له إلا بنص . انتهى .

    القاعدة الثانية : لا يشرع المداومة على ما لم يداوم عليه
    النبي r من العبادات
    الأصل في العبادات المنع ، فما لم يداوم عليه النبي r من العبادات لا يشرع
    المداومة عليه ، كعدم مداومته على فعل النوافل جماعة ، وإنما فعل ذلك
    أحيانا كما في حديث أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت النبي r لطعام صنعته له ،
    فأكل منه ثم قال : (( قوموا فلأصل لكم )) قال أنس : فقام رسول الله r
    وصففت واليتيم وراءه ، والعجوز من ورائنا ، فصلى رسول الله r ركعتين ثم
    انصرف .
    أخرجه البخاري ( 380 ) ومسلم ( 658 ) .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مختصر الفتاوى المصرية ( 81 ) : والإجماع
    على أن صلاة النفل أحياناً مما تستحب فيه الجماعة إذا لم يتخذ راتبة وكذا
    إذا كان لمصلحة مثل أن لا يحسن أن يصلي وحده ، فالجماعة أفضل إذا لم تتخذ
    راتبة ، وفعلها في البيت أفضل إلا لمصلحة راجحة . انتهى .

    القاعدة الثالثة : إقرار النبي صلى الله عليه وسلم حجة
    ما فعل بحضرة النبي r وأقره يعتبر حجة ، لأن النبي r لا يؤخر البيان عن
    وقته ، قال البخاري في صحيحه ( 7355 ) : باب من رأى ترك النكير من النبي r
    حجة لا من غير الرسول .. ثم أخرج بإسناده إلى محمد بن المنكدر قال : رأيت
    جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن الصياد الرجال قلت : تحلف بالله ؟ قال :
    إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي r فلم ينكره النبي r .
    فهذا الحديث يدل على أن الصحابة كانوا يفهمون بأن إقرار النبي r لشيء صنع
    أمامه يعتبر حجة .


    القاعدة الرابعة : ما وقع في زمن النبي r يعتبر حجة وإن لم
    يكن اطلع النبي r عليه
    عن جابر بن عبد الله قال : كنا نعزل على عهد رسول الله r والقرآن ينزل .
    أخرجه البخاري ( 5209 ) .
    قال الحافظ في الفتح ( 9/216 ) : أراد بنزول القرآن أعم من المتعبد بتلاوته
    أو غيره مما يُوحى إلى النبي r ، فكأنه يقول : فعلناه في زمن التشريع ولو
    كان حراماً لم نقر عليه ، وإلى ذلك يشير قول ابن عمر : " كنا نتقي
    الكلام والانبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد النبي r ، فلما
    مات النبي r تكلمنا وانبسطنا " . أخرجه البخاري . انتهى .

    القاعدة الخامسة : الفعل المجرد لا يدل على الوجوب
    الأصل في أفعال النبي r أنها ليست على الوجوب ، إلا إذا كانت بيانا لواجب
    من الواجبات ، فتصير تلك الصفة للفعل الوارد واجبة لأنها جاءت مبينة لكيفية
    الواجب ، قال ابن حزم في الإحكام ( 1/458 ) : ليس شيء من أفعاله عليه
    السلام واجباً وإنما ندبنا إلى أن نتأسى به عليه السلام فيها فقط ، وألا
    نتركها على معنى الرغبة عنها ، ولكن كما نترك سائر ما ندبنا إليه مما إن
    فعلناه أجرنا ، وإن تركناه لم نأثم ولم نؤجر ، إلا ما كان من أفعاله بيانا
    لأمر أو تنفيذاً لحكم فهي حينئذ فرض ، لأن الأمر قد تقدمها فهي تفسير الأمر
    ، وهذا القول الصحيح الذي لا يجوز غيره .. ثم قال ( ص : 465 ) : وإنما
    حضنا الله تعالى في أفعاله عليه السلام على الاستنان به بقوله تعالى : {
    لقَدْ كانَ لكُمْ فيِ رَسُولِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنةٌ } ( الأحزاب :16 )
    وما كان لنا فهو إباحة فقط ، لأن لفظ الإيجاب إنما هو ( علينا ) لا (
    لنا ) نقول : عليك أن تصلي الخمس وتصوم رمضان ، ولك أن تصوم عاشوراء ، هذا
    الذي لا يفهم سواه في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى بما ألزمنا من
    شرائعه .. ثم قال ( ص : 467 ) : فأما ما كان من أفعاله عليه السلام تنفيذاً
    لأمر فهو واجب فمن ذلك قوله عليه السـلام : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) و
    (( خذوا عني مناسككم )) . انتهى .

    القاعدة السادسة : ما أصله مباح وتركه النبي r لا يدل تركه
    له على أنه واجب علينا تركه
    الشيء الذي أصله مباح وتركه النبي r لا يدل على أن ذلك الشيء يجب علينا
    تركه لحديث أبي هريرة أن النبي r قال : (( ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك
    من قبلكم بكثرة اختلافهم على أنبيائهم ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم
    به فأتوا منه ما استطعتم )) . أخرجه البخاري ( 7288 ) ومسلم ( 1337 ) .
    قال علي ابن حزم : فهذا خبر منقول نقل التواتر عن أبي هريرة ، فلم يوجب
    رسول الله r على أحد إلا ما استطاع مما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه فقط ،
    ولا يجوز البتة في اللغة العربية أن يقال أمرتكم بما فعلت وأسقط عليه
    السلام ما عدا ذلك في أمره ، بتركه ما تركهم حاشى ما أمر به أو نهى عنه فقط
    .
    وقال أبو شامة في المحقق ( 97 ) : وظاهر حديث أبي هريرة أنه لا واجب عليكم
    إلا من جهة الأمر والنهي ، وأنه ما لم آمركم وأنهاكم فأنتم خارجون من عهدة
    الوجوب والحظر ، (( فذروني ما تركتكم )) . انتهى .
    فإن قيل : إن الصحابة تركوا أكل الضب لما ترك النبي r أكله حتَّى بيَّن لهم
    أنه يعافه ، فدل هذا على وجوب ترك ما تركه النبي r لأنهم تركوا ما تركه
    النبي r .
    فالجواب : أن ذلك كان وقت تشريع ، فظن الصحابة أن تركه r لأكل الضب هو من
    باب التشريع حتى بين لهم أن تركه لأكل الضب ليس من باب التشريع فأكلوه .


    القاعدة السابعة : الأصل أن ما همَّ به النبي صلى الله عليه وسلم ولم
    يفعله فإنه لا يكون حجة
    قال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 65 ) : ما همَّ به النبي r ولم يفعله كما
    وري عنه بأنه هم بمصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة .. ، والحق أنه ليس من
    أقسام السنة لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تنجيز له وليس ذلك مما
    آتانا الرسول ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه وقد يكون إخباره r
    بما هم به للزجر كما صح عنه أنه قال : (( لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا
    يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم )) . انتهى .
    قلت : وإنما ينظر إلى الفعل الذي همَّ به النبي r على القرائن المحتف بذلك
    الفعل ثُمَّ يُحكم عليه بسبب تلك القرائن بالحكم المناسب له .

    القاعدة الثامنة : الفعل الجبليِّ المحض الذي ورد عن النبي r
    لا يتقرب المكلَّف بفعله إلى الله عز وجل
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 1/280 ) : وكذلك ابن عمر
    كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي r وينزل مواضع منزله ، ويتوضأ في السفر
    حيث رآه يتوضأ ، ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها ، ونحو ذلك مما استحبه
    طائفة من العلماء ورأوه مستحباً ، ولم يستحب ذلك جمهور العلماء ، كما لم
    يستحبه ولم يفعله أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود
    ومعاذ بن جبل وغيرهم ، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر ، ولو رأوه مستحباً
    لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به ، وذلك لأن المتابعة أن يفعل
    مثل ما فعل على الوجه الذي فعل ، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة شرع لنا
    أن نفعله على وجه العبادة ، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه
    بذلك ، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة ، وأن يستلم الحجر الأسود ، وأن
    يصلي خلف المقام ، وكان يتحرى الصلاة عند اسطوانة مسجد المدينة ، وقصد
    الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك ، وكذلك عرفة والمزدلفة
    وغيرها ، وما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه
    لكونه نزله لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه فإذا قصدنا تخصيص ذلك
    المكان بالصلاة أو النزول لم نكن متبعين بل هذا من البدع التي كان ينهى
    عنها عمر بن الخطاب كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان
    التميمي عن المعرور بن سويد قال : كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة ،
    ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه ويقولون : صلى فيه النبي r ، فقال عمر :
    إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا أبنياءهم فاتخذوها كنائس وبيعاً ، فمن
    عرضت له الصلاة فليصل ، وإلا فليمض .. ، وهذا هو الأصل فإن المتابعة ، في
    السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل . انتهى .
    وللعلامة أحمد العدوي في كتابه أصول في البدع والسنن ( 56 ) : كلام طويل في
    هذه المسألة أنقله بتمامه لأهميته قال : محض الفعل لا يدل على أن الفعل
    قربة ، بل يدل على أنه ليس بمحرم فقط وأما كونه قربة على الخصوص فذلك شيء
    آخر ، فإن الصحابة رضوان الله عليهم وهم أعلم الناس بالدين وأحرص الناس على
    اتباع الرسول في كل ما يقرب إلى الله تعالى كانوا يشاهدون من النبي r
    أفعالاً ، ولما لم يظهر لهم فيها قصد القربة لم يتخذوها ديناً يتعبدون به
    ويدعون الناس إليه ولذلك أمثلة كثيرة .
    1 ـ أن النبي r حينما كان مهاجراً إلى المدينة أخذ طريق الساحل ، لأنه أبعد
    عن العدو ، ولو كان مجرد الفعل يدل على القربة لاقتضى أن كل مسافر من مكة
    إلى المدينة يستن له أن يسلك طريق الساحل وإن كان بعيداً ، ولم يقل بذلك
    أحد من الصحابة ، فدلَّ ذلك على أنه ليس بسنة من سنن الدين .
    2 ـ أن النبي r اختفى هو وصاحبه في الغار عن أعدائه المشركين ومكث به
    أياماً يعبد الله حتى تمكن من السفر ، ولو كان محض الفعل يفيد الندب لذهبت
    الصحابة إلى ذلك الغار لتعبد الله تعالى فيه كما كان النبي r ، وحيث لم
    ينقل لنا أن أحداً من الصحابة كان يذهب إلى الغار ليتعبد فيه علم أن
    العبادة في خصوص الغار ليست مقصودة وأن الفعل بمجرده لا يفيد القربة .
    3 ـ روي عن أنس رضي الله عنه قال : (( كان لِنَعْليْ رسول الله r قبالان ))
    . رواه الخمسة إلا مسلماً ، فهذا الصنف هو حذاء رسول الله r ، فهل يكون
    لبس هذا الصنف سنة من سنن الدين ، ومن لم يلبسه يكون تاركاً لسنة ويعاتب
    عليها ؟ أم هذا لا يقوله أحد ، ولو كان الفعل المجرد يدل على الندب لكان
    لبس هذا النوع من الأحذية سنة تبقى ببقاء الأيام .
    4 ـ ثبت في الصحيح : أن النبي r في يوم بدر جاء إلى أدنى ماء من بدر فنزل
    عنده ، فقال الحباب بن المنذر : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل ، أمنزلاً
    أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب
    والمكيدة ؟ قال : (( بل هو الرأي والحرب والمكيدة )) فقال : يا رسول الله
    ليس هذا بمنزل ، فانهض بالناس نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ، ثم نُغوِّر
    ما وراءه إلخ ما قال ، فقال له النبي r : (( لقـد أشرت بالرأي )) وعمل
    برأيه ، وهذا يدل على أن محض الفعل لا يفيد أنه قربة . ووجه الدلالة أن
    الصحابة لا يرون أن كل فعل للنبي r عن وحي من الله تعالى ، بل منه ما هو
    مستند إلى وحي كالفعل الذي يظهر فيه قصد القربة ، ومنه ما هو مبني على رأي
    واجتهاد ، ولذلك سأل الحباب بن المنذر بجمع من الصحابة عن المنزل الذي نزل
    النبي r هل النزول فيه عن وحي حتى يذعنوا له ، أو عن رأي واجتهاد حتى
    يشاركوه فيه ، وأجاب النبي r بأنه عن رأي واجتهاد ، وقد رأوا أن ينزلوا
    منزلاً آخر هو أنفع منه للحرب ، وأقرب للنكاية بالعدو ، ولو كان فعل الرسول
    لا يكون إلا عن وحي ما كان لذلك السؤال وجه ، وما صحّ منه موافقتهم وترك
    الوحي .
    5 ـ إن النبي r كان يأكل من القوت التمر والشعير ، ومن الفاكهة الرطب
    والبطيخ والقثاء ، وكان يلبس وهو بالمدينة من نسيج اليمن ، فهل إذا وُجِد
    الرجل ببلد آخر ، ورأى قوتهم البر والذرة ، وفاكهتهم الرمان والعنب ،
    وملابسهم غير ملابس اليمنيين ، أيندب له شرعاً أن يبحث عن قوت غير القوت ،
    وفاكهة غير الفاكهة ، وأن يطلب ملبساً من نسيج اليمن ؟ وكيف يلتئم هذا ،
    وقول الله تعالى : {يُرِيدُ الله بِكُم اليسْرَ ولايُرِيدُ بِكُم العُسْرَ }
    ( البقرة : 185 ) .
    فظهر مما سقناه من الأمثلة أن الفعل إذا لم يظهر فيه قصد القربة لا يدل على
    الندب كما لا يدل على الوجوب ، وإنما يدل على رفع الحرج ، وهو ما اختاره
    الآمدي .
    وأما قول الشوكاني : إن القول بإفادته الندب هو الحق ، وتعلله ذلك بأن قوله
    r وإن لم يظهر فيه قصد القربة ، فهو لا بد أن يكون قربة ، فهو مجرد دعوى
    لم يقم عليها دليل ، بل عمل الصحابة يدل على بطلانها ، ولم يأخذ بفعل
    الرسول في كل شيء حتى في العاديات المحضة سوى عبد الله بن عمر ، كان يتحرى
    المكان الذي كان النبي r يقضي فيه حاجته ليقضي هو فيه حاجته ، ولم يوافقه
    جمهور الصحابة ، بل كانوا يفرقون بين الفعل العادي وبين العبادة ، وممن
    خالفه في ذلك أبوه عمر بن الخطاب ، حتى لا يلتبس على الناس أمر العادات
    بالعبادات .
    وأما قول الشوكاني : [ لا يجوز القول بأنه يفيد الإباحة ، فإن إباحة
    الشيء بمعنى استواء طرفيه موجودة قبل الشرع ، فالقول به إهمال للفعل الصادر
    منه r فهو تفريط كما أن حمل الفعل المجرد على الوجوب إفراط ] فيرده أن
    الأصوليين عدا المعتزلة اتفقوا على أن الإباحة حكم شرعي ، فهي لم تثبت إلا
    بالشرع ، فالقول بأن الفعل يدل على الإباحة ليس إهمالاً لفعل النبي r ، ولو
    سلم أنها موجودة قبل الشرع ، فالفعل جاء مقرراً له فكيف يكون مهملاً ؟
    وماذا يقول الشوكاني في أدلة الكتاب والسنة المفيدة للإباحة كقوله تعالى:{
    وأحِلَّ لَكُمْ ماوَرَاءَ ذلِكُمْ } ( النساء : 42 ) وقوله { ويُحِلُّ
    لَهُمُ الطَّيبَاتِ }[ الأعراف : 156 ] أيقول إنها مهملة لأن الإباحة
    موجودة قبل الشرع أو يقول إنها جاءت مقررة ؟ وجوابه على الأدلة القولية هو
    جوابنا على الأدلة الفعلية . انتهى .

    القاعدة التاسعة : ما استحب النبي r فعله من الأمور العادية فيستحب فعله
    لمحبة النبي r له
    يستحب للإنسان أن يستحب ما استحبه النبي r من الأمور العادية الجبلية
    كاستحبابه الدباء واستحبابه الشراب الحلو البارد لما في ذلك من كمال
    الاتباع فعن أنس بن مالك قال : إن خياطاً دعا النبي r لطعام صنعه ، قال أنس
    فذهبت مع رسول الله r إلى ذلك الطعام ، فقرّب إلى رسول الله r خبزاً من
    شعير ومرقاً فيه دباء وقديد ، قال : فرأيت النبي r يتتبع الدباء من حوالي
    القصعة ويعجبه ، قال : فلم أزل أحب الدباء من يومئذ ، فما صنع لي طعام بعد
    أقدر على أن يصنع فيه دباء إلا صنع .
    أخرجه البخاري ( 2092 ) ومسلم ( 2041 ) وبوب عليه النووي : باب جواز أكل
    المرق واستحباب أكل اليقطين .
    قلت : فانظر إلى هذا السيد استحب ما استحبه النبي r أفلا يُؤجر على محبة ما
    يحبه النبي r ؟! .




    القاعدة العاشرة : ما يحتمل من الأفعال خروجه من الجبليِّة إلى التشريع
    بمواظبته على وجه مخصوص فيستحب
    التأسي به فيه
    هناك بعض الأفعال النبوية هي في الأصل أفعال جبليِّة لكن يحتمل أنها
    للتشريع وهي الأشياء التي واظب عليها النبي r على وجه مخصوص دون أن
    يرغب فيهما كالاضطجاع بعد ركعتي الفجر ، فهذه الأفعال يستحب التأسي فيها
    لقوله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } [ الأحزاب : 16 ] ،
    فهذه الآية تدل على أن الأصل في أفعال النبي r استحباب التأسي به فيها ،
    إلا إذا اظهرت انها جبلية وهذا قول أكثر المحدثين ( كما في البحر المحيط
    6/24 ) .
    وقال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 56 ) : وفي هذا القسم قولان للشافعي ومن
    معه يرجع فيه إلى الأصل وهو عدم التشريع أو إلى الظاهر وهو التشريع ،
    والراجح الثاني ، وقد حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن أكثر المحدثين فيكون
    مندوبا . انتهى .

    القاعدة الحادية عشر : ترك النبي صلى الله عليه وسلم لفعل ما مع
    وجود المقتضي له وانتفاء المانع يدل على أن
    ترك ذلك الفعل سنة وفعله بدعة
    هذه القاعدة تعرف بالسنة التركية ، وهي قاعدة جليلة فيها سد لباب الابتداع
    في الدين ويشترط لهذه القاعدة شرطان هما :
    1 ـ وجود المقتضي . 2 ـ انتفاء المانع .
    فإذا لم يوجد المقتضي لذلك الفعل فلا يكون الترك سنة ، كترك الأذان للعيدين
    فإن المقتضي موجود وهو الإعلام للعيدين ومع ذلك ترك النبي r الأذان
    للعيدين فالترك هنا يدل على أنه سنة وأما مثال : الترك مع عدم وجود المقتضي
    ، فكترك النبي r جمع القرآن ، فلا يكون الترك هنا سنة ، لأن المقتضي لم
    يكن موجوداً ، ولذلك جمعه عمر بن الخطاب لما دعت الحاجة إليه .
    فإن وجد المقتضي لذلك ولم ينتف المانع لم يدل على أن ترك ذلك سنة ، كتركه r
    القيام مع أصحابه في رمضان ، فإن المقتضي كان موجوداً ، لكن كان هناك مانع
    موجود وهو خشيته r أن يفرض عليهم القيام .
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 26/172 ) : والترك الراتب سنة كما
    أن الفعل الراتب : سنة ، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض ، أو فوات شرط ، أو
    وجود مانع ، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة
    على فعله حينئذ ، كجمع القرآن في الصحف ، وجمع الناس على إمام واحد في
    التراويح ، وأسماء النقلة للعلم ، وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين ،
    وبحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به ، وإنما تركه النبي r
    لفوات شرط أو وجود مانع ، فأما ما تركه من جنس العبادات ، مع أنه لو كان
    مشروعا لفعله ، أو أذن فيه وَلَفَعَلَهُ الخلفاء بعده والصحابة ، فيجب
    القطع بأن فعله بدعة وضلالة .
    وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 2/390 ) : فإن تركه سنة كما أن فعله
    سنة ، فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق ،
    فإن قيل من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم العدم ؟ فهذا سؤال
    بعيد جداً عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ، ولو صح هذا السؤال وَقُبِلَ
    لاستحب لنا مُسْتَحِبّ الأذان للتراويح وقال : من أين لكم أنه لم ينقل ؟
    واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة وقال : من أين لكم أنه لم ينقل ؟
    وانفتح باب البدعة ، وقال كل من دعا إلى بدعة : من أين لكم أن هذا لم ينقل
    ؟! . انتهى .

    القاعدة الثانية عشرة : لا تعارض بين أفعال النبي r
    أفعال النبي r المختلفة في الشيء الواحد لا تعتبر متعارضة ، وإنما دالة على
    مشروعية كلا الأمرين ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في القواعد
    النورانية ( 86 ) : وأما الصلوات في الأحوال العارضة كالصلاة المكتوبة في
    الخوف والمرض والسفر ومثل الصلاة لدفع البلاء عند أسبابه كصلوات الآيات في
    الكسوف ، أو الصلاة لاستجلاب النعماء ، كصلاة الاستسقاء ، ومثل الصلاة على
    الجنازة ففقهاء الحديث كأحمد وغيره ، متبعون لعامة الثابت عن النبي r
    وأصحابه في هذا الباب ، فيجوزون في صلاة الخوف جميع الأنواع المحفوظة عن
    النبي r ويجوزون جميع الأنواع الثابتة عن النبي r في صلاة الكسوف ..( ) ،
    وكذلك الاستسقاء يجوزون الخروج إلى الصحراء الاستسقاء والدعاء كما ثبت عن
    النبي r ويجوزون الخروج والدعاء بلا صلاة كما فعله عمر بمحضر من الصحابة ،
    ويجوزون الاستسقاء بالدعاء تبعاً للصلوات الراتبة ، كخطبة الجمعة كما
    فعله النبي r . انتهى .
    وقال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 61 ) : والحق أنه لا يتصور تعارض الأفعال
    فإنه لا صيغ لها يمكن النظر فيها والحكم عليها بل هي مجرد أكوان مغايرة
    واقعية في أحوال مختلفة وهذا إذا لم تقع بيانات للأقوال وأما إذا وقعت
    بيانات للأقوال فقد تتعارض في الصورة ولكن التعارض في الحقيقة راجع إلى
    المبينات من الأقوال لا إلى بيانها من الأفعال . انتهى .

    القاعدة الثالثة عشر : إذا تعارض القول مع الفعل ولم يمكن
    الجمع بينهما فإن القول مقدم على الفعل
    إذا تعارض القول مع الفعل فإن الجمع بينهما هو الأولى ، قال العلائي في
    تفصيل الإجمال ( 108 ) : الجمع بين القول والفعل على بعض الوجوه الممكنة ،
    وهي التي يسلكها المحققون في أفراد الأمثلة عن الكلام على بعض منها ، ولا
    شك في أن هذا أولى من تقديم أحدهما على الآخر ، وإبطال مقتضى الآخر ، ومن
    الوقف أيضا لأنا متعبدون بمضمون القول وباتباعه r فيما فعله ، فما يجمع بين
    الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ولا وجه للوقف مع التعبد . انتهى .
    فإن لم يمكن الجمع بينهما فإن القول هو المقدم ، قال العلائي في تفصيل
    الإجمال ( 105 ) :
    والحجة لتقديم القول وجوه : أنه يدل بنفسه من غير واسطة والفعل لا يدل إلا
    بواسطة ( أي في إفادته البيان ) فكان القول أقوى .
    وأن تقديم الفعل يفضي إلى إبطال مقتضي القول بالكلية والعمل بالقول ،
    وتقديمه لا يؤدي إلى ذلك ، بل يحمل الفعل على أنه خاص بالنبي r ، والجمع
    بين الدليلين ولو من وجه أولى من إلغاء أحدهما بالكلية . انتهى .

    القاعدة الرابعة عشر : الفعل الوارد بصيغة ( كان ) الأصل فيه أنه
    للتكرار
    ما ورد عن النبي r من الأفعال بصيغة ( كان ) فإنه يدل على تكرار ذلك الفعل
    إلا أن تأتي قرينة تدل على أنه ليس المقصود التكرار وإنما المقصود حصول
    الفعل في الزمن الماضي فحينئذ لا تحمل كان على التكرار وإلا الأصل أنها
    تكون للتكرار كما في حديث أم المؤمنين عائشة قالت : كان رسول الله r إذا
    اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوئه للصلاة ثم اغتسل ثم يخلل شعره حتى
    إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء عليه ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده .
    أخرجه البخاري ( 272 ) ومسلم ( 316 ) .
    قال ابن دقيق العيد في كتاب الإحكام ( 1/91 ) : ( كان يفعل كذا ) بمعنى أنه
    تكرر من فعله وكان عادته كما يقال : كان فلان يعين الضعيف و ( كان رسول
    الله r أجود الناس بالخير ) وقد تستعمل كان لإفادة مجرد الفعل ووقوع الفعل
    دون الدلالة على التكرار والأول أكثر في الاستعمال ، وعليه ينبغي حمل
    الحديث . انتهى .



    & # &
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أصول الفقه على منهج أهل الحديث Empty رد: أصول الفقه على منهج أهل الحديث

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 10.08.10 19:50

    قـول الصـحـــابي

    القاعدة الأولى : قول الصحابي فيما لا نص فيه يعتبر حجة
    إذا لم يخالفه غيره
    قول الصحابي يكون حجة ولو لم يشتهر بشرط أن لا يخالفه غيره وليس المراد بأن
    ( قول الصحابي حجة ) هو أنه حجة بذاته كالكتاب والسنة فإنهما حجة بذاتهما ،
    وإنما ( قول الصحابي حجة ) لما احتف بقوله من أدلة وقرائن تدل على حجية
    قوله ، فهو حجة بالغير ، وعليه فلا يحتج محتج بقوله r (( تركت فيكم ما إن
    تمسكتم به لن تضلوا أبداً : كتاب الله وسنتي )) . أخرجه الحاكم ( 1/93 )
    وصححه الألباني في الصحيحة ( 1761 ) .
    فيقول : لم يذكر في الحديث قول الصحابي ، ولو كان حجة لذكر في الحديث ،
    والجواب : أنه لم يذكر الإجماع والقياس أيضاً مع أنهما من الحجج الشرعية
    وذلك لأن الإجماع والقياس حجة بالغير لا بالذات ، وكذلك قول الصحابي ،
    بخلاف الكتاب والسنة فإنهما حجة بذاتهما .
    والقول بأن قول الصحابي حجة هو قول الأئمة الأربعة ، قال شيخ الإسلام كما
    في مجموع الفتاوى ( 20/14 ) : وإن قال بعضهم قولاً ولم يقل بعضهم بخلافه
    ولم ينتشر فهذا فيه نزاع ، وجمهور العلماء يحتجون به كأبي حنيفة ومالك
    وأحمد في المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه ، وفي كتبه الجديدة الاحتجاج
    بمثل ذلك في غير موضع ، ولكن من الناس من يقول هذا هو القول القديم . انتهى
    .
    وقد ذكر ابن القيم في أعلام الموقعين ( 4/104 ، 136 ) لحجية قول الصحابي
    ستا وأربعين وجهاً ، فمن تلك الأوجه أن الله تعالى قال في كتابه: {
    والسِّابِقونَ الأوَّلُونَ مِنَ المهَاجِرينَ والأنْصَارِ والذِينَ
    اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَضِي الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ( التوبة :
    100 ) .
    فحصول الرضوان حاصل لكل واحد منهم ، فاقتضت الآية الثناء على من اتبع كل
    واحد منهم فالآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين في كل ممكن اتبع جماعتهم
    إذا اجتمعوا واتبع آحادهم فيما وجد عنهم مما لم يخالفه فيه غيره منهم فقد
    صح عليه أنه اتبع السابقين .
    ومن تلك الأوجه أيضا : أنهم هم الأئمة الصادقون وكل صادق بعدهم فيهم يؤثم
    في صدقه بل حقيقة صدقه اتباعه لهم وكونه معهم .
    ومن تلك الأوجه : أنهم خير القرون مطلقاً فلو جاز أن يخطيء الرجل منهم في
    حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب وإنما ظفر بالصواب من بعدهم وأخطئوا هُمْ
    لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه ، لأن من يقول قول الصحابي
    ليس بحجة يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي
    قولاً ولم يخالفه صحابي آخر وفات هذا الصواب الصحابة فيا سبحان الله أي
    وصمة أعظم من أن يكون الصديق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو
    سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأضرابهم رضي الله عنهم قد أخبر عن حكم
    الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة أخطأ في ذلك ، ولم يشتمل قرنهم على ناطق
    بالصواب في تلك المسائل حتى جاء من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك
    السادة سبحانك هذا بهتان عظيم .
    ومن تلك الأوجه : أن النبي r أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين ومعلوم أنهم
    لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته
    فهو من سنة الخلفاء الراشدين .
    ومن تلك الأوجه : أن النبي r دعا لابن عباس أن يفقهه الله في الدين ويعلمه
    التأويل ومن المستبعد جداً بل من الممتنع أن يفتى ابن عباس بفتوى ولا
    يخالفه فيها أحد من الصحابة ويكون فيها على الخطأ ، ويفتي واحد من
    المتأخرين بخلاف فتواه ويكون الصواب معه ويحرمه ابن عباس .
    ومن تلك الأوجه : أن الصحابي إذا قال قولاً فله مدارك ينفرد بها منها : أن
    يكون سمعها من النبي r .
    ( الثـاني ) أن يكون سمعها ممن سمعها منه .
    ( الثالث ) أن يكون فهمها من آية من كتاب الله فِهْماً خفي علينا .
    ( الرابع ) أن يكون قد اتفق عليها ملؤهم ولم ينقل إلينا إلا قول المفتي بها
    وحده .
    ( الخامس ) أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ الذي انفرد به عنا ، أو
    لقرائن حالية اقترنت بالخطاب ، أو لمجموع أمور فهموها على طول الزمن من
    رؤية النبي r ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته والعلم بمقاصده فتكون فتواه
    حجة .
    ومن تلك الأوجه : أن الأرض لا تخلوا من قائم لله بحجة فلو جاز أن يخطئ
    الصحابي في حكم ولا يكون في ذلك العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في
    الأمة قائم بالحق في ذلك الحكم .
    ومن تلك الأوجه : أنه لم يزل أهل العلم في كل عصر ومصر يحتجون بفتاواهم
    وأقوالهم ولا ينكره منكر منهم وتصانيف العلماء شاهدة على ذلك .. ، فأي كتاب
    شئت من كتب السلف والخلف المتضمنة للحكم والدليل وجدت فيه الاستدلال
    بأقوال الصحابة ولم تجد فيها قط ـ ليس قول أبي بكر وعمر حجة ـ ولا يحتج
    بأقوال أصحاب رسول الله r وفتاويهم .
    فإن قيل : لو كان قوله حجة بنفسه لما أخطأ ولكان معصوماً فإذا كان يفتي
    بالصواب تارة وبغيره أخرى فمن أين لكم أن هذه الفتوى المعينة من قسم الصواب
    . قيل : الأدلة المتقدمة تدل على انحصار الصواب في قوله في الصورة
    المفروضة الواقعة وهو أن من الممتنع أن يقولوا في كتاب الله الخطأ المحض
    ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به فهذا هو المحال وبهذا خرج الجواب
    عن قولكم لو كان قول الواحد منهم حجة لما جاز عليه الخطأ فإن قوله لم يكن
    بمجرده حجة بل بما انضاف إليه مما تقدم ذكره من القرائن . انتهى ما ذكره
    ابن القيم ملخصا .

    القاعدة الثانية : قول الصحابي إذا اشتهر ولم يخالفه أحد
    يكون إجماعاً وحجة
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 20/14 ) : وأما أقوال الصحابة فإن
    انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء .
    وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 4/104 ) : إن لم يخالف الصحابي صحابياً
    آخر فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر فإن اشتهر فالذي عليه
    جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة ، وقالت طائفة منهم هو حجة وليس
    بإجماع ، وقال شرذمة من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين : لا يكون
    إجماعاً ولا حجة . انتهى .

    القاعدة الثالثة : إذا اختلف الصحابة في مسألة ما رجع إلى
    الأصل ولا يقدم قول بعضهم على بعض
    قال الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/175 ) : إذا اختلفت الصحابة على قولين لم
    يكن قول بعضهم حجة على بعض ولم يجز تقليد واحد من الفريقين بل يجب الرجوع
    إلى الدليل ، قال الشافعي : إذا جاء عن أصحاب النبي r أقاويل مختلفة ينظر
    إلى ما هو أشبه بالكتاب والسنة فيؤخذ به ، فإن تعذر ذلك من نص الكتاب
    والسنة اعتبرت أقاويلهم من جهة القياس فمن شابه قوله أصلاً من الأصول ألحق
    به .
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 20/14 ) : وإن تنازعوا
    رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله ، ولم يكن قول بعضهم حجة لمخالفة
    بعضهم له باتفاق العلماء . انتهى .

    القاعدة الربعة : إذا اختلف الصحابة في مسألة ما على قولين
    فإن القول الذي فيه أحد الخلفاء الراشدين
    أرجح من القول الآخر
    عن ابن عمر أن الربيِّع اختلعت من زوجها فأتى عمها عثمان فقال تعتد بحيضة
    وكان ابن عمر يقول تعتد ثلاث حيض حتى قال هذا عثمان ، فكان يفتي به ويقول :
    خيرنا وأعلمنا .
    أخرجه ابن أبي شيبة ( 18462 ) .
    وعن عبيد الله بن أبي يزيد قال : سمعت ابن عباس إذا سئل عن شيء هو في كتاب
    الله قال به ، وإذا لم يكن في كتاب الله وقال به رسول الله r قال به ، وإن
    لم يكن في كتاب الله ولم يقله رسول الله r وقاله أبو بكر وعمر قال به وإلا
    اجتهد رأيه . أخرجه البيهقي ( 10/115 ) .
    قال الشافعي كما في البحر المحيط ( 8/58 ) : فإن لم يكن على قول أحدهم
    دلالة من كتاب ولا سنة كان قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ
    أحب إلي من قول غيرهم إن خالفهم من قبل أنهم أهل علم وحكاية . انتهى .
    وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 4/103 ) : إذا خالف الخلفاء الراشدون
    أو بعضهم غيرهم من الصحابة في حكم فهل يكون الشق الذي فيه الخلفاء الراشدون
    أو بعضهم حجة على الآخرين فيه قولان للعلماء ، والصحيح أن الشق الذي فيه
    الخلفاء أرجح وأولى أن يؤخذ به من الشق الآخر ، فإن كان الأربعة في شق فلا
    شك أنه الصواب ، وإن كان أكثرهم في شق فالصواب فيه أغلب ، وإن كانوا اثنين
    واثنين فشق أبو بكر ، وعمر أقرب إلى الصواب ، فإن اختلف أبو بكر وعمر
    فالصواب مع أبي بكر ، وهذه جملة لا يعرف تفصيلها إلا من له خبرة واطلاع على
    ما اختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم . انتهى .

    القاعدة الخامسة : الصحابي أدرى بمرويه من غيره
    إذا روى الصحابي حديثاً وفسره ذلك الصحابي أو حمله على معنى معين من
    المعاني فإنه ينبغي الوقوف على ما ذهب إليه الصحابي من معنى ذلك الحديث
    لأنه هو راوي الحديث ، والراوي أدرى بمرويه من غيره .
    وإذا اختلف صحابيان وكان أحدهما راوياً للحديث فإنه يقدم قوله على الصحابي
    الآخر ، لأن الصحابي الذي روى الحديث أدرى بما رواه من الصحابي الآخر .
    قال السمعاني في قواطع الأدلة ( 1/190 ) : وأما تفسير الراوي لأحد محتملي
    الخبر يكون حجة في تفسير الخبر كالذي رواه ابن عمر أن المتبايعين بالخيار
    مالم يتفرقا ، وفسره بالتفريق بالأبدان لا بالأقوال فيكون أولى ، لأنه قد
    شاهد من خطاب الرسول r ما عرف به مقاصده وكان تفسيره بمنزلة نقله . انتهى .


    القاعدة السادسة : إذا خالف الصحابي ما رواه فالعبرة بما
    رواه لا بما رآه
    الصحابي لا يخالف ما رواه عن عمد ، وإنما يخالف ما رواه لأمر كنسيان ونحو
    ذلك فإذا خالف ما رواه فإنه يطرح رأيه وتؤخذ روايته ، لأنه لا قول لأحد مع
    قول رسول الله r ، قال الخطيب في الفقيه والمتفقه ( 1/141 ، 143 ) : إذا
    روى الصحابي عن رسول الله r حديثا ثم روي عن ذلك الصحابي خلافا لما روى
    فإنه ينبغي الأخذ بروايته ، وترك ما روي عنه من فعله أو فتياه ، لأن الواجب
    علينا قبول نقله وروايته عن النبي r لا قبول رأيه .. ولأنه لا يحل لأحد
    أن يظن بالصاحب أن يكون عنده نسخ لما روى ، أو تخصيص فيسكت عنه فيبلغ
    إلينا المنسوخ والمخصوص دون البيان ، لأن الله تعالى يقول : { إنَّ الذينَ
    يكْتمُونَ ما أنْزَلْنَا مِنَ البيَّناتِ والهُدَى مِنْ بَعدِ مَا بينَّهُ
    للنَّاسِ في الكِتَابِ أولئكَ يَلْعنهُمُ الله ويَلعَنهم الَّلاعِنُون } [
    البقرة : 159 ] وقد نزه الله صحابة نبيه r عن هذا . انتهى .





    النـاســخ و المنـســوخ

    القاعدة الأولى : مراد السلف بكلمة ( النسخ ) ليس هو المراد عند
    المتأخرين
    قال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 1/35 ) : مراد عامة السلف بالناسخ
    والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين ، ورفع دلالة العام
    والمطلق والظاهر وغيرها تارة إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد
    وتفسيره وتنبيه فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو : بيان المراد بغير ذلك اللفظ
    بأمر خارج عنه ، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى ، وزال عنه
    إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر . انتهى .
    وقال الشاطبي في الموافقات ( 3/108 ) : النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في
    كلام الأصوليين ، فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخاً ، وعلى بيان المجمل
    والمبهم نسخا ، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخاً ،
    لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد . انتهى .


    القاعدة الثانية : النسخ يثبت بدليل ولا يثبت بالاحتمال
    الأصل في الدليل أنه محكم غير منسوخ .
    وإذا جاء نصان ظاهرهما التعارض فلا يقال بنسخ أحدهما لمجرد التعارض لأن
    القول بالنسخ لمجرد التعارض هو احتمال ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال .
    ومما يعجب له : القول باحتمال نسخ الحديث لمخالفته لقول إمام من الأئمة ،
    فهذا القول بطلانه لا شك فيه ، وقد بين ابن حزم أن النسخ لا يثبت بالاحتمال
    في كتابه الإحكام فقال ( 1/497 ) : لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر
    أن يقول في شيء من القرآن والسنة : هذا منسوخ إلا بيقين .. ، ومن استجاز
    خلاف ما قلنا فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلها ، لأنه لا فرق بين دعواه
    النسخ في آية ما أو حديث ما ، وبين دعوى غيره النسخ في آية ما أو حديث ما ،
    وحديث آخر ، وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون ، ولا يجوز أن تسقط طاعة
    أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه . انتهى .

    القاعدة الثالثة : لا يدخل النسخ في الأخبار أو القواعد الكلية
    استقرأ العلماء الأدلة الدالة على النسخ فوجدوا أن النسخ يدخل في الأحكام
    الشرعية الجزئية ، ولا يدخل في الأخبار أو القواعد الكلية ، قال الشاطبي في
    الموافقات ( 3/78 ) : النسخ لا يكون في الكليات وقوعا وإن أمكن عقلا ،
    ويدل على ذلك الاستقراء التام وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات
    والحاجيات والتحسينات ، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء ومن استقرى كتب الناسخ
    والمنسوخ وجد تحقيق هذا المعنى ، فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها .
    انتهى .
    وقال الخطيب في الفقيه والمتفقه ( 1/85 ) : والنسخ لا يجوز إلا فيما يصح
    وقوعه على وجهين كالصوم والصلاة وغيرهما من العبادات ، وأما مالا يجوز إلا
    أن يكون على وجه واحد مثل التوحيد وصفات الله تعالى فلا يصح فيه النسخ
    وكذلك ما أخبر الله عنه من أخبار القرون الماضية والأمم فلا يجوز فيها
    النسخ وهكذا ما أخبر عن وقوعه في المستقبل كخروج الدجال وطلوع الشمس من
    مغربها ونزول عيسى بن مريم إلى الأرض ونحو ذلك فإن النسخ فيه لا يجوز .
    انتهى .

    القاعدة الثالثة : عدم جواز النسخ بالقياس
    الكتاب والسنة هما الأصل في الاستدلال ، والقياس إنما يؤخذ من دلالات
    الكتاب والسنة فهو تابع لهما ، ولا يكون التابع ناسخاً للأصل والسلف الصالح
    لم يأت عنهم أبداً نسخ النص بالقياس قال الخطيب في الفقيه والمتفقه ( 1/86
    ) : ولا يجوز نسخ القياس ، لأن القياس تابع لأصول ثابتة فلا يجوز نسخ
    تابعها . انتهى .
    وقال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 288 ) : لأن القياس يستعمل مع عدم النص
    فلا يجوز أن ينسخ النص ، ولأنه دليل محتمل ، والنسخ يكون بأمر مقطوع .
    انتهى .

    القاعدة الرابعة : قبول قول الصحابي في النسخ
    إذا قال الصحابي أن هذا الدليل منسوخ يقبل قوله ، والدليل على هذا قول
    عائشة : كان فيما أنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرِّمن ثم نسخن بخمس
    معلومات ، فتوفي رسول الله r وهن فيما يقرأ من القرآن . أخرجه مسلم ( 1452
    ) .

    القاعدة الخامسة : تأخر إسلام الصحابي لا يدل على النسخ
    تأخر إسلام الصحابي لا يصح الاستدلال به على النسخ إذ يحتمل أن الصحابي
    الذي تأخر إسلامه سمع الحديث من صحابي آخر تقدم إسلامه فأرسل الحديث ، وقد
    تعقب ابن حجر من ذهب إلى الاستدلال على النسخ بتأخر إسلام الصحابي فقال في
    الفتح ( 9/149 ) : وهو مستند ضعيف ، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا
    صغره أن لا يكون ما رواه متقدما . انتهى .
    وقال الشنقيطي في مذكرة في أصول الفقه ( 111 ) : فلا يكون حديث المتأخر
    ناسخا لحديث متقدم الإسلام ، لاحتمال أن يكون متقدم الإسلام روى الحديث بعد
    متأخر الإسلام ولا مانع من ذلك عقلا ولا عادة ولا شرعا ، ولأجل هذا قال
    بعض العلماء : لا يقدم حديث أبي هريرة على حديث طلق من هذا الوجه . انتهى .

    قلت : وحديث أبي هريرة لفظه : ( من مسَّ ذكره فليتوضأ ) . أخرجه الترمذي (
    1/128 ) وهو صحيح .
    وحديث طلق لفظه : أنه سئل النبي r عن مسِّ الذكر في الصلاة ، فقال : ( هل
    هو إلا بضعة منك ) . أخرجه أبو داود ( 182 ) والترمذي ( 1/131 ) والنسائي (
    1/101 ) وهو صحيح .



    & # &
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أصول الفقه على منهج أهل الحديث Empty رد: أصول الفقه على منهج أهل الحديث

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 10.08.10 19:51

    الجـمــع والترجـيــح

    القاعدة الأولى : الأحاديث المتعارضة يجمع بينهما ولا تطرح
    أدلة الكتاب والسنة لا تعارض فيما بينها في حقيقة الأمر ، ولكن التعارض
    يكون في ظاهرهما يقول الله تعالى : { ولَو كَانَ مِنْ عِندِ غيرِ الله
    ِلوَجَدُوا فِيهِ اختِلافًا كَثِيرًا }[ النساء : 82 ] فإذا جاء دليلان
    أحدهما معارض للآخر فإما أن يجمع بينهما وإما أن يصار إلى الترجيح ، ولا
    يقال : إذا تعارضا تساقطا ، لأن الأدلة لا تسقط أبدا ، ووجوه الترجيح
    كثيرة جداً ذكرها العلماء في مصنفاتهم فمن لم يستطع الترجيح فلا يرد الأدلة
    بحجة التعارض بل يرجع إلى نفسه ويتهمها بالقصور في الفهم ، وإلا فأين
    الدليلان الذين لا يمكن ترجيح أحدهما بهذه المرجحات الكثيرة ، يقول الشافعي
    في الرسالة ( 216 ) : ولم نجد حديثين مختلفين إلا ولهما مخرج أو على
    أحدهما دلالة بأخذ ما وصفت إما بموافقة كتاب أو غيره من سنته أو بعض
    الدلايل . انتهى .
    وقال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 407 ) : الترجيح بين المتعارضين لا في نفس
    الأمر بل في الظاهر وقد قدمنا في المبحث الأول أنه متفق عليه ولم يخالف في
    ذلك إلا من لا يعتد به ومن نظر في أحوال الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن
    بعدهم وجدهم متفقين على العمل بالراجح وترك المرجوح . انتهى .


    القاعدة الثانية : لا يجمع بين الدليلين إذا كان أحدهما لا يثبت
    العبرة في الجمع بين الدليلين المتعارضين هو ثبوتهما فإن كان أحدهما لا
    يثبت فلا عبرة به ولا يحتاج إلى أن يجمع بينه وبين الحديث الثابت ، قال
    الجزائري في توجيه النظر ( 235 ) : الحديث المقبول إذا عارضه حديث غير
    مقبول أخذ بالمقبول وترك الآخر ، إذ لا حكم للضعيف مع القوي . انتهى .

    القاعدة الثالثة : لا يجمع بين الدليلين المتعارضين بتأويل بعيد
    يشترط لصحة الجمع بين الدليلين ، أن لا يكون الجمع بينهما بتأويل بعيد يظهر
    فيه التكلف والتعسف ، قال الجزائري في توجيه النظر ( 244 ) : وإنما شرطوا
    في مختلف الحديث أن لا يمكن فيه الجمع بغير تعسف ، لأن الجمع مع التعسف لا
    يكون إلا بجمع الحديثين المتعارضين معاً ، أو أحدهما على وجه لا يوافق منهج
    الفصحاء ، فضلا عن منهج البلغاء في كلامهم فكيف يمكن حينئذ نسبة ذلك إلى
    أفصح الخلق وأبلغهم على الإطلاق ؟ ولذلك جعلوا ذلك في حكم ما لا يمكن فيه
    الجمع ، وقد ترك بعضهم هذا القيد اعتماداً على كونه لا يخفى . انتهى .
    قلت : وكذلك لا ينبغي أن يرجح بين الحديثين المتعارضين بترجيح بعيد
    كالترجيح بموافقته للقياس ، أو الترجيح بغير ذلك من الأمور البعيدة .


    القاعدة الرابعة : لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع
    قال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 407 ) : ومن شروط الترجيح التي لا بد من
    اعتبارها أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول فإن أمكن ذلك تعين
    المصير إليه ولم يجز المصير إلى الترجيح . انتهى .
    قلت : وذلك لأن الجمع فيه إعمال الدليلين ، والترجيح فيه إعمال لواحد من
    الدليلين على الآخر ، فإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ، قال ابن حزم
    في الإحكام ( 1/161 ) : إذا تعارض الحديثان ، أو الآيتان ، أو الآية
    والحديث ، فيما يظن من لا يعلم ، ففرض على كل مسلم استعمال كل ذلك ، لأنه
    ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض ، ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله ،
    ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها ، وكل من عند الله عز وجل ،
    وكل سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق . انتهى .
    وقال الشنقيطي في أضواء البيان ( 2/407 ) : الجمع واجب إذا أمكن وهو مقدم
    على الترجيح بين الأدلة . انتهى .
    قلت : ووجوه الجمع عديدة : فمنها أن يحمل الأمر على الندب ، وأن تحمل
    الواقعة على التعدد ، وأن يحمل اللفظ على غير معناه الأصلي كحمل ( الواو )
    على معنى ( ثم ) لإرادة الترتيب ، وأن يؤول أحد الدليلين . إلى غير ذلك من
    أوجه الجمع .




    معرفـة دلالات الألفـاظ الشرعيـة

    القاعدة الأولى : الواجب حمل الألفاظ الواردة في الكتاب
    والسنة على الحقيقة الشرعية :
    بعض الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة تختلف دلالتها عن دلالتها في اللغة
    العربية ، والواجب حملها على الحقيقة الشرعية فالوضوء في الشرع يطلق على
    الصفة المعروفة ، وأما في اللغة فيطلق على غسل اليدين ، فالواجب حمل (
    الوضوء ) الوارد في الكتاب والسنة على الحقيقة الشرعية لا اللغوية .
    يقول شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 7/286 ) : ومما ينبغي أن يعلم أن
    الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة
    النبي r لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم .
    وقال أيضا في ( 7/115 ) : ولهذا ينبغي أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن أو
    الحديث ، أن يذكر نظائر ذلك اللفظ ماذا عنى بها الله ورسوله ، فيعرف بذلك
    لغة القرآن والحديث وسنة الله ورسوله التي يخاطب بها عباده .. ، ولا يجوز
    أن يحمل كلامه r على عادات حدثت بعده في الخطاب لم تكن معروفة في خطابه
    وخطاب أصحابه . انتهى .
    وقال ابن القيم في أعلام الموقعين ( 1/266 ) : فحدود ما أنزل الله هو
    الوقوف عند حد الإسم الذي علق عليه الحل والحرمة . انتهى .


    القاعدة الثانية : النفي الوارد في الكتاب والسنة المراد به نفي الكمال
    الواجب وليس نفي الكمال المستحب
    قال ابن تيمية في القواعد النورانية : فالنبي r أمر ذلك المسيء في صلاته
    بأن يعيد الصلاة ، وأمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب ، وأمره
    إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة ، كما أمره بالركوع والسجود ، وأمره المطلق
    على الإيجاب ، وأيضا قال له (( فإنك لم تصل )) فنفى أن يكون عمله الأول
    صلاة ، والعمل لا يكون منفياً إلا إذا كان انتفى شيء من واجباته ، فأما إذا
    فعل كما أوجبه الله عز وجل فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شيء من المستحبات
    التي ليست بواجبة ، وأما ما يقوله بعض الناس : إن هذا نفي للكمال ، فيقال
    له : نعم هو لنفي الكمال ، لكن لنفي كمال الواجبات أو لنفي كمال المستحبات ؟
    فأما الأول : فحق ، وأما الثاني : فباطل ، لا يوجد مثل ذلك في كلام الله
    عز وجل ، ولا في كلام رسوله قط ، وليس بحق ، فأما الشيء إذا أكملت
    واجباته فكيف يصح نفيه ؟ وأيضا فلو جاز لجاز نفي صلاة عامة الأولين
    والآخرين ، لأن كمال المستحبات من أندر الأمور ، وعلى هذا فما جاء من نفي
    الأعمال في الكتاب والسنة فإنما هو لانتفاء بعض واجباته . انتهى .


    القاعدة الثالثة : دلالة الاقتران تكون قوية إذا جمع المقترنين
    لفظ اشتركا في إطلاقه وافتراقا في تفصيله
    قال ابن القيم في بدائع الفوائد ( 2/356 ) : دلالة الاقتران تظهر قوتها في
    موطن وضعفها في موطن وتساوي الأمرين في موطن ، فإذا جمع المقترنين لفظ
    اشتركا في إطلاقه وافترقا في تفصيله قويت الدلالة كقوله r (( الفطرة خمس
    )) وفي مسلم : (( عشر من الفطرة )) ثم فصلها ، فإذا جعلت الفطرة بمعنى
    السنة والسنة هي المقابلة للواجب ضعف الاستدلال بالحديث على وجوب الختان ،
    لكن تلك المقدمات مصنوعتان ، فليست الفطرة بمرادفة للسنة ، ولا السنة في
    لفظ النبي r هي المقابلة للواجب ، بل ذلك اصطلاح وضعي لا يحمل عليه كلام
    الشارع ، ومن ذلك قوله r : (( حق على كل مسلم أن يغتسل يوم الجمعة
    ويستاك ويمس من طيب بيته )) فقد اشترك الثلاثة في إطلاق الحق عليه ، إذا
    كان حقا مستحبا في اثنين منها كان في الثالث مستحبا .. وأما الموضع الذي
    يظهر ضعف دلالة الاقتران فيه فعند تعدد الجمل واستقلال كل واحدة منهما
    بنفسها كقوله r : (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من
    الجنابة )) وقوله : (( لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده ))
    فالتعرض لدلالة الاقتران ههنا في غاية الفساد ، فإن كل جملة مفيدة لمعناها
    وحكمها وسببها وغايتها منفردة عن الجملة الأخرى ، واشتراكهما في مجرد العطف
    لا يوجب اشتراكهما فيما وراء ذلك .. ، وأما موطن التساوي فحيث كان العطف
    ظاهراً في التسوية وقصد المتكلم ظاهراً في الفرق فيتعارض ظاهر اللفظ وظاهر
    القصد ، فإن غلب ظهور أحدهما اعتبر وإلا طلب الترجيح ، والله أعلم . انتهى .




    & # &
















    الأمــــر

    القاعدة الأولى : الأمر يدل على الوجوب
    الأمر المجرد يدل على الوجوب إلا لقرينة صارفة ، ودليل الوجوب قوله تعالى :
    { فليحْذَرِ الذينَ يُخالِفُونِ عِنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُم فِتنِةٌ أوْ
    يُصِيبَهُم عَذابٌ ألِيمٌ } ( النور :63 ) .
    فلو لم يكن الأمر للوجوب لما ترتب على تركه فتنة أو عذاب أليم . وقال عليه
    الصلاة والسلام : (( لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ))
    أخرجه البخاري ( 887 ) ومسلم ( 3/142 ) .
    فلم يأمرهم حتى لا يشق عليهم ، قال الخطيب في الفقيه والمتفقه ( 1/68
    ) فدل على أنه لو أمر لوجب وشق . انتهى .
    والقرائن التي تصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب أربعة قرائن هي :
    1 ـ أن يكون الدليل الذي فيه الأمر ذكر معه تعليل يدل على أن ذلك الأمر
    للاستحباب ، مثاله : حديث رافع بن خديج أن النبي r قال : (( أسفروا
    بالفجر فإنه أعظم للأجر )) .
    أخرجه الترمذي ( 154 ) والنسائي ( 1/272 ) وهو صحيح .
    فالتعليل بأن الإسفار أعظم للأجر ، يدل على أن التغليس فيه أجر أيضا لكن
    دون الإسفار ، فيكون الأمر للاستحباب .
    2 ـ أن يأتي دليل آخر يدل على أن الأمر في الدليل الأول ليس للوجوب ، مثاله
    : حديث أبي تميمة الهجيمي عن رجل من قومه من الصحابة أن النبي r قال : ((
    إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته )) .
    أخرجه الترمذي ( 2722 ) وصححه ، وصححه أيضا الألباني في الصحيحة ( 1403 )
    فالأمر هنا بزيادة ( ورحمة الله وبركاته ) ليس للوجوب لحديث عمران بن حصين
    قال : جاء رجل إلى النبي r فقال : ( السلام عليكم ) فرد عليه ثم جلس فقال
    النبي r (( عشرٌ )) أي عشر حسنات .
    أخرجه أبو داود ( 5195 ) والترمذي ( 2690 ) وهو صحيح .
    ففي هذا الحديث لم يأمر النبي r الرجل بزيادة ( ورحمة الله وبركاته ) على
    قوله : ( السلام عليكم ) فدل هذا على أن الأمر في الحديث ليس للوجوب .
    3 ـ أن يأتي من فعل النبي r ترك ذلك الأمر ، مثاله حديث ابن عباس أن رسول
    الله r قال : (( البسوا من ثيابكم البياض ، فإنها من خير ثيابكم ، وكفنوا
    فيها موتاكم )) .
    أخرجه أبو داود ( 3878 ) والترمذي ( 994 ) وهو صحيح .
    ففي هذا الحديث الأمر بلبس الثياب البيض ، وقد جاء من فعل النبي r ترك هذا
    الأمر فعن أبي رمثة التميمي قال : رأيت رسول الله r وعليه ثوبان أخضران .
    أخرجه أبو داود ( 4095 ) والترمذي ( 2813 ) .
    4 ـ أن يأتي عن الصحابي الذي روى الحديث ما يدل على أن ذلك الأمر ليس
    للوجوب ، فالراوي أدرى بما يرويه ، وأعلم بفقه ما يحدث به من الأحاديث .
    وهذه القرائن الأربعة كما أنها تكون صارفة للأمر من الوجوب إلى الاستحباب ،
    كذلك تكون صارفة للنهي من التحريم إلى الكراهة .

    القاعدة الثانية : الأمر يقتضي الفور
    الأمر المجرد عن القرائن يدل على الفور وسرعة الامتثال ، لقوله تعالى {
    وسارِعُوا إلى مَغْفِرِةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } ( آل عمران : 133 ] .
    ويدل على هذا أيضا ما جاء في قصة الحديبية أن النبي r لما فرغ من قضية
    الكتاب قال لأصحابه : (( قوموا فانحروا ثم احلقوا )) فو الله ما قام منهم
    رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد غضب النبي r من ذلك
    كما في الحديث المتفق عليه .
    قال ابن القيم في زاد المعاد ( 3/307 ) بعد أن ذكر جملة من فوائد الحديث :
    ومنها : أن الأمر المطلق على الفور وإلا لم يغضب لتأخيرهم الامتثال عن وقت
    الأمر . انتهى .

    القاعدة الثالثة : الأمر المطلق يقتضي التكرار
    الأمر المطلق يقتضي التكرار في عرف الشرع بخلاف اللغة ، وقد وضح هذا الأمر
    ابن القيم توضيحاً تاماً فقال في جلاء الأفهام ( 203 ) : الأمر المطلق
    يقتضي التكرار وهذا مختلف فيه ، فنفى طائفة من الفقهاء والأصوليين وأثبته
    طائفة ، وفرقت طائفة بين الأمر المطلق والمعلق على شرط أو وقت فأثبتت
    التكرار في المعلق دون المطلق والأقوال . و الأقوال الثلاثة في
    مذهب أحمد والشافعي وغيرهما ، ورجحت هذه الطائفة التكرار بأن عامة أوامر
    الشرع على التكرار كقوله : { آمنوا بالله ورسوله } ( النساء : 136 ) وقوله:
    { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } (المائدة : 92 ) { واتقوا الله } (
    البقرة : 189) وقوله : { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } (لأنعام : 152 )
    وقولـه : { وأن هذا صراطي مستقيما }(الأنعام : 153) وذلك في القرآن أكثر
    من أن يحصر ، وإذا كانت أوامر الله ورسوله على التكرار حيث وردت إلا في
    النادر علم أن هذا عرف خطاب الله ورسوله للأمة ، والأمر وإن لم يكن في لفظه
    المجرد ما يؤذن بتكرار ولا فور فلا ريب أنه في عرف خطاب الشارع للتكرار ،
    فلا يحمل كلامه إلا على عرفه والمـألوف من خطابه ، وإن لم يكن ذلك مفهوماً
    من أصل الوضع في اللغة . انتهى .
    قلت : والأوامر المقيدة بشرط تُكَرَّر بِتَكَرُّر الشرط ، كقوله تعالى :
    {ياأيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُـوا
    وُجُوهَكُـمْ وأيْدِيَكُمْ }[ المائدة : 6 ] فالوضوء مقيد بالصلاة فبتكرار
    الصلاة يتكرر الوضوء .


    القاعدة الرابعة : الشيء الذي جاء الأمر بفعله على صفة معينة ولم يأت
    أمر بفعله ابتداء ، فإن تلك الصفة تكون واجبة وابتداء ذلك
    الفعل ليس بواجب
    هناك بعض الأوامر لم يأت أمر بابتداء فعلها ولكن جاء الأمر بفعلها بصفة
    معينة ، فإن ذلك الأمر ابتداءه ليس بواجب ، ولكن إذا ابتدأه المسلم فإنه
    يجب أن يأتي به على الصفة التي ورد الأمر بفعلها على تلك الصفة ، لأن الأمر
    يدل على الوجوب ، مثاله : حديث جابر أن النبي r قال : (( إذا استجمر أحدكم
    فليوتر )) . أخرجه مسلم ( 213 ) .
    فالاستجمار ليس بواجب إذ يجوز الاستنجاء بالماء بدل الاستجمار بالحجارة
    ولكن من أراد أن يستجمر فإنه يجب عليه أن يكون استجماره وتراً ، للأمر بهذه
    الصفة على من أراد الاستجمار .



    القاعدة الخامسة : قول الصحابي ( أمرنا بكذا ) يدل على وجوب
    المأمور به
    قول الصحابي : ( أمرنا بكذا ) أو ( أمرنا رسول الله r بكذا ) يدل على وجوب
    المأمور به لأن الصحابي أفهم وأعلم بالمراد لما يرويه ، وذهب بعض المتكلمين
    إلى أنه لا يكون حجة حتى ينقل لفظ الرسول r ، لاحتمال أن يكون سمع صيغة
    ظنها أمرا أو نهيا وليست كذلك في نفس الأمر .
    وقد تعقب هذا القول الصنعاني فقال في توضيح الأفكار ( 1/271 ) : إن عملنا
    بمثل هذا الاحتمال لم تقبل إلا الرواية باللفظ النبوي وبطلت الرواية
    بالمعنى ، ولا شك أن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته الأوضاع
    اللغوية أنه لا يطلق ذلك إلا فيما تحقق أنه أمر أو نهي . انتهى .


    القاعدة السادسة : الأمر بعد الحظر يفيد ما كان عليه ذلك الشيء قبل
    ورود الأمر
    صيغة الأمر إذا وردت بعد النهي فإنها تفيد ما كان عليه ذلك الشيء الذي ورد
    الأمر به قبل النهي ، فإن كان للوجوب فهو للوجوب ، وإن كان للاستحباب فهو
    للاستحباب ، كقوله تعالى : {وإذا حللتم فاصطادوا } [ النساء : 176 ] ففي
    هذه الآية الأمر بالصيد بعد الإحلال من الإحرام ، والصيد أصله مباح فيرجع
    إلى ما كان عليه قبل الإحرام وهو الإباحة قال ابن كثير في تفسيره ( 2/6،7 )
    عند قوله تعالى : {وإذا حللتم فاصطادوا } [ النساء : 176 ]
    وهذا أمر بعد الخطر ، والصحيح الذي يثبت على السبر أنه يرد الحكم إلى ما
    كان عليه قبل النهي : فإن كان واجبا ردَّه واجبا ، وإن مستحبا فمستحب ، أو
    مباحاً فمباح ، ومن قال إنه على الوجوب ينتقض بآيات كثيرة ، ومن قال إنه
    للإباحة يرد عليه آيات أخرى ، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما
    اختاره بعض علماء الأصول والله أعلم . انتهى .


    القاعدة السابعة : الخبر بمعنى الأمر يدل على الوجوب
    الخبر الذي يكون بمعنى الأمر يترتب عليه ما يترتب على الأمر الصريح وهو
    الوجوب ، وذلك لأن العبرة بالمعنى والمقصود ، وليس العبرة باللفظ فقط ،
    واللفظ الذي يدل على الوجوب لا يكون بصيغة ( الأمر ) فقط ، فإن هناك
    ألفاظ تدل على الوجوب وليست بصيغة ( الأمر ) كلفظه ( حق ) ولفظه ( كتب
    ) وغير ذلك من ألفاظ .
    عن أم المؤمنين عائشة عن النبي r : (( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )) .

    أخرجه البخاري ( 1952 ) ومسلم ( 1147 ) .
    قال الألباني( ) ما حاصله : أن هذا خبر بمعنى الأمر يدلُّ على وجوب الصيام
    على الولي للميت .


    القاعدة الخامسة : إذا صرف الأمر من الوجوب فإنه يحمل على الاستحباب وليس
    على الإباحة
    الأمر إذا صرف من الوجوب فإنه يحمل على الاستحباب ولا يحمل على الاباحة ،
    لأن الاستحباب أقرب درجة إلى الوجوب من الإباحة ، فيحمل على الأقرب ولا
    يحمل على الأبعد وهو الإباحة إلا بقرينه ، فإن جاءت قرينة تدل على أن ذلك
    الأمر للإباحة حمل على الإباحة ، وعلى هذا مشى الأئمة رحمهم الله فإنهم
    يقولون في الأمر المصروف عن الوجوب هذا أمر استحباب أو هذا أمر ندب ، أو
    هذا أمر إرشاد وتأكيد ، ولا يقولون هذا أمر إباحة إلا إذا أتت قرينة تدل
    على ذلك .

    القاعدة التاسعة : أمر الصحابي لا يحمل على الوجوب
    إذا أمر الصحابي بأمر فلا يحمل الوجوب ، لأن أمر الصحابي ليس كأمر النبي r ،
    فأمر النبي r ورد ما يدل على وجوبه ، وأمر الصحابي لم يأت ما يدل على
    وجوبه .


    القاعدة العاشرة : العدد الذي يحصل به تطبيق الأمر هو المرة
    الواحدة
    الأمر إذا أطلق بغير عدد فإن أقل ما يحصل به تطبيق ذلك الأمر هو ( المرة
    الواحدة فقط ) كقوله تعالى : { فاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ }
    ففي هذه الآية وجوب غسل الوجه في الوضوء ويحصل هذا الوجوب بغسل الوجه مرة
    واحدة فقط ، لأن هذا هو الأصل في تطبيق الأمر الذي يحدد بعدد ، قال الشافعي
    في الرسالة ( 164 ) : فكان ظاهر قول الله : { فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة
    : 6 ] أقل ما وقع عليه اسم الغسل وذلك مرة واحتمل أكثر ، فسن رسول الله
    الوضوء مرة فوافق ذلك ظاهر القرآن ، وذلك أقل ما يقع عليه اسم الغسل .
    انتهى .

    القاعدة الحادية عشر : القضاء يكون بأمر جديد ولا يكون
    بالأمر بالأداء
    القضاء يحتاج إلى أمر جديد غير ( أمر الأداء ) وذلك لأن الشارع لما جعل
    لتلك العبادة وقتاً محدداً وجب فعلها في ذلك الوقت ، فلما خرج ذلك الوقت
    وكان المكلف غير مفرط لم يؤاخذ وسقط عنه ذلك الواجب ، فإن كان مفرطاً فإنه
    يؤاخذ ولا ينفعه فعل العبادة بعد خروج وقتها ، ما دام أنه كان مفرطاً .
    مثاله : زكاة الفطر وقتها قبل صلاة العيد فإذا خرج وقتها صارت قضاء والقضاء
    يحتاج إلى خطاب جديد من الشارع يدل على ذلك ولا دليل على أن زكاة الفطر
    تقضى إذا فات وقتها ، سواء كان تركها عن تفريط أو عن جهل ونسيان .
    قال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 159 ) : فالأمر الأول هل يقتضي إيقاع ذلك
    الفعل فيما بعد ذلك الوقت فقيل لا يقتضي لوجهين :
    الأول : أن قول القائل لغيره إفعل هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول الأمر
    فعله في غيره وإذا لم يتناوله لم يدل عليه بنفي ولا إثبات .
    الثاني : أن أوامر الشرع تارة لا تستلزم وجوب القضاء وتارة تستلزمه ومع
    الاحتمال لا يتم الاستدلال فلا يلزم القضاء إلا بأمر جديد وهو الحق ، وإليه
    ذهب الجمهور وذهب جماعة إلى أن وجوب القضاء يستلزمه بالأداء في الزمان
    المعين لأن الزمان غير داخل في الأمر بالفعل ورد بأنه داخل لكونه من
    ضروريات الفعل المعين وقته . انتهى .

    القاعدة الثانية عشر : الأمر الوارد عقب سؤال يكون
    بحسب قصد السائل :
    الأمر الوارد عقب سؤال يأتي على حالتين :
    الحالة الأولى : أن يكون الأمر ورد عقب سؤال عن حكم ذلك الشيء ، فيكون
    الأمر بحسب مقصود السائل ، فإذا كان قصد السائل عن الإباحة وعدمها فالأمر
    ليس للوجوب وإنما هو لبيان المشروعية ، وإن كان قصد السائل الوجوب وعدمه
    فالأمر للوجوب ، مثاله حديث البراء بن عازب : سئل رسول الله r عن الوضوء من
    لحوم الإبـل فقـال : (( توضؤا منها )) وسئل عن لحوم الغنم ، فقال :
    (( لا توضئوا منها )) وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : (( لا تصلوا
    في مبارك الإبل فإنها من الشياطين )) وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال :
    (( صلوا فيها فإنها بركة )) . أخرجه أبو داود ( 184 ) وهو صحيح .
    فالأمر بالوضوء من لحوم الإبل أمر إيجاب ، لأن قصد السـائل هو ( هل لحم
    الإبل ناقض للوضوء أم لا ؟ ) وما كان ناقضاً للوضوء فيجب الوضوء منه ،
    فيكون الأمر الوارد في الجواب يفيد الوجوب وأما الأمر بالصلاة في مرابض
    الغنم فلا يفيد الوجوب ، لأن قصد السائل هو ( هل تشرع الصلاة في مرابض
    الغنم أم لا ؟ ) فيكون الأمر الوارد في الجواب يفيد المشروعية ، ولا يفيد
    الوجوب .
    الحالة الثانية : أن يكون الأمر ورد عقب سؤال عن الكيفية فإن كان أصل
    الكيفية واجب ، فيكون الأمر للوجوب ، وإن كان أصل الكيفية غير واجب فالأمر
    ليس على الوجوب ، مثال الأول : ( وهو ما كان أصله واجب ) حديث كعب بن عجرة
    أنه قال : قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟
    قال : (( قولوا : اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد .. )) . أخرجه البخاري
    ( 6357 ) فالصلاة على النبي r في التشهد واجبة ، فيكون الأمر هنا للوجوب .

    ومثال الثاني : ( وهو ما كان أصله غير واجب ) حديث عائشة أن رسول الله r
    قال : ( إن جبريل أتاني فقال : إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر
    لهم ) قالت : قلت : كيف أقول لهم يا رسول الله ؟ قال : (( قولي : السلام
    على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا
    والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون )) . أخرجه مسلم ( 974 ) .
    فأصل الدعاء عند زيارة القبر ليس فيه دليل يدل على وجوبه ، فيكون الأمر هنا
    ليس للوجوب .



    & # &










    الــنــــهــي

    القاعدة الأولى : النهي يدل على التحريم
    الأصل في النهي التحريم إلا لقرينة ، والدليل على ذلك قوله r : (( ما
    نهيتكم عنه فاجتنبوه )) .
    أخرجه مسلم ( 1337 ) .
    قال الشافعي كما في الفقيه والمتفقه ( 1/69 ) : أصل النهي من رسول الله r
    أن كل ما نهى عنه فهو محرم حتى تأتي عليه دلالة تدل على أنه عنى به غير
    معنى التحريم إما أراد به نهيا عن بعض الأمور دون بعض وإما أراد به النهي
    للتنزيه للمنهي عنه والأدب والاختيار ولا يفرق بين نهي رسول الله r أو أمر
    لم يختلف فيه المسلمون فنعلم أن المسلمين كلهم لا يجهلون سنته وقد يمكن أن
    يجهلها بعضهم . انتهى .
    قلت : وفي كلام الشافعي رحمه الله تنبيه دقيق إلى أن قول جمهور العلماء لا
    يصلح أن يكون صارفاً للنهي حتى يجمعوا على ذلك ، فما يوجد في بعض المصنفات
    من صرف للنهي عن التحريم بقول أكثر العلماء ليس بصواب ، وأيضا استبعاد
    العقل أن يكون ذلك النهي للتحريم لا يصلح هذا صارفاً بل لا بد من نص من
    السنة يدل على ذلك ، وكذلك الأوامر الشرعية هي مثل النهي تماماً .
    والتفريق بين النهي الوارد في العبادات والمعاملات فيفيد التحريم ، والنهي
    الوارد في الآداب فلا يفيد التحريم تفريق ليس عليه دليل ، بل الأدلة
    الواردة عامة في اجتناب كل نهي من غير تفريق فيبقى العمل بها على عمومها من
    غير تفريق .


    القاعدة الثانية : النهي يدل على الفساد
    النهي يدل على فساد المنهي وبطلانه وعلى هذا كان الصحابة رضوان الله عليهم ،
    فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه رد نكاح رجل تزوج امرأة وهو محرم . أخرجه
    البيهقي في الكبرى ( 7/441 )
    وثبت عن معاوية أنه فرق بين الرجل وامرأته في نكاح الشغار . أخرجه أبو داود
    ( 2075 )
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 29/282 ) : وإنما الشارع دل الناس
    بالأمر والنهي ، والتحليل والتحريم ، وبقوله في عقود ( هذا لا يصح ) علم
    أنه فساد ، كما قال في بيع مُدَّيْنِ بِمُدٍّ تمرا ( لا يصح ) والصحابة
    والتابعون وسائر أئمة المسلمين كانوا يحتجون على فساد العقود بمجرد النهي ،
    كما احتجوا على فساد نكاح ذوات المحارم بالنهي المذكور في القرآن ، وكذلك
    فساد عقد الجمع بين الأختين .. ، وكذلك الصحابة استدلوا على فساد نكاح
    الشغار بالنهي عنه فهو من الفساد ليس من الصلاح فإن الله لا يحب الفساد
    ويحب الصلاح ، ولا ينهى عما يحبه وإنما ينهى عما لا يحبه ، فعلموا أن النهي
    عنه فاسد ليس بصالح ، وإن كانت فيه مصلحة فمصلحته مرجوحة بمفسدته . انتهى .

    قلت : وهذه المسألة تحتاج إلى بيان أمور :
    ـ الأمر الأول :
    ما نهي عنه على الدوام وتعلق في بعض الأوقات بفعل مأمور به ، فهذا لا يدخل
    في قاعدة ( النهي يدل على الفساد ) ويكون الفعل المأمور صحيحا ، ومثاله :
    لبس الحرير منهي عنه والصلاة مأمور بها ، فلو صلى شخص وعليه ثوب حرير لم
    تبطل صلاته ، لأن النهي عن لبس الحرير ليس متعلق بالصلاة ، بل هو نهي على
    الدوام والإطلاق ، لكن لو جاء النهي في الشرع عن الصلاة في الثوب الحرير ،
    لبطلت صلاة من صلى في ثوب حرير .
    ـ الأمر الثاني :
    لا فرق في فساد المنهي عنه بين أن يكون لذاته أو لغيره ، وذهب الحنفية
    والشافعية إلى التفريق بين أن يكون المنهي عنه لذاته فهو فاسد وبين أن يكون
    لغيره فهو غير فاسد ، وقد ردَّ شيخ الإسلام على هذا التقسيم فقال كما في
    مجموع الفتاوى ( 29/288 ) : فالجمع بين الأختين نهي عنه لإفضائه إلى قطيعة
    الرحم ، والقطيعة أمر خارج عن النكاح ، والخمر والميسر حرما وجعلا رجساً من
    عمل الشيطان لأن ذلك يفضي إلى الصد عن الصلاة وإيقاع العداوة ، والربا
    حرام لأن ذلك يفضي إلى أكل المال الباطل ، وذلك أمر خارج عن عقد الميسر
    والربا ، فكل ما نهى الله عنه لا بد أن يشمل على معنى فيه يوجب النهي ، ولا
    يجوز أن ينهى عن شيء لا لمعنى فيه أصلاً ، بل لمعنى أجنبي عنه ، فإن هذا
    من جنس عقوبة الإنسان بذنب غيره والشرع منزه عنه .. ، ثم من هؤلاء الذين
    قالوا : إن النهي قد يكون لمعنى في المنهي عنه ، وقد يكون لمعنى في غيره ،
    من قال : إنه قد يكون لوصف في الفعل لا في أصله ، فيدل على صحته ، كالنهي
    عن صوم يومي العيدين قالوا : هو منهي عنه لوصف العيدين : قالوا : هو منهي
    عنه لوصف العيدين لا لجنس الصوم ، فإذا صام صح ، لأنه سماه صوماً ، فيقال
    لهم : وكذلك الصوم في أيام الحيض ، وكذلك الصلاة بلا طهارة ، وإلى غير
    القبلة جنس مشروع ، وإنما النهي لوصف خاص وهو الحيض والحدث واستقبال غير
    القبلة ، ولا يعرف بين هذا وهذا فرق معقول له تأثير في الشرع . انتهى .
    ـ الأمر الثالث :
    لا فرق في فساد المنهي عنه بين أن يكون في العبادات والمعاملات ، وعلى هذا
    جرى فهم الصحابة ، فقد ردَّ عمر نكاح المحرم ورد معاوية نكاح الشغار كما
    تقدم .
    قال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 167 ) : والحق أن كل نهي من غير فرق بين
    العبادات والمعاملات يقتضي تحريم المنهي عنه وفساده المرادف للبطلان اقتضاء
    شرعيا ولا يخرج من ذلك إلا ما قام الدليل على عدم اقتضائه لذلك فيكون هذا
    الدليل قرينة صارفة له . انتهى .
    قلت : لكن ما كان من المناهي متعلقا بحق العبد وليس متعلقا بحق الله وأجازه
    العبد صح ولم يفسد ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 29/282 ) :
    لكن من البيوع ما نهي عنه لما فيها من ظلم أحدهما للآخر ، كبيع المصراة ،
    والمعيب ، وتلقي السلع ، والنجش ونحو ذلك ، ولكن هذه البيوع لم يجعلها
    الشارع لازمة كالبيوع الحلال ، بل جعلها غير لازمة ، والخيرة فيها إلى
    المظلوم ، إن شاء أبطلها وإن شاء أجازها ، فإن الحق في ذلك له ، والشارع لم
    ينه عنها لحق مختص بالله ، كما نهي عن الفواحش . انتهى .

    القاعدة الثالثة : النهي الوارد عقب سؤال إفادته على حسب
    ما يقصده السائل
    النهي الوارد عقب سؤال إنما تفيد دلالته على حسب مقصود السائل ، فإن كان
    مقصود السائل بسؤاله هو الإباحة وعدمها فيفيد النهي التحريم ، وإن كان
    مقصود السائل هو الوجوب وعدمه فيفيد النهي عدم الوجوب ولا يفيد التحريم ،
    مثاله حديث البراء بن عازب قال : سئل رسول الله r عن الوضوء من لحوم
    الإبل ، فقال : (( توضؤا منها )) وسئل عن لحوم الغنم ، فقال : (( لا توضؤا
    منها )) وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : (( لا تصلوا في مبارك
    الإبل فإنها من الشياطين )) .
    أخرجه أبو داود ( 184 ) وهو صحيح .
    فالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم يفيد عدم وجوب الوضوء منها ، لأن قصد
    السائل هو معرفة ما إذا كان لحم الغنم ناقض للوضوء أم لا ؟ والشيء إذا كان
    ناقضاً للوضوء يجب الوضوء منه وإذا لم يكن ناقضاً فلا يجب ، فأجابه النبي r
    بأنه لا يجب الوضوء من لحم الغنم .
    وأما النهي عن الصلاة في مبارك الإبل فإنه يفيد التحريم في الصلاة فيها ،
    لأن قصد السائل هو معرفة حكم الصلاة في مبارك الإبل هل يباح كبقية الأرض أم
    لا يباح ؟ فأجابه النبي r بأنه لا يباح الصلاة فيها .



    & # &
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أصول الفقه على منهج أهل الحديث Empty رد: أصول الفقه على منهج أهل الحديث

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 10.08.10 19:52

    الـعــام والـخـــاص

    القاعدة الأولى : الأصل أن التنصيص على بعض أفراد العام بالذكر لا يعني
    تخصيص النص العام بذلك المذكور إلا لقرينه
    إذا جاء نص عام وجاء في نص آخر ذكر بعض أفراده فإن الأصل في ذكر ذلك الفرد
    التخصيص لأن ألفاظ الشرع مراده ومقصودة لذاته فلا يخرج عن هذا الأصل إلا
    بقرينه ومثال ذلك .
    عن عائشة أم المؤمنين قالت : سمعت رسول الله r يقول : (( لا صلاة بحضرة
    الطعام ، ولا هو يدافعه الأخبثان )) .
    أخرجه مسلم ( 560 ) .
    فهذا الحديث يعم كل طعام سواء كان غداء أم عشاء ، وجاء في حديث ابن عمر أن
    النبي r قال : (( إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء )) .
    أخرجه البخاري ( 673 ) ومسلم ( 559 ) .
    فجاءت قرينه هنا تدل على أن فذكر العشاء هنا ليس تخصيصاً للفظ العام في
    حديث عائشة ، وإنما هو ذكر لبعض أفراد العام ولذلك ما كان الصحابة يخصصون
    الحكم بطعام العشاء بل كانوا يعممون الحكم . قال الشوكاني في إرشاد الفحول (
    202 ) : ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم لا يقتضي التخصيص عند
    الجمهور ، ومثال ذلك قوله r : (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) مع قوله r في
    حديث آخر في شاة ميمونة : (( دباغها طهورها )) فالتنصيص على الشاة في
    الحديث الآخر لا يقتضي تخصيص عموم (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) لأنه تنصيص
    على بعض أفراد العام بلفظ لا مفهوم له . انتهى .

    القاعدة الثانية : الأصل في العام العمل به على عمومه حتى يوجد
    المخصص
    إذا ورد النص العام فإن الصحابة كانوا يعملون به على عمومه حتى يطلعوا له
    على مخصص ، وليس أنهم كانوا يتوقفون في النص العام ويبحثون عن المخصص فإن
    لم يجدوا المخصص عملوا بعد ذلك بالنص العام .
    فإنه لما نزل قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلبِسُوا
    إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } [ الأنعام : 82 ] حملها الصحابة على عمومها
    حتى قالوا : أينا لم يظلم نفسه ، حتى يبن لهم النبي r أن الظلم هنا ليس
    على عمومه وإنما المراد به الشرك .
    قال الشافعي في الأم ( 7/269 ) : وكذلك ينبغي لمن سمع الحديث أن يقول به
    على عمومه وجملته ، حتى يجد دلالة يفرق منها فيه . انتهى .
    وقال الشنقيطي في المذكرة ( 217 ) : حاصله أن التحقيق ومذهب الجمهور وجوب
    اعتقاد العموم والعمل من غير توقف على البحث عن المخصص ، لأن اللفظ موضوع
    للعموم فيجب العمل بمقتضاه ، فإن اطلع على مخصص عمل به . انتهى .


    القاعدة الثالثة : لا يشرع العمل بالنص العام على عمومه
    إن لم يجر عمل السلف بالعمل به على عمومه
    لا شك أن السلف الصالح أفهم لدلالة الكتاب والسنة ، فإذا جاء نص عام ولم
    يعمل السلف بذلك النص على عمومه وإنما عملوا ببعض أفراده فلا يشرع العمل به
    على عمومه إذ لو كان يشرع العمل على عمومه لسبقنا السلف الصالح إلى ذلك ،
    قال الشاطبي في الموافقـات ( 3/56 ) كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون
    معمولا به في السلف المتقدمين دائماً ، أو أكثريا ، أو لا يكون معمولا به
    إلا قليلا أو في وقت ما ، أو لا يثبت به عمل ، فهذه ثلاثة أقسام :
    أحدهما : أن يكون معمولاً به دائما أو أكثريا ، فلا إشكال في الاستدلال به ،
    ولا في العمل على وِفْقِه ، وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم ، كان
    الدليل مما يقتضي إيجاباً أو ندباً أو غير ذلك من الأحكام ، كفعل النبي r
    مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل ، والزكاة بشروطها
    والضحايا ، والعقيقة ، والنكاح ، والطلاق ، والبيوع ، وسواها من الأحكام
    التي جاءت في الشريعة وبينها عليه الصلاة والسلام بقوله أو فعله أو إقراره ،
    ووقع فعله و فعل صحابته معه أو بعده على وِفْقِ ذلك دائماً أو أكثرياً .
    الثاني : أن لا يقع العمل به إلا قليلاً ، أو في وقت من الأوقات ، أو حال
    من الأحوال ، ووقع إيثاره غيره والعمل به دائماً أو أكثرياً ، فذلك الغير
    هو السنة المتبعة والطريق السابلة ، وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلا ،
    فيجب التثبت فيه وفي العمل على وفقه والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر ،
    فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل : إما أن يكون لمعنى شرعي ،
    أو لغير معنى شرعي ، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي ، فلا بد أن يكون لمعنى
    شرعي تحروا العمل به ، وإذا كان كذلك فقد صار العمل على وفق القليل ،
    كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه ،وإن لم يكن معارضاً في الحقيقة
    ، فلا بد من تحري ما تحروا وموافقة ما داوموا عليه .
    والقسم الثالث : أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال ، فهو أشد من
    أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه البتة ، إذ لو كان دليلا لم يعزب عن
    فهم الصحابة والتابعين ، ثم يفهمه هؤلاء ، فعمل الأولين كيف كان مصادم
    لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له ، انتهى ملخصا .

    القاعدة الرابعة : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
    النص العام الوارد بخصوص سبب من الأسباب ، فإنه يعمل به على عمومه ولا يخصص
    بذلك السبب ، وعلى هذا جرى فهم الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد سأل قوم
    النبي r أنهم يركبون البحر ومعهم ماء لا يكفي إلا للشرب فقال : (( هو
    الطهور ماؤه )) .
    وقد أفتى بهذا العموم جمع من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وابن عباس مع أن
    العموم كان وارداً على سبب وهو حاجتهم إلى الماء للشرب إذا ركبوا البحر .
    قال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 201 ) : وهذا المذهب هو الحق الذي لا شك
    فيه ، لأن التعبد للعباد إنما هو باللفظ الوارد عن الشارع وهو عام ووروده
    على سؤال خاص لا يصلح قرينة لقصره على ذلك السبب ومن ادعى أنه يصلح لذلك
    فليأت بدليل تقوم به الحجة ولم يأت أحد من القائلين بالقصر على السبب بشيء
    يصلح لذلك ، وإذا ورد في بعض المواطن ما يقتضي قصر ذلك العام الوارد فيه
    على سببه لم يجاوز به محله بل يقصر عليه ، ولا جامع بين الذي ورد فيه بدليل
    يخصه وبين سائر العمومات الوردة على أسباب خاصة حتى يكون ذلك الدليل في
    الموطن شاملاً لها . انتهى .

    القاعدة الخامسة : ترك الاستفصال في مكان الاحتمال ينزل منزلة
    العموم من المقال
    هذه القاعدة أصلها الإمام الشافعي ، ومن أدلة هذه القاعدة حديث غيلان
    الثقفي أنه أسلم وتحته عشرة نسوة ، فقال له النبي r : (( أمسك أربعاً وفارق
    سائرهن )) .
    وهو حديث صحيح أخرجه الترمذي ( 1128 ) وابن ماجة ( 1953 ) .
    ووجه الدلالة من الحديث كما قال السمعاني في قواطع الأدلة ( 1/225 ) :
    لم يسأله عن كيفية العقد هل عقد عليهن على الترتيب أو عقد عليهن دفعة
    واحدة فكان إطلاقه القول من غير استفصال حال دليلاً دالاً على أنه لا فرق
    بين أن تتفق العقود عليهم معاً أو توجد العقود متفرقة عنهن ثم قال .. :
    فنحن ندعي العموم في كل ما يظهر فيه استفهام الحال ويظهر من الشارع إطلاق
    الجواب فلا بد أن يكون الجواب مسترسلاً في الأحوال كلها وعلى أنه وجه
    الدليل واضح من خبر غيلان بن سلمة في الأحوال كلها ، فإن النبي r قال له : (
    أمسك أربعاً ) فأجملهن ولم يخصص في الإمساك أوائل عن أواخر أو أواخر عن
    أوائل وفوض الأمر إلى اختيار من أسلم . انتهى .

    القاعدة السادسة : الصورة النادرة داخلة في العموم
    عمل الصحابة يدل أن الصورة النادرة داخلة في العام والمطلق ، وذلك لأنهم ما
    كانوا يستثون الصورة النادرة من الدليل العام في مسألة ما ، قال الشنقيطي
    في أضواء البيان ( 4/174 ) : الذي يظهر رجحانه بحسب المقرر في الأصول شمول
    العام والمطلق للصورة النادرة ، لأن العام ظاهر في عمومه حتى يرد دليل مخصص
    من كتاب أو سنة ، وإذا تقرر أن العام ظاهر في عمومه وشموله لجميع الأفراد
    فحكم الظاهر العمل به إلا بدليل يصح للتخصيص ، وقد كان الصحابة رضي الله
    عنهم يعملون بشمول العمومات من غير توقف وبذلك تعلم أن دخول الخضر في عموم
    قوله تعالى : { ومَاجَعلْنَا لبَشَرٍ مِنْ قَبلِكَ الخُلْدَ } [ الأنبياء :
    34 ] الآية ، وعموم قوله r : (( أر أيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة
    سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد )) هو الصحيح ، ولا يمكن
    خروجه من تلك العمومات إلا بمخصص صالح للتخصيص ، ومما يوضح ذلك ، أن
    الخنثى صورة نادرة جداً ، مع أنه داخل في عموم آيات المواريث والقصاص ،
    وغير ذلك من عموم الأدلة . انتهى .

    القاعدة السابعة : ليس كل عام قد دخله التخصيص
    القول بأنه ما من عام إلا وقد خُصَّ ليس بصحيح لأنه ليس عليه دليل فإن هناك
    عمومات لم يدخلها التخصيص ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 6/442
    ) : من الذي يسلم أن أكثر العمومات مخصوصة ؟ أم من الذي يقول ما من عموم
    إلا وقد خص إلا قوله : { بكُلِّ شَيءٍ عَلِيم } ؟ فإن هذا الكلام وإن
    كان يطلقه بعض السادات من المتفقهة وقد يوجد في كلام بعض المتكلمين في أصول
    الفقه فإنه من أكذب الكلام وأفسده ، والظن بمن قاله : أنه إنما عنى أن
    العموم من لفظ { كلَّ شَيءٍ } مخصوص إلا في مواضع قليلة ، كما يقول تعالى :
    {تُدَمَّرُ كُلَّ شَيءٍ } [ الأحقاف : 25 ] { وَأُوتَيَت مِنْ كُلِّ شَيءٍ
    } [ النمل : 23 ] وإلا فأي عاقل يدعي هذا في جميع صيغ العموم في الكتاب
    والسنة ، وأنت إذا قرأت القرآن من أوله إلى آخره وجدت غالب عموماته محفوظة
    لا مخصوصة . انتهى .

    القاعدة الثامنة : يقدم الخاص على العام مطلقاً سواء كان
    العام متقدما أو متأخراً
    الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقدمون الخاص على العام مطلقا ولا ينظرون
    فيها إذا كان العام متقدما على الخاص أو متأخراً عنه ، ومن الأدلة على ذلك
    حديث فاطمة بنت رسول الله r أنها جاءت تطلب ميراثها وذلك لعموم الأدلة
    الوردة في ميراث الأبناء من آبائهم ، فلم يعطها أبو بكر الصديق شيئاً واحتج
    لقوله r : (( ما نورث ما تركنا صدقة )) . أخرجه البخاري ( 3092 ، 3093 ) .

    ولم ينظر أبو بكر الصديق هل العام جاء بعد الخاص أم لا ؟ .
    قال الشنقيطي في المذكرة ( 223 ) : ومن تتبع قضاياهم ( أي الصحابة ) تحقق
    ذلك عنهم . انتهى .


    القاعدة التاسعة : العام الذي دخله التخصيص يجب العمل بما بقي
    من عمومه
    العام الذي دخله التخصيص ، فإن العمل بما بقي من عمومه واجب لا يجوز تركه ،
    على هذا جرى الصحابة في وقائع كثيرة ، قال السمعاني في قواطع الأدلة (
    1/175 ، 178 ) : العموم إذا خص لم يصر مجازا فيما بقي ، بل هو على الحقيقة
    فيه ، والاستدلال به صحيح فيما عدا المخصوص ، ولا فرق عندنا بين أن يكون
    التخصيص بدليل متصل باللفظ أو دليل منفصل ، وذهب قوم من المتكلمين إلى أنه
    يصيرا مجازا متصلا كان الدليل المخصص أو منفصلا .. ، وقد ورد عن الصحابة
    التعلق بالعموم المخصوص ، فإن عليا رضي الله عنه قال في الجمع بين الأنشتين
    المملوكتين في الوطأ أحلتهما آية وحرمتهما آية وقد روي عن عثمان رضي الله
    عنه مثل ذلك ، وعنيا بقولهما أحلتهما آية قوله تعالى : {وَأَنْ تَجْمَعُوا
    بَيْنَ الأختَيْنِ }[ النساء : 3 ] مخصوص منه البنت والأخت ، واحتج ابن
    عباس رضي الله عنهما في قليل الرضاع بقوله تعالى : { وَأمَّهَاتُكُم
    الَّلآتِي أرْضَعْنَكُمْ }[ النساء : 20 ] وقال قضاء الله أولى من قضاء ابن
    الزبير ، وإن كان التحريم بالرضاع يحتاج إلى شروط ، وذلك يوجب تخصيص الآية
    ، ولا يعرف لهؤلاء مخالف من الصحابة . انتهى .

    القاعدة العاشرة : السياق من المخصصات للعموم
    ذكر الإمام الشافعي من أبواب العام والخاص في كتابه الرسالة ( 62 ) : باب :
    الصنف الذي يبين سياقه معناه :
    ثم قال : قال الله تبـارك وتعـالى : { وسْأَلهُمْ عَنِ القَرْيةِ التِي
    كَانَت حَاضرَةَ البحْرِ إذْ يَعْدُونَ في السَّبْتِ إذْ تَأتيِهِم
    حِيتَانُهُم يومَ سبْتِهِم شُرَّعًا ويـومَ لايَسْبِتُونِ لاتأتـيهم كذلك
    نبلوهم بما كانوا يفسقون } [ الأعراف : 160 ] .
    فابتدأ جَلَّ ثناؤه ذكر الأمر بمسألتهم عن القرية الحاضرة البحر ، فلما قال
    : الآية ، أدل على أنه إنما أراد أهل القرية لأن القرية لا تكون عادية ولا
    فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره ، وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية
    الذين بلاهم بما كانوا يفسقون . انتهى .
    وعن البراء بن عازب قال : خرج رسول الله r يعني من مكة فتبعتهم ابنة حمزة
    تنادي : يا عم ، فتناولها علي فأخذ بيدها ، وقال لفاطمة : دونك ابنة عمك
    فاحتملتها ، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر فقال علي : أنا أحق بها وهي ابنة
    عمي ، وقال جعفر : ابنة عمي


    وخالتها تحتي ، وقال زيد : ابنة أخي ، فقضى بها النبي r لخالتها وقال : ((
    الخالة بمنزلة الأم )) . أخرجه البخاري ( 2699 ) .
    قال ابن دقيق العيد في كتاب الإحكام ( 4/82 ) : قوله عليه السلام : ((
    الخالة بمنزلة الأم )) سياق الحديث يدل على أنها بمنزلتها في الحضانة وقد
    يستدل بإطلاقه أصحاب التنزيل على تنزيلها منزلة الأم في الميراث إلا أن
    الأول أقوى ، فإن السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وتنزيل
    الكلام على المقصود منه ، وفهم ذلك قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه .
    انتهى .
    وقال أيضا ابن دقيق العيد كما في إرشاد الفحول ( 242 ) : ولا يشتبه عليك
    التخصيص بالقرائن بالتخصيص بالسبب كما اشتبه على كثير من الناس فإن التخصيص
    بالسبب غير مختار فإن السبب وإن كان خاصاً فلا يمنع أن يرد لفظ عام
    يتناوله وغيره كما في { والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاْقطَعُوا أيْدِيهُما }
    [المائدة : 38 ] ولا ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا بخلاف السياق
    فإنه يقع به التبيين والتعيين أما التبيين ففي المجملات وأما التعيين ففي
    المحتملات وعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات تجد منه ما
    لا يمكنك حصره . انتهى .
    قال الشوكاني عقبه : والحق أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية
    المقتضية لتعيين المراد كان المخصص هو ما اشتملت عليه من ذلك ، وإن لم يكن
    السياق بهذه المنزلة ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص . انتهى .

    القاعدة الحادية عشر : لا يصح تخصيص العام بالعرف سواء كان
    العرف قوليا أو عمليا
    جريان عمل السلف الصالح يدل على أنهم ما كانوا يخصصون الأدلة الشرعية
    العامة بالعرف سواء كان العرف قوليا أو عمليا : لأنه مما لاشك فيه أن من
    الأمصار من كان لها عرفا يخالف العموم ، ومع ذلك لم يكونوا يلتفتون إلى ذلك
    العرف ، قال السمعاني في قواطع الأدلة ( 1/193 ) : وأما التخصيص
    بالعرف والعادة فقد قال أصحابنا لا يجوز تخصيص العموم به ، لأن الشرع لم
    يوضع على العادة ، وإنما وضع على ما أراد الله تعالى ، ولا معنى للرجوع إلى
    العادة في شيء من ذلك . والله أعلم . انتهى .

    القاعدة الثانية عشر : قول الصحابي قد يخصص العام
    الأصل أن الصحابي لا يترك العام ويعمل بخلافه إلا لقرينة ثبتت عنده تصلح
    للتخصيص فالصحابي أدرى بمراد الشرع وأفهم للمقصود من الدليل ، قال شيخ
    الإسلام كما في اقتضاء الصراط المستقيم ( 276 ) : يجوز تخصيص عموم الحديث
    بقول الصاحب الذي لم يخالف على إحدى الروايتين .

    القاعدة الثالثة عشر : لا يصلح تخصيص العام بالعقل
    العام لا يخصص بالعقل وإنما يخصص بالدليل ، ولذلك لم يكن الصحابة يخصصون
    العموم إلا بنص ولا يخصصونه بالعقل ، وحجة من قال أن العموم يخصص بالعقل
    قوله تعالى : { تُدِمِّرُ كُلَّ شيءٍ }[ الأحقاف : 21 ] ومعلوم بالعقل أنها
    لم تدمر كلَّ ما على الأرض ، وقوله تعالى { الله خَالِقُ كل شَيءٍ }
    ومعلوم أن صفات الله غير مخلوقة .
    والجواب : أن هذا ليس من باب تخصيص العام بالعقل ، وإنما هو من باب العموم
    الذي يراد به الخصوص ، وعليه فلا يصح الاستدلال بهذه الآيات ونحوها على
    تخصيص العام بالعقل .

    القاعدة الرابعة عشر : لا يصح تخصيص العام بالقياس
    القياس باب من أبواب الاجتهاد ، والاجتهاد لا يخصص به العام ، لأن الاجتهاد
    يتطرق إليه احتمال الخطأ ، وما يطرق إليه احتمال الخطأ لا يغير النص ولا
    يخرجه عن عمومه ، ولأن العموم أصل والقياس فرع ، والفرع لا يغير الأصل ،
    ولذلك لم يأت عن الصحابة تخصيص نص من النصوص العامة بالقياس .


    القاعدة الخامسة عشر : كما أنه لا يشرع إطلاق ما دل
    الدليل على تقييده كذلك لا يشرع تقييد ما دل
    الدليل على أنه مطلق
    تقييد ما دل الدليل على أنه مطلق لا يشرع لأنه تغيير لحكم الله ، فمثلا بعض
    الأذكار المطلقة الغير مقيدة لا يشرع للمسلم أن يقيدها بوقت من الأوقات أو
    بزمن من الأزمنة بل يعمل بها على إطلاقها من غير تقييد لها ، قال شيخ
    الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 20/196 ) : قاعدة شريفة : شرع الله ورسوله
    للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعا بوصف الخصوص والتقييد ،
    فإن العام والمطلق لا يدل على ما يخص بعض أفراده ويقيد بعضها ، فلا يقتضي
    أن يكون ذلك الخصوص والتقييد مشروعا .. ، مثال ذلك : أن الله دعاءه وذكره
    شرعاً مطلقا عاماً ، فقال { اذْكُرو الله ذِكْرًا كَثِيرًا } وقال :{
    ادعُوا رَبَّكُمْ تضَرُّعًا وخُفْيةً } [ الأعراف : 55 ] ونحو ذلك من
    النصوص ، فالاجتماع للدعاء والذكر في مكان معين ، أو زمان معين أو الاجتماع
    لذلك تقييد للذكر والدعاء لا تدل عليه الدلالة العامة المطلقة بخصوصه
    وتقييده . انتهى .


    القاعدة السادسة عشر : الخطاب الموجه للرسول r عام
    لجميع الأمة إلا إذا دل دليل على التخصيص
    الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفهمون من الخطاب الموجه للرسول r أنه
    عام لجميع الأمة ، فقد قال الله تعالى:{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله
    لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم } [ التحريم : 1] .
    قال ابن عباس : في الحرام يُكَفَّر ، وقال { لقد كان لكم في رسول الله أسوة
    حسنة } [ الأحزاب : 21 ] أخرجه البخاري ( 4911 ) .
    يقصد ابن عباس الآية المذكورة في خطاب النبي r وهي في أول سورة التحريم ،
    فهي خطاب للنبي r وقد فهم منها ابن عباس أن حكمها لجميع الأمة .
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 22/322 ) : ولهذا كان جمهور علماء
    الأمة أن الله إذا أمره بأمر أو نهاه عن شيء كانت أمته أسوة له في ذلك ، ما
    لم يقم دليل اختصاصه . انتهى .


    القاعدة السابعة عشر : خطاب الشارع للواحد خطاب
    لجميع الأمة
    الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفهمون من خطاب الشارع للواحد منهم أنه
    لجميع الأمة ، ومن الأدلة على هذا حديث معاذ بن جبل أن النبي r قال له : ((
    يا معاذ والله إني لأحبك ، أوصيك يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة تقول :
    اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )) فأوصى معاذ بهذا الذكر الراوي
    عنه وهو الصنابحي . أخرجه أبو داود ( 1522 ) .
    فهذا الخطاب كان موجها لمعاذ ولم يفهم منه معاذ أن ذلك خاص به فقط .
    قال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 194 ) على هذه القاعدة : والحاصل في هذه
    المسألة على ما يقتضيه الحق ويوجبه الإنصاف عدم التناول لغير المخاطب من
    حيث الصيغة ، بل بالدليل الخارجي ، وقد ثبت عن الصحابة فمن بعدهم الاستدلال
    بأقضيته الخاصة بالواحد أو الجماعة المخصوصة على ثبوت مثل ذلك لسائر الأمة
    .. إلى أن يقوم الدليل الدال على اختصاصه بذلك . انتهى .

    القاعدة الثامنة عشر : دخول النساء في الخطاب الموجه للذكور
    دخول النساء في الخطاب الموجه للذكور دلَّ عليه الاستقراء ، يقول شيخ
    الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 6/437 ) : وقد عهدنا من الشارع في خطابه
    أنه يعم القسمين ويدخل النساء بطريق التغليب ، وحاصله أن هذه الجموع
    تستعملها العرب تارة في الذكور المجردين وتارة في الذكور والإناث ، وقد
    عهدنا من الشارع أن خطابه المطلق يجـري على النمط الثاني ، وقولنا : المطلق
    احتراز من المقيد مثل قوله : {والمؤمِنُونَ والمؤمِنَاتُ } [ التوبة : 69 ]
    . انتهى .

    القاعدة التاسعة عشر : الاستثناء الوارد بعد عدة جمل يرجع
    إلى جميع الجمل
    استقرأ شيخ الإسلام ابن تيمية نصوص الشرع فوجد أن الاستثناء الوارد بعد عدة
    جمل يرجع إلى جميع الجمل إلا إذا أتت قرينة تدل على أن الاستثناء يرجع
    للجملة الأخيرة ، فقد قال في مجموع الفتاوى ( 31/167 ) : وقد ثبت بما روي
    عن الصحابة أن قوله : { إلا الذين تابوا }[ البقرة : 154 ] في آية القذف
    عائد إلى الجملتين ، وقال النبي r : (( لا يؤمَنَّ الرجل الرجل في سلطانه ،
    ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه )) وهذا كثير في الكتاب والسنة ، بل من
    تأمل غالب الاستثناءات الموجودة في الكتاب والسنة التي تعقبت جملا وجدها
    عائدة إلى الجميع ، هذا في الاستثناء فأما في الشرط والصفات فلا يكاد
    يحصيها إلا الله ، وإذا كان الغالب على الكتاب والسنة وكلام العرب عود
    الاستثناء إلى جميع الجمل فالأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب . انتهى .


    القاعدة العشرون : الأصل أن حكاية الفعل تدل على العموم
    قول الصحابي : نهى رسول الله r عن المزابنة وقضى بالشفعة فيما لم يقسم ونحو
    ذلك يقتضي العموم ، قال العلامة الأمين الشنقيطي في كتابه مذكرة في أصول
    الفقه ( 253 ) : واقتضاؤه العموم هو الحق لأن الصحابي عدل عارف فلا يروي ما
    يدل على العموم إلا وهو جازم بالعموم ، والحق جواز الحديث بالمعنى ،
    وعدالة الصحابي تنفي احتمال منافاة حكاية لما حكى كما هو ظاهر . انتهى .







    الـمــفــهـــوم

    القاعدة الأولى : مفهوم الموافقة حجة
    الأدلة الشرعية تأتي أحياناً بحكم ويكون مالم يذكر مع الحكم في ذلك الدليل
    مثل الحكم المنصوص عليه أو يكون ما لم يذكر أولى مما ذكر ، كقوله تعالى : {
    فلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ } [ الإسراء : 23 ] يدل على أن الضرب أولى بالمنع
    وعلى هذا جرى فهم السلف ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 21/207 )
    : بل وكذلك قياس الأولى وإن لم يدل عليه الخطاب ، لكن عرف أنه أولى بالحكم
    من المنطوق بهذا ، فإنكاره من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم بها أحد من
    السلف ، فما زال السلف يحتجون بمثل هذا وهذا وقال أيضا ( ص : 209 ) : وكذلك
    إذا نهى عن قتل الأولاد للإملاق فنهيه عن ذلك مع الغنى واليسار أولى وأحرى
    ، فالتخصيص بالذكر قد يكون للحاجة إلى المعرفة ، وقد يكون المسكوت عنه
    أولى بالحكم ، فتخصيص القميص ( أي في الحج ) دون الجلباب ، والعمائم دون
    القلانس ، والسراويلات دون التبابين هو من هذا الباب ، لا لأن كل ما لا
    يتناوله اللفظ فقد أذن فيه . انتهى .


    القاعدة الثانية : مفهوم المخالفة حجة
    العمل بمفهوم المخالفة قد عمل به الصحابة وأقره النبي r فعن يعلى بن أمية
    قال : قلت لعمر بن الخطاب : {فليْسَ عَليْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَقصُرُوا مِنَ
    الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنكُمُ الذينَ كَفَرُوا } [ النساء :
    101 ] فقد أمن الناس! فقال : لقد عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله r عن
    ذلك فقال : ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) .
    أخرجه مسلم ( 686 ) .
    فالآية تدل على أن القصر في السفر يكون من أجل الخوف ، ومفهوم المخالفة أن
    المسافر لا يقصر الصلاة إذا كان آمناً ، ولم ينكر النبي r على عمر العمل
    بمفهوم المخالفة وإنما بين له أن مفهوم المخالفة لا يعمل به هنا في هذه
    الآية .


    القاعدة الثالثة : إذا دل الدليل على أن ما خص بالذكر ليس مختصا بالحكم لم
    يكن مفهوم المخالفة حينئذ حجة
    قال تعالى في كتابه الكريم : { لِتَأكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا } [
    النحل : 7 ] فتخصيص وصف اللحم بكونه طريا لا يدل على أن غير الطري محرم ،
    وذلك لأن التخصيص هنا بذكر ( الطري ) ليس لكونه مختصاً بالحكم ، قال شيخ
    الإسلام ابن تيمية في بيان الأسباب التي تدل على أن التخصيـص بالذكر سبب
    غير التخصيص بالحكم كما في مجموع الفتاوى ( 31/138 ) : إما عدم قصد بيان
    حكمه ، أو كون المسكوت أولى بالحكم منه ، أو كونه مساوياً له في بادئ الرأي
    ، أو كونه سئل عن المنطوق ، أو يكون قد جرى بسبب أوجب بيان المنطوق ، أو
    كون الحاجة داعية إلى بيان المنطوق ، أو كون الغالب على أفراد ذلك النوع هو
    المنطوق ، فإذا علم أو غلب على الظن أن لا موجب للتخصيص بالذكر من هذه
    الأسباب ونحوها علم أنه إنما خصه بالذكر لأنه مخصوص بالحكم . انتهى .



    & # &
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أصول الفقه على منهج أهل الحديث Empty رد: أصول الفقه على منهج أهل الحديث

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 10.08.10 19:53

    الأحـكــام التكليـفـيـة

    المراد بالحكم التكليفي هو خطاب الشرع المتعلق بأفعال العباد بالاقتضاء أو
    التخيير .
    وكلمة ( اقتضاء ) معناها الطلب بالفعل أو الترك .
    والحكم التكليفي خمسة أقسام هي :
    1 ـ الواجب : وهو ما يلزم المكلف فعله فيثاب على فعله ويعاقب على تركه .
    2 ـ المندوب : وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه .
    3 ـ المحرم : وهو ما يلزم المكلف تركه فيعاقب على فعله .
    4 ـ المكروه : وهو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله .
    5 ـ المباح : هو ما لا يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله .
    وإليك بيان قواعدها بالتفصيل :






    الـواجـــب

    القاعدة الأولى : الفرق بين الواجب والفرض ليس بصحيح
    الحنفية يفرقون بين الواجب والفرض ، فالواجب عندهم ما ثبت بدليل ظني ( أي
    بخبر الآحاد ) .
    والفرض عندهم ما ثبت بدليل قطعي ( أي بالخبر المتواتر ) .
    وهذا التفريق خلاف ما كان عليه السلف الصالح فإنهم ما كانوا يفرقون بين
    الواجب والفرض ، بل كان الواجب والفرض عندهم بمنزلة واحدة وذلك لأنهم لم
    يكونوا يفرقون بين الآحاد والمتواتر من ناحية العمل بهما .


    القاعدة الثانية : الواجب الذي ليس له وقت محدد يجب
    المبادرة إلى فعله
    قوله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم }[ آل عمران : 133 ] . يدل على
    وجوب المبادرة إلى أداء ما أوجبه الشارع ولم يجعـل لـه وقتا محدداً كقضاء
    الصيام والنذر ، للأمر بذلك ، قال الشاطبي في الموافقات ( 1/110 ) : وأما
    المقيدة بوقت العمر فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول ، كان ذلك علامة على
    طلب المبادرة والمسابقة في أول أزمنة الإمكان ، فإن العاقبة مغيبة فإذا عاش
    المكلف في مثله ما يُؤديِّ ذلك المطلوب ، فلم يفعل مع سقوط الأعذار عُدَّ
    ولا بدَّ مفرِّطاً ، وأثـمه الشافعي لأن المبادرة هي المطلوب ، لا أنه على
    التحقيق مخير بين أول الوقت وآخره ، فإن آخره غير معلوم وإنما المعلوم منه
    ما في اليد الآن . انتهى .


    القاعدة الثالثة : الواجب إذا لم يكن الإتيان بتمامه فإن المسلم يأتي
    بما يستطيع منه
    الواجب الذي لا يمكن الإتيان بتمامه فإن المكلف يأتي بما يستطيع من ذلك
    الواجب ، كالذي لا يستطيع القيام في الصلاة فإنه يُصلي جالساً ، فقد قال
    عليه الصلاة والسلام : (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا
    منه ما استطعتم )) .
    أخرجه مسلم ( 1337 ) من حديث أبي هريرة .

    القاعدة الرابعة : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
    ما ورد فيه الدليل بإيجابه ، وكان ذلك الواجب لا يؤدَّى إلا بعمل من
    الأعمال حتى يمكن فعله ، فإن ذلك العمل المؤدي إلى الواجب يعتبر واجبا ولو
    لم يرد فيه دليل على وجوبه ، ومن الأدلة على هذه القاعدة حديث أبي سعيد
    الخدري قال : لما بلغ النبي r عام الفتح مرَّ الظهران فآذننا بلقاء العدو ،
    فأمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعون .
    أخرجه الترمذي ( 1684 ) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
    فالفطر للصائم المسافر مباح ، ولكن لما كان الجهاد ( وهو واجب ) لا يتم إلا
    بالفطر حتى يتقووا على الجهاد أمرهم النبي r بالإفطار ، فصار الفطر واجباً
    ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ( 207 ) على هذه
    القاعدة : اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب ، فإن فهم الكتاب
    والسنة فرض ، ولا يفهم الدين إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا
    به فهو واجب ، ثم منها ما هو واجب على الأعيان ومنها ما هو واجب على
    الكفاية . انتهى .

    القاعدة الخامسة : ما لا يتم الواجب المشروط إلا به فهو
    غير واجب
    الواجبات التي جعل لها الشارع شروطاً لا تجب إلا بتلك الشروط ، فإنه لا يجب
    على المكلف إيجاد تلك الشروط لذلك الواجب ، لأن الله تعالى لم يوجب على
    العبد إيجاد ذلك الشرط ، وإنما أوجب ذلك الواجب متى وجد ذلك الشرط ، يقول
    شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 20/160 ) : فإن العبد إذا
    كان مستطيعاً للحج وجب عليه الحج ، وإذا كان مالكاً لنصاب وجبت عليه الزكاة
    فالوجوب لا يتم إلا بذلك ، فلا يجب عليه تحصيل استطاعته الحج ولا ملك
    النصاب . انتهى .

    القاعدة السادسة : الواجب الذي لم يحدد له الشارع حداً فإنه يجب على
    المكلف أن يأتي منه ما يغلب على الظن أنه أدى ما وجب عليه
    من ذلك الواجب
    الواجب باعتبار تحديده ينقسم إلى قسمين :
    ـ القسم الأول :
    واجب محدد ، وهو الذي جعل له الشارع مقداراً معيناً ، كمواقيت الصلوات
    الخمس ، وما يغسل من الأعضاء في الوضوء ، وكصفة زكاة القوال وغير ذلك ،
    فهذا ينبغي الوقوف مع ما حدده الشارع وقدره من غير تجاوز .
    ـ القسم الثاني :
    واجب غير محدد ، وهو الواجب الذي لم يجعل له الشارع مقداراً محدداً ، فيرجع
    في ذلك إلى إعمال النظر والفكر فيعمل بما يغلب على ظنه أنه أداه من تلك
    الواجبات الغير محددة ، وفي هذا يقول الشاطبي في الموافقات ( 1/112 ) :
    فإذا قال الشارع : {وأطْعَمُوا القَانِعَ والمعُتَرَّ } [الحج : 36 ] أو {
    وأنْفِقُوا فيِ سَبيلِ اللهِ } [ البقرة :191 ] فمعنى ذلـك طلب رفع الحاجة
    في كل واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار ، فإذا تعينت حاجة تبين مقدار ما
    يحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص ، فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه وسد
    خلته بمقتضى ذلك الإطلاق ، فإن أطعمه مالا يرفع عنه الجوع ، فالطلب باق
    عليه مالم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التي من أجلها أمر ابتداءاً .
    انتهى .

    القاعدة السابعة : الواجب المخير يسقط بفعل واحد من
    أفراده ، ولا يشرع الجمع بين أفراده
    هناك بعض الواجبات يخير المكلف في فعل واحدة من أفرادها من غير تعيين فإذا
    فعل واحدة من تلك الأفراد سقط عنه ذلك الواجب ، ومثاله : قال الله تعالى في
    كتابه الكريم { لايُؤاخَذُكُمُ اللهُ بالَّلغْوَ فِي أيْمَانِكُم ولَكِنْ
    يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُمُ الأيْمَان فكفَّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرةِ
    مَسَاكِينَ مِنْ أوْسَطِ ما تُطعِمونَ أهْليكُمْ أوْ كِسْوتُهمْ أو تحْريرُ
    رَقبةٍ فمَنْ لم يَجدْ فصِيامُ ثَلاثةِ أيَّامٍ ذلكَ كفَّارةُ أيمانِكُم
    إذَا حَلفْتُم } [ المائدة : 89 ] فلفظة ( أو ) تدل على التخيير في
    كفارة اليمين بين الإطعام أو الكسوة أو العتق.
    ولا يشرع الجمع بين أفراد الواجب المخير ، لأن الجمع بين أفراده لم يرد في
    الشرع وإنما ورد في الشرع التخيير فيصير الجمع بين أفراده بدعة في الدين .




    القاعدة الثامنة : الواجب الكفائي إذا قام به البعض سقط
    الإثم عن الباقين
    ينقسم الواجب باعتبار ذاته إلى قسمين :
    ـ القسم الأول : واجب عيني وهو الذي يلزم كل مكلف فعله ، كالصلوات الخمس
    والزكاة والصيام وغير ذلك .
    ـ القسم الثاني : واجب كفائي وهو الذي إذا قام به البعض سقط الإثم عن
    الباقين ، والضابط في معرفته هو أنه لا يكون فيه أمر لجميع المكلفين بفعله ،
    لكن يحصل بترك ذلك الفعل الضرر إذا تركه جميع المسلمين ، كالرد على أهل
    البدع قال الشافعي في الرسالة ( 366 ) في الواجب الكفائي : وهكذا كل ما كان
    الفرض فيه مقصوداً قصد الكفاية فيما ينوب ، فإذا قام به من المسلمين من
    فيه الكفاية خرج من تخلف عنه من الإثم ، ولو ضيعوه معاً خفت ألا يخرج واحد
    منهم مطيق فيه مـن المأثم ، بل لا أشك إن شاء الله لقولـه : { إلاَّ
    تنْفِروا يعَذِّبكُمْ عَـذَابًا أليمًا }[ التوبة : 37 ] قال : فما معناها ؟
    قلت : الدلالة عليها أن تخلفهم عن النفير كافة لا يسعهم ، ونفير بعضهم إذا
    كانت في نفيرهم كفاية يُخْرِجُ مَنْ تَخَلَّفَ مِنَ المأثم إن شاء الله ،
    لأنه إذا نفر بعضهم وقع عليهم اسم النفير . انتهى .
    قلت : وهذه القاعدة تحتاج إلى بيان أمور :
    الأمر الأول : أنه لو قام جماعة بالواجب الكفائي ولكن لم يف قيامهم حصول
    المقصود من ذلك الواجب الكفائي فإن ذلك الواجب الكفائي لا يزال قائما ولا
    يسقط حتى يحصل المقصود منه ، وعلى هذا يدل آخر كلام الشافعي .
    الأمر الثاني : الواجب الكفائي يسقط بفعل غير المكلف له ، إذا حصل المقصود
    من الواجب الكفائي ، وليس في الأدلة ما يدل أنه لا يسقط إلا بفعل المكلفين
    فقط .
    الأمر الثالث : الواجب الكفائي لا يتعلق بالأمور الدينية فقط ؟ بل يشمل
    جميع ما يحتاج إليه المسلمون في حياتهم الدنيوية لأنه يحصل الضرر لهم بترك
    جميعهم له ومنه تعلم أن تقييد الغزالي للواجب الكفائي بالأمور الدينية
    تقييد غير صحيح .
    الأمر الرابع : الواجب الكفائي لا يلزم بالشروع فيه فيجوز قطعه بعد الشروع
    فيه ، وذلك لأن الواجب الكفائي لا يجب ابتداؤه على من ابتدائه وعليه فلا
    يجب إتمامه ، ولم يأت من أوجب إتمامه بحجة ، لكن إذا أتى الدليل على وجوب
    إتمامه فإنه يجب إتمامه لذلك الدليل ، كالأدلة التي تدل على وجوب الجهاد
    لمن حضر الصف .

    القاعدة التاسعة : إذا تعارض واجبان فإنه يقدم الآكد منهما وجوباً
    الواجبات الشرعية ليست على درجة واحدة فبعض الواجبات آكد وجوباً من واجبات
    أخرى ، فإذا تعارض واجبان فإنه يقدم الآكد منهما وجوباً على الآخر الذي
    دونه في الوجوب لقوله تعالى : { فاتَّقُوا الله مَا اسْتطعْتُم } [ التغابن
    : 16 ] قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 17/61 ) : ومن
    المعلوم بالاضطرار تفاضل المأمورات : فبعضها أفضل من بعض ، وبعض المنهيات
    شر من بعض . انتهى .

    القاعدة العاشرة : كل لفظ دل على أنه يلزم فعل شيء من الأفعال فإن ذلك
    اللفظ يؤخذ منه وجوب ذلك الفعل
    قال ابن القيم في بدائع الفوائد ( 2/218 ) : ويستفاد الوجوب بالأمر تارة ،
    وبالتصريح بالإيجاب والفرائض والكتب ولفظه ( على ) ولفظه ( حق على العباد )
    و ( على المؤمنين ) وترتيب الذم والعقاب على الترك وإحباط العمل بالترك
    وغير ذلك . انتهى .



    & # &







    الـمـنـــدوب

    القاعدة الأولى : حكم معرفة المندوب واجب على الكفاية
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 4/436 ) : ومعرفة ( الاستحباب )
    فرض على الكفاية ، لئلا يضيع شيء من الدين . انتهى .
    قلت : وكذلك ما لا يجب على كل مكلف معرفته من الأحكام التكليفية الخمسة فهو
    فرض على الكفاية .

    القاعدة الثانية : المندوب لا يجب بالشروع فيه
    المندوب لا يجب بالشروع فيه ، لأن ما لا يجب ابتداؤه لا يجب إتمامه ، يقول
    عطاء إن ابن عباس كان لا يرى بأسا أن يفطر إنسان في التطوع ويضرب أمثالا :
    طاف سبعا فقطع ولم يوفه فله ما احتسب ، أو صلى ركعة ولم يصل أخرى فله ما
    احتسب ، أو يذهب بمال يتصدق به ، فيتصدق ببعضه وأمسك بعضه . أخرجه عبد
    الرزاق ( 4/271 ) .
    ويستثنى من ذلك التطوع بالحج أو العمرة فإنهما يجب إتمامهما إذا ابتدأهما
    المسلم ولو كان أصلهما تطوعاً لقوله تعالى : { وأتمُّوا الحَجَّ والعمْرةَ
    للهِ } [ البقرة : 196 ] . الآية .
    قال ابن عبد البر كما في البحر المحيط ( 1/384 ) : من احتج على المنع بقوله
    تعالى : { ولاتَبطِلُوا أعْمَالَكُم }[ محمد : 33 ] فإنه جاهل بأقوال
    العلماء فإنهم اختلفوا فيها على قولين : فأكثرهم قالوا : لا تبطلوها
    بالرياء وأخلصوها ، وهم أهل السنة ، وقيل : لا تبطلوها بالكبائر وهو قول
    المعتزلة . انتهى .


    القاعدة الثالثة : السنة إذا أدى فعلها إلى فتنة فإنها تترك
    مؤقتا تأليفا للقلوب إلى أن يعلمها الناس
    السنة لا تؤدي إلى الفتنة وإنما جهل الناس بها هو الفتنة ، لذلك ينبغي على
    المسلم إذا كان يريد أن يحيي سنة من السنن بين أناس جاهلين بتلك السنة أن
    يعلمهم تلك السنة قبل تطبيقها بينهم فإن رضوا كان بها وإن لم يرضوا فلا
    يفعلها بينهم ، حتى لا يؤدي ذلك إلى تنفير القلوب ، قال شيخ الإسلام كما في
    مجموع الفتاوى ( 22/407 ) : ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك
    هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا ، كما
    ترك النبي r تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب . انتهى .




    القاعدة الرابعة : لا يترك المندوب إذا صار شعاراً للمبتدعة
    لا يترك المندوب إذا صار شعاراً للمبتدعة ، كلبس الثوب إلى نصف الساق ،
    فإنه لو صار شعاراً لبعض المبتدعة فلا يترك لبس الثوب إلى نصف الساق من أجل
    أنه صار شعاراً للمبتدعة مثلاً ، وعلى هذا كان السلف رضوان الله عليهم
    فإنهم كانوا لا يتركون العمل المستحب في الشرع الذي صار شعاراً للمبتدعة .
    وقد ذهب الغزالي في الإحياء إلى المنع من العمل بسنة من السنن إذا صارت
    شعاراً لأهل البدعة حتى لا يتشبه بهم .
    وقد تعقبه الألباني رحمه الله فقال في حاشية إصلاح المساجد ( 23 ) : ليس
    هذا من التشبه بهم في شيء بل هو تشبه بمن سن السنة وهو الرسول r فإذا أخذ
    بها بعض الفساق فليس ذلك بالذي يمنع من استمرار الحكم السابق وهو التشبه به
    r . انتهى .


    & # &







    الـمــكــــروه

    القاعدة الأولى : المكروه هو كل ما لم ينه عنه الشارع نهيا جازماً
    المكروه هو مرتبة بين المباح والحرام فيثاب تاركه ولا يعاقب فاعله ، ويعرف
    بأن هذا الشيء مكروه في الشرع بأن يكون ورد فيه نهي لكن ذلك النهي جاء ما
    يدل على أنه ليس المراد به نهي تحريم .
    عن أم عطية قالت : ( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ) . أخرجه
    البخاري ( 1278 ) .
    قال الحافظ في الفتح ( 3/173 ) : قولها : ( ولم يعزم علينا ) لم يؤكد علينا
    في المنع كما أكد علينا في غيره في المنهيات فكأنها قالت : كره لنا اتباع
    الجنائز من غير تحريم . انتهى .


    القاعدة الثانية : مراد الشرع بكلمة ( المكروه ) هو ( الحـرام )
    ( المكروه ) في الشرع يطلق على المحرم ، كما قال تعالى في كتابه :
    {ولاتمْشِ في الأرْضِ مرحًا إنَّكَ لنْ تَخْرقَ الأرضَ ولَنْ تبْلُغَ
    الجبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلكَ كانَ سيئُهُ عنْدَ ربِّكَ مَكْروهًا } [
    الإسراء:38 ] . فانظر كيف أطلق ( المكروه ) على الشيء المحرم .
    وكذلك السلف الصالح كانوا يطلقون ( المكروه ) على الشيء المحرم تورعا ،
    فكانوا يتورعون أن يقولوا على الشيء الذي ليس فيه نص مبين على تحريمه ( هذا
    حرام ) وإنما يقولون ( هذا مكروه ) .
    قال ابن القيم في اعلام الموقعين ( 1/35 ) : فالسلف كانوا يستعملون الكراهة
    في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله ، ولكن المتأخرون اصطلحوا
    على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم وتركه أرجح من فعله ثم حصل من حمل منهم
    كلام الأئمة على الإصطلاح الحادث فقط ، وأقبح غلطاً منه من حمل لفظ (
    الكراهة ) أو لفظ ( لا ينبغي ) في كلام الله ورسوله على المعنى الاصطلاحي
    الحادث . انتهى .



    & # &










    الـمــحــــرم


    القاعدة الأولى : المحرمات متفاوتة
    المحرمات ليست على درجة واحدة بل هي متفاوتة ، فبعض المحرمات أشد تحريما من
    بعض ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 17/59 ) : ولهذا
    ذهب جمهور الفقهاء إلى تفاصيل أنواع الإيجاب والتحريم وقالوا : إن إيجاب
    أحد الفعلين قد يكون أبلغ من إيجاب الآخر ، وتحريمه أشد من تحريم الآخر ،
    فهذا أعظم إيجاباً ، وهذا أعظم تحريماً ، ولكن طائفة من أهل الكلام نازعوا
    في ذلك كابن عقيل وغيره فقالوا : التفاضل ليس في نفس الإيجاب والتحريم ،
    لكن في متعلق ذلك وهو كثيرة الثواب والعقاب ، والجمهور يقولون بل التفاضل
    في الأمرين ، والتفاضل في المسببات دليل على التفاضل في الأسباب ، وكون أحد
    الفعلين ثوابه أعظم وعقابه أعظم دليل على أن الأمر به والنهي عنه أوكد ،
    ولو تساويا من كل وجه لامتنع الاختصاص بتوكيد أو غيره من أسباب الترجيح ،
    فإن التسوية والتفضيل متضادان . انتهى .

    القاعدة الثانية : تحريم الشيء تحريم لجميع أجزائه
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 21/85 ) : تحريم الشيء مطلقا يقتضي
    تحريم كل جزء منه ، كما أن تحريم الخنزير والميتة والدم اقتضى ذلك ، وكذلك
    تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة يقتضي المنع من أبعاض ذلك ،
    وكذلك النهي عن لبس الحرير اقتضى النهي عن أبعاض ذلك ، لو لا ما ورد من
    استثناء موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع في الحديث الصحيح .. ثم قال ( 21/86 )
    : وحيث حرم النكاح كان تحريما لأبعاضه ، حتى يحرم العقد مفرداً والوطأ
    مفرداً كما في قوله : {ولا تنكحوا مانكح آباكم من النساء إلا ماقد سلف }
    النساء : 22 ] . انتهى .

    القاعدة الثالثة : ما أدى إلى محرم فهو محرم
    ما أدى إلى محرم فهو محرم فعله ، كما لو أدى فعل نافلة إلى ترك فريضة كالذي
    يصلي بالليل طويلاً وينام عن صلاة الفجر ، فإنه لا يشرع له قيام الليل إذا
    كان ذلك سببا لتركه صلاة الفجر .
    أو أدى فعل مباح إلى فعل محرم ، كما لو إذا خلى وحده ارتكب المحرمات ، فإنه
    لا يشرع له أن يخلوا لوحده إذا كان ذلك سبباً للوقـوع في الحرام أو أدى
    فعلٌ إلى الإحتيال على أمر محرم فهو محرم ، قال ابن القيم في إغاثة اللهفان
    ( 1/361 ) : وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات ،
    وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها ، فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات ،
    وسد الذرائع عكس ذلك ، فبين البابين أعظم التناقض ، والشارع حرَّم الذرائع
    وإن لم يقصد بها المحرم لإقضائها إليه فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه .
    انتهى .
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في طريق الوصول إلى العلم المأمول ( 113 ) :
    إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو الإباحة أو التحريم فلينظر
    إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملا على مفسدة ظاهرة راجحة فإنه
    يستحيل على الشارع الأمر أو إباحته بل يقطع أن الشرع يحرمه لا سيما إذا كان
    طريقا مفضيا إلى ما يبغضه الله ورسوله . انتهى .


    القاعدة الرابعة : يأثم الإنسان بالعزم على فعل المحرم وإن
    لم يفعله
    عن أبي كبشة الأنماري قال : قال رسول الله r : (( إنما الدنيا لأربعة نفر
    عبد رزقه الله ما لا وعلما فهو يتقي فيه ربه فهو بأفضل المنازل ، وعبد رزقه
    الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل
    فلان فهو بنيه فأجرهما سواء ، وعبد رزقه مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في
    ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقا ،
    فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن لي
    مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فوزرهما سواء )) أخرجه الترمذي ( 2325 )
    وقال : هذا حديث حسن صحيح .
    هذا الحديث يدل على أن الإنسان يأثم بالعزم على فعل المعصية وإن لم يفعلها ،
    إذا كان سبب تركه لتلك المعصية عدم القدرة عليها وليس الخوف من الله ، وقد
    ذكر هذا الحديث شيخ الإسلام فقال عنه كما في مجموع الفتاوى ( 10/733 ) :
    هو في حكاية من قال ذلك ، وكان صادقا فيه وعلم الله منه إرادة جازمة لا
    يتخلف عنها الفعل إلا لفوات القدرة ، فلهذا استويا في الثواب والعقاب ،
    وليس هذه الحال تحصل لكل من قال : ( لو أن لي ما لفلان لفعلت مثل ما يفعل )
    إلا إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة ،
    وإلا فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم لو اقترنت به القدرة لانفسخت العزيمة .

    وقال أيضا ( 10/736 ، 737 ) : ولا ريب أن ( الهم ) و ( العزم ) و ( الإرادة
    ) ونحو ذلك قد يكون جازما لا يتخلف عنه الفعل إلا للعجز ، وقد لا يكون هذا
    على هذا الوجه من الجزم .. ، وأما الهام بالسيئة الذي لم يعملها وهو قادر
    عليها فإن الله لا يكتبها عليه كما أخبر به في الحديث الصحيح ، وسواء سمي
    همه : ( إرادة ) أو ( عزماً ) أو لم يسم ، متى كان قادراً على الفعل وهم به
    وعزم عليه ولم يفعله مع القدرة فليست إرادته بجازمة .

    القاعدة الخامسة : كل لفظ يدل على لزوم ترك فعل من الأفعال فإن ذلك
    اللفظ يؤخذ منه تحريم ذلك الفعل
    قال ابن القيم في بدائع الفوائد ( 2/218 ) : ويستفاد التحريم من النهي ،
    والتصريح بالتحريم ، والحظر ، والوعيد على الفعل ، وذم الفاعل ، وإيجاب
    الكفارة بالفعل ، وقوله : ( لا ينبغي ) فإنها في لغة القرآن والرسول للمنع
    عقلاً أو سرعاً ، ولفظه ( ما كان لهم كذا ) ، و ( لم يكن لهم ) ، وترتيب
    الحد على الفعل ، ولفظه ( لا يحل ) و ( لا يصلح ) ، ووصف الفعل بأنه فساد
    وأنه من تزيين الشيطان وعمله وإن الله لا يحبه وأنه لا يرضاه لعباده ، ولا
    يزكي فاعله ، ولا يكلمه ، ولا ينظر إليه ، ونحو ذلك . انتهى .


    & # &
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أصول الفقه على منهج أهل الحديث Empty رد: أصول الفقه على منهج أهل الحديث

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 10.08.10 19:54

    الـمــــــبـاح


    القاعدة الأولى : الأصل في الأشياء الإباحة
    الأصل في الأشياء الإباحة إلا إذا أتى ما يدل على تحريم ذلك الشيء فقد قال
    تعالى في كتابه الكريم : { وَقَدْ فَصلَّ لكُمْ ماحَرَّم عليْكُم }
    [ الأنعام : 119 ] .
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 21/536 ) : والتفصيل التبيين ،
    فبين أنه بين المحرمات ، فما لم يبين تحريمه فليس بمحرم ، وما ليس بمحرم
    فهو حلال ، إذ ليس إلا حلال أو حرام . انتهى .
    وعن أبي الدرداء أن رسول الله r قال : (( ما أحل الله في كتابه فهو حلال ،
    وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو )) .
    أخرجه الحاكم ( 2/375 ) وحسنه الألباني في غاية المرام ( 14 ) .
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 21/538 ) : قوله : ( وما سكت
    عنه فهو مما عفا عنه ) نص في أن ما سكت عنه فلا إثـم عليه ، وتسميته هذا
    عفواً كأنه والله أعلم لأن التحليل هـو الإذن في التناول بخطاب خاص ،
    والتحريم المنع من التناول كذلك ، والسكوت عنه لم يؤذن بخطاب يخصه ، ولم
    يمنع منه ، فيرجع إلى الأصل ، وهو أن لا عقاب إلا بعد الإرسال ، وإذا لم
    يكن فيه عقاب لم يكن محرماً . انتهى .
    قلت : وعلى هذا جرى فهم الصحابة فقد ذهب عمر بن الخطاب إلى جواز أكل الضب
    واستدل على ذلك بأن النبي r لم يحرمه كما عند مسلم ( 3/1545 ) .
    قال ابن رجب في جامع العلوم ( 65 ) : ما أصله الإباحة كطهارة الماء إذا لم
    يتيقن جواز أصله فيجوز استعماله ، وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان
    فلا تحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد ، فإن تردد في شيء من ذلك لطهور
    سبب آخر رجع إلى الأصل فيبني عليه . انتهى .
    والألفاظ التي وردت في الشرع تدل على إباحة تلك الأشياء ذكرها ابن القيم في
    بدائع الفوائد ( 2/218 ) فقال : وتستفاد الإباحة من الإذن والتخيير والأمر
    بعد الحظر ونفي الجناح والحرج والإثم والمؤامرة والإخبار بأنه معفو عنه ،
    وبالإقرار على فعله في زمان الوحي ، وبالإنكار على من حرم الشيء ، والإخبار
    بأنه خلق لنا كذا وجعله لنا ، وامتنانه علينا به ، وإخباره عن فعل من
    قبلنا له غير ذام لهم عليه .. . انتهى .

    القاعدة الثانية : لا يأثم الإنسان بالمداومة على فعل بعض المباحات
    الغزالي في إحياء علوم الدين ( 2/283 ) قال بأن بعض المباح يصير بالمواظبة
    عليه صغيرة كالترنم بالغناء ، واللعب بالشطرنج . انتهى .
    وهذا كلام غريب ، وذلك لأن الشيء إذا كان مباحا فإن الإنسان لا يأثم بفعله
    له ولو واظب عليه طول عمره ، وما إذا كان محرماً فإنه يأتم ولو فعله لمرة
    واحدة ، فمثلاً : لو واظب أحد على صعود الجبل كل يوم لم يأثم ، وإنما يأثم
    إذا أداه المداومة على المباح إلى ترك واجب أو فعل محرم ، لأن ما أدى إلى
    محرم فهو محرم .

    القاعدة الثالثة : يُثاب المرء على فعل المباح إذا حسَّن نيته
    في فعل ذلك المباح
    كل ما يفعله المرء من الأمور التي أباحها الشرع لا أجر له في فعلها ، إلا
    إذا قصد بفعل ذلك المباح أمراً حسنا في الشرع كمن ينام في النهار وينوي
    بنومته تلك التقوى على قيام الليل ، فهذا ثياب على تلك النومة لا لذات
    النومة ولكن لم اقترن معها من نية صالحة ، كما قال أبو الدرداء : إني
    لأحتسب نومتي .
    قال ابن الشاط في غمز عيون البصائر ( 348 ) : إذا قصد بالمباحات التقوى على
    الطاعات أو التوصل إليها كانت عبادة كالأكل والنوم واكتساب المال . انتهى .








    مـا يتـعـلـق بالعباد من قواعد


    القاعدة الأولى : التكليف مشروط بالعلم والقدرة معاً
    قال الله تعالى في كتابه الكريم : { لايُكَلِّفُ الله نَفْسًا إلا وُسْعهَا
    } [ البقرة : 286 ]. وقال أيضـا : { ومَا كُنَّا مُعذِّبينَ حتَّى
    نبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ]
    فهاتان الآيتان تدلان على أن حصول التكليف يكون بالقدرة والعلم معاً ، قال
    شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 21/634 ) : فمن استقرأ ما
    جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل ،
    فمن كان عاجزاً عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه ، ولا يكلف الله نفسا إلا
    وسعها .
    وقال أيضا في مجموع الفتاوى ( 8/438 ) : والشريعة طافحة بأن الأفعال
    المأمور بها مشروطة بالإستطاعة والقدرة ، كما قال النبي r لعمران بن الحصين
    : (( صَل قائما ، فإن لم تستطيع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب )) وقد
    اتفق المسلمون على أن المصلي إذا عجز عن بعض واجباتها كالقيام أو القراءة
    أو الركوع أو السجود أو ستر العـورة أو استقبال القبلة أو غير ذلك سقط عنه
    ما عجز عنه ، وكذلك الصيام اتفقوا على أنه يسقط بالعجز مثل الشيخ الكبير
    والعجوز الكبيرة ، الذين يعجزون عن أداء وقضاء ، وكذلك الحج فإنهم أجمعوا
    على أنه لا يجب على العاجز عنه ، وقد قال تعالى : { ولله علَى النَّاسِ
    حِجُّ البيتِ مَنِ استَطََاعَ إليْهِ سَبيِلاً } [ آل عمران : 97 ] . انتهى
    .


    القاعدة الثانية : من لم يبلغ الإحتلام أو زال عقله فليس بمكلف
    عن علي بن أبي طالب عن النبي r قال : (( رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم
    حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يكبر ، وعن المجنون حتى فيق )) أخرجه أبو داود
    ( 4398 ) والترمذي ( 1423 ) وابن ماجة ( 2041 ) وهو صحيح .
    هذا الحديث يدل على أن من زال عقله أو لم يبلغ سن الإحتلام فإن قلم التكليف
    مرفوع عنه فلا يجب عليه شيء في حالته تلك ، ولا يؤاخذ بشيء صدر عنه حتى
    يزول عنه ذلك السبب الذي رفع قلم التكليف عنه .

    القاعدة الثالثة : الأقوال والأفعال الصادرة من غير المكلف لا يترتب
    عليها حكم
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 14/115 ) : وبهذا كانت الأقوال في
    الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول ويقصده ، فأما المجنون والطفل
    الذي لا يميز فأقواله كلها لغو في الشرع لا يصح منه إيمان ولا كفر ، ولا
    عقد من العقود ، ولا شيء من الأقوال باتفاق المسلمين ، وكذلك النائم إذا
    تكلم في منامه فأقواله كلها لغو ، سواء تكلم المجنون والنائم بطلاق أو كفر
    أو غيره .. ، والذي تدل عليه النصوص وأقوال الصحابة أن أقواله ( أي السكران
    ) هدر كالمجنون لا يقع بها طلاق ولا غيره ، فإن الله تعالى قد قـال :
    {حتَّى تعْلمُوا مَاتَقُولُونَ} [ النساء : 43 ] فدل على أنه لا يعلم ما
    يقول ، والقلب هو الملك الذي تصدر الأقوال والأفعال عنه ، فإذا لم يعلم ما
    يقول لم يكن ذلك صادراً عن القلب ، بل يجري مجرى اللغو ، والشارع لم يرتب
    المؤاخذة إلا على ما يكسبه القلب من الأقوال والأفعال الظاهرة كما قال :{
    ولكن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبَتْ قُلُوبُكُم }[ البقرة : 225 ] ولم يؤاخذ على
    أقوال وأفعال لم يعلم بها القلب ولم يتعمدها . انتهى .
    قلت : ويدخل في هذا الأصل الناسي والمخطيء فلا يترتب على أقوالهما وأفعالها
    حكم لأنهما غير قاصدين إلا فيما أتى فيه الدليل بترتيب حكم على الناسي أو
    المخطيء .
    والجاهل مثلهما أيضا لا يترتب على قوله أو فعله حكم لأن التكليف مشروط
    بالعلم كما تقدم ، إلا فيما أتى الدليل بترتيب حكم على فعله أو قوله .

    القاعدة الرابعة : ما يتعلق بالأموال والمتلفات فإنه لا يعذر فيها أحد
    أبداً
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 14/119 ) : القلب هو الأصل في جميع
    الأفعال والأقوال فما أمر الله به من الأفعال الظاهرة فلا بد فيه من معرفة
    القلب وقصده وما أمر به من الأقوال ، والنهي عنه من الأقوال والأفعال إنما
    يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب ، وأما ثبوت بعض الأحكام كضمان النفوس
    والأموال إذا أتلفها مجنون أو نائم أو مخطيء أو ناس ، فهذا من باب العدل في
    حقوق العباد ، ليس هو من باب العقوبة . انتهى .



    & # &












    الاجـتـهاد والتـقـلـيد


    القاعدة الأولى : لا يشرع لمن بلغه الدليل أو كان يستطيع البحث عن الدليل
    أن يقلد أي عالم من العلماء كائنا من كان
    ويترك الدليل
    عرف العلماء التقليد : بأنه اتباع قول من ليس بحجة من غير حجة .
    وقد تكاثرت النصوص الشرعية الدالة على تحريم التقليد ، وأنه يجب على المسلم
    البحث عن دليل القائل ، وأن لا يسلم له تسليما كتسليمه لما يقوله النبي r ،
    قال الله تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه
    أولياء قليلا ماتذكرون } [ الأعراف : 3 ] .
    وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون
    بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا } [ النساء : 59 ] .
    وقال عليه الصلاة والسلام : (( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله
    وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض )) .
    أخرجه الحاكم وهو صحيح .
    ومفهوم الحديث أن التمسك بغير الكتاب والسنة وإنما بقول عالم من العلماء
    وتقليده بغير حجة واتباع قوله بغير دليل يؤدي ذلك إلى الضلال ، والله
    المستعان .
    قال ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم ( 2/994 ) : يقال لمن قال
    بالتقليد : لم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا ؟ فإن قال : قلت
    : لأن كتاب الله عز وجل لا علم لي بتأويله ، وسنة رسوله لم أحصها ، والذي
    قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني ، قيل له : العلماء ، إذا اجتمعوا
    على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية سنة عن رسول الله r أو اجتمع رأيهم على
    شيء فهو الحق لا شك فيه ، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت به بعضهم دون بعض فما
    حجتك في تقليد بعض دون بعض وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي
    ذهبت إلى مذهبه ؟ فإن قال : قلدته لأني علمت أنه صواب ، قيل له : علمت ذلك
    بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع ؟ فإن قال : نعم ، فقد أبطل التقليد وطولب
    بما ادعاه من الدليل ، وإن قال قلدته لأنه أعلم مني ، قيل له : فقلد كل من
    هو أعلم منك ، فإنك تجد في ذلك خلقاً كثيراً أو لا تخص من قلدته إذ علتك
    فيه أنه أعلم منك . انتهى .
    وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية ( 217 ) : فهما توحيدان ، لا نجاة للعبد
    من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرْسِل ، وتوحيد متابعة الرسول ، فلا
    تحاكم إلى غيره ، ولا نرضى بحكم غيره .
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 19/262 ) : والمقصود
    هنا أن التقليد المحرم بالنص والإجماع : أن يعارض قول الله ورسوله بما
    يخالف ذلك كائنا من كان المخالف لذلك .
    وقال أيضا كما في مجموع الفتاوى ( 20/210 ) : قد ثبت بالكتاب والسنة
    والإجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته ، وطاعة رسوله r ، ولم
    يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول
    الله r ، واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوماً في كل ما يأمر به وينهى عنه
    إلا رسول الله r ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحد من الناس يؤخذ من
    قوله ويترك إلا رسول الله r .
    وقال أيضا كما في مجموع الفتاوى ( 35/121 ) : أما وجوب اتباع القائل في كل
    ما يقوله ، من غير ذكر دليل على صحة ما يقول فليس بصحيح ، بل هذه المرتبة
    هي مرتبة الرسول التي لا تصلح إلا له .
    وقال أيضا كما في مجموع الفتاوى ( 20/584 ) : وليس في الكتاب والسنة فرق في
    الأئمة المجتهدين بين شخص وشخص فما لك والليث بن سعد والأوزاعي ، والثوري ،
    هؤلاء أئمة في زمانهم كل منهم كتقليد الآخر ، لا يقول مسلم إنه يجوز تقليد
    هذا دون هذا .
    وقال أيضا كما في مجموع الفتاوى ( 24/154 ) بعد أن ذكر حديث أنس : ( كنا
    نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر ، ومنا المتم ، ومنا المقصر ، فلم يعب
    الصائم على المفطر ، ولا المتم على المقصر ) قال : فهذا الحديث من الكذب ،
    وإن كان البيهقي روى هذا فهذا مما أنكر عليه ورآه أهل العلم لا يستوفي
    الآثار التي لمخالفيه ، كما في الآثار التي له ، وأنه يحتج بآثار لو احتج
    بها مخالفوه لأظهر ضعفها وقدح فيها ، وإنما أوقعه في هذا مع علمه ودينه ما
    أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي r موافقة لقول واحد من العلماء
    دون آخر ، فمن سلك هذا السبيل . دحضت حججه وظهر عليه نوع من التعصب بغير
    الحق ، كما يفعل ذلك من يجمع الآثار ويتأولها في كثير من المواضع بتأويلات
    يتبين فسادها ، لتوافق القول الذي ينصره كما يفعله صاحب شرح الآثار أبو
    جعفر ( يعني الطحاوي ) مع أنه يروي من الآثار أكثر مما يروي البيهقي ، لكن
    البيهقي ينقي الآثار ويميز بين صحيحها وسقيمها أكثر مكن الطحاوي . انتهى .
    وقال أيضا كما في مجموع الفتاوى ( 20/215 ) : وإذا قيل لهذا المستهدي
    المسترشد أنت أعلم أم الإمام الفلاني ؟ كانت هذه المعارضة فاسدة ، لأن
    الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة ، ولست أعلم
    من هذا ولا هذا ، ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة كنسبة أبي بكر وعمر وعثمان
    وعلي وابن مسعود ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم ، فكمات أن هؤلاء الصحابة
    بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع ، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا
    فيه إلى الله والرسول ، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر فكذلك
    موارد النزاع بين الأئمة ، وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم
    الجنب ، وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج
    بالكتاب والسنة ، وتركوا قول عمر في دية الأصابع ، وأخذوا بقول معاوية لما
    كان معه من السنة أن النبي r قال : (( هذه وهذه سواء )) . انتهى .
    القاعدة الثانية : يشرع التقليد لمن لم يستطيع الاجتهاد لعذر ما
    قال الله تعالى في كتابه الكريم :{ فاتَّقُوا الله مَا اسْتَطعْتُم } [
    التغابن : 10 ] . فالواجب عدم التقليد ، لكن مع العذر يجوز التقليد ، لأنه
    لا واجب مع عجز ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 20/204 ) : والذي
    عليه جماهير الأمة أن الإجتهاد جائز في الجملة ، والتقليد جائز في
    الجملة ، ولا يوجبون الإجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد ، ولا يوجبون
    التقليد على كل أحد ويحرمون الإجتهاد ، وأن الإجتهاد جائز للقادر على
    الإجتهاد ، والتقليد جائز للعاجز عن الإجتهاد . وقال أيضا كما في مجموع
    الفتاوى ( 28/388 ) : ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه
    الكتاب والسنة كان هو الواجب ، وإن لم يكن ذلك لضيق الوقت ، أو عجز الطالب
    أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك ، فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه .
    انتهى .
    وقال الشنقيطي كما في القول السديد في حقيقة التقليد ( 77 ) : لا خلاف بين
    أهل العلم ، في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاماً غير أحكام
    الإختيار ، فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاء صحيحا حقيقيا فهو سعة ما
    أمره .. ، وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطراراً حقيقيا ، بحث
    يكون لا قدرة له البتة على غيره ، مع عدم التفريط ، لكونه لا قدرة له أصلاً
    على الفهم ، أوله قدرة على الفهم قد عاقته عوائق قاهرة عن التعليم ، أو هو
    في أثناء التعليم ولكنه يتعلم تدريجاً لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه
    في وقت واحد ، أو لم يجد كفئا يتعلم منه ونحو ذلك فهو معذور في التقليد
    المذكور للضرورة ، لأنه لا مندوحة عنه ، أما القادر على التعلم المفرط فيه ،
    والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي ، فهذا الذي ليس بمعذور . انتهى .



    القاعدة الثالثة : لا يشرع الخروج عن أقوال السلف في المسألة التي
    تكلموا فيها
    من اتباع السلف الصالح عدم الخروج عن أقوالهم في مسألة من المسائل ، قال
    مالك ( كما في ترتيب المدارك 1/193 ) عن موطئه : فيه حديث رسول الله r وقول
    الصحابة والتابعين ورأيهم ، وقد تكلمت برأيي على الإجتهاد ، وعلى ما أدركت
    عليه أهل العلم ببلدنا ولم أخرج عن جملتهم إلى غيره .
    وقال الشافعي كما في المدخل إلى السنن الكبرى ( 110 ) : إذا أجتمعوا ( أي
    الصحابة ) أخذنا باجتماعهم ، وإن قال وأحدهم ولم يخالفه أخذنا بقوله ، فإن
    اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ، ولم نخرج مـن أقاويلهم كلهم .
    وقال أحمد بن حنبل كما في المسودة ( 276 ) : إذا كان في المسألة عن أصحاب
    رسول الله r قول مختلف نختار من أقاويلهم ولم نخرج عن أقاويلهم إلى قول
    غيرهم ، وإذا لم يكن فيها عن النبي r ولا عن الصحابة قول نختار من أقوال
    التابعين .
    وقال الخطيب في الفقه والمتفقه ( 1/173 ) : إذا اختلف الصحابة في مسألة على
    قولين وانفرض العصر عليه لم يجز للتابعين أن يتفقوا على أحد القولين ، فإن
    فعلوا ذلك لم يترك خلاف الصحابة ، والدليل عليه أن الصحابة أجمعت على جواز
    الأخذ بكل واحد من القولين وعلى بطلان ما عدا ذلك ، فإذا صار التابعون إلى
    القول بتحريم أحدهما لم يجز ذلك ، وكان خرقا للإجماع ، وهذا بمثابة لو
    اختلف الصحابة بمسألة على قولين فإنه لا يجوز للتابعين إحداث قول ثالث لأن
    اختلافهم على قولين إجماع على إبطال كل قول سواه . انتهى .

    القاعدة الرابعة : ليس كل مجتهد مصيب
    عن عمرو بن العاص أنه سمع النبي r يقول : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب
    فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد )) .
    أخرجه البخاري ( 7352 ) ومسلم ( 1716 ) .
    هذا الحديث يدل على أنه ليس كل مجتهد مصيب وأن الحق واحد لا يتعدد ، قال
    الشوكاني في إرشاد الفحول ( 386 ) : فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد وأن
    بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين ، وبعض المجتهدين يخالفه
    ويقال له مخطيء واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبا ، واسم الخطأ لا
    يستلزم كونه مصيبا واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر ، فمن قال
    كل مجتهد مصيب وجعل الحق متعدداً بتعدد المجتهدين فقد أخطأ وخالف الصواب
    مخالفة ظاهرة فإن النبي r جعل المجتهدين قسمين قسماً مصيباً وقسماً مخطئاً ،
    ولو كان كل واحد مصباً ولم يكن لهذا التقسيم معنى . انتهى .
    وقد استدل من ذهب أن كل مجتهد مصيب بحديث ابن عمر قال : قال النبي r يوم
    الأحزاب : (( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة )) فأدرك بعضهم العصر في
    الطريق ، فقال بعضهم ، لا نصلي حتى نأتيهم ، وقال بعضهم : بل نصلي لم يرد
    منا ذلك ، فذكر ذلك النبي r فلم يعنف واحداً منهم . أخرجه البخاري ( 4119 )
    ومسلم ( 1707 ) .
    قال الحافظ في الفتح الباري ( 7/409 ) : الاستدلال بهذه القصة على أن كل
    مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح ، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه
    واجتهد فيستفاد منه عدم تأثيمه .. وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من
    اجتهد لأنه r لم يعنف أحداً من الطائفتين ، فلو كان هناك إثم لعنف من أتم .
    انتهى .
    القاعدة الخامسة : ينكر على من خالف الدليل في أي مسألة
    من المسائل
    قال ابن تيمية : قولهم ( ومسائل الخلاف لا إنكار فيها ) ليس بصحيح ، فإن
    الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل . أما الأول : فإن كان
    القول يخالف سنة أو إجماع قديماً وجب إنكاره وفاقاً ، وإن لم يكن كذلك فإنه
    ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول : المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء .
    وأما العمل : إذا كان على خلاف سنة أو إجماع ، وجب إنكاره أيضا بحسب
    درجات الإنكار .. كما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض
    العلماء ، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع ، وللإجتهاد فيها مساغ
    ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً ، وإنما دخل هذا اللبس من
    جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الإجتهاد ، كما اعتقد ذلك
    طوائف من الناس ، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الإجتهاد مالم يكن
    فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه
    فيسوغ له الإجتهاد لتعارض الأدلة المقاربة ، أو لخفاء الأدلة فيها . انتهى .

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 30/80 ) : إن مثل هذه
    المسائل الإجتهادية لا تنكر باليد ، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ،
    ولكن يتكلم بالحجج العلمية ، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ، ومن قلد
    أهل القول الآخر فلا إنكار عليه . انتهى .
    القاعدة السادسة : الخروج من الخلاف مستحب
    الأدلة متكاثرة في الإعتصام وعدم التفرق والاتفاق على كلمة واحدة فهي دالة
    على استحباب الخروج من الخلاف، لكن ذلك مشروط بشرطين :
    الشرط الأول : أن لا يكون في ذلك طرح لدليل من الأدلة .
    الشرط الثاني : أن لا يوقع الخروج من ذلك الخلاف في الوقوع في خلاف آخر .
    قال النووي في شرح مسلم ( 2/23 ) : فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج
    من الخلاف ، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة ، أو أوقع في خلاف آخر . انتهى .

    القاعدة السابعة : عدم التكلم في مسألة لم يسبق إلى القول
    بها إمام من الأئمة
    هذه القاعدة إنما هي في المسائل التي لا نص فيها ، وأما المسائل التي فيها
    نص من حديث رسول الله r فيعمل بها وإن لم يعرف أن أحداً من الأئمة السابقين
    قال بها ، لأن الحديث حجة بنفسه ، وأما المسائل التي لا نص فيها ، ولم
    يتكلم فيها السلف مع وجودها في زمنهم فلا يشرع أن يأتي المسلم فيها بقول
    محدث لم يسبق إليه ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 21/291 ) : كل
    قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ، ولم يسبقه إليه أحد منهم ، فإنه يكون
    خطأ ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها
    إمام . انتهى .




    قـواعــد متفـرقـة


    القاعدة الأولى : الأمور بمقاصدها
    عن عمر بن الخطاب أن رسول الله r قال : (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل
    امرئ ما نوى )) .
    أخرجه البخاري ( 1 ) وسلم ( 1907 ) .
    قال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 3/98 ) :
    فبين في الجملة الأولى : أن العمل لا يقع إلا بالنية ، ولهذا لا يكون عملا
    إلا بنية ، ثم بين في الجملة الثانية : أن العامل ليس له من عمله إلا ما
    نواه ، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود
    والأفعال ، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا ولا
    يعصمه من ذلك صورة البيع ، وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللاً ولا
    يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح لأنه قد نوى ذلك وإنما لامرئ ما نوى .
    وقال أيضا ( 3/97 ) : أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من
    أن يحتاج إلى ذكره فإن القربات كلها مبناها على النيات ولا يكون الفعل
    عبادة إلا بالنية والقصد ولهذا الووقع في الماء لم ينو الغسل أو سبح لتبرد
    لم يكن غسله قربة ولا عبادة باتفاق فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له وإنما
    لامرئ ما نوى ، ولو أمسك عن المفطرات عادة واشتغالا ولم ينو القربة لم يكن
    صائماً ، ولو دار حول البيت يلتمس شيئا سقط منه لم يكن طائفاً . انتهى .

    القاعدة الثانية : الأحكام الشرعية مبنية على تحقيق
    المصالح وإكمالها
    قال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 3/3 ) : فإن الشريعة مبناها وأساسها على
    الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ،
    ومصالح كلها ، وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجوار ، وعن
    الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست
    من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ، فالشريعة عدل الله بين عبادة ،
    ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله r أتم
    دلالة وأصدقها . انتهى .


    القاعدة الثالثة : الأحكام الشرعية مبنية على المتماثلات
    قال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 1/195 ) : وأما أحكام الأمرية الشرعية
    فكلها هكذا ، تجدها مشتملة على التسوية بين المتماثلين ، وإلحاق النظير
    بنظيره ، واعتبار الشيء بمثله ، والتفريق بين المختلفين وعدم تسوية أحدهما
    بالآخر ، وشريعته سبحانه منزهة أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه ثم تبيح ما هو
    مشتمل على تلك المفسدة أو مثلها أو أزيد منها ، فمن جوز ذلك على الشريعة
    فما عرفها حق معرفتها ولا قدرها حق قدرها . انتهى .

    القاعدة الرابعة : العبرة في الأحكام الشرعية بالمعاني
    والمقاصد لا بالألفاظ
    عن جابر بن عبد الله أن رسول الله r قال : (( إن الله ورسوله حرم بيع الخمر
    والميتة والخنزير والأصنام )) فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه
    يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ؟ قال : ( لا هو حرام
    ) ثم قال رسول الله r : (( قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها
    جملوها ثم باعوه فأكلوا ثمنه )) .
    أخرجه البخاري ( 2236 ) ومسلم ( 1581 ) .
    قال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 2/99 ) : لو كان التحريم معلقا بمجرد
    اللفظ وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود للشيء المحرم معناً وكيفية لم
    يستحقوا اللعنة لوجهين :
    أحدهما : أن الشحم خرج بجملته عن أن يكون شحما وصار ودكاً كما يخرج الربا
    بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعا عند من يستحل ذلك … .
    الوجه الثاني : أن اليهود لم ينفقوا بعين الشحم ، وإنما انفقوا بثمنه ،
    ويلزم من راعى الصور والظواهر والألأفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم
    ذلك فلما لعنوا على استحلال الثمن وإن لم ينص على تحريمه علم أن الواجب
    النظر في الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة ، ونظير هذا أن يقال لرجل :
    لا تقرب مال اليتيم فيبيعه ويأخذ عوضه ويقول : لم أقرب ماله . انتهى ملخصاً
    .
    وقال أيضا ( 3/136 ) : إن الله تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفاً ودلالة
    على ما في نفوسهم فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئا عرفه بمراده وما في نفسه
    بلفظه ، ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكاماً بواسطة الألفاظ ، ولم يرتب
    تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول ، ولا على
    مجرد ألفاظ مع العلم أن المتكلم بها لم يرد معانيها ، ولم يحط بها علما ،
    بل تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل به ، أو تكلم به ، وتجاوز
    لها عما تكلمت به مخطئة أو ناسية ، أو مكروهة ، أو غير عالمة به إذا لم
    تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به ، أو قاصدة إليه ، فإذا اجتمع القصد والدلالة
    القولية أو الفعلية ترتب الحكم ، هذه قاعدة الشريعة وهي من مقتضيات عدل
    الله وحكمته ورحمته ، فإن خواطر القلب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الإختيار
    فلو ترتبت عليها الأحكام مكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة ورحمة الله
    تأبى ذلك . انتهى .
    القاعدة الخامسة : الحكم للغالب والنادر لا حكم لها
    استقرأ العلماء النصوص الشرعية فوجدوا أن الأحكام تبنى على الغالب وأن
    النادر لا محكم له ، قال القرافي في الفروق ( 4/104 ) : الأصل اعتبار
    الغالب وتقديمه على النادر وهو شأن الشريعة ، كما يقدم الغالب في طهارة
    المياه وعقود المسلمين ويمنع شهادة الأعداء والخصوم لأن الغالب منهم الحيف .
    انتهى .

    القاعدة السادسة : الأحكام الشرعية المحددة لا تتغير بتغير الزمان أو
    المكان
    قال ابن القيم في إغاثة اللهفان ( 10/330 ) : الأحكام نوعان :
    النوع الأول : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الأزمنة ولا
    الأمكنة ، ولا اجتهاد الأئمة ، كوجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ، والحدود
    المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك ، فهذت لا يتطرق إليه تغيير ، ولا
    اجتهاد يخالف ما وضع له .
    والنوع الثاني : ما يتغير حسب المصلحة له ، زماناً ومكاناً وحالاً ،
    كمقادير التعزيرات ، وأجناسها ، وصفاتها ، فإن الشارع ينوع فيها بحسب
    المصلحة . انتهى .
    وضرب ابن القيم لهذه القاعدة مثالا فقال في إعلام الموقعين ( 3/16 ) ما
    حاصله : أن النبي r نص في المصرَّاة على ردِّ صاع من تمر بدل اللبن ، فقيل
    هذا حكم عام في جميع الأمصار حتى في المصر الذي لم يسمع أهله بالتمر قط ولا
    رأوه ، فيجب إخراج قيمة الصاع في موضع التمر ، ولا يجزئهم إخراج صاع من
    قوتهم ، وجعل هؤلاء التمر في المصراة كالتمر في زكاة التمر لا يجزيء سواه ،
    وخالفهم آخرون فقالوا : بل تخرج في كل موضع صاعاً من قوت ذلك البلد الغالب
    ، فيخرج إلى البلاد التي قوتهم البر صاعا من بُرٍّ ، وإن كان قوتهم الأرز
    فصاعاً من أرز ، وإن كان الزبيب والتين عندهم كالتمر في موضعه أجزأ صاع منه
    وهذا هو الصحيح ، ولا ريب أنه أقرب إلى مقصود الشارع ، ومصلحة المتعاقدين
    من إيجاب قيمة صاع من التمر في موضعه ، والله أعلم .

    القاعدة السابعة : اليقين لا يزول بالشك
    عن عبادة بن تميم عن أبيه أنه شكا إلى رسول الله r الرجل الذي يخيل إليه
    أنه يجد الشيء في الصلاة فقال : (( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً
    )) .
    أخرجه البخاري ( 137 ) ومسلم ( 361 ) .
    هذا الحديث يدل على أن الأشياء يحكم ببقائها على ماهي عليه حتى يتيقن خلاف
    ذلك ، ولا يضر الشك الطاريء ، وهناك أدلة أخرى على هذه القاعدة منها حديث
    أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله r : (( إذا شك أحدكم في صلاته فلم
    يدر كم صلى ثلاثاً أو أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم ليسجد
    سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته وإن كان صلى إتماماً
    لأربع كان ترغيماً للشيطان )) . أخرجه مسلم ( 571 ) .
    قال ابن عبد البر في التمهيد ( 5/25 ) : في هذا الحديث من الفقه أصل عظيم
    مطرد في أكثر الأحكام وهو أن اليقين لا يزيله الشك ، وأن الشك مبني على
    أصله المعروف حتى يزيله يقين لا شك فيه . انتهى .


    القاعدة الثامنة : الضرورات تبيح المحظورات :
    قال الله تعالى في كتابه الكريم : {وقَدْ فصَّل لَكُمْ ماحَرَّمَ عليْكُم
    إلا ما اضْطررْتُمْ إليْهِ } [ الأنعام : 119 ] .
    قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ( 2/174 ) : أي قد بين لكم ما حرم عليكم
    ووضحه { إلا ما اضررتم إليه } [ الأنعام : 119 ] أي إلا في حال الاضطرار
    فإنه يباح لكم ما وجدتم . انتهى .
    وقال تعالى في كتابه الكريم : { فمَنِ اضطرَّ غَيرَ باغٍ ولا عَادٍ فَلا
    إثْمَ عليهِ إنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ }[ البقرة : 173 ] .
    قال ابن كثير في تفسيره ( 1/195 ) : أي في غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة
    الحد فلا إثم عليه أي في أكل ذلك .
    قال الشافعي في الأم ( 4/362 ) : كل ما أحل من حرم في معنى لا يحل إلا في
    ذلك المعنى خاصة ، فإذا زايل ذلك المعنى عاد إلى أصل التحريم مثلاً :
    الميتة المحرمة في الأصل المحلة للمضطر ، فإذا زالت الضرورة عادت إلى أصل
    التحريم . انتهى .

    القاعدة التاسعة : الضــرر يُـزال
    عن عبادة بن الصامت أن رسول الله r قال : (( لا ضرر ولا ضرار )) أخرجه
    ابن ماجة ( 2340 ) وهو حديث حسن .
    ومعنى هذا الحديث أن الضرر أن يدخل الشخص على غيره ضرراً بما ينتفع هو به ،
    والضرار أن يدخل الشخص على غيره ضرراً بلا منفعة له من ذلك الضرر كمن منع
    ما لا يضره ويتضرر به الممنوع ( كما في جامع العلوم والحكم /287 ) .
    قال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 2/111 ) : فإن حكمة الشارع اقتضت رفع
    الضرر عن المكلفين ما أمكن ، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على
    حاله ، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به . انتهى .


    القاعدة العشرة : العـادة محـكـمـة
    عن عائشة أم المؤمنين أن هنداً بنت عتبة قالت يا رسول الله : (( إن أبا
    سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم
    فقال النبي r : (( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف )) ) .
    أخرجه البخاري ( 5364 ) ومسلم ( 1714 ) .
    هذا الحديث يدل على أنه يُرجع إلى العرف والعادة وذلك في الشيء الذي لم
    يجعل له الشارع حداً .
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 29/15 ) : وكل اسم فلا بد له من حد
    ، فمنه ما يعلم حد باللغة كالشمس ، والقمر ، والبر ، والبحر ، والسماء ،
    والأرض ، ومنه ما يعلم بالشرع ، كالمؤمن والكافر والمنافق ، وكالصلاة ،
    والزكاة ، والصيام ، والحج ، وما لم يكن منه له حد في اللغة ولا في الشرع
    فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله r : (( من ابتاع طعاما
    فلا يبعه حتى يقبضه )) ، ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد
    الشارع لها حداً لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ، ولا نقل عن أحد من
    الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة من الألفاظ وغيرها… ، بل تسمية
    أهل العرف من العرب هذه المقدات بيعاً دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعاً ،
    والأصل بقاء اللغة وتقريرها ، لا نقلها وتغييرها ، فإذا لم يكن له حد في
    الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم ، فما سموه
    بيعاً فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة . انتهى .


    القاعدة الحادية عشر : درء المفاسد أولى من جلب المصالح
    عن عائشة أم المؤمنين أن النبي r قال : (( لو لا أن قومك حديثو عهد بجاهلية
    لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها
    الحجر )) .
    أخرجه مسلم ( 1333 ) .
    فالنبي r ترك ما فيه مصلحة حتى لا تحصل مفسدة بسبب تلك المصلحة ، قال ابن
    القيم في مفتاح دار السعادة ( 350 ) : وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها
    بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصلحة الخالصة أو الراجحة بحسب
    الإمكان ، وإن تزاحمت قدم إهمها وأجلها ، وإن فاتت أدناها ، وتعطيل المفاسد
    الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان ، وإن تراحمت عطل أعظمها فساداً باحتمال
    أدناهما ، وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه ، وهي دالة عليه ، شاهدة
    له بكمال علمه وحكمته ، ولفظه بعباده ، وإحسانه إليهم . انتهى .

    القاعدة الثانية عشر : الإجـزاء والإثابة يجتـمعان ويفـترقان
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 19/303 ) : الإجزاء
    والإثابة يجتمعان ويفترقان ، فالإجزاء براءة الذمة من عهد الأمر وهو
    السلامة من ذم الرب أو عقابه ، والثواب الجزاء على الطاعة ، وليس الثواب من
    مقتضيات مجرد الإمتثال بخلاف الإجزاء ، فإن الأمر يقتضي إجزاء المأمور به
    لكن هما مجتمعان في الشرع ، إذ قد استقر فيه أن المطيع مثاب ، والعاصي
    معاقب ، وقد يفترقان فيكون الفعل مجزئا لا ثواب فيه إذ قارنه من المعصية ما
    يقابل الثواب ، كما قيل : ( رب صائم حظه من صيامه العطش ، ورب قائم ثم حظه
    من قيام السهر ) فإن قول الزور والعمل به في الصيام أوجب إثماً يقابل ثواب
    الصوم ، وقد اشتمل الصوم على الإمتثال المأمور به والعمل المنهي فبرئت
    الذمة للإمتثال ووقع الحرمان للمعصية ، وقد يكون مثاباً عليه غير مجزئ إذا
    فعله ناقصاً عن الشرائط والأركان ، فيثاب على ما فعل ولا تبرأ الذمة إلا
    بفعله كاملاً ، وهذا تحرير جيدان فعل المأمور به يوجب البراءة ، فإن قارنه
    معصية بقدره تخل بالمقصود قابل الثواب وإن نقص المأمور به أثيب ولم تحصل
    البراءة التامة ، فإما أن يُعاد ، وإما أن يجبر ، وإما أن يأثم . انتهى .



    & # &
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أصول الفقه على منهج أهل الحديث Empty رد: أصول الفقه على منهج أهل الحديث

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 10.08.10 19:55

    قواعـد في البدعـة

    القاعدة الأولى : الأصل في العبادات المنع وفي العادات الإباحة
    عن عائشة أم المؤمنين قالت قال رضي الله عنه : ( من أحدث في أمرنا ما ليس
    منه فهو رد ) أخرجه مسلم ( 1718 ) .
    هذا الحديث يدل على عدم إحداث شيء من العبادات إلا بدليل ، وأما غير
    العبادات فلا يمنع منه إلا بدليل ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع
    الفتاوى ( 29/16 ) : تصرفات العبادات من الأقوال والأفعال نوعان : عبادات
    يصلح بها دينهم ، وعبادات يحتاجون إليها في دنياهم ، فباستقراء أصول
    الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا
    بالشرع ، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه ،
    والأصل فيه عدم الحظر ، فلا يحظر منـه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى ،
    وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن تكون مأموراً بها ،
    فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم بأنه عبادة ؟! ومالم يثبت من العادات
    أنه منهي عنه كيف يحكم على أنه محظور ؟! ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل
    الحديث يقولون : إن الأصل في العبادات التوفيق ، فلا يشرع منها إلا ما
    شرعـه الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله : { أمْ لَهُم شُركاءُ شَرعُوا
    لهُم مِنَ الدينِ مَالمْ يأذَن بِهِ الله } [ الشورى : 21 ] والعادات الأصل
    فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه ، وإلا دخلنا في معنى قوله { قلْ
    أرَأيْتُم ما أنَزلَ الله لَكمْ مِنْ رزقٍ فجعَلتُمْ منْهُ حَرامًا
    وَحلالاً } [ يونس : 59 ] انتهى .


    القاعدة الثانية : ليس في الشرع بدعة حسنة بل كل بدعة هي ضلالة
    عن العرباض بن سارية عن النبي r أنه قال (( إياكم ومحدثات الأمور فإن كل
    محدثة بدعة وكل ببدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )) .
    صحيح : أخرجه أبو داود ( 5407 ) والترمذي ( 2676 ) وابن ماجة ( 42 ) وغيرهم
    .
    هذا الحديث يدل على أنه ليس في الشرع بدعة حسنة ، بل كل بدعة هي ضلالة ،
    وهذا ما فهمه الصحابة فقد قال عبد الله بن عمر : كل بدعة ضلالة وإن رآها
    الناس حسنة .
    أخرجه اللالكائي ( 1/92 ) بإسناد صحيح .
    ومنه تعلم أن تقسيم بعض أهل العلم البدعة إلى خمسة أقسام : واجبة ، ومندوبة
    ، ومحرمة ، ومكروهة ، ومباحة ، تقسيم ليس بصحيح لمخالفته للأحاديث ولفهم
    السلف الصالح فإنهم كانوا يرون كل بدعة ضلالة ، كما تقدم عن عبد الله بن
    عمر رضي الله عنهما .
    ويحتج من يقول بالبدعة الحسنة بحديث : (( من سن في الإسلام سنة حسنة فله
    أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة )) .
    والجواب :
    أن هذا الحديث لا حجة فيه ، وذلك لأنه ورد في أمر ثابت في الشرع وهو الصدقة
    ، فعن المنذر بن جرير عن أبيه قال : كنا عند رسول الله r في صدر النهار
    قال : فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء ، متقلدي السيوف ،
    عامتهم من مضر بل كلهم من مضر ، فتمعر وجه رسول الله r لما رأى بهم من
    الفاقة ، فدخل ثم خرج ، فأمر بلالاً فأذن وأقام ، فصلى ثم خطب فقال : ( {
    يا أيها النَّاس اتقوا ربكُمْ الذي خلَقكُم مِنْ نفسٍ واحِدَةٍ } [ النساء :
    1 ] إلى آخر الآية { إن الله كان عليكم رقيبا } والاية التي تلي في {
    ياأيُّها الذينَ آمَنُوا اتقُوا الله ولْتنْظُر نفْسٌ ما قَدَّمتْ لغَدٍ
    واتَّقُوا الله } [ الحشر : 18 ] تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه
    ، من صاع بـره ، من صاع تـمره ، ولـو بشق تمـرة )) قال : فجاء رجل من
    الأنصار بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت قال : ثم تتابع الناس ،
    حتى رأيت كـومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله r يتهلل ، كأنه
    مذهبة ، فقال رسول الله r : (( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ، وأجر
    من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن
    في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن
    ينقص من أوزارهم شيء )) .
    أخرجه مسلم ( 1017 ) .
    قال الشاطبي في الموافقات ( 1/183 ) : فتأملوا أين قال رسول الله r ( من
    سن سنة حسنة ) تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه ،
    حتى بتلك الصرة ، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ ، فسر رسول
    الله r حتى قال : (( من سن في الإسلام سنة حسنة )) ، فدل على أن السنة
    هاهنا مثل ما فعل ذلك الصحابي ، وهو العمل بما ثبت كونه سنة ، فظهر أن
    السنة الحسنة ليست بمبتدعة . انتهى .
    ويحتج أيضا من يقول بالبدعة الحسنة بقول عمر لما رأى الناس مجتمعين في صلاة
    التراويح نعمت البدعة هذه .
    والجواب : قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم ( 2/589 ) : أكثر ما
    في تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها ، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية ، وذلك
    أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق ، وأما البدعة
    الشرعية فما لم يدل عليه دليل شرعي ، فإذا كان نص رسول الله r قد دل على
    استحباب فعل ، أو إيجابه بعد موته ، أو دلَّ عليه مطلقاً ولم يعمل به
    إلا بعد موته ، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر رضي الله عنه ، فإذا عمل
    ذلك العمل بعد موته ، صحَّ أن يسمى بدعة في اللغة لأنه عمل مبتدأ ، كما أن
    نفس الدين الذي جاء به النبي r يُسمى مُحدثا في اللغة ، كما قالت رسل
    قريتين للنجاشي عن أصحاب النبي r المهاجرين إلى الحبشة : ( إن هؤلاء خرجوا
    من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك ، وجاؤوا بدين محدث لا يُعرف ) ثم
    ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة وإن سمي بدعة في
    اللغة . انتهى .
    وقال ابن رجب في جامع العلوم ( 233 ) : وأما وقع في كلام السلف من استحسان
    بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية . انتهى .
    ويحتج أيضا من يقول بالبدعة الحسنة بأثر : ( ما رآه المسلمون حسنا فهو عند
    الله حسن ) .
    والجواب : قال ابن القيم في الفروسية ( 60 ) : في هذا الأثر دليل على أن ما
    أجمع عليه المسلمون ورأوه حسنا عند الله فهو حسن ، لا مارآه بعضهم فهو حجة
    عليكم . انتهى .
    وقال الألباني في الضعيفة ( 2/17 ) : إن من عجائب الدنيا أن يحتج بعض الناس
    بهذا الحديث على أن في الدين بدعة حسنة ، وأن الدليل على حسنها اعتياد
    المسلمين لها ! ولقد صار من الأمر المعهود أن يبادر هؤلاء إلى الإستدلال
    بهذا الحديث عند ما تثار هذه المسألة . وخفي عليهم .
    أ ـ أن هذا الحديث موقوف فلا يجوز أن يحتج به في معارضة النصوص القاطعة في
    أن (( كل بدعة ضلالة )) كما صح عنه r .
    ب ـ وعلى افتراض صلاحية الإحتجاج به فإنه لا يعارض تلك النصوص لأمور :
    الأول : أن المراد به إجماع الصحابة واتفاقهم على أمر ، كما يدل عليه
    السياق ، ويؤيده استدلال ابن مسعود به على إجماع الصحابة على انتخاب أبي
    بكر خليفة وعليه فاللام في ( المسلمون ) ليس للإستغراق كما يتوهمون بل
    للعهد .
    الثاني : سلمنا أنه للإستغراق ولكن ليس المراد به قطعا كل فرد من المسلمين
    ولو كان جاهلا ، فلا بد إذن من أن يحمل على أهل العلم منهم . انتهى .


    القاعة الثالثة : البدع كلها محرمة وليس فيها ما هو مكروه :
    المكروه : هو الذي لا يأثم فاعله ويثاب تاركه .
    وعليه فليس في البدع ما هو مكروه ، لأن المكروه فعله ليس بمحرم ، والبدع
    كلها محرمة ، قال الألباني في حجة النبي r ( 103 ) : ولكن يجب أن نعلم أن
    أصغر بدعة يأتي الرجل بها في الدين هي محرمة بعد تبين كونها بدعة فليس في
    البدع كما يتوهم البعض ما هو في رتبة المكروه فقط . انتهى .
    قلت : وأظن أن هؤلاء البعض الذين عناهم الألباني رحمهم الله جاءتهم هذه
    الشبهة من تقسيم الشاطبي في الإعتصام ( 2/49 ) : تقسيم البدعة إلى قسمين :
    محرمة ومكروهة .
    ولكن مراد الشاطبي بالكراهة هنا الكراهة التحريمية لا الكراهة التنزيهية
    حيث قال في الاعتصام ( 2/49 ) : إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في
    النهي على رتبة واحدة وأن منها ما هو مكروه كما أن منها ما هو محرم ، فوصف
    الضلالة لازم لها ، وشامل لأنواعها ، لما ثبت من قوله r : (( كل بدعة
    ضلالة )) . انتهى .


    القاعدة الرابعة : اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة
    عن عبد الله بن مسعود أنه قال : اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة .
    أخرجه الدارمي ( 223 ) واللالكائي ( 1/55 ، 88 ) وغيرهما وهو أثر صحيح .
    وعن سعيد بن المسيب : أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين
    يكثر فيهما الركوع والسجود ، فنهاه ، فقال : يا أبا محمد يعذبني الله على
    الصلاة ؟! قال : لا ولكن يعذبك على خلاف السنة .
    أخرجه الخطيب في الفقه والمتفقه ( 1/147 ) .
    وعن سفيان بن عيينة قال : سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد
    الله من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة ، من حيث أحرم رسول الله r فقال :
    إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر ، قال : لا تفعل ، فإني أخشى
    عليك الفتنة ، فقال : وأي فتنة في هذه ؟! إنما هي أميال أزيدها ! قال : وأي
    فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله r ؟ إني سمعت
    الله يقول : { فليحْذَرِ الذين يخالفُونَ عَن أمرِهِ أن تصِيبَهُمْ فتنةٌ
    أوْ يُصيبَهُم عَذابٌ أليمٌ }[ النور : 63 ].
    أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه ( 1/146 ) وأبو نعيم في الحلية ( 6/326
    ) وغيرهما .
    وقال أبو شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث ( 214 ) : فقد بان ووضح
    بتوفيق الله تعالى صحة من إنكار من أنكر شيئا من هذه البدع وإن كان صلاة
    ومسجداً ، ولا مبالاة بشناعة جاهل يقول : كيف يؤمر بتبطيل صلاة وتخريب مسجد
    ، فما وازنه إلا وزان من يقول : كيف يؤمر بتخريب مسجد ، إذا سمع أن النبي r
    خرب مسجد الضرار ، ومن يقول : كيف يُنهى عن قراءة القرآن في الركوع
    والسجود إذا سمع حديث علي رضي الله عنه المخرج في الصحيح : (( نهاني رسول
    الله r أن أقرأ القرآن في الركوع والسجود )) فاتباع السنة أولى من اقتحام
    البدعة ، وإن كانت صلاة في الصورة ، فبركة اتباع السنة أكثر فائدة ، وأعظم
    أجراً ، وإن سلمنا أن لتلك الصلاة أجراً . انتهى .

    القاعدة الخامسة : النية الحسنة لا تخرج الشيء المحدث عن كونه بدعة
    بتلك النية الحسنة
    قوله عليه الصلاة والسلام : (( إنما الأعمال بالنيات )) .
    ليس المراد به أي عمل من الأعمال ، وإنما المراد به العمل الوارد في الكتاب
    والسنة ، فإذا كان وارداً في الكتاب والسنة فإنه يكون صواباً ، قال محمد
    بن عجلان كما في جامع العلوم والحكم ( 10 ) : لا يصلح العمل إلا بثلاث :
    التقوى لله ، والنية الحسنة والإصابة .
    وقد جاء في قصة عبد الله بن مسعود مع أصحاب الحِلق الذين كان معهم حصى
    يذكرون الله به أن ابن مسعود قال لهم : ( والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة
    أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة ) قالوا : والله يا أبا عبد الرحمن
    ما أردنا إلا الخير ، قال : ( وكم من مريد للخير لن يصيبه ) .
    أخرجه الدارمي ( 1/68 ) وهو صحيح .
    فقد أنكر عبد الله بن مسعود على أولئك القوم مع أن نيتهم حسنة ولكن ذلك لم
    يكن سبباً في التغاضي عن عملهم المخالف للسنة ، لأن النية الحسنة لا تجعل
    البدعة سنة .





    القاعدة السادسة : الإختلاف في فعل ما هل هو بدعة أم لا
    يسوغ العمل به بسبب ذلك الإختلاف
    إذا اختلف العلماء في فعل ما من الأفعال فقال بعضهم إنه بدعة ، وقال بعضهم
    إنه ليس ببدعة ، فإن ذلك لا يسوغ العمل بذلك الفعل بسبب الإختلاف فيه ، بل
    يؤخذ بقول من معه الحجة والدليل ، لأن العبادة لا تثبت إلا بدليل ، قال شيخ
    الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 26/202 ) : وليس لأحد أن يحتج بقول أحد
    في مسائل النزاع ، وإنما الحجة النص والإجماع ، والدليل مستنبط من ذلك ،
    تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية ، لا بأقوال بعض العلماء ، فإن أقوال العلماء
    ويحتج لها بالأدلة الشرعية . انتهى .

    القاعدة السابعة : شيوع عبادة ما وانتشارها بين الناس لا
    يدل ذلك على مشروعيتها إلا بدليل
    كثرة فعل الناس لعبادة ما لا يدل ذلك على شرعية تلك العبادة ، لأن العبادة
    لا تؤخذ من كثرة عمل الناس لها وتتابعهم عليها ، وإنما تؤخذ من دليل الكتاب
    والسنة ، قال الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع ( 73071 ) : فصل :
    شيوعة الفعل لا تدل على جوازه : في الكلام على فريق من العامة وأهل
    التقليد قالوا : إن هذا الأمر شائع ذائـع في أقاليم أهل الإسلام وأقطار أهل
    الأرض ، فالجواب : أن نقول : شيوعـة الفعل وانتشاره لا يدل على جوازه ،
    كما أن كتمه لا يدل على منعه .. إلى أن قال : وأكثر أفعال أهل زمانك على
    غير السنة ، وكيف لا وقد روينا قول أبي الدرداء إذ دخل على أم الدرداء
    مغضبا ، فقالت له : مالك ؟ فقال : ( والله ما أعرف فيهم شيئاً من أمر محمد r
    إلا أنهم يصلون جميعا ) . فإنه لم يبق فيهم من السنة إلا الصلاة في جماعة ،
    كيف لا تكون معظم أمورهم محدثات ؟ . انتهى .


    القاعدة الثامنة : الأصل أن إحداث زيادة ما في عبادة من العبادات لا يُفسد
    العبادة كلها وإنما ذلك الأمر المحدث الزائد يكون هو الفاسد فقط إلا إذا
    كان الزائد مخلاً بأصل العبادة
    ليس في الأدلة الشرعية أن العبادة الثابتة في الشرع إذا حصل فيها أمر مبتدع
    زائد على الثابت ، كانت تلك العبادة فاسدة بكاملها ، وإنما الذي يكون
    فاسداً مردوداً هو ذلك الأمر المبتدع الزائد ، فقد قال عليه الصلاة والسلام
    : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ )) أخرجه مسلم ( 1718 ) من
    حديث أم المؤمنين عائشة .
    قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ( 57 ) : إن كان قد زاد في العمل
    المشروع ما ليس بمشروع فزيادته مردودة عليه ، بمعنى أنـها لا تكون قربة ولا
    ثبات عليها ، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله فيكون مردوداً كمن زاد
    ركعة عمداً في صلاته مثلاً ، وتارة لا يبطله ولا يرده من أصله كمن توضأ
    أربعاً أربعاً ، أو صام الليل مع النهار وواصل في صيامه . انتهى .

    القاعدة التاسعة : العبادة التي أطلقها الشارع لا يشرع تقييدها بزمان أو
    مكان أو صفة أو عدد
    قال أبو شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث ( 165 ) : ولا ينبغي
    تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع ، بل تكون جميع أفعال البر
    مرسلة في جميع الأزمان ، ليس لبعضها على بعض فصل إلا ما فضله الشرع ، وخصه
    بنوع العبادة ، فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها ،
    كصوم يوم عرفة ، وعاشوراء ، والصلاة في جوف الليل ، والعمرة في رمضان ، ومن
    الأزمان ما جعله الشرع فضلاً فيه جميع أعمال البر ، كعشرة ذي الحجة ،
    وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر .
    والحاصل أن المكلف ليس له منصب التخصيص ، بل ذلك إلى الشارع ، وهذه كانت
    صفة عبادة رسول الله r . انتهى .
    وقال الألباني في أحكام الجنائز ( 306 ) في ذكر أنواع البدع : كل عبادة
    أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود مثل المكان أو الزمان أو صفة أو
    عدد . انتهى .
    وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 1/344 ) : ومعلوم أنه لا حرام إلا ما
    حرمه الله ورسوله ، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله ، كما أنه
    لا واجب إلا ما أوجبه الله ، ولا حرام إلا ما حرمه الله ، ولا دين إلا ما
    شرعه الله ، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر ، والفرق
    بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله ، فإن العبادة
    حقه على عباده . انتهى .


    القاعدة العاشرة : ما ثبت على صفة معينة من العبادات فان الاقتصار على جزء
    معين من تلك العبادة دون الإتيان بها
    بكاملها يعتبر بدعة
    العبادة الواردة على صفة معينة في الشرع ينبغي لمن أراد أن يفعلها أن يأتي
    بها كما وردت في الشرع وصفتها فإن لم يأت بها بكمالها وإنما أتى بجزء منها
    فقد ابتدع في الدين ، لأنه يعتبر خلاف ما شرع الله عز وجل ، قال أبو شامة
    في كتاب الباعث في إنكار البدع والحوادث ( 191 ) : لم ترد الشريعة بالتقرب
    إلى الله تعالى بسجدة منفردة ولا سبب لها ، فإن القرب لها أسباب وشرائط
    وأوقات وأركان لا تصح بدونها فكلما لا يقترب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ،
    ومزدلفة ، ورمكي الجمار ، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسك واقع في
    وقته بأسبابه وشرائطه ، فكذلك لا يقترب إلى الله تعالى بسجدة منفردة ، وإن
    كانت قربة إذا لم يكن لها سبب صحيح . انتهى .
    وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ( 57 ) : وليس ما كان قربة في عبادة
    يكون قربة مطلقاً ، فقد رأى النبي r رجلاً قائما في الشمس ، فسأل عنه ،
    فقيل : إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم ، (( فأمره النبي r أن
    يقعد ويستظل وأن يتم صومه )) فلم يجعل قيامه وبروزه في الشمس قربة يوفى
    بنذرها .. ، ومع أن القيام عبادة في مواضع أخرى كالصلاة والأذان والدعاء
    بعرفة ، والبروز للشمس قربة للمحرم ، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في
    موطن يكون قربة في كل المواطن ، وإنما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في
    مواضعها . انتهى .


    القاعدة الحادية عشر : لا يشرع استعمال طريقة جديد
    لدعوة الناس إلى عبادة ربهم
    لا شك عند أحد من المسلمين أن هذا الدين كامل ، فقد قال تعالى في كتابه : {
    اليوم أكْمَلتُ لكُمْ دينَكمْ وأتممْتُ عليْكُم نِعْمتِي } [ المائدة : 3
    ].
    وكمال الدين يلزم منه أنه كل طريقه لدعوة الناس إلى عبادة ربهم لم يستعملها
    النبي r مع إمكان استعماله لها ، يكون استعمالها بعد النبي r بدعة في
    الدين ، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجمـوع الفتاوى ( 11/620 ،
    625 ) : عن جماعة يجتمعون على قصد الكبائر من القتل ، وقطع الطريق ،
    والسرقة ، وشرب خمر ، وغير ذلك ، ثم إن شيخا من المشائخ المعروفين بالخير
    واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك ، فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعاً
    يجتمعون فيه بهذه النية ، وهو بدف بلا صلاصل ، وغناء المغني بشعر مباح
    بغير شبابه ، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة ، وأصبح من لا يصلي ويسرف ولا
    يزكي يتورع عن الشبهات ، ويؤدي المفروضات ، ويجتنب المحرمات ، فهل يباح فعل
    هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه ، لما يترتب عليه من المصالح ، مع
    أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا
    فأجاب شيخ الإسلام :
    الحمد لله رب العالمين .
    أصل جواب هذه المسألة وما أشبهها : أن يعلم أن الله بعث محمداً r بالهدى
    ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ، وكفى باله شهيدا ، وأنه أكمل له ولأمته
    الدين ، كما قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
    ورضيت لكم الإسلام دينا } [ المائدة : 3 ] . وأمر الخلق أن يردوا ما
    تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعثه به كما قال تعالى : {يا أيَّها الذِينَ
    آمنُوا أطِيعُوا الله وأطيعُوا الرسُولَ وأولِي الأمرِ منْكُم فَإنْ
    تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرَّسُول ِإنْ كُنتمْ
    تؤمِنونَ بالله واليوْمِ الآخِرِ ذلكَ خيرٌ وأحْسَنُ تأوِيلاً }[ النساء :
    59 ] ، .. إلى أن قال : إذا عرف هذا المعلوم إنما يهدي الله به الضالين
    ويرشد به الغاوين ويتوب به العاصين ، لابد أن يكون فيما بعثه الله به
    ورسوله من الكتاب والسنة ،

    وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول الله r لا يكفيني في ذلك ، لكان
    دين الرسول ناقصاً ، محتاجاً تتمة ، وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر
    الله بها أمر إيجاب أو استحباب ، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها ، والعمل
    إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة ، فإن الشارع حكيم ، فإن غلبت مصلحته على
    مفسدته شرعه ، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه ، بل نهى عنه ، كما قال
    تعالى : { كتب عليكـم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
    وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون } [ البقرة :
    216 ]وقال تعالى : { يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع
    للناس وإثمهما أكـبر من نفـعـهما } [البقرة : 219 ] ولـهذا حرمهـما الله
    تعالى بعد ذلك ، وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربا إلى الله ، ولم
    يشرعه الله ورسوله ، فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه ، وإلا فلو كان
    نفعه أعظم غالباً على ضرره لم يهمله الشارع ، فإنه r حكيم ، لا يهمل مصالح
    الدين ، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين ، إذا تبين هذا
    فنقول للسائل : إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين على الكبائر ، فلم
    يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البـدعي ، يـدل على أن الشيخ جاهل
    بالطرق الشريعة التي بها تتوب العصاة ، أو عاجزعنها ، فإن الرسول r
    والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق
    والعصيان بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بـها عن الطرق البدعية ، فلا
    يجوز أن يقال إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به
    العصاة ، فإنه قد علم بالإضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر
    والفسوق والعصيان ما لا يحصيه إلا اله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية ،
    التي ليس فيها ما ذكر من الإجتماع البدعي . ، فلا يمكن أن يقال : إن العصاة
    لا يمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية ، بل يقال : إن في الشيوخ من يكون
    جاهلاً بالطرق الشرعية عاجزاً عنها ، ليس عنده علم بالكتاب والسنة ، وما
    يخاطب به الناس ، ويسمعهم إياه ، مما يتوب الله عليهم ، فيعدل هذا الشيخ عن
    الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية ، إما مع حسن القصد إن كان له دين ، وإما
    أن يكون غرضه الترؤس عليهم ، وأخذ أموالهم بالباطل . انتهى .
    قلت : ويشكل على بعض الناس عند ذكر هذه القاعدة أن هناك أمور استجدت تستخدم
    في دعوة الناس لم تكن في زمن النبي r ، واتفق العلماء على استحباب
    استعمالها في دعوة الناس إلى عبـادة ربـهم ( كالشريط ) وما إلى ذلك .
    والجواب عن هذا الإشكال : أن المراد بهذه القاعدة هو أن يكون المقتضي
    موجوداً في زمن النبي r وليس هناك مانع يمنع منه،ومع ذلك لم يفعله النبي r
    فيكون استعماله بعد زمن النبي r بدعة ،( فالشريط ) مثلاً كان هناك مانع
    يمنع منه،وهوعدم استطاعة إيجاده،وعليه فلا يدخل في هذه القاعدة ،كماسيأتي
    بيانه من كلام شيخ الإسلام في قاعدة المصلحة المرسلة
    القاعدة الثانية عشر : ما جاء عن أحد من الصحابة فعل عبادة
    ما فإن تلك العبادة يُشرع فعلها ولا تعتبر بدعة
    الصحابة حريصون على إتباع السنة واجتناب البدعة فإذا ورد عن أحد من الصحابة
    فعل عبادة ما لم تأت في الكتاب أو السنة فإن تلك العبادة تعتبر مشروعة ولا
    تعتبر بدعة ، لأن الصحابي لا يأت بعبادة إلا وله فيها مستند ولا يجتهد في
    ذلك من عنده ، لكن يشترط لاعتبار تلك العبادة مشروعة شرطان ذكرهما الألباني
    في أحكام الجنائز فقال ( 306 ) : كل أمر لا يمكن أن يشرع إلا بنص أو توقيف
    ، ولا نص عليه عليه ، فهو بدعة إلا ما كان عن صحابي تكرر ذلك العمل منه
    دون نكير . انتهى .
    وقد ذكر الحاكم في المستدرك ( 1/370 ) حديث النهي عن الكتابة على القبور
    وقال : وليس العمل عليه : فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على
    قبورهم وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف .
    فتعقبه الذهبي قائلاً : ما قلت طائلاً ، ولا نعلم صحابيا فعلى ذلك ، وإنما
    هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم ، ولم يبلغهم النهي . انتهى .
    القاعدة الثالثة عشر : فعل العبادة على غير الصفة التي وردت بـها أوغير
    السبب التي وردت من أجله تعتبر بدعة
    إذا وردت عبادة بصفة معينة فيجب فعلها على تلك الصفة ، ولايجوز فعلها على
    غير الصفة التي وردت بها ، كالأذان فإنه ورد بصفة معينة فلا يشرع التلحين
    والتطريب فيه ، لأن ذلك مخالف للصفة التي ورد بها الأذان ، وقد كان السلف
    ينكرون ذلك ، فعن يحيى البكاء أن رجلا قال لإبن عمر : إني لأحبك في الله ،
    فقال له ابن عمر : لكني أبغضك في الله ، فكأن أصحاب ابن عمر لاموه ، فقال :
    إنه يبغي في أذانه . أخرجه عبد الرزاق ( 1/ 481 ) بإسناد حسن .
    قال ابن الأثير في الناهية ( 1 / 106 ) : أراد بالبغي في الأذان التطريب
    والتمديد . أهـ .
    وكذلك أيضا فإن العبادة التي وردت لسبب ما لايشرع فعلها إذا لم يوجد ذلك
    السبب ، كصلاة الإستخارة فإن سببهـا الأمـور التي آثار عواقبها غير ظاهرة
    وواضحة كالنكاح ، فلاتشرع صــلاة الإستخارة لأمور آثار عواقبها ظاهرة
    وواضحة .

    القاعدة الرابعة عشر : لا يشرع التقرب إلى الله بالمباحات
    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 11/450 ـ 451 ) : فهذا أصل عظيم
    تجب معرفته والإعتناء به وهو أن المباحات إنما هي تكون مباحة إذا جعلت
    مباحات ، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك ديناً لم يشرعه الله ،
    وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات
    منها ، فلا حرام إلا ما حرمه الله ، ولا دين إلا ما شرعه الله ، ولهذا عظم
    ذم الله في القرآن لـمن شـرع ديـناً لم يأذن الله به ، ولمن حرم يأذن الله
    بتحريمه ، فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات ؟! .. ،
    ثم قال : وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء
    إذا لم يكن محرما لا ينهى عنه ، بل يقال إنه جائز ، ولا يفرقون بين اتخاذه
    ديناً وطاعة وبراً ، ودبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة ، ومعلوم
    أن اتخاذه ديناً بالإعتقاد أو الإقتصاد أو بهما أو بالقول أو بالعمل أو
    بهما من أعظم المحرمات وأكبر السيئات . انتهى .

    القاعدة الخامسة عشر : المصلحة المرسلة ليست من البدعة
    في شيء
    المصلحة المرسلة لا تعتبر بدعة ، وذلك لأن الأدلة الشرعية دلت عليها بخلاف
    البدعة فالشرع جاء بتمكين المصالح وإلغاء المفاسد ، وعلى هذا جرى عمل
    الصحابة ، قال الشنقيطي في المصالح المرسلة ( 21 ) : فالحاصل أن الصحابة
    رضي الله عنهم كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل دليل على
    إلغائها ، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية . انتهى .
    وأما البدعة فليس فيها مصلحة ، وإن كان ظاهرها أن فيها مصلحة فحقيقة الأمر
    ليس كذلك ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 11/344 ) :
    والقول الجامع : أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط ، بل الله تعالى قد أكمل لنا
    الدين وأتم النعمة ، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي r ،
    وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك ، لكن ما
    اعتقده العقل مصلحة ، وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له : إما
    أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر ، أو إنه ليس بمصلحة وإن
    اعتقده مصلحة ، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة ، وكثيراً ما
    يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون منفعته مرجوحة بالمضرة .
    انتهى .
    قلت : والضابط في تمييز المصلحة المرسلة من البدعة ، هو أن المصلحة المرسلة
    لم يكن المقتضي لفعلها موجود في زمن النبي r ، أو كان المقتضي موجودا لها
    لكن كان هناك مانع يمنع منه ، والبدعة بعكس ذلك ، قال شيخ الإسلام ابن
    تيمية في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم ( 2/594 ) : فما رآه الناس مصلحة
    نُظر في السبب المحرج إليه : فإن كان السبب المحرج إليه أمراً حدث بعد
    النبي r من غير تفريط منه ، فهنا قد يجوز إحداث ما تدعوا الحاجة إليه ،
    وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله r لكن تركه النبي r
    لمعارض زال بموته ، وأما ما لم يَحدُث سبب يحوج إليه أو كان السبب المحوج
    إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث فكل أمر يكون المقتضي لفعله على
    عهد رسول الله r موجوداً لو كان مصلحة ولم يُفعل أنه ليس بمصلحة .. إلى أن
    قال : فأما ما كان المقتضي لفعله موجوداً لو كان مصلحة وهو مع هذا لم
    يشرعه ، فوضعه تغيير لدين الله ، وإنما أدخله فيه من نُسب إلى تغيير الدين
    من الملوك والعلماء والعباد ، أومن زل منهم باجتهاد .. فمثال هذا القسم :
    الأذان في العيدين ، فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه
    بدعة ، فلو لم يكن كونه بدعة دليلاً على كراهته ، وإلا لقيل : هذا ذكر لله
    ودعاء للخلق إلى عبادة الله ، فيدخل في العمومات كقوله تعالى : {اذكرو الله
    ذكرا كثيرا } [ الأحزاب : 36 ] وقوله تعالى { وَمَنْ أحْسَنُ قَولاً
    مِمَّن دَعَا إِلىَ اللهِ وعَمِل صَالِحاً } [ فصلت : 33 ] أو يقاس على
    الأذان في الجمعة ! فإن الإستدلال على حُسن الأذان في العيدين أقوى من
    الإستدلال على حسن أكثر البدع ! بل يقال ترك رسول الله r له مع وجود ما
    يعتقد مقتضياً وزال المانع : سنة كما أن فعله سنة .. ، فهذا مثال لما حدث
    مع قيام المقتضي له وزال المانع له ، لو كان خيراً . فإن كل ما يبديه
    المحدث لهذا المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتاً على عهد رسول
    الله r ومع هذا لم يفعله رسول الله r ، فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل
    عموم وكل قياس . انتهى .
    قال الشنقيطي في المصالح المرسلة ( 21 ) : ولكن التحقيق أن العمل بالمصلحة
    المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة عدم
    معارضتها لمصلحة أرجح منها ، أو مفسدة أرجح منها ، أو مساوية لها ، وعدم
    تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال . انتهى .



    القاعدة السادسة عشر : ليس كل من وقع في البدعة صار مبتدعاً
    لا يحكم على الرجل بكونه مبتدعا بمجرد وقوعه في البدعة ، لأنه قد يكون وقع
    في البدعة بسبب جهل أو خطأ منه وليس عن عمد وقصد ، فلا يلزم من وقوعه في
    البدعة أن يحكم عليه بأنه مبتدع ، وإنما يحكم عليه بأنه مبتدع بعد إقامة
    الحجة عليه وانتفاء الشبهة عن ما فعله ، وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح ،
    فإنهم يحكمون على الفعل الذي وقع من شخص ما بأنه بدعة ولا يحكمون على
    الفاعل بأنه مبتدع .




    القـواعد التي لا تصح لتصحيح الحديث أو تضعيفه

    أولاً : ما لا يصح من القواعد لتصحيح الحديث
    أجمع علماء الحديث أن الحديث الصحيح هو الذي تتوفر فيه خمسة شروط وهي :
    1 ـ اتصال السند .
    2 ـ عدالة الرواة .
    3 ـ ضبطهم .
    4 ـ السلامة من الشذوذ .
    5 ـ السلامة من العلة .
    فمتى اختلَّ شرط من هذه الشروط الخمسة صار الحديث ضعيفاً ، وهناك قواعد
    صححت بها بعض الأحاديث لم تتوفر فيها شرط من الشروط الخمسة المتقدمة وعليه
    فتكون تلك القواعد غير صحيحة ، وهذه القواعد هي :

    1 ـ تصحيح الحديث لصحة معناه :
    هناك بعض الأحاديث الضعيفة قد يكون معناها صحيح ، لو ورد أدلة صحيحة دلت
    على معنى ذلك الحديث الضعيف أو لوقوع ما دل عليه ذلك الحديث لكن لا يجوز
    نسبة ذلك الحديث الضعيف إلى النبي r لأنه ليس كل ما صح معناه قاله النبي r .

    قال الألباني في الضعيفة ( 3/36 ، 37 ) : بعد أن ذكر ضعف حديث : (( إذا
    أبغض المسلمون علماءهم ، وأظهروا عمارة أسواقهم وتناكحوا على جمع الدراهم ،
    رماهم الله عز وجل بأربع خصال : بالقحط من الزمان ، والجور من السلطان ،
    والخيانة من ولاة الحكام ، والصولة من العدو )) .
    قال الذهبي : منكر .
    قال الألباني : كتب بعض الطلاب الحمقى وبالحبر الذي لا يمحى ، عقب قول
    الذهبي المتقدم ـ نسخة الظاهرية ـ : ( قلت بل صحيح جداً ) وكأن هذا الأحمق
    يستلزم من مطابقة معنى الحديث الواقع أنه قاله رسول الله r ، وهذا جهل فاضح
    ، فكم من مئات الأحاديث ضعفها أئمة الحديث وهي مع ذلك صحيحة المعنى ، ولا
    حاجة لضرب الأمثلة على ذلك ، ففي هذه السلة ما يغني عن ذلك ، ولو فتح باب
    تصحيح الأحاديث من حيث المعنى دون التفات إلى الأسانيد ، لا ندسَّ كثير من
    الباطل على الشرح ، ولقال الناس على النبي r ما لم يقل ، ثم تبوؤا مقعدهم
    من النار . انتهى .

    2 ـ تصحيح الحديث بالتجرة :
    الحديث لا يصحح بالتجربة ، وإنما يُصحح بناء على الإسناد ، قال الشوكاني في
    تحفة الذاكرين ( 140 ) : السنة لا تثبت بمجرد التجربة ، وقبول الدعاء لا
    يدل على أن سبب القبول ثابت عن رسول الله r ، فقد يجيب الله الدعاء من غير
    توسل منه وهو أرحم الراحمين ، وقد تكون الإستجابة استدراجا . انتهى .
    وقال الألباني في الضعيفة ( 2/108 ، 109 ) بعد أن ذكر ضعف حديث : (( إذا
    انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد : يا عباد الله أحبسوا عليَّ ، فإن لله
    في الأرض حاضراً سيجبه عليكم )) .
    قال السخاوي في الإبتهاج بأذكار المسافر والحاج ( 39 ) : وسنده ضعيف ، لكن
    قال النووي : إنه جربه وهو وبعض أكابر شيوخه . فتعقبه الألباني رحمه الله
    وقال : العبادات لا تؤخذ من التجارب ، سيما ما كان منها في أمر غيبي كهذا
    الحديث ، فلا يجوز الميل إلى تصحيحه بالتجربة . انتهى .

    3 ـ تصحيح الحديث بالكشف :
    ذكر العجلوني في كشف الخفا ( 1/9 ) عن ابن عربي الصوفي ما حاصله أنه رب
    حديث ترك العمل به لضعف طريقه من أجل وضاع في رواته يكون صحيحا في نفس
    الأمر لسماع المكاشف له من الروح حين إلقائه على رسول الله r . انتهى .
    والجواب : أن حكاية هذا الكلام فيه غنية عن الردِّ عليه ، لوضوح بطلانه ،
    ومخالفته للشرع .
    وإلا فما فائدة السند إذا كانت الحديث يعرف بالكشف ، وما فائدة هذه الجهود
    الجبارة من علماء الحديث في تنقيح الأسانيد .
    قال العلامة عليش في فتح العلي المالك ( 1/45 ) : من المعلوم لكل أحد أن
    الأحاديث لا تثبت إلا بالأسانيد لا بنحو الكشف وأنوار القلوب ، فما نقله
    السخاوي عن جماعة الشيخ إسماعيل اليمني ، إن كان المراد صحة اللفظ توقف
    الأمر على السند ، وإلا رُدَّ القول على قائله كائناً من كان ، ودين الله
    لا محاباة فيه ، والولاية والكرمات لا دخل لها هنا ، إنما نرجع للحفاظ
    العارفين بهذا الشأن . انتهى .
    وقال الألباني في الضعيفة ( 1/145 ) في حديث : (( أصحابي كالنجوم بأيهم
    أقتديتم اهتديتم )) بعد أن حكم عليه بالوضع قال : وأما قول الشعراني في
    الميزان : [ وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين فهو صحيح عند أهل
    الكشف ] ، فباطل وهراء لا يلتفت إليه ذلك لأن تصحيح الأحاديث من طريق الكشف
    بدعة صوفية مقيتة ، والإعتماد عليها يؤدي إلى تصحيح أحاديث باطلة لا أصل
    لها وكذا الحديث . انتهى .

    4 ـ تصحيح الحديث لتلقي العلماء له بالقبول :
    قال السيوطي في كتاب البحر الذي زحر ( كما في التحفة المرضية /178 )( )
    المقبول ما تلقاه العلماء بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح فيما ذكره
    طائفة منهم ابن عبد البر ، ومثلوه بحديث جابر : الدينار أربعة وعشرون
    قيراطا ، أو اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم فيما ذكره الأستاذ أبو
    إسحاق الإسفرائيني وابن فورك كحديث في الرقة ربع العشرلا وحديث لا وصية
    لوارث . انتهى .
    وقال السخاوي : إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح حتى إنه
    ينزل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع به ، ولهذا قال الشافعي : حديث ((
    لا وصية لوارث )) لا يثبته أهل العلم بالحديث ، ولكن العامة تلقته بالقبول
    وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية للوارث . انتهى .
    قلت : الحديث الضعيف الذي تلقاه العلماء بالقبول له حالتان :
    الحالة الأولى : أن يكون ذلك الحديث الضعيف أجمع العلماء على القول به ،
    فيؤخذ بذلك الحكم الذي ورد في ذلك الحديث لاجماع العلماء عليه ، ولا ينسب
    ذلك الحديث إلى رسول الله r وذلك لأن الإجماع إنما هو على الحكم الذي وقع
    في ذلك الحديث ، والعمل به لا على نسبة ذلك الحديث إلى رسول الله r ، وهذا
    مراد الشافعي المتقدم بقوله : لا يثبته أهل العلم بالحديث ، ولكن العامة
    تلقته بالقبول .
    فانظر كيف حكم على الحديث بضعفه ، والأخذ بالحكم الوارد فيه والعمل بمقتضاه
    للإجماع ، ولذا قال الحافظ في الفتح ( 12/ ) بعد أن ذكر الحديث : (( لا
    وصية لوارث )) :
    لكن الحجة في هذا إجماع العلماء على مقتضاه كما صرح به الشافعي وغيره .
    انتهى .
    قلت : على أن هذا الحديث قد ثبت إسناده بعض أئمة الحديث .
    فالحاصل أن الحديث الضعيف الذي أجمع العلماء بالقول به ، يؤخذ بالحكم
    الوارد فيه لإجماع العلماء عليه ، ، ولا ينسب إلى رسول الله r لضعف إسناده .

    الحالة الثانية : أن يكون الحديث الذي قيل أنه متلقى بالقبول قد صرح بعض
    الأئمة بقبوله ، وبعض الأئمة سكت عنه فلم يصرح بقبوله ولا برده ، فلا يقال
    عن هذا الحديث أنه ملتقى بالقبول .
    وذلك لسكوت بعض الأئمة عنه والساكت لا ينسب له قول .

    5 ـ تصحيح الحديث لموافقته لأصول الشريعة أو لآية من كتاب الله :
    قال ابن الحصار كما في تدريب الراوي ( 25 ) : قد يعلم الفقيه صحة الحديث
    إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة ،
    فيحمله ذلك على قبوله والعمل به . انتهى .
    قلت : إذا كان في سند الحديث راو ضعيف ، فإنه لا يجوز نسبة ذلك الكلام إلى
    النبي r لضعف السند ولو كان ذلك الحديث موافقاً لآية في كتاب الله أو لبعض
    أصول الشريعة لأن العمل يكون حينئذ على تلك الآية أو ذلك الأصل ، وكم من
    حديث وافق آية أو أصلا من أصول الشريعة وضعفه أئمة الحديث لضعف سنده كحديث :
    (( لا بأس بقضاء شهر رمضان مفرقاً )) فإنه حديث ضعيف ضعفه الألباني في
    السلسة الضعيفة ( 2/136 ) مع أنه يشهد له قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِنْ
    أَيَّامٍ أُخَرَ }[ البقرة : 184 ] فأطلقت الآية القضاء بدون تقييد التتابع
    .
    وكحديث : (( إذا أذن المؤذن يوم الجمعة حرم العمل )) قال الألباني في
    الضعيفة ( 5/230 ) بعد أن حكم على الحديث بأنه موضوع : ويغني عن هذا الحديث
    قول الله تبارك وتعالى : { يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ
    للَّصَلاةِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وذَرَوُا
    البَيْعَ } [ الجمعة : 9 ] الآية . انتهى .

    ثانيا : مالا يصح تضعيف الحديث به :
    أئمة الحديث إنما يضعفون الحديث إذا اختل منه شرط من شروط الحديث الصحيح ،
    ولا يضعفون الحديث بغير ذلك ، فإن وجدوا في المتن معنى غريب مع صحة السند
    لم يضعفوا الحديث وإنما يحاولون أن يحملوه على معنى من المعاني المحتملة
    إذا أمكن ، وإلا فإنه يتوقف في تأويله ولا يضعف من أجل ذلك .
    فإن قيل : قد ذكر الأئمة قواعد يستدل بها على وضع متن الحديث فالجواب : أن
    هذه القواعد ليست أصلية ، وإنما هي قواعد يصار إليها بعد النظر في السند ،
    لأن هذه القواعد يُعمل بها دون النظر في السند ، فإذا كان الإسناد غير صحيح
    فإنهم حينئذ يعملون بتلك القواعد ويضيفون إلى ضعف السند نكارة المتن فإن
    قيل : قد ورد عن بعض الأئمة تضعيف متون بعض الأحاديث مع صحة الإسناد .
    فالجواب : أن هذا نادر والنادر لا حكم له ، وأيضا تجد هذا الحديث الذي حكم
    على متنه بالنكارة من بعض الأئمة أحيانا يكون قد صححه البعض الآخر ، كحديث
    (( خلق الله التربة يوم السبت .. )) ضعفه البخاري وصححه مسلم ولم ير أن ما
    أعُلَّ به من نكارة متنه إعلال صحيح ، وغير ذلك من الأحاديث فلو كان هذا
    منهجا لهم لم اختلفوا في تضعيف تلك الأحاديث وهذا مما يدل على أن تلك
    القواعد التي ذكرها الأئمة ليست أصلية ، وإنما يصار إليها بعد النظر في
    الإسناد , القواعد التي ذكرها ابن القيم في المنار المنيف ( 35 ) لمعرفة
    الحديث الموضوع بغير نظر في إسناده ، ذكر تحتها أحاديث أسانيدها جميعها
    هالكة وساقطة ، بل قال : وإنما يعرف ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة ،
    ودخلت بدمه ولحمه وصار له فيها ملكة ، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن
    والآثار ، ومعرفة سيرة رسول الله r وهديه فيما يأمر به وينهى عنه . انتهى .

    ولو بحث أحد في تلك المواصفات التي ذكرها ابن القيم يجد أنها غير موجودة في
    أحد من أهل الأعصار المتأخرة والله المستعان .

    فمن القواعد التي لا يصح تضعيف الحديث بها :

    1 ـ تضعيف الحديث لمخالفته للقياس :
    الحديث الصحيح لا يخالف القياس الصحيح أبداً كما قرره ابن القيم في إعلام
    الموقعين ( 2/28 ) فإذا جاء حديث يخالف القياس خلافا واضحا جليا ، فلا بد
    أن يكون في إسناده ضعف ، إذ لا يأت أبدا حديث إسناده صحيح وقيل : بأنه
    يخالف القياس إلا ويكون ذلك القياس قياساً ليس صحيحاً ، قال الخطيب في
    الفقه والمتفقه ( 1/136 ) في رده على قول من ذهب إلى تضعيف الحديث المخالف
    للقياس في الظاهر :
    ويدل على صحة ما ذكرناه أن الخبر يدل على قصد صاحب السترع بصريحة والقياس
    يدل على قصده بالإستدلال ، والتصريح أقوى فوجب أن يكون التقديم أولى ..
    والإجتهاد في خبر الواحد إنما هو في ثبوت صدق الراوي فإذا ثبت صدقه من طريق
    يوجب الظن لزم المصير إلى خبره ولم يبق موضع آخر يحتاج إلى الإجتهاد فيه ،
    ولأن ثبوت صدقه في الظاهر أجلى من طريق ثبوت العلة . العلة .

    2 ـ تضعيف الحديث لمخالفته للعقل :
    من منهج المعتزلة وأفراخهم من العقلانيين وأنهم إذا وجدوا حديثاً يخالف
    عقلهم ضعفوه وردوه ، مع صحة إسناده ، ولم يعلموا أن الحديث الصحيح لا يخالف
    العقل أبداً ، وفي هذا الموضوع ألَّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه الرائع :
    ( موافقه صحيح المنقول لصريح المعقول ) .
    ومراده بذلك أن المنقول الصحيح لا يخالف المعقول أبداً ، وإنما يَرُدُّ
    الحديث الصحيح بدعوى أنه يخالف العقل من كان عقله ضعيفاً ومداركه ضيقة ،
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
    لا يُعلم حديث واحد يخالف العقل أو السمع الصحيح إلا وهو عند أهل العلم
    ضعيف بل موضوع ، والنصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بينٌ
    قط . انتهى .
    وقال الألباني في الصحيحة ( 5/612 ) : إذا ورد الأثر بطل النظر ، فبعد ثبوت
    الحديث لا مجال لاستنكار ما تضمنه من الواقع ، ولو أننا فتحنا باب
    الإستنكار لمجرد الإستبعاد العقلي للزم إنكار كثير من الأحاديث الصحيحة ،
    وهذا ليس من شأن أهل السنة والحديث ، بل هو من دأب المعتزلة وأهل الأهواء .
    انتهى .

    3 ـ تضعيف الحديث إذا كان مما تعم به البلوى وكان راويه واحداً :
    احتج من ذهب إلى هذه القاعدة بأن الحديث الذي تعم به البلوى يكثر السؤال
    عنه وإذا كثر السؤال كثر الجواب ، فإذا نقل واحداً ذلك علم أنه مما أخطأ
    فيه وأنه لا أصل لذلك الحديث .
    وقد تعقب هذا الكلام الخطيب في الفقيه والمتفقه فقال : ( 1/137 ) : وهذا
    عندنا غير صحيح والدليل على وجوب قبوله أنه خبر عدل فيما يتعلق بالشرع بما
    لا طريقة فيه للعلم فوجب العمل به قياساً على ما لا تُعم به البلوى ، ولأن
    شروط البيوع والأنكحة وما يعرض في الوضوء مما خرج من غير السبيلين ، والمشي
    مع الجنازة ، وبيع رباع مكة وإيجارتها ، ووجوب الوتر ، وما أشبه ذلك قد
    أثبته المخالف بخبر الواحد وهو مما تُعم به البلوى ، فأما قوله : إن السؤال
    يكثر عنه ، فالجواب عنه : أن النقل لا يجب أن يكون على حسب البيان لأن
    الصحابة كانت دواعيهم مختلفة وكان بعضهم لا يرى الرواية ويؤثر عليها
    الإشتغال بالجهاد ، وقال السائب بن يزيد : ( صحبت سعد بن أبي وقاص من
    المدينة إلى مكة فلم أسمعه يروي عن رسول الله r حديثا ) ويروى : ( إلا
    حديثا واحدا ) ، .. على أن ما ذكره المخالف يبطل بما وصفناه من الأحكام
    التي أثبتها من طريق الآحاد وكل جواب له عنها فهو جوابنا عما ذكره . انتهى .

    قلت : ويكفي في رد هذه القاعدة حديث : (( إنما الأعمال بالنيات )) فإنه
    حديث تعم به البلوى ويحتاج إليه كل أحد ، ومع ذلك قال ابن رجب في جامع
    العلوم والحكم ( 5 ) : هذا الحديث تفرد بروايته يحيى بن سعيد الأنصاري عن
    محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن أبي وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب رضي
    الله عنه ، وليس له طريق يصح غيره هذا الطريق ، كذا قال علي بن المديني
    وغيره . انتهى .

    4 ـ تضعيف الحديث لمخالفته للقرآن أو لحديث مشهور بالصحة :
    ليس هناك حديث إسناده صحيح ويكون مخالف للقرآن أو لحديث أصح منه في حقيقة
    الأمر ، وإنما يكون ذلك الإختلاف في الظاهر ، لأن الأدلة الشرعية لا تناقض
    بينها أبداً ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 19/202 ) : وإذا كان
    ( أي الحكم ) في السنة لم يكن ما في السنة معارضا لما في القرآن . انتهى .

    فإذا لم يستطع الناظر في الدليل التوفيق بينه وبين الدليل الآخر فلا يحكم
    عليه بالضعف لسبب عدم استطاعته التوفيق بينهما بل يكل علم ذلك إلى الله عز
    وجل ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 19/200 ) .
    والدلائل الصحيحة لا تتناقض لكن قد يخفى وجه اتفاقها على بعض العلماء .
    انتهى .
    وقال ابن خزيمة كما في الكفاية ( 606 ) : لا أعرف أنه روي عن رسول الله r
    حديثان بإسنادين صحيحين متضادين ، فمن كان عنده فليأت به حتى أؤلف بينهما .
    انتهى .
    وقال الحافظ الألباني في الصحيحة ( 5/464 ) : والذي أراه أنه لا ينبغي عند
    نقد الحديث أن يلاحظ الناقد أموراً فقهية يتوهم أنها تعارض الحديث ، فيتخذ
    ذلك حجة للطعن في الحديث ، فإن هذا مع كونه ليس من قواعد علم الحديث ـ لو
    اعتمد عليه في النقد ، للزم منه رد كثير من الأحاديث الصحيحة التي وردت
    بالطريق القوية . انتهى .

    5 ـ تضعيف الحديث لمخالفته لرأي الراوي له :
    إذا روى الراوي حديثا وأفتى بخلافه ، فإن الحديث يكون مقدماً على فتوى ذلك
    الراوي ، ولا يضعف الحديث من أجل أن الراوي أفتى بخلافه ، وذلك لأن الراوي
    إنما أفتى بخلافه ليس لضعف في الحديث ، وإنما لاحتمال نسيانه للحديث الذي
    رواه ، أو لظنه أن دلالته ليست على ظاهرها ، أو لغير ذلك من الأسباب ، قال
    الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه ( 1/141 ، 143 ) : إذا روى الصحابي عن رسول
    الله r حديثاً ثم روى عن ذلك الصحابي خلاف لما روى فإنه ينبغي الأخذ
    بروايته ، وترك ما رُوي عنه من فعله أو فتياه لأن الواجب علينا بقول نقله
    وروايته عن النبي r لا قول رأيه .. لأن الصاحب قد ينسى ما روى وقت فتياه ..
    ، ولأن الصحابي قد يذكر ما روي إلا أنه يتأول فيه تأويلا يصرفه عن ظاهره
    كما تأولت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إتمام الصلاة في السفر . انتهى .

    قلت : فإن قيل قد قال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي ( 409 ) :
    قاعدة ـ في تضعيف حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه : قد ضعف الإمام أحمد
    وأكثر الحافظ أحاديث كثيرة مثل هذا .. ثم ذكر جملة من الأحاديث .

    فالجواب :
    أنه عند النظر في تلك الأحاديث التي ذكرها ابن رجب ، وُجد أن بعض تلك
    الأحاديث اختلف الحفاظ في الحكم على صحتها ، فلو كان ما ذكره ابن رجب قاعدة
    صحيحة لم

      الوقت/التاريخ الآن هو 14.11.24 23:42