أصول الفقه على
منهج أهل الحديث
تصنيف
زكريا بن غلام قادر الباكستاني
منهج أهل الحديث
تصنيف
زكريا بن غلام قادر الباكستاني
دار الخراز
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
1423هـ / 2002م
دار الخراز
ص . ب 164 جدة 21411
هاتف وفاكس 6700484 / 02
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فقد أخرج البخاري ( 71 ) ومسلم ( 1524 ) من حديث معاوية رضي الله عنه عن
النبي r قال : (( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من
خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس )) .
وفي رواية للترمذي ( 2193 ) من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً : (( لا
تزال طائفة من أمتي منصورين ، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة )) .
وقد تتابعت كلمات الأئمة أن هذه الطائفة المنصورة هم أهل الحديث ، قال أبو
الفتوح الطائي الهمذاني في كتاب الأربعين ( 163 ـ مكتبة المعارف ) : نقل
عن الجم الغفير والعدد الكثير من علماء الأمة ، وأعيان الأئمة ، مثل عبد
الله بن المبارك ، وأحمد بن حنبل ، ويزيد بن هارون ، وإبراهيم بن الحسن
ديزيل الهمذاني أن المراد بالطائفة المذكورة في الحديث : هم أصحاب الحديث
وأهل الآثار الذين نهجوا الدين القويم وسلكوا الصراط المستقيم ، فتمسكوا
بالسبيل الأقوم ، والمنهاج الأرشد . انتهى .
وإذا كان أهل الحديث هم الطائفة المنصورة ، فلا شك أنهم يكونون أفقه الناس
وأصولهم أصح الأصول ، لأن هذا من مقومات الطائفة المنصورة ، وإنما يعيب أهل
الحديث بقلة الفقه من لا يعرف الفقه الصحيح أولا يعرف أهل الحديث حق
المعرفة ، أو ما قرأ تبويبات البخاري في صحيحه ، أو مسائل أحمد بن حنبل ،
أو الأم للشافعي ، أو شرح السنة للبغوي ، أو مجموع الفتاوى لابن تيمية أو
غيرها من كتب أهل الحديث .
وقد ذكرت في هذا الكتاب ثناء الأئمة على فقه أهل الحديث وأصولهم ، وذكرت
أيضا على ماذا ينبني فقه أهل الحديث ، وذكرت أيضا المسائل الأصولية على
منهج أهل الحديث .
وأسأل الله عز وجل أن يحشرنا في زمرة أهل الحديث ، وأن يوفقنا لما يحبه
ويرضاه ، إنه على كل شيء قدير .
وكتبه :
زكريا بن غلام قادر الباكستاني
ثناء الأئمة على فقه أهل الحديث
قال الخطيب البغدادي في كتاب شرف أصحاب الحديث ( 8 ) : وقد جعل الله تعالى
أهله ( أي أهل الحديث ) أركان الشريعة ، وهدم بهم كل بدعة شنيعة ، فهم
أمناء الله من خليقته ، والواسطة بين النبي r وأمته ، والمجتهدون في حفظ
ملته ، أنوارهم زاهرة ، وفضائلهم سائرة ، وآياتهم باهرة ، ومذاهبهم ظاهرة ،
وحججهم قاهرة ، وكل فئة تتخير إلى هوى ترجع إليه ، أو تستحسن رأيا تعكف
عليه ، سوى أصحاب الحديث ، فإن الكتاب عدتهم ، والسنة حجتهم ، والرسول
فئتهم ، وإليه نسبتهم ، لا يعرجون على الأهواء ، ولا يلتفتون إلى الآراء
يقبل منهم ما رووا عن الرسول ، وهم المأمونون عليه ، حفظة الدين وخزنته ،
وأوعية العلم وحملته ، وإذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع فما حكموا به
فهو المقبول المسموع ، ومنهم كل عالم فقيه ، وإمام رفيع نبيه ، وزاهد في
قبيلة ، ومخصوص بفضيلة ، وقارئ متقن ، وخطيب محسن ، وهم الجمهور العظيم
وسبيلهم السبيل المستقيم ، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر وهو على الإفصاح
بغير مذاهبم لا يتجاسر ، من كادهم قصمه الله ، ومن عاندهم خذله الله ، لا
يضرهم من خذلهم ، ولا يفلح من اعتزلهم ، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير ،
وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير ، وإن الله على نصرهم لقدير .
وقال أيضا ( ص ـ 10 ) : فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين ،
وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسكهم بالشرع المتين ، واقتفائهم آثار الصحابة
والتابعين ، فشأنهم حفظ الآثار ، وقطع المفاوز والقفار ، في اقتباس ما شرع
المصطفى ، لا يعرجون عنه إلى رأى ولا هوى ، قبلوا شريعته قولاً وفعلاً ،
وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً ، حتى ثبَّتوا بذلك أصلها ، وكانوا أحق بها
وأهلها . انتهى .
وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ( 51 ) : فأما أصحاب الحديث فإنهم
التمسوا الحق من وجهته ، وتتبعوا مظانه ، وتقربوا من الله تعالى باتباعهم
سنن رسول الله r وطلبهم لآثاره وأخباره براً وبحراً ، وشرقاً وغرباً ، يرحل
الواحد منهم راجلاً مقوياً في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى
يأخذها من الناقل لها مشافهة ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث
لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها ، وناسخها ومنسوخها ، وعرفوا من خالفها من
الفقهاء إلى الرأي فنبهوا على ذلك حتى نجم بعد أن كان عافياً ، وبسق بعد أن
كان دارساً ، واجتمع بعد أن كان متفرقاً ، وانقاد للسنن من كان عنها معرضا
، وتنبه عليها من كان عنها غافلا . انتهى .
وقال ابن حبان في مقدمة صحيحه ( 1/34 ) بعد الثناء على الله عز وجل قال :
ثم اختار طائفة لصفوته ، وهداهم لزوم طاعته ، من اتباع سبل الأبرار ، في
لزوم السنن والآثار ، فزين قلوبهم بالإيمان ، وأنطق ألسنتهم بالبيان من كشف
أعلام دينه ، واتباع سنن نبيه ، بالدؤوب في الرحل والأسفار ، وفراق الأهل
والأوطار ، في جمع السنن ، ورفض الأهواء ، والتفقه فيها بترك الآراء ،
فتجرد القوم للحديث وطلبوه ورحلوا فيه وكتبوه ، وسألوا عنه وأحكموه ،
وذاكروا به ونشروه ، وتفقهوا فيه ، وأصلوه ، وفرعوا عليه وبذلوه ، وبينوا
المرسل من المتصل ، والموقوف من المنفصل ، والناسخ من المنسوخ ، والمحكم من
المفسوخ ، والمفسر من المجمل ، والمستعمل من المهمل ، والعموم من الخصوص ،
والدليل من المنصوص ، والمباح من المزجور ، والغريب من المشهور ، والعرض
من الإرشاد ، والحتم من الإيعاد ، والعدول عن المجروحين ، والضعفاء من
المتروكين ، وكيفية المعمول ، والكشف عن المجهول .. ، حتى حفظ الله بهم
الدين على المسلمين ، فصانه على ثلب القادحين ، وجعلهم عند التنازع أئمة
الهدى ، وفي النوازل مصابيح الدجى ، فهم ورثة الأنبياء ، ومأنس الأصفياء ،
وملجأ الأتقياء ، ومركز الأولياء . انتهى .
وقال السمعاني كما في صون المنطق ( 165 ـ 167 ) : ومما يدل على أن أهل
الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم ،
قديمهم وحديثهم ، مع اختلاف بلدانهم ووزانهم ، وتباعد ما بينهم في الديار ،
وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار وجدتهم في بيان الإعتقاد على وتيرة
واحدة ونمط واحد ، ويجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ، ولا يميلون فيها ،
قولهم في ذلك واحد ، وفعلهم واحد .. إلى أن قال : وكان السبب في اتفاق أهل
الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريقة النقل فأورثهم الإتفاق
والائتلاف وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء ، فأورثهم
الإفتراق والإختلاف . انتهى .
وقال اللكنوي في كتابه إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام ( 228 )
: ومن نظر بنظر الإنصاف وغاص في بحار الفقه والأصول ، متجنباً عن
الإعتساف ، يعلم علما يقيناً أن أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف
العلماء فيها ، فمذهب المحدثين فيها أقوى من مذاهب غيرهم ، وإني كلما أسير
في شعب الإختلاف أجد قول المحدثين فيه قريبا من الإنصاف فلله دّرُّهُم ،
كيف لا وهم ورثة النبي حقاً ونُوَّاب شرعه صدقاً . انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 34/113 ) : موافقة أحمد
للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما ، وأصوله بأصولهما أشبه منها
بأصول غيرهما ، وكان يثني عليهما ويعظمهما ، ويرجح أصول مذهبهما على من
ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما ، ومذهبه أن أصول فقهاء الحديث أصح من
أصول غيرهم ، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث في عصرهما .
انتهى .
وقال في كتاب علم الحديث ( 44 ) : بعض أئمة أهل الكلام تكلموا في أهل
الحديث ، وذموهم بقلة الفهم ، وأنهم لا يفهمون معاني الحديث ، ولا يميزون
بين صحيحه من ضعيفه ، ويفتخرون عليهم بحذقهم ودقة فهمهم ، ولا ريب أن هذا
موجود في بعضهم ، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول ، وآثار
مفتعلة ، وحكايات غير صحيحة ، ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون
معناه ، ولكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية أهل
الملل ، فكل شرٍّ في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر ، وكل خير يكون في
غيرهم فهو فيهم أعظم ، وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم . انتهى .
وقال شيخ الإسلام أيضا كما في مجموع الفتاوى ( 4/91 ) : من المعلوم أن كل
من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم وهو بذلك أقوم ،
كان أحق بالإختصاص به ، ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم رسول
الله r وعلم خاصته مثل : الخلفاء الراشدين وسائر العشرة ، ومثل أبي بن كعب
، وعبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وعبد الله بن سلام ، وسلمان
الفارسي ، وأبي الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وأبي ذر الغفاري ، وعمار بن
ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، ومثل سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وسالم مولى
أبي حذيفة ، وغير هؤلاء ممن كان أخص الناس بالرسول ، وأعلمهم بباطن أموره
وأتبعهم لذلك . انتهى .
وقال في نقض المنطق ( 42 ) : إنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من
القول إلى قول ، وجزما بالقول في موضع ، وجزما بنقيضه وتكفير قائله في موضع
آخر ، وهذا دليل على عدم يقين .. ، وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد
من علمائهم ، ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده بل هم أعظم الناس
صبراً على ذلك ، وإن امتحنوا بأنواع المحن وفتنوا بأنواع الفتن ، وهذه حال
الأنبياء ، وأتباعهم من المتقدمين ، وكسلف هذه الأمة والصحابة والتابعين ،
وغيرهم من الأئمة ، ومن صبر من أهل الأهواء على قوله ، فذاك لما فيه من
الحق ، إذ لا بد في كل بدعة عليها طائفة كبيرة من الناس أن يكون فيها من
الحق الذي جاء به الرسول r ويوافق عليه أهل السنة والحديث ما يوجب قبولها ،
إذ الباطل المحض لا يقبل بحال ، وبالجملة : فالثبات والإسقرار في أهل
الحديث والسنة أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة . انتهى .
وقال أيضا كما في مجموع الفتاوى ( 3/346 ) : إن أحق الناس بأن تكون هي
الفرقة الناجية : أهل الحديث والسنة ، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا
رسول الله r وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله ، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها
وسقيمها ، وأئمتهم فقهاء فيها ، وأهل معرفة بمعانيها ، واتباعا لها تصديقاً
وعملاً وحباً وموالاةً لمن والاها ، ومعاداة لمن عاداها ، الذين يردون
المقالات المجملة إلى ما جاء به الكتاب والحكمة ، فلا ينصبون مقالة ،
ويجعلونها من أصول دينهم ، وجمل كلامهم ، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به
الرسول ، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي
يعتقدونه ويعتمدونه . انتهى .
& # &
على ماذا يبني أهل الحديث فقههم ؟
أهل الحديث يبنون فقههم على قواعد مأخوذة من الكتاب والسنة والصحيحة وعلى
ما كان عليه السلف الصالح ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع
الفتاوى ( 10/362 ) : بعد أن أثنى على أهل الحديث : فلا ينصبون مقالة ،
ويجعلونها من أصول دينهم ، وجمل كلامهم ، إن لم تكن تابعة فيما جاء به
الرسول ، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي
يعتقدونه ويعتمدونه .
وقال ابن رجب في كتاب فضل علم السلف : ( 57 ) : ومن ذلك أعنى محدثات العلوم
ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ، ورد فروع الفقه إليها
سواء خالفت السنة أم وافقتها ، طرداً لتلك القواعد المتقررة ، وإن كان
أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلان يخالفهم غيرهم فيها ،
وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام . انتهى .
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 10/362 ) : فمن بنى الكلام في علم
الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب
طريق النبوة . انتهى .
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 2/368 ) : أما أن نقعد قاعدة ونقول هذا
هو الأصل ، ثم ترد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة ، فلعمر الله ، لهدم ألف
قاعدة لم يؤصلها الله ورسوله أفرض علينا من ردَّ حديث واحد . انتهى .
& # &
التنبيه على المسائل الدخيلة في أصول الفقه
أول من صنف في أصول الفقه هو الإمام الشافعي في كتابه الرسالة وهو من أنفع
الكتب وأحسنها فقد بنى كتابه على الأدلة الشرعية والآثار السلفية ، ثم كثرت
التصانيف بعد ذلك ، وكانت أكثر الكتب الأصولية أصحابها من الأشاعرة أو من
المعتزلة فأفسدوا علم أصول الفقه فأدخلوا فيه علم الكلام ، ومسائل لا ثمرة
من ذكرها ، ومسائل لا تعلق لها بأصول الفقه ، وعقدوا العبارات وجعلوا اللغة
هي الأصل ، فانصرف الناس عن دراسة أصول الفقه بسبب هذه الأمور والتعقيدات
التي دخلت في مسائل الأصول ، قال العلامة طاهر الجزائري في كتاب توجيه
النظر إلى أصول الأثر ( 237 ) : وقد وقع في كتب أصول الفقه مسائل كثيرة
مبنية على مجرد الفرض وهي ليست داخلة فيه وكثيراً ما أوجب ذلك حيرة المطالع
النبيه حيث يطلب لها أمثلة فيرجع بعد الجد والإجتهاد ولم يحظ بمثال واحد
فينبغي الإنتباه لهذا الأمر ولما ذكره بعض العلماء وهو : أن كل مسألة تذكر
في أصول الفقه ولا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أولا تكون عوناً
في ذلك فهي غير داخلة في أصول الفقه ، وذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته
إلى الفقه إلا لكونه مفيداً له ، ومحققاً للإجتهاد فيه فإذا لم يفد ذلك لم
يكن أصلا له ويخرج على هذا كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون
وأدخلوها فيه كمسائل ابتداء وضع اللغات ومسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا ؟
ومسألة أمر المعدوم ؟ وكذلك كل مسألة ينبني عليها فقه إلا أنه لا يحصل من
الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه مثل مسألة الأمر بواحد مبهم من
أشياء معينة كما في كفارة اليمين ، فقيل : إن الأمر بذلك يوجب واحداً منها
لا بعينه وقيل إنه يوجب الكل ويسقط الكل بفعل واحد منها ، وقيل : إنه يوجب
ما يختاره المكلف فإن فعل الكل فقيل الواجب أعلاها ، وإن تركها فقيل يعاقب
على أدناه فهذه المسألة وما أشبهها من المسائل التي فرضوها مما لا ثمرة له
في الفقه غير داخله في أصوله . انتهى .
وقال الشوكاني في منتهى الأرب في أدب الطلب ( 174 ) : ومن أسباب التعصب
الحائلة بين من أصيب بها وبين المتمسك بالإنصاف : التباس ما هو من الرأي
البحت بشيء من العلوم التي هي مواد الاجتهاد . وكثيراً ما يقع ذلك في أصول
الفقه فإنه قد اختلط فيها المعروف بالمنكر والصحيح بالفاسد والجيد بالرديء ،
فربما يتكلم أهل هذا العلم على مسائل من مسائل الرأي ويحررونها ويقررونها ،
وليست منه في شيء ولا تعلق لها به بوجه . فيأتي الطالب لهذا العلم إلى تلك
المسائل فيعتقد أنها منه فير إليها المسائل الفروعية ، ويرجع إليها عند
تعارض الأدلة . ويعمل بها في كثير من المباحث ، زاعماً أنها من أصول الفقه .
ذاهلاً عن كونها من علم الرأي . ولو علم بذلك لم يقع فيه ولا ركن إليه .
فيكون هذا وأمثاله قد وقعوا في التعصب وفارقوا مسلك الانصاف ، ورجعوا إلى
علم الرأي وهم لا يشعرون بشيء من ذلك ولا يفطنون به ، بل يعتقدون أنهم
متشبثون بالحق متمسكون بالدليل واقفون على الانصاف خارجون عن التعصب .
وقلَّ من يسلم من هذه الدقيقة وينجو من غبار هذه الأعاصير . بل هم أقل من
القليل . وما أخطر ذلك وأعظم ضرره وأشد تأثيره وأكثر وقوعه وأسرع نفاقه على
أهل الانصاف وأرباب الاجتهاد .
فإن قلتَ : إذا كان هذا السبب كما زعمت من الغموض والدقة ووقوع كثير من
المنصفين فيه وهم لا يشعرون فما أحقه بالبيان وأولاه بالإيضاح وأجدره
بالكشف حتى يتخلص عنه الواقعون فيه وينجوا منه المتهافتون إليه ؟
قلتُ : اعلم أن ما كان من أصول الفقه راجعاً إلى لغة العرب رجوعاً ظاهراً
مكشوفاً كبناء العام على الخاص . وحمل المطلق على المقيد ورد المجمل إلى
المبيَّن . وما يقتضيه الأمر والنهي ونحو هذه الأمور . فالواجب على المجتهد
أن يبحث عن مواقع الألفاظ العربية . وموارد كلام أهلها وما كانوا عليه في
مثل ذلك . فما وافقه فهو الأحق بالقبول والأولى بالرجوع إليه . فإذا اختلف
أهل الأصول في شيء من هذه المباحث كان الحق بيد من هو أسعد بلغة العرب .
هذا على فرض عدم وجود دليل شرعي يدل على ذلك . فإن وجد فهو المقدم( ) على
كل شيء وإذا أردت الزيادة في البيان والكثير من الإيضاح بضرب من التمثيل
وطرف من التصوير : فاعلم ، أنه قد وقع الخلاف في أنه هل يُبنى العام على
الخاص مطلقاً أو مشروطاً بشرط أن يكون الخاص متأخراً . ووقع الخلاف في أنه
هل يُحمل المطلق على المقيّد مع اختلاف السبب أم لا . ووقع الخلاف في معنى
الأمر الحقيقي هل هو الوجوب أو غيره . ووقع الخلاف في معنى النهي الحقيقي
هل هو التحريم أو غيره . فإذا أردت الوقوف على الحق في بحث من هذه الأبحاث ،
فانظر في اللغة العربية واعمل على ما هو موافق لها مطابق لما كان عليه
أهلها . واجتنب ما خالفها ، فإن وجدت ما يدل على ذلك من أدلة الشرع كما
ستقف عليه في الأدلة الشرعية من كون الأمر يفيد الوجوب والنهي يفيد التحريم
فالمسألة أصولية لكونها قاعدة كلية شرعية لكون دليلها شرعياً كما أن ما
يستفاد من اللغة من القواعد الكلية أصولية لغوية . فهذه المباحث وما
يشابهها من مسائل النسخ ومسائل المفهوم والمنطوق الراجعة إلى لغة العرب
المستفادة منها على وجه يكون قاعدة كلية هي مسائل الأصول . والمرجع لها
الذي يعرف به راجحها من مرجوحها هو العلم الذي هي مستفادة منه مأخوذة من
موارده ومصادره . وأما مباحث القياس فغالبها من بحث الرأي الذي لا يرجع إلى
شيء مما تقوم به الحجة ، وبيان ذلك أنهم جعلوا للعلة مسالك عشرة لا تقوم
الحجة بشيء منها إلا ما كان راجعاً إلى الشرع . كمسلك النص على العلة . أو
ما كان معلوماً من لغة العرب كالإلحاق بـمسك إلغاء الفارق . وكذلك قياس
الأولى المسمى عند البعض بفحوى الخطاب . وأما المباحث التي يذكرها أهل
الأصول في مقاصده كما فعلوه في مقصد الكتاب ومقصد السنة والإجماع . فما كان
من تلك المباحث الكلية مستفاداً من أدلة الشرع فهو أصولي شرعي , وما كان
مستفاداً من مباحث اللغة فهو أصولي لغوي . وما كان مستفاداً من غير هذين
فهو من علم الرأي الذين كررنا عليك التحذير منه . ومن المقاصد المذكورة في
الكتب الأصولية التي هي من محض الرأي الاستحسان والاستصحاب والتلازم .
وأما المباحث المتعلقة بالاجتهاد والتقليد وشرع من قبلنا والكلام على أقوال
الصحابة ، فهي شرعية فما انتهض عليه دليل الشرع منها فهو حق . وما خالفه
فباطل .
وأما المباحث المتعلقة بالترجيح ، فإن كان المرجح مستفاداً من الشرع فهو
شرعي . وإن كان مستفاداً من علم من العلوم المدونة فالاعتبار بذلك العلم
فإن كان له مدخل في الترجيح كعلم اللغة فإنه مقبول وإن كان لا مدخل له إلا
لمجرد الدعوى كعلم الرأي فإنه مردود . انتهى .
الـدلـيـل
القاعدة الأولى : الدليل هو الأصل الذي تبنى عليه القاعدة أو المسألة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 30/269 ) : قد ينص النبي
r نصاً يوجب قاعدة ويخفى النص على بعض العلماء حتى يوافقوا غيرهم على بعض
أحكام تلك القاعدة ، وينازعوا فيما لم يبلغهم فيه النص ، مثل اتفاقهم على
المضاربة ومنازعتهم في المساقاة والمزارعة وهما ثابتان بالنص ، والمضاربة
ليس فيها نص وإنما فيها عمل الصحابة رضي الله عنه ، ولهذا كان فقهاء الحديث
يؤصلون أصلاً بالنص ، ويفرعون عليه ، لا يتنازعون في الأصل المنصوص
ويوافقون فيما لا نص فيه .انتهى.
القاعدة الثانية : الأحكام الشرعية تؤخذ من الحديث الصحيح ولا يجوز أخذها
من الحديث الضعيف
لا يجوز في دين الله عز وجل أن يؤخذ فيه بحكم من الأحكام إلا من الحديث
الصحيح ، وأما الحديث الضعيف فيطرح ولا يعمل به ، فقد ميَّز الله عز وجل
هذه الأمة بالإسناد ، فالإسناد من قوام الدين فيجب العمل بالإسناد الصحيح
ويترك الإسناد الضعيف ، ولا يشرع لأي مسلم أن يأخذ حكما من حديث ما حتى
ينظر فيه أولاً : هل صح سند ذلك الحديث أم لا ؟ .
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل ( كما في إعلام الموقعين 4/179 ) : سألت أبي
عن الرجل يكون وعنده الكتب المصنفة فيها قول رسول الله r والصحابة
والتابعين وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك ولا الإسناد القوي عن
الضعيف فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير منها فيفتي به ويعمل به ؟ قال : لا
يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها فيكون يعمل على أمر صحيح ، ويسأل عن ذلك أهل
العلم . انتهى .
وقال الإمام مسلم صاحب الصحيح في كتاب التمييز ( 218 ) : اعلم رحمك الله أن
صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة ،
لأنهم الحفاظ لروايات الناس العارفين بها دون غيرهم إذ الأصل الذي يعتمدون
لأديانهم : السنن والآثار المنقولة من عصر إلى عصر من لدن نبينا r إلى
عصرنا هذا .
وقال ابن رجب في فضل علم السلف ( 57 ) : فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث
فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 1/250 ) : لا يجوز أن
يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليسـت صحيحة ولا حسنه . انتهى .
وقال الأنصاري في فتح الباقي في شرح ألفية العراقي : من أراد الاحتجاج
بحديث من السنن أو المسانيد إن كان متأهلاً لمعرفة ما يحتج به من غيره فلا
يحتج به حتى ينظر في اتصال إسناده وأصول رواته ، وإلا فإن وجد أحداً من
الأئمة صححه أو حسنه فله تقليده ، وإلا فلا يحتج به . انتهى .
القاعدة الثالثة : لا فرق في عدم جواز العمل بالحديث الضعيف بين أن
يكون في فضائل الأعمال أو في غير فضائل الأعمال
الأحكام التكليفية لا يشرع القول بها إلا بدليل صحيح ، والاستحباب نوع من
أنواع الحكم التكليفي ، وعليه فلا يشرع استحباب شيء إلا بدليل صحيح ،
ففضائل الأعمال يجب إثباتها بالدليل الصحيح لأنها داخلة في الحكم التكليفي
ألا وهو الاستحباب ، والسلف الصالح ما كانوا يفرقون بين الحديث الوارد في
فضائل الأعمال والحديث الوارد في بقية أمور الدين ، ويوضح هذا أنهم تكلموا
في التثبت في الأسانيد والتشديد في الأخذ بها والعمل بالصحيح منها ، وما
كانوا يستثنون من ذلك الحديث الوارد في فضائل الأعمال ، ولا جاء عن أحد
منهم في ذلك شيء قط ، فإن قيل قد جاء عن الإمام أحمد وبعض الأئمة أنهم
قالوا : إذا روينا في الأحكام والحلال والحرام تشدَّدنا ، وإذا روينا في
الفضائل والثواب والعقاب تساهلنا .
والجواب : أن المراد بهذا القول هو التساهل في الرواية وليس مشروعية العمل
بذلك الضعيف في فضائل الأعمال ، قال المعلمي في الأنوار الكاشفة ( 87 ) :
كان من الأئمة من إذا سمع الحديث لم يروه حتى يتبين له أنه صحيح أو قريب من
الصحيح ، أو يوشك أن يصح إذا وجد ما يعضده ، فإذا كان دون ذلك لم يروه
البتة ومنهم إذا وجد الحديث غير شديد الضعف وليس فيه حكم ولا سنة إنما هو
في فضيلة عمل متفق عليه كالمحافظة على الصلوات ونحو ذلك لم يمتنع من روايته
فهذا هو المراد بالتساهل في عبارتهم . انتهى .
وقد ذهب النووي إلى أن الحديث الضعيف في فضائل الأعمال يعمل به بالإجماع .
وفي القول بالإجماع نظر ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه كما في مجموع الفتاوى (
1/251 ) : وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي ، وروي في فضله
حديث لا يعلم أنه كذب ، جاز أن يكون الثواب حقاً ، ولم يقل أحد من الأئمة :
إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف ، ومن قال هذا فقد
خالف الإجماع . انتهى .
قلت : فقول شيخ الإسلام يدل على أن الإجماع على خلاف ما ادعاه النووي .
والذي يظهر أن الخلاف حدث بعد العصور المتقدمة .
وقال شيخ الإسلام أيضا كما في مجموع الفتاوى ( 18/65 ) : وكذلك ما عليه
العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس معناه إثبات
الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به ، فإن الاستحباب حكم شرعي ، فلا يثبت
إلا بدليل شرعي ، ومن خبر عن الله أنه يحب عملاً من الأعمال من غير دليل
شرعي ، فقد شرع في الدين مالم يأذن به الله ، كما لو أثبت الإيجاب أو
التحريم ، ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره ، بل هو
أصل في الدين مشروع . انتهى .
وقال الشوكاني في وبل الغمام ( 1/54 ) : وقد سوغ بعض أهل العلم العمل
بالضعيف في ذلك مطلقا ، وبعضهم منع من العمل بما لم تقم به الحجة مطلقاً ،
وهو الحق ، لأن الأحكام الشرعية متساوية الأقدام ، فلا يحل أن ينسب إلى
الشرع مالم يثبت كونه شرعاً ، لأن ذلك من التقول على الله بمالم يقل ، وكان
في فضائل الأعمال ، إذ جعل العمل منسوبا إليه نسبة المدلول إلى الدليل ،
فلا ريب أن العامل به ، وإن كان لم يفعل إلا الخير من صلاة أو صيام أو ذكر ،
لكنه مبتدع في ذلك الفعل من حيث اعتقاده مشروعيته بما ليس شرع ، وأجر ذلك
العمل لا يوازي وزر الابتداع ، ولم يكن فعل مالم يثبت مصلحة خالصة ، بل معه
عرضة بمفسدة هي إثم البدعة ، ودفع المفاسد أهم من جلب المصالح .. ، وقيل :
إن كان ذلك العمل الفاضل الذي دل عليه الحديث الضعيف داخلاً تحت عموم صحيح
يدل على فضله ساغ العمل بالحديث الضعيف في ذلك ، وإلا فلا ، مثلاً : لو
ورد حديث ضعيف يدل على فضيلة صلاة ركعتين في غير وقت كراهة فلا بأس بصلاة
تلك الركعتين لأنه قد دل الدليل العام على فضلية الصلاة مطلقا إلا ما خص .
يقال : إن كان العمل بذلك العام الصحيح فلا ثمرة للاعتداد بالخاص الذي لم
يثبت إلا مجرد الوقوع في البدعة ، وإن كان العمل بالخاص عاد الكلام الأول ؛
وإن كان العمل بمجموعهما كان فعل الطاعة مشوبا ببدعة ، من حيث إثبات عبادة
شرعية بدون شرع . انتهى .
وقال ابن حجر في تبيين العجب ( 22 ) : لا فرق في العمل بالحديث في الأحكام
أو الفضائل ، إذ الكل شرع . انتهى .
وللعلامة الألباني رحمه الله تعالى تفصيل طويل رائع في هذه المسألة في
مقدمة صحيح الترغيب والترغيب فليرجع إليه .
القاعدة الرابعة : يجب فهم الدليل على ما فهمه السلف الصالح
السلف الصالح جاءت الأدلة بتزكيتهم واتباع طريقهم ، قال الله تعالى في
كتابه الكريم : { والسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ
والأنْصَارِ والذِينَ اتَّبَعُوهم بإحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُم وَرَضُوا
عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهَارُ خَالِدينَ
فيهَا أبَدًا ذَلكَ الفوْزُ العَظِيمُ } [ التوبة : 100 ] .
: وعن ابن مسعود أن النبي r قال : (( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ، ثم
الذين يلونهم )) . أخرجه البخاري ( 6429 ) ومسلم ( 2535 )
فهم القدوة وهم الأسوة ، فيجب على كل مسلم اتباعهم فيما ذهبوا إليه من
فهم أدلة الكتاب والسنة لأنهم أعلم الناس وأفهم الناس بدلالة النصوص
الشرعية ، فإذا أخذ المسلم بغير فهمهم فإنه يضلُّ عن الصراط المستقيم ،
لأنهم عن بصيرة وقفوا وبعلم ثاقب نظروا .
قال ابن أبي زيد القيرواني في الجامع ( 117 ) : التسليم للسنن لا تعارض
برأي ولا تدفع بقياس ، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه ، وما عملوا به
عملناه ، وما تركوه تركناه ، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا ، ونتبعهم فيما
بينوا ، ونقتدي بهم فيما استنبطوا ورأوه من الحديث ، ولا نخرج عن جماعتهم
فيما اختلفوا فيه أو تأويله ، وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة
الناس في الفقه والحديث .
وقال السمعاني كما في صون المنطق ( 158 ) : إنا أمرنا بالإتباع وندبنا إليه
، ونهينا عن الإبتداع وزجرنا عنه ، وشعار أهل السنة اتباعهم للسلف الصالح ،
وتركهم كل ما هو مبتدع محدث . انتهى .
وقال قوام السنة الأصبهاني في كتابة الحجة في بيان المحجة ( 2/437 ، 440 ) :
وليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو الإتباع والإستعمال ، يقتدي بالصحابة
والتابعين ، وإن كان قليل العلم ، ومن خالف الصحابة والتابعين فهو ضال ،
وإن كان كثير العلم .. إلى أن قال : وذلك أنه تبين للناس أمر دينهم فعلينا
الإتباع ، لأن الدين إنما جاء ، من قبل الله تعالى لم يوضع على عقول الرجال
وآرائهم فقد بين الرسول r السنة لأمته ، وأوضحها لأصحابه ، فمن خالف أصحاب
رسول الله r في شيء من الدين فقد ضل . انتهى .
وقال ابن رجب في كتاب فضل علم السلف على علم الخلف ( 72 ) : فالعلم النافع
من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها ، والتقيد في ذلك
بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعهيم في معاني القرآن والحديث ، وفيما
ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام ، والزهد والرقائق والمعارف
وغير ذلك . انتهى .
وقال شيخ الإسلام في كتاب الإيمان ( 114 ) : وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل
( يعني الإيمان ) عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم
بإحسان ، واعتمدوا على رأيهم وعلى ما تأولوه بفهمهم اللغة ، وهذه طريقة أهل
البدع ، ولهذا كان الإمام أحمد يقول : أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل
والقياس ، ولهذا نجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع
يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم ، وما تأولوه من اللغة ، ولهذا تجدهم لا
يعتمدون على أحاديث النبي r والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ، فلا
يعتمدون على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم ، إنما يعتمدون على العقل
واللغة ، ونجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثور ، والحديث وآثار السلف
.
وقال كما في مجموع الفتاوى ( 10/362 ) : فالعلم المشروع والنسك المشروع
مأخوذ عن أصحاب رسول الله r وأما ما جاء عمن بعدهم فلا ينبغي أن يجعل أصلاً
، وإن كان صاحبه معذوراً ، بل مأجوراً لاجتهاد أو تقليد ، فمن بنى الكلام
في علم الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة السابقين فقد
أصاب طريق النبوة وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق
بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان
والسنة والهدى الذي كان عليه محمد r وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة ، وهذه
طريق أئمة الهدى ، تجد الإمام أحمد إذا ذكر أصول السنة قال : هي التمسك بما
كان عليه أصحاب رسول الله r ، وكتب التفسير المأثور عن النبي r والصحابة
والتابعين ، وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه .. ، وكذلك في الزهد
والرقائق والأحوال فإنه اعتمد في كتاب الزهد على المأثور على الأنبياء
صلوات الله عليهم من آدم إلى محمد ثم على طريق الصحابة والتابعين ولم يذكر
من بعدهم . انتهى .
القاعدة الخامسة : يجب الأخذ بظاهر الدليل وعدم تأويله
أهل الحديث وسط بين الذين بالغوا في الأخذ بالظاهر ولم يلتفتوا إلى معاني
الأدلة وبين الذين فرطوا في الأخذ بالظاهر ، فردوا ظاهر الدليل بأدنى شيء
أو أولوا الحديث حتى يوفقوا بين الحديث وبين قول إمامهم ، فأهل الحديث
يمشون على ظاهر الدليل .
ولا يأولونه ويخرجونه عن ظاهره إلا بدليل يدل على صحة ذلك التأويل ، ولهذا
كان السلف يقولون : أمروها كما جاءت .
وهذا وإن كان ورد في باب الأسماء والصفات ، لكن مما لا شك فيه أن جميع
الأحكام الشرعية على منوال واحد وطريقة سوية ، ولذلك ما كان السلف يؤولون
الأحاديث الواردة في الأحكام ، بل كانوا يجرونها على ظاهرها .
فمثلاً : قد ثبت عن النبي r أنه قال لـمَّا سئل عن الوضوء من لحوم الإبل : (
توضئوا منها ) .
أخرجه مسلم ( 360 ) وأبو داود ( 184 ) والترمذي ( 81 ) .
فالوضوء يطلق على غسل اليدين فقط ويطلق أيضا على الوضوء المعروف في الشرع ،
وظاهر الحديث أن المراد هو الوضوء المعروف في الشرع ، وقد مشى الصحابة على
هذا الظاهر فقد كانوا يتوضؤون من لحوم الإبل الوضوء الشرعي المعروف ولم
يكونوا يأولونه بغسل اليدين فقط .
قال الخطيب في الفقه والمتفقه ( 1/222 ) : ويجب أن يحمل حديث رسول الله r
على عمومه وظاهره إلا أن يقوم الدليل على أن المراد به غير ذلك فيعدل إلى
ما دل الدليل عليه ، قال الشافعي : ولو جاز في الحديث أن يحال شيء منه عن
ظاهره إلى معنى باطن يحتمله كان أكثر الحديث يحتمل عدداً من المعاني فلا
يكون لأحد ذهب إلى معنى منها حجة على أحد ذهب إلى معنى غيره ، ولكن الحق
فيها واحد إنما هو على ظاهرها وعمومها إلا بدلالة عن رسول الله r . انتهى .
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 3/108 ) : الواجب حمل كلام الله تعالى
ورسوله ، وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره ، وهو الذي يقصد من
اللفظ عند التخاطب ، ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك . انتهى .
وقال الشنقيطي في أضواء البيان ( 7/438 ) : التحقيق الذي لا شك فيه ، وهو
الذي عليه أصحاب رسول الله r ، وعامة المسلمين : أنه لا يجوز العدول عن
ظاهر كتاب الله وسنة رسوله r في حال من الأحوال بوجه من الوجوه حتى يقوم
دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح . انتهى .
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 263 ) : واعلم أن الظاهر دليل شرعي يجب
اتباعه والعمل به بدليل إجماع الصحابة على العمل بظواهر الألفاظ . انتهى .
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 4/148 ) : ينبغي للمفتي أن يفتي
بلفظ النص مهما أمكنه ، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام ، فهو
حكم مضمون له الصواب ، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان ، وقول الفقيه
المعين ليس كذلك ، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على
مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن
النصوص واشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص ، فأوجب ذلك هجر النصوص ،
ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي النصوص من الحكم والدليل وحسن
البيان ، فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق
الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله ، فألفاظ النصوص
عصمة وحجة ، بريئة من الخطأ والتناقض ، والتعقيد والاضطراب ، ولما كانت هي
عصمة عهدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من
بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم ثم التابعون بالنسبة
إلى من بعدهم كـذلك وهَلـُمَّ جرَّا .. ، وقد كان أصحاب رسول الله r إذا
سئلوا عن مسألة يقولون قال الله كذا ، قال رسول الله كذا ، ولا يعدلون عن
ذلك و ما وجدوا إليه سبيلاً قط فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور .
انتهى .
وقال الشوكاني في منتهى الأرب في أدب الطلب ( 235 ) : ومن جملة ما ينبغي له
تصوره ويعنيه استحضاره أن يعلم أن هذه الشريعة المباركة هي ما اشتمل عليه
الكتاب والسنة من الأوامر والنواهي والترغيبات والتنفيرات وسائر ما له مدخل
في التكليف ، من غير قصد إلى التعمية والإلغاز ولا إرادة لغير ما يفيده
الظاهر ، ويدل عليه التركيب ويفهمه أهل اللسان العربي . فمن زعم أن حرفاً
من حروف الكتاب والسنة لا يراد به المعنى الحقيقي والمدلول الواضح فقد زعم
على الله ورسوله زعماً يخالف اللفظ الذي جاءنا عنهما ، فإن كان ذلك لمسوّغ
شرعي تتوقف عليه الصحة الشرعية أو العقلية التي يتفق العقلاء عليها ، لا
مجرد ما يدعيه أهل المذاهب والنحل على العقل ، مطابقاً لما قد حببه إليهم
التعصب ، وأدناه من عقولهم البُعد عن الإنصاف فلا بأس بذلك ، وإلاّ فدعوى
التجوز مردودة مضروب بها في وجه صاحبها ، فاحرص على هذا فإنه وإن وقع
الاتفاق على أصالة المعنى الحقيقي وعدم جواز الانتقال عنه إلا لعلاقة
وقرينة كما صُرح به في الأصول وغيرها ، فالعمل في كتب التفسير والحديث
والفقه يخالف هذا لمن تدبره وأعمل فكره . ولم يغتر بالظواهر ولا جمد
على قبول ما يُقال من دون بحث عن موارده ومصادره . وكثيراً ما تجد
المتعصبين يحامون عن مذاهبهم ويؤثرونها على نصوص الكتاب والسنة . فإذا
جاءهم نص لا يجدون عنه متحولاً وأعياهم رده وأعجزهم دفعه . ادعوا أنه مجاز
وذكروا للتجوز علاقة هي من البعد بمكان ، وقرينة ليس لها في ذلك المقام
وجود ولا تدعو إليها حاجة . وأعانهم على هذه الترهات استكثارهم من تعداد
أنواع القرائن والعلاقات ، حتى جعلوا من جملة ما هو من العلاقات المسوّغة
للتجوز التضاد ، فانظر هذا التلاعب ، وتدبر هذه الأبواب التي فتحوها على
أدلة الكتاب والسنة . وقَبِلَها عنهم من لم يمعن النظر ويطيل التدبر فجعلها
علماً وقبلها على كتاب الله وسنة رسوله . وأصلها دعوى افتراها على أهل
اللغة متعصب قد آثر مذهبه على الكتاب والسنة ، ولم يستطع التصريح بترجيح
المذهب على الدليل ، فدقّقَ الفكر وأعمق النظر فقال : هذا الدليل وإن كان
معناه الحقيقي يخالف ما نذهب إليه فهو ههنا مجاز والعلاقة كذا والقرينة كذا
، ولا علاقة ولا قرينة . فيأتي بعد عصر هذا المتعصب من لا يبحث عن المقاصد
ولا يتدبر المسالك كما ينبغي فيجعل تلك العلاقة التي افتراها ذلك المتعصب
من جملة العلائق المسوغة للتجوز . ولهذا صارت العلاقات قريباً من ثلاثين
علاقة . ثم لما كان من جملة أنواع القرائن ، القرائن العرفية والعقلية
افترى كل متعصب على العقل والعرف ما شاء وصنع في مواطن الخلاف ما أراد
والله المستعان . انتهى .
القاعدة السادسة : لا يصرف الدليل عن ظاهره بقول جمهور العلماء
قول الجمهور ليس بحجة ، لأن الله عز وجل لم يتعبدنا بقول الجمهور ، فلا
يصرف الحديث عن ظاهره لأن الجمهور صرفوه عن ظاهره ، فمثلا : لا يصرف ظاهر
الأمر من الوجوب إلى الاستحباب لقول الجمهور ، ولا يصرف النهي من التحريم
إلى الكراهة لقول الجمهور ، ولا يصرف العام إلى الخاص لقول الجمهور ، وذلك
لأن قول الجمهور ليس بحجة ، وظاهر الحديث حجة ، فلا يترك ما هو حجة لأجل ما
ليس بحجة ، قال العلامة صديق حسن كما في قواعد التحديث ( 91 ) : اعلم أنه
لا يضر الخبر الصحيح عمل أكثر الأمة بخلافه ، لأن قول الأكثر ليس بحجة .
انتهى .
القاعدة السابعة : لا يسقط الاستدلال بالدليل بمجرد تطرق الاحتمال إليه
الدليل لا يسقط بمجرد تطرق الاحتمال إليه ، وقول العلماء : الدليل إذا تطرق
إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ، مرادهم بذلك الاحتمال القوي الذي احتفت
به القرائن واعتضد بالاعتبارات لا بأي احتمال ، لأنه ما من دليل إلا ويتطرق
إليه الاحتمال ، ولو فتح باب الاحتمال لم يبق شيء من الأدلة إلا وسقط
الاستدلال به بدعوى تطرق الاحتمال إليه ، ثم إن المراد بسقوط الاستدلال به ،
أي على تعيين ذلك الوجه المراد الاستدلال به من الدليل ، لا أن الاستدلال
بالدليل يسقط جملة وتفصيلا .
أخرج البخاري ( الفتح 1/413 ) ومسلم ( 1/145 ) عن عائشة قالت : (( كنت أنام
بين يدي رسول الله r ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا
قام بسطتها )) .
فهذا الحديث يدل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء ، واعترض عليه باحتمال
الخصوصية أو أن المس كان بحائل .
وقد تعقب هذا الكلام العلامة أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي ( 1/142 )
فقال : ومن البين الواضح أن هذا التعقيب لا قيمة له ، بل هو باطل ، لأن
الخصوصية لا تثبت إلا بدليل صريح ، واحتمال الحائل لا يفكر فيه إلا متعصب !
انتهى .
القاعدة الثامنة : لا فرق بين الدليل المتواتر والآحاد في
جميع القواعد والأحكام
الحديث الآحاد كالتواتر في جميع القواعد والأحكام الشرعية فكما أن المتواتر
ينسخ المتواتر فكذلك الآحاد ينسخ المتواتر وكما أن المتواتر يخصص العام ،
فكذلك الآحاد يخصص العام ، وكما أن المتواتر مقدم على القياس ، فكذلك
الآحاد مقدم على القياس ، وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح فإنهم كانوا لا
يفرقون في شيء من القواعد والأحكام بين المتواتر والآحاد ، بل التفريق بين
المتواتر والآحاد بدعة حدثت بعدهم ، فقد أخذ الصحابة بقول الواحد في النسخ
وذلك لما كانوا في الصلاة تجاه بيت المقدس وأخبرهم شخص واحد بأن القبلة
تحولت إلى الكعبة فتحولوا وهم في الصلاة .
قال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 236 ) بعد أن ذكر أن الآحاد يخصص عموم
المتواتر : واحتج ابن المسمعاني على الجواز بإجماع الصحابة فإنهم خصوا قوله
تعالى : { يُوصَيكُمُ الله فِي أوْلادِكُمْ }[ النساء : 11 ] بقوله r : ((
إنا معشر الأنبياء لا نورث )) وخصوا قوله (( فاقْتُلُوا المشْرِكِينَ ))
بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس وغير ذلك كثير ، وأيضا يدل على جواز
التخصيص دلالة بينة واضحة ما وقع من أوامر الله عز وجل باتباع نبيه r من
غير تقييد فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجبا وإذا عارضه عموم قرآني كان
سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتما ودلالة العام على أفراده
ظنية لا قطعية فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية ، وقد استدل
المانعون مطلقا بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس حيث لم
يجعل لها سكنى ولا نفقة كما في حديثها الصحيح ، فقال عمر : " كيف نترك كتاب
ربنا لقول امرأة ؟ " يعني قوله :{ أسْكِنُوهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] وأجيب
عن ذلك بأنه إنما قال هذه المقالة لتردده في صحة الحديث لا لرده تخصيص عموم
الكتاب بالسنة الآحادية فإنه لم يقل كيف نخصص عموم كتاب ربنا بخبر آحادي
بل قال : كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة ؟ ويؤيد ذلك ما في صحيح مسلم وغيره
بلفظ قال عمر : لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لعلها حفظت أو
نسيت فأفاد هذا أن عمر إنما تردد في كونها حفظت أو نسيت ولو علم بأنها حفظت
ذلك وأدته كما سمعته لم يتردد في العمل بما روته . انتهى .
وبيَّن الشنقيطي في كتابه مذكرة في أصول الفقه ( 86 ) خطأ من قال إن الآحاد
لا ينسخ المتواتر .
القاعدة التاسعة : يجب العمل بالدليل وإن لم يعرف أن أحداً
عمل به
الحديث حجة بنفسه لا يحتاج إلى الاحتجاج به أن يكون أحد من الأئمة عمل به ،
قال الشافعي في الرسالة ( 422 ) : أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن
سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة ، وفي
التي تليها بعشر ، وفي الوسطى بعشر ، وفي التي تلي الخنصر بتسع ، وفي
الخنصر بست قال الشافعي : لما كان معروفا ـ والله أعلم ـ عندنا أن النبي r
قضى في اليد بخمس ، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع نزلها
منازلها فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف ، فلما وجدنا كتاب
آل عمرو بن حزم فيه أن رسول الله r قال : (( وفي كل إصبع مما هنالك عشر من
الإيل )) صاروا إليه ، وفي الحديث دلالتان :
أحدهما : قبول الخبر .
والآخر : أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه ، وإن لم يمض عمل من الأئمة
بمثل الخبر الذي قبلوا .
ودلالة على أنه لو مضى عمل من أحد من الأئمة ثم وجد خبراً عن النبي r يخالف
عمله لترك عمله لخبر رسول الله r ، ودلالة على أن حديث رسول الله r يثبت
بنفسه لا بعمل غيره .
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 4/204 ) : إذا كان عند الرجل الصحيحان
أو أحدهما أو كتاب من سنن رسول الله r موثوق بما فيه فهل له أن يفتي بما
يجده ؟، فقالت طائفة من المتأخرين : ليس له ذلك لأنه قد يكون منسوخاً أو له
معارض أو يفهم من دلالته خلاف ما دل عليه فلا يجوز له العمل ولا الفتيا به
حتى يسأل أهل الفقه والفتيا . وقال طائفة بل له أن يعمل به ويفتي به بل
يتعين عليه كما كان الصحابة يفعلون إذا بلغهم الحديث عن رسول الله r وحدث
به بعضهم بعضاً بادروا إلى العمل به من غير توقف ولا بحث عن معارض ولا يقول
أحد منهم قط : هل عمل بهذا فلان وفلان ، ولو رأوا من يقول ذلك لأنكروا
عليه أشد الإنكار وكذلك التابعون وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة
بحال القول وسيرتهم وطول العهد بالنسبة ، وبعد الزمان وعتقها لا يسوغ ترك
الأخذ بها والعمل بغيرها ولو كانت سنن رسول الله r لا يسوغ العمل بها بعد
صحتها حتى يعمل بها فلان أو فلان لكان قول فلان أو فلان عياراً على السنن ،
ومزكيا لها ، وشرطاً في العمل بها ، وهذا من أبطل الباطل وقد أقام الله
الحجة برسوله دون آحاد الأمة وقد أمر النبي r بتبليغ سنته ودعا لمن بلَّغها
، فلو كان من بلغته لا يعمل بها حتى يعمل بها الإمام فلان والإمام فلان لم
يكن في تبليغها فائدة وحصل الاكتفاء بقول فلان وفلان .
وقال أيضا في إعلام الموقعين ( 4/212 ) : فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم
ثبت عن النبي r أنه قال كذا وكذا ، يقول من قال بهذا ؟ ويجعل هذا دفعاً في
صدر الحديث أو يجعل جهله بالقائل حجة له في مخالفته وترك العمل به ، ولو
نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل وأنه لا يحل دفع سنن رسول الله
r بمثل هذا الجهل ، وأقبح من ذلك عذره في جهله إذ يعتقد أن الإجماع
منعقد على مخالفة تلك السنة ، هذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم إلى
اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله r ، وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا
الإجماع وهو جهله ودعم عمله بمن قال بالحديث ، فعاد الأمر إلى تقديم جهله
على السنة والله المستعان . ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام البتة قال : لا
نعمل بحديث رسول الله r حتى نعرف من عمل به .
وقال في كتاب الروح ( 264 ) : فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله
ورسوله ، بل اذهب إلى النص ، ولا تضع