متى
يجوز تعيين الفرق الهالكة ؟
للإمام أبي إسحاق الشاطبي
(ت 790)
عدم التعيين هو الذين ينبغي أن يُلتزم ليكون ستراً على الأمة كما
سُترت عليهم قبائحهم، فلم يفضحوا في الدنيا في الغالب، وأمرنا بالستر على المؤمنين
ما لم تبد لنا صفحة الخلاف، ...
وأيضاً؛ فللستر حكمة أخرى، وهي أنها لو أظهرت - مع أن أصحابها من
الأمة - لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التي أمر الله ورسوله بها، حيث
قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلا تَفَرَّقُوا﴾ وقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ وقال
تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾.
وفي الحديث : «لا تحاسَدُوا، ولا تَبَاغضُوا، ولا تَدَابَروا،
وكُونوا عبادَ اللهِ إِخوانا»، وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين، وأخبر أن فساد ذات
البين هي الحالقة التي تحلق الدين.
فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة
بينهم والفرقة؛ لزم من ذلك أن يكون منهياً عنه، إلا أن تكون البدعة فاحشة جداً
كبدعة الخوارج، وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا، ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب
منه بحسب نظر المجتهد، وما عدا ذلك؛ فالسكوت عنه أولى.
وخرج أبو داود عن عمرو بن أبي قُرَّة قال :
«كان حُذَيفةُ بالمدائن، فكان يذكر أَشياءَ قالها رسولُ الله -صلى
الله عليه وسلم- لأُناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممّن سمع ذلك من حذيفة،
فيأتون سلمان، فيذكرون له قولَ حذيفة، فيقول سلمان: حذيفةُ أَعْلَمُ بما يقول،
فيرجعون إِلى حذيفة، فيقولون له: قد ذكرنا قولك لسلمان، فما صَدَّقَكَ، ولا
كذَّبك، فأتى حذيفةُ سلمانَ وهو في مَبْقَلة، فقال: يا سلمان، ما منعك أن تصدِّقني
بما سمعتُ من رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ فقال سلمان: إِنَّ رسولَ الله
-صلى الله عليه وسلم- كان يغضب فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في
الرضى لناس من أصحابه، ثم قال لحذيفة: أَمَا تَنْتَهي حتى تُورِثَ رجالا حُبَّ
رجال، ورجالا بغض رجال، وحتى توقع اختلافا وفُرقَة، ولقد علمتَ أن رسولَ الله -صلى
الله عليه وسلم- خَطب، فقال: أَيُّما رَجُل من أُمَّتي سَبَبْتُهُ سَبَّة أو لَعَنْتُهُ لَعنَة في
غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين،
فاجْعَلْها عليهم صلاة يوم القيامة، والله لَتَنْتَهِيَنَّ أو
لأكْتُبَنَّ إِلى عمر»
.
فتأملوا ما أحسن هذا الفقه من سلمان رضي الله عنه! وهو جار في
مسألتنا، فمن هنا لا ينبغي للراسخ في العلم أن يقول: هؤلاء الفرق هم بنو فلان وبنو
فلان! وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب اجتهاده، اللهم إلا
في موطنين:
أحدهما : حيث
نبه الشرع على تعيينهم؛ كالخوارج؛ فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون في الدخول
تحت حديث الفرق، ويجري مجراهم من سلك سبيلهم، فإن أقرب الناس إليهم شيعة المهدي
المغربي، فإنه ظهر فيهم الأمران اللذان عرف النبي صلى الله عليه وسلم بهما في
الخوارج من أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون
أهل الأوثان، فإنهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه حتى ابتدعوا فيه ثم لم
يتفقهوا فيه، ولا عرفوا مقاصده. ولذلك طرحوا كتب العلماء وسموها كتب الرأي وخرقوها
ومزقوا أدمها، مع أن الفقهاء هم الذين بينوا في كتبهم معاني الكتاب والسنة على
الوجه الذي ينبغي، وأخذوا في قتال أهل الإسلام بتأويل فاسد، زعموا عليهم أنهم
مجسمون وأنهم غير موحدين، وتركوا الانفراد بقتال أهل الكفر من النصارى والمجاورين
لهم وغيرهم ...
والثاني : حيث
تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام ومن لا علم عنده، فإن ضرر هؤلاء
على المسلمين كضرر إبليس، وهم من شياطين الإنس، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل
البدعة والضلالة، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم. كما اشتهر
عن عمرو بن عبيد وغيره ...
فمثل هؤلاء لا بد من ذكرهم والتشريد بهم، لأن
ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تُرِكوا، أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير
عنهم إذا كان سبب ترك التعيين الخوف من التفرق والعداوة.
ولا شك أن التفرق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة وحدهم إذا أقيم
عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتّبعهم، وإذا تعارض
الضرران يُرتكب أخفهما وأسهلهما، وبعض الشر أهون من جميعه، كقطع اليد المتآكلة،
إتلافُها أسهل من إتلاف النفس. وهذا شأن الشرع أبداً: يطرحَ حُكمَ الأخفِّ وقايةً
من الأثقل(*).
فإذا فقد الأمران؛ فلا ينبغي أن يُذكروا ولا أن يُعينوا وإن وجدوا،
لأن ذلك أول مثير للشّحناء وإلقاء العداوة والبغضاء، ومتى حصل باليد منهم أحد
ذاكره برفق، ولم يُرِه أنه خارج من السنة، بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعي، وأن
الصواب الموافق للسنة كذا وكذا. فإن فعل ذلك من غير تعصُّب ولا إظهار غلبة؛ فهو
أنحج وأنفع، وبهذه الطريقة دُعي الخلق أولاً إلى الله تعالى، حتى إذا
عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك.
قال الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب
العوام بتعصُّب جماعة من جُهّال أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء،
ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة
والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذَّر على العلماء المتلطّفين
محوها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي
نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة. ولولا استيلاء الشيطان
بواسطة العناد والتعصب للأهواء، لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقراً في قلب مجنون
فضلاً عن قلب عاقل.
هذا ما قال. وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية، فالواجب
تسكين الثائرة ما قُدر على ذلك. والله أعلم.
______________
(*) وقد حذر كبار علماء المسلمين من الفرق الحديثة المعاصرة وإليك بعض
فتاويهم القيمة:
قال إمام أهل السنة في هذا العصر الإمام عبد العزيز بن باز رحمه
الله:
الواجب على المسلمين توضيح الحقيقة ومناقشة كل جماعة أو جمعية ونصح
الجميع بأن يسيروا في الخط الذي رسمه الله لعباده ودعا إليه نبينا محمد -
صلى الله عليه وسلم - ، ومن تجاوز هذا أو استمر في عناده
لمصالح شخصية أو لمقاصد لا يعلمها إلا الله ـ فإن الواجب التشهير به والتحذير منه
ممن عرف الحقيقة، حتى يتجنب الناس طريقهم وحتى لا يدخل معهم من لا يعرف
حقيقة أمرهم فيضلوه ويصرفوه عن الطريق المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه في قوله
جل وعلا : { وأنَّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيمَاً فاتَّبعوهُ وَلا تتبعُوا
السُبُلَ فَتَفَرَّق بكم عَن سَبيْلِه ذَلِكم وَصَّاكم به لعَلكم تَتَّقون
}
ومما لا شك فيه أن كثرة الفرق والجماعات في المجتمع الإسلامي مما
يحرص عليه الشيطان أولا وأعداء الإسلام من الإنس ثانياً، لأن اتفاق كلمة المسلمين
ووحدتهم وإدراكهم الخطر الذي يهددهم ويستهدف عقيدتهم يجعلهم ينشطون لمكافحة ذلك
والعمل في صف واحد من أجل مصلحة المسلمين ودرء الخطر عن دينهم وبلادهم وإخوانهم
وهذا مسلك لا يرضاه الأعداء من الإنس والجن، فلذا هم يحرصون على تفريق كلمة
المسلمين وتشتيت شملهم وبذر أسباب العداوة بينهم، نسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين
على الحق وأن يزيل من مجتمعهم كل فتنة وضلالة، إنه ولي ذلك والقادر عليه)). [مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/202ـ204)]
وسئل العلاّمة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: هل هناك
نصوص في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيها إباحة تعدد الجماعات
الإسلامية؟
فأجاب :
"ليس في الكتاب ولا في السنة ما يبيح تعدد الجماعات والأحزاب،
بل إن في الكتاب والسنة ما يذم ذلك قال تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ
إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
}. وقال تعالى { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
ولا شك أن هذه الأحزاب تنافي ما أمر الله به بل ما حث عليه في قوله {وَإِنَّ
هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.
ولا سيما حينما ننظر إلى آثار هذا التفرق والتحزب؛ حيث كان كل حزب، وكل فريق يرمي
الآخر بالتشنيع والسب والتفسيق وربما بما هو أعظم من ذلك، لذلك فإنني أرى أن هذا
التحزب خطأ.
وقول بعضهم أنه لا يمكن للدعوة أن تقوى وتنتشر إلا إذا كانت تحت حزب.
نقول: إن هذا الكلام غير صحيح بل إن الدعوة تقوى وتنتشر كلما كان الإنسان أشد
تمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأكثر اتباعاً لآثار النبي
صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين". [الصحوة الإسلامية ضوابط
وتوجيهات ص 155]
وسئل العلاّمة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: هل
يجوز للعلماء أن يبيّنوا للشباب وللعامة خطر التحزب والتفرق والجماعات؟
فأجاب فضيلته:
"نعم يجب بيان خطر التحزب وخطر الانقسام والتفرق ليكون الناس
على بصيرة لأنه حتى العوام الآن انخدعوا ببعض الجماعات يظنون أنها على الحق، فلا
بد أن نبين للناس المتعلمين والعوام خطر الأحزاب والفرق لأنهم إذا سكتوا قال
الناس: العلماء كانوا عارفين عن هذا وساكتين عليه، فيدخل الضلال من هذا الباب، فلا
بد من البيان عندما تحدث مثل هذه الأمور، والخطر على العوام أكثر من الخطر على
المتعلمين، لأن العوام مع سكوت العلماء يظنون أن هذا هو الصحيح وهذا هو
الحق". اهـ [" الأجوبة
المفيدة عن اسئلة المناهج الجديدة" ص (68)]
وقال في ص (16) من الكتاب السابق: "كل
من خالف أهل السنة والجماعة ممن ينتسب إلى الإسلام: في الدعوة، أو في العقيدة، أو
في شيء من أصول الإيمان، فإنه يدخل في الاثنتين والسبعين فرقة، ويشمله الوعيد،
ويكون له من الذم والعقوبة بقدر مخالفته".
ويقول العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد – رحمه الله - في ("خصائص جزيرة
العرب" ص 85) :
"جزيرة العرب هي بارقة الأمل للمسلمين في نشر عقيدة التوحيد
لأنها موئل جماعة المسلمين الأول وهي السُّور الحافظ حول الحرمين الشريفين فينبغي
أن تكون كذلك أبدا فلا يسمح فيها بحال بقيام أي نشاط عقدي أو دعوي - مهما كان -
تحت مظلة الإسلام ؛ مخالفا منهاج النبوة الذي قامت به جماعة المسلمين الأولى :
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدّده وأعلى مناره الشيخ محمد بن عبد الوهاب
رحمه الله تعالى .
فالجماعة واحدة : جماعة المسلمين تحت عَلَم
التوحيد على طريق النبوة لا تتوازعُهم الفرق والأهواء ولا
الجماعات والأحزاب .
وإن قبول أي دعوة تحت مظلة الإسلام تخالف ذلك هي وسيلةُ إجهازٍ على
دعوة التوحيد وتفتيتٍ لجماعة المسلمين، وإسقاطٍ لامتياز الدعوة، وسقوطٍ لجماعتها،
وكسرٍ لحاجز النفرة من البدع والمبتدعين، والفسق والفاسقين.
والجماعات إن استشرى تعددها في الجزيرة فهو خطر داهم يهدد واقعها
ويهدم مستقبلها ويسلّم بيدها ملفَّ الاستعمار لها وبه تكون مجمّع صراع فكري وعقدي
وسلوكي" .اهـ
الاعتصام
( 3 / 211 )
يجوز تعيين الفرق الهالكة ؟
للإمام أبي إسحاق الشاطبي
(ت 790)
عدم التعيين هو الذين ينبغي أن يُلتزم ليكون ستراً على الأمة كما
سُترت عليهم قبائحهم، فلم يفضحوا في الدنيا في الغالب، وأمرنا بالستر على المؤمنين
ما لم تبد لنا صفحة الخلاف، ...
وأيضاً؛ فللستر حكمة أخرى، وهي أنها لو أظهرت - مع أن أصحابها من
الأمة - لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التي أمر الله ورسوله بها، حيث
قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلا تَفَرَّقُوا﴾ وقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ وقال
تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾.
وفي الحديث : «لا تحاسَدُوا، ولا تَبَاغضُوا، ولا تَدَابَروا،
وكُونوا عبادَ اللهِ إِخوانا»، وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين، وأخبر أن فساد ذات
البين هي الحالقة التي تحلق الدين.
فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة
بينهم والفرقة؛ لزم من ذلك أن يكون منهياً عنه، إلا أن تكون البدعة فاحشة جداً
كبدعة الخوارج، وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا، ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب
منه بحسب نظر المجتهد، وما عدا ذلك؛ فالسكوت عنه أولى.
وخرج أبو داود عن عمرو بن أبي قُرَّة قال :
«كان حُذَيفةُ بالمدائن، فكان يذكر أَشياءَ قالها رسولُ الله -صلى
الله عليه وسلم- لأُناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممّن سمع ذلك من حذيفة،
فيأتون سلمان، فيذكرون له قولَ حذيفة، فيقول سلمان: حذيفةُ أَعْلَمُ بما يقول،
فيرجعون إِلى حذيفة، فيقولون له: قد ذكرنا قولك لسلمان، فما صَدَّقَكَ، ولا
كذَّبك، فأتى حذيفةُ سلمانَ وهو في مَبْقَلة، فقال: يا سلمان، ما منعك أن تصدِّقني
بما سمعتُ من رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ فقال سلمان: إِنَّ رسولَ الله
-صلى الله عليه وسلم- كان يغضب فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في
الرضى لناس من أصحابه، ثم قال لحذيفة: أَمَا تَنْتَهي حتى تُورِثَ رجالا حُبَّ
رجال، ورجالا بغض رجال، وحتى توقع اختلافا وفُرقَة، ولقد علمتَ أن رسولَ الله -صلى
الله عليه وسلم- خَطب، فقال: أَيُّما رَجُل من أُمَّتي سَبَبْتُهُ سَبَّة أو لَعَنْتُهُ لَعنَة في
غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين،
فاجْعَلْها عليهم صلاة يوم القيامة، والله لَتَنْتَهِيَنَّ أو
لأكْتُبَنَّ إِلى عمر»
.
فتأملوا ما أحسن هذا الفقه من سلمان رضي الله عنه! وهو جار في
مسألتنا، فمن هنا لا ينبغي للراسخ في العلم أن يقول: هؤلاء الفرق هم بنو فلان وبنو
فلان! وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب اجتهاده، اللهم إلا
في موطنين:
أحدهما : حيث
نبه الشرع على تعيينهم؛ كالخوارج؛ فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون في الدخول
تحت حديث الفرق، ويجري مجراهم من سلك سبيلهم، فإن أقرب الناس إليهم شيعة المهدي
المغربي، فإنه ظهر فيهم الأمران اللذان عرف النبي صلى الله عليه وسلم بهما في
الخوارج من أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون
أهل الأوثان، فإنهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه حتى ابتدعوا فيه ثم لم
يتفقهوا فيه، ولا عرفوا مقاصده. ولذلك طرحوا كتب العلماء وسموها كتب الرأي وخرقوها
ومزقوا أدمها، مع أن الفقهاء هم الذين بينوا في كتبهم معاني الكتاب والسنة على
الوجه الذي ينبغي، وأخذوا في قتال أهل الإسلام بتأويل فاسد، زعموا عليهم أنهم
مجسمون وأنهم غير موحدين، وتركوا الانفراد بقتال أهل الكفر من النصارى والمجاورين
لهم وغيرهم ...
والثاني : حيث
تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام ومن لا علم عنده، فإن ضرر هؤلاء
على المسلمين كضرر إبليس، وهم من شياطين الإنس، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل
البدعة والضلالة، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم. كما اشتهر
عن عمرو بن عبيد وغيره ...
فمثل هؤلاء لا بد من ذكرهم والتشريد بهم، لأن
ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تُرِكوا، أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير
عنهم إذا كان سبب ترك التعيين الخوف من التفرق والعداوة.
ولا شك أن التفرق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة وحدهم إذا أقيم
عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتّبعهم، وإذا تعارض
الضرران يُرتكب أخفهما وأسهلهما، وبعض الشر أهون من جميعه، كقطع اليد المتآكلة،
إتلافُها أسهل من إتلاف النفس. وهذا شأن الشرع أبداً: يطرحَ حُكمَ الأخفِّ وقايةً
من الأثقل(*).
فإذا فقد الأمران؛ فلا ينبغي أن يُذكروا ولا أن يُعينوا وإن وجدوا،
لأن ذلك أول مثير للشّحناء وإلقاء العداوة والبغضاء، ومتى حصل باليد منهم أحد
ذاكره برفق، ولم يُرِه أنه خارج من السنة، بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعي، وأن
الصواب الموافق للسنة كذا وكذا. فإن فعل ذلك من غير تعصُّب ولا إظهار غلبة؛ فهو
أنحج وأنفع، وبهذه الطريقة دُعي الخلق أولاً إلى الله تعالى، حتى إذا
عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك.
قال الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب
العوام بتعصُّب جماعة من جُهّال أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء،
ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة
والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذَّر على العلماء المتلطّفين
محوها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي
نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة. ولولا استيلاء الشيطان
بواسطة العناد والتعصب للأهواء، لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقراً في قلب مجنون
فضلاً عن قلب عاقل.
هذا ما قال. وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية، فالواجب
تسكين الثائرة ما قُدر على ذلك. والله أعلم.
______________
(*) وقد حذر كبار علماء المسلمين من الفرق الحديثة المعاصرة وإليك بعض
فتاويهم القيمة:
قال إمام أهل السنة في هذا العصر الإمام عبد العزيز بن باز رحمه
الله:
الواجب على المسلمين توضيح الحقيقة ومناقشة كل جماعة أو جمعية ونصح
الجميع بأن يسيروا في الخط الذي رسمه الله لعباده ودعا إليه نبينا محمد -
صلى الله عليه وسلم - ، ومن تجاوز هذا أو استمر في عناده
لمصالح شخصية أو لمقاصد لا يعلمها إلا الله ـ فإن الواجب التشهير به والتحذير منه
ممن عرف الحقيقة، حتى يتجنب الناس طريقهم وحتى لا يدخل معهم من لا يعرف
حقيقة أمرهم فيضلوه ويصرفوه عن الطريق المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه في قوله
جل وعلا : { وأنَّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيمَاً فاتَّبعوهُ وَلا تتبعُوا
السُبُلَ فَتَفَرَّق بكم عَن سَبيْلِه ذَلِكم وَصَّاكم به لعَلكم تَتَّقون
}
ومما لا شك فيه أن كثرة الفرق والجماعات في المجتمع الإسلامي مما
يحرص عليه الشيطان أولا وأعداء الإسلام من الإنس ثانياً، لأن اتفاق كلمة المسلمين
ووحدتهم وإدراكهم الخطر الذي يهددهم ويستهدف عقيدتهم يجعلهم ينشطون لمكافحة ذلك
والعمل في صف واحد من أجل مصلحة المسلمين ودرء الخطر عن دينهم وبلادهم وإخوانهم
وهذا مسلك لا يرضاه الأعداء من الإنس والجن، فلذا هم يحرصون على تفريق كلمة
المسلمين وتشتيت شملهم وبذر أسباب العداوة بينهم، نسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين
على الحق وأن يزيل من مجتمعهم كل فتنة وضلالة، إنه ولي ذلك والقادر عليه)). [مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/202ـ204)]
وسئل العلاّمة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: هل هناك
نصوص في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيها إباحة تعدد الجماعات
الإسلامية؟
فأجاب :
"ليس في الكتاب ولا في السنة ما يبيح تعدد الجماعات والأحزاب،
بل إن في الكتاب والسنة ما يذم ذلك قال تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ
إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
}. وقال تعالى { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
ولا شك أن هذه الأحزاب تنافي ما أمر الله به بل ما حث عليه في قوله {وَإِنَّ
هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.
ولا سيما حينما ننظر إلى آثار هذا التفرق والتحزب؛ حيث كان كل حزب، وكل فريق يرمي
الآخر بالتشنيع والسب والتفسيق وربما بما هو أعظم من ذلك، لذلك فإنني أرى أن هذا
التحزب خطأ.
وقول بعضهم أنه لا يمكن للدعوة أن تقوى وتنتشر إلا إذا كانت تحت حزب.
نقول: إن هذا الكلام غير صحيح بل إن الدعوة تقوى وتنتشر كلما كان الإنسان أشد
تمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأكثر اتباعاً لآثار النبي
صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين". [الصحوة الإسلامية ضوابط
وتوجيهات ص 155]
وسئل العلاّمة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: هل
يجوز للعلماء أن يبيّنوا للشباب وللعامة خطر التحزب والتفرق والجماعات؟
فأجاب فضيلته:
"نعم يجب بيان خطر التحزب وخطر الانقسام والتفرق ليكون الناس
على بصيرة لأنه حتى العوام الآن انخدعوا ببعض الجماعات يظنون أنها على الحق، فلا
بد أن نبين للناس المتعلمين والعوام خطر الأحزاب والفرق لأنهم إذا سكتوا قال
الناس: العلماء كانوا عارفين عن هذا وساكتين عليه، فيدخل الضلال من هذا الباب، فلا
بد من البيان عندما تحدث مثل هذه الأمور، والخطر على العوام أكثر من الخطر على
المتعلمين، لأن العوام مع سكوت العلماء يظنون أن هذا هو الصحيح وهذا هو
الحق". اهـ [" الأجوبة
المفيدة عن اسئلة المناهج الجديدة" ص (68)]
وقال في ص (16) من الكتاب السابق: "كل
من خالف أهل السنة والجماعة ممن ينتسب إلى الإسلام: في الدعوة، أو في العقيدة، أو
في شيء من أصول الإيمان، فإنه يدخل في الاثنتين والسبعين فرقة، ويشمله الوعيد،
ويكون له من الذم والعقوبة بقدر مخالفته".
ويقول العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد – رحمه الله - في ("خصائص جزيرة
العرب" ص 85) :
"جزيرة العرب هي بارقة الأمل للمسلمين في نشر عقيدة التوحيد
لأنها موئل جماعة المسلمين الأول وهي السُّور الحافظ حول الحرمين الشريفين فينبغي
أن تكون كذلك أبدا فلا يسمح فيها بحال بقيام أي نشاط عقدي أو دعوي - مهما كان -
تحت مظلة الإسلام ؛ مخالفا منهاج النبوة الذي قامت به جماعة المسلمين الأولى :
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدّده وأعلى مناره الشيخ محمد بن عبد الوهاب
رحمه الله تعالى .
فالجماعة واحدة : جماعة المسلمين تحت عَلَم
التوحيد على طريق النبوة لا تتوازعُهم الفرق والأهواء ولا
الجماعات والأحزاب .
وإن قبول أي دعوة تحت مظلة الإسلام تخالف ذلك هي وسيلةُ إجهازٍ على
دعوة التوحيد وتفتيتٍ لجماعة المسلمين، وإسقاطٍ لامتياز الدعوة، وسقوطٍ لجماعتها،
وكسرٍ لحاجز النفرة من البدع والمبتدعين، والفسق والفاسقين.
والجماعات إن استشرى تعددها في الجزيرة فهو خطر داهم يهدد واقعها
ويهدم مستقبلها ويسلّم بيدها ملفَّ الاستعمار لها وبه تكون مجمّع صراع فكري وعقدي
وسلوكي" .اهـ
الاعتصام
( 3 / 211 )